الوعي الجمعي وأثره باندلاع حرب باردة جديدة في 2019

الوعي الجمعي وأثره  باندلاع حرب باردة جديدة في 2019

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، اندلعت مواجهة بين القرارين الأمريكي والسوفييتي، اعتمد الطرفان خلالها نهج التهديد بإفناء الآخر، وهو ما عبّرت عنه نظرية عُرفت باسم «التدمير المتبادل الأكيد».
لكنّ كلًّا من الطرفين أحجم عن الضغط على أزرار إطلاق الصواريخ النووية طوال خمسة وسبعين عامًا. على أن ذلك لم يمنعهما من خوض حرب سياسية بتعزيز نفوذهما عبر العالم. كما أقدما على خوض حرب عسكرية غير مباشرة، إذ قدّم كل منهما الدعم العسكري المباشر لخصوم الطرف الآخر. وقد عُرفت هذه المواجهة باسم «الحرب الباردة». 

 

 ضمن سياق الحرب الباردة، خاض القراران الأمريكي والسوفييتي حربًا اقتصادية فكرية. أقدم كل منهما على توظيف الأطروحات الاقتصادية الفكرية التي تبناها داخليًا في تعزيز وضعه الاستراتيجي في مواجهة الآخر، وفي التوسع بالمعمورة. 
على الضفة الأولى، وظّف القرار الأمريكي التحررية والرأسمالية المرتكزة على الاستهلاكية والمُداينة.
على الضفة المقابلة، وظّف القرار السوفييتي الاشتراكية والشيوعية. أما التحررية فجوهرها إعلاء شأن الحرية الفردية في الحيّز الخاص لأعلى درجة. كما أعلت شأن الحرية إلى درجة لا يُستهان بها في الحيّز العام، لاسيما الحيز التجاري، حيث ينبغي للسلطة الرسمية أن تترك للسوق الكلمة العليا لتنظيم نفسه. أما الرأسمالية المرتكزة على الاستهلاكية والمُداينة فجوهرها جعل فكرة الإثراء هي المسعى الأقدس في الحياة وعنوان الاصطفاء.
كما جعلت الهمّ الأكبر للبشر هو القدرة على الاستهلاك ضمن سياق تحفيزهم على الاستدانة لتلبية نزعة الاستهلاك التي تنبغي إثارتها حتى تستحيل شبقًا استهلاكيًّا من خلال نظام المداينة والائتمان الفردي والمؤسسي. 
ويأتي ذلك ترجمة للحقيقة التي مفادها أن منطلق المسعى الامبراطوري الأمريكي الأوَّلي تمثّل في فتح أسواق العالم للمنتجات الأمريكية، بعد أن ضاقت السوق الأمريكية عن استيعابها، وهو ما عُرف بـ «استراتيجية فتح الباب»، التي صيغت مع انتهاء القرن التاسع عشر ومطلع العشرين. 

عامل أساسي
أما الاشتراكية والشيوعية، فوفقًا لنظرية المادية التاريخية الماركسية، هما نظامان اقتصاديان يمثّل تبنّيهما مرحلتين من مراحل التطور الاقتصادي الاجتماعي التي تصوّرَ صائغو النظرية، وأبرزهم ماركس وأنجلز، أن البشرية عاشت بعضها وستعيش بقيتها حتمًا، وهي مراحل: نظام الشيوعية البدائية، ونظام مجتمع الرّق، ونظام الإقطاع، والرأسمالية، والاشتراكية، والشيوعية.
 ويرى صائغو النظرية أن العامل الأساسي الذي يحدّد سلوك البشر هو الأحوال المادية الاقتصادية، والرغبة في تلبية الحاجات. 
جوهر الاشتراكية أن يجري توفير السلع والخدمات من خلال نظام مركزي للملكيّة التعاونية، وليس من خلال المنافسة ونظام السوق الحرة. في النظام الاشتراكي تتقلص ملكية وسائل الإنتاج والتوزيع ورأس المال والأراضي في المجتمع، ولا يحتاج المواطن إلى دفع الرسوم لتلقّي الخدمات، لأنه يسدد الضرائب، لكن الاشتراكية تتسم بالتنفيذ غير الكامل للمبادئ الجماعية.
أما جوهر الشيوعية فهو بلوغ التعاون الجماعي أقصى مدى، لكن على أساس أن تديره سلطة شمولية واحدة، بحيث تكون جميع الأصول، بما في ذلك وسائل الإنتاج ملكًا للمجتمع على الشيوع، وأن تحتسب مساهمة كل شخص وما يحصل عليه وَفقًا لمعياري القدرة والحاجة، وأن يصبح جميع أفراد المجتمع متساوين ماليًا، وذلك ضمن إطار استبعاد الدِّين من الحياة.   
وقد تسابق القراران الأمريكي والسوفييتي لنشر تصوراتهما تعزيزًا لنفوذهما الاقتصادي والسياسي أيضًا. واعتمد القرار الأمريكي على عدة قاطرات أساسية في ترويج أطروحاته، منها الشركات الكبرى كشركات المنتجات سريعة الاستهلاك، والبنوك، وعلى صناعة الفنون وعلى رأسها «هوليوود».
أما القرار السوفييتي فاعتمد على قاطرات أخرى منها الأحزاب الشيوعية التي حفز تأسيسها عبر العالم وتصدير «أدب الرواية اليسارية».

 تحطيم حائط برلين
راوحت شعوب معظم بلدان العالم بين الأفلام التي ينتجها اليمين العالمي الذي تزعمته «هوليوود»، والروايات التي ينتجها اليسار العالمي الذي تزعّمته الرواية السوفييتية. انتشرت في كل بلدٍ التحررية والاستهلاكية المرتكزة على المداينة بين مجموعات من أبناء المجتمع، بينما انتشرت بعض مبادئ الاشتراكية والشيوعية بين مجموعات أخرى. 
خلال الثمانينيات، انخرط الطرفان في سباق تسلّح أدى إلى بلوغ الحرب الباردة منتهاها. على الضفّة الأولى، تراجعت قدرة الاتحاد السوفييتي الاقتصادية.
في 9 نوفمبر 1989، بدأت عملية تحطيم حائط برلين. بعدها تفكّك الاتحاد السوفييتي. أما في الولايات المتحدة، فقد قفز كل من الدَّين العام وعجز الموازنة والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة، وأدى التردي الاقتصادي إلى إطاحة إدارة بوش الأب في انتخابات 1992. 
وخلال العقدين اللاحقين، تضاعفت معاناة الاقتصاد الأمريكي، إذ تعرّض لأزمة مالية طاحنة في 2008، وواصل الدَّين العام وعجز الموازنة والبطالة القفز إلى مستويات فرضت قيودًا على نهج التوسع الخارجي. 

مرحلة برزخية
مثّلت الفترة ما بين 1990 و2008 مرحلة برزخية، كانت روسيا التي نعرفها اليوم تصارع مخاض إعادة الانتساق، ثم طوّرت روسيا الاتحادية نهجًا خارجيًّا مناوئًا للنهج الأمريكي الخارجي. 
على أنه لم تبرز في الساحة الروسية أطروحات فكرية بديلة للاشتراكية والشيوعية، أما في الولايات المتحدة، فقد روّج القرار الأمريكي الفكرة التي مفادها أن العالم قد انتقل من مرحلة الحرب الباردة إلى مرحلة «حرب الحضارات» التي صاغها صمويل هنتجتون. تصوّر هنتجتون أن العالم قد انتقل من الحرب الباردة إلى مواجهة بين الحضارة الغربية التي تتزعمها الولايات المتحدة في جبهة والحضارات الرئيسية في العالم، وعلى رأسها الحضارة الإسلامية والحضارة الكونفوشية التي تتزعمها الصين في جبهة أخرى. 
وشاع التصور الذي مفاده أن مقولة «حرب الحضارات» لابد أن تتضمن مواجهات معرفية «ثقافية». وفي الوقت نفسه، روّج القرار الأمريكي مقولة «نهاية التاريخ» التي صاغها فرانسيس فوكوياما. لكنّ المقولتين لم تصمدا أمام محك الزمن.

حرب باردة جديدة
اليوم أخذت تباشير مواجهة جديدة تظهر في الأفق بين القرارين الأمريكي والروسي، وفيها يتجّه الطرفان نحو اعتماد استراتيجية التهديد بالضربات النووية الموضعية عوضًا عن الضربات الشاملة.
فنتيجة للمناوأة التي أبداها القرار الروسي، استعاد الخبراء في الولايات المتحدة فكرة مفادها أنه من الممكن توجيه ضربات نووية محدودة النطاق لبعض المواقع الحساسة في روسيا. 
وقد فسّر القرار الروسي إقدام نظيره الأمريكي على نشر الدرع الصاروخية قرب حدود روسيا بأنه علامة على التمهيد لتوجيه ضربة نووية مباغتة.
وهذا ما دفع القرار الروسي إلى الإعلان عن تعزيز برنامجه النووي، وأنه قادر على صدّ الضربات الموضعيّة وتوجيه ضربات موضعية للولايات المتحدة. وقد ظهر التجابُه بين القرارين الأمريكي والروسي في أكثر من بلد، مثل أوكرانيا وسورية وفنزويلا وتركيا.
هذه المواجهة عُرفت باسم الحرب الباردة الجديدة. خلال المرحلة البرزخية ومرحلة نشأة الحرب الباردة الجديدة، انهارت الأحزاب الشيوعية في العالم، وتراجعت روايات اليسار. 
على الضفة الأخرى، ما تراجع بريق فكرة الرأسمالية المرتكزة على الاستهلاكية والمُدَاينة، بعد أن وقعت قطاعات ضخمة من سكان بلدان العالم في عبودية الائتمان والرهن، وما عادوا قادرين على مواصلة الاستجابة للشّبق الاستهلاكي. كما فقدت أفلام «هوليوود» التي تروّج للتحررية والرأسمالية بريقها. 

مؤشرات غائبة
ثقافيًا، لا يبدو أن الحرب الباردة الجديدة سترافقها مواجهة فكرية. في كل من الساحة الأمريكية والروسية نلاحظ عدم وجود أطروحات فكرية يمكن للطرفين توظيفها لتعزيز وضعيهما في الحرب الباردة الجديدة. 
أيضًا، هناك غيابٌ لأي مؤشراتٍ تفيد بأن الوعي الرسمي مَعنيٌّ ابتداءً بصياغة أطروحات فكرية لهذا الغرض. كل ما يفعلهُ الوعي الرسمي في البلدين هو محاولة إعادة توليد صيغة جديدة لفكرة القومية الوطنية يشوبها شيء من التطرف.
 
تفسير عدم اندلاع معركة ثقافية 
السؤال الذي يبرز هو: هل نجم عدم توليد أطروحات فكرية يمكن توظيفها في الحرب الباردة الجديدة عن الطبيعة الفكرية لنظرة ما بعد الحداثة؟ لنا أن نستحضر أن جوهر نظرة ما بعد الحداثة هو فقدان المعنى. المقصود بذلك أن الأجدر بالإنسان في هذه الحياة أن يسير دون تصورات حاكمة، وألّا تكون هناك فروقٌ بين الخيارات. إن فقدان المعنى ناتج عن عدم الاكتراث بالمعنى ابتداءً، وليس عن الإخفاق في تلمُّس المعنى.
وكانت النظرة العدمية قد روّجت التصور الذي مفاده أن الحياة لا تنطوي على جوانب ذات مغزى أخلاقي ومعانٍ وقيمة جوهرية، وأنه لا توجد معرفة يقينية. 
وقد برزت العدميّة خلال نصف القرن العشرين على يد عدد من أهل القلم المنتسبين إلى صيغة من صيغ الوجودية، مثل ألبير كامو. 
وقد نتج عن ذلك تبنّي قطاعات واسعة في العالم هذه المقولة. وكما جرى تبنّي مقولة فقدان المعنى ومقولة عدم الاكتراث للمعنى على المستوى الفردي، فقد جرى تبنّيهما على مستوى الوعي الجمعي. لذلك، فإنه بدءًا من الربع الأخير من القرن العشرين، اتسمت عمليات الانتقال السياسي التي حدثت في مختلف أنحاء العالم بالافتقار للمعنى ■