تولستوي... أيقونة الأدب الإنساني الحديث والمعاصر

يُعد ليو تولستوي واحدًا من أعظم وأشهر أدباء روسيا والعالم في العصر الحديث وأغزرهم إنتاجًا. فقد استمد شهرته وعظمته من مصدرين أساسيين؛ الأول، واقعيته وصراحته في إنتاجه الأدبي المفعم بالتحليل النفسي العميق لشخصيات رواياته وقصصه ومسرحياته، والثاني، الانقلاب الروحي الجذري الذي حوّل حياته من نعيم الشهرة الأدبية والثراء المادي والمركز الاجتماعي الأرستقراطي إلى جحيم التساؤل المخيف: لماذا أحيا؟
ما معنى أن أمتلك الدنيا كلها، وأصبح أشهر من شكسبير وبوشكين وموليير وكل أدباء العالم؟ ما معنى الحياة والموت، وما أسباب الخلاف بين الخير والشر؟ كيف يجب أن أعيش؟ ما سبب وجودي ووجود البشر الآخرين؟ وكيف يمكنني الوصول إلى السكينة؟ إنها أسئلة من أصعب لحظات الحياة، وقع في شباكها الكثير من الحكماء، والفلاسفة والعلماء فقادتهم الإجابة عليها إما إلى العبقرية وإما إلى الجنون والانتحار، وإما إلى العبثية واللاأدرية واليأس والقنوط.
كان تولستوي في الخمسين من عمره عندما بدأت هذه الأسئلة تلحّ عليه وتزلزل حياته وتوقعه في قلق روحي عظيم، وتغيّر نظرته إلى الله والإنسان والعالم والحياة. وقد وصف هذه الحالة بدقة في كتابه «الاعتراف» (1879) بقوله: «لما أنهيت كتابي «أنّا كرانينا» (1876 - 1877)، بلغ بي اليأس أقصى حدوده، وصرت أدمن على التفكير، وأطيل النظر في الحالة الرهيبة التي اعترتني، وكانت الأسئلة تنهال عليّ وتتكاثر وتضغط بإلحاح للإجابة عنها، وكانت تتزاحم جميعها متجهة إلى نقطة سوداء، وبقيت مسمّرًا في هذه النقطة، وقد استولى عليّ هلع شديد، وشعرت بالضعف والإرهاق، وكنت على مشارف الخمسين من عمري لما قادتني هذه الأسئلة إلى هذا الموقف المضني المفاجئ، وأوصلتني إلى النتيجة التالية: «أنا الرجل السعيد الموفور الصحة، لم أعد أتمالك البقاء ولا أقوى على العيش.
كنت أستطيع من الناحية الجسدية أن أعمل في حصاد المواسم كأي مزارع، وكنت أستطيع من الناحية الذهنية ممارسة الأعمال الفكرية معظم ساعات اليوم من دون أي إرهاق أو مرض، وعلى الرغم من ذلك تبيّنت أنني لم أعد أتحمّل البقاء، ولا أرى أمامي سوى شيء واحد هو الموت، وكل ما عداه باطل وزائل».
تساءل كثير من الباحثين في حياة تولستوي وفكره عن الأسباب الحقيقية لهذا التحول الدرامي المثير في حياته، هل هو ردة فعل على الحياة الأرستقراطية الماجنة التي عاشها في شبابه؟ أم أنه انعكاس لتأثره بتعاليم المسيح وبأفكار بعض الفلاسفة والمفكرين في الشرق والغرب؟ أم نتيجة عوامل نفسية وجسدية وعائلية تفاعلت جميعها في أعماقه، فحوّلته إلى عالم آخر لا يألفه معظم البشر في حياتهم الروتينية العقيمة؟
نشأة تولستوي
إن تقصّي نشأة تولستوي وتربيته ضرورية للإجابة عن كل هذه الأسئلة، فقد ولد في 28 أغسطس عام 1828 في قصر والده بقرية ياسيانا بوليانا (التي تعني مرج الضياء) القريبة من مدينة تولا. وهو الابن الرابع وقبل الأخير للكونت (النبيل) نيقولا تولستوي و(الكونتيسة) ماري فولكونسكي، وهما من الأسر الروسية الأرستقراطية العريقة التي لعبت دورًا مهمًا في تاريخ روسيا السياسي.
كان في الثانية من عمره تقريبًا عندما فقد والدته، وفي التاسعة عندما فقد والده. وبذلك حُرم من عاطفتين مهمتين جدًّا في تكوينه النفسي. انتقل الاهتمام بأفراد العائلة (أربعة أولاد وأخت) إلى وصاية عمته شقيقة أبيه، لكن الإشراف الحقيقي كان لعمته تاتيانا إيرجولسكي، وهي سيدة متديّنة، جياشة العاطفة، وكانت مثالًا لكل خلق كريم. كانت تُبر بالفقراء والمعوقين، وتظلل هذه العائلة بالسعادة الروحية، وقد اعترف تولستوي بتأثيرها الكبير في تكوينه النفسي والأخلاقي، بقوله في كتابه «الاعتراف»:
«كان للعمة تاتيانا أثر كبير في حياتي، إذ علمتني في طفولتي الفرح الأخلاقي بحب الآخرين، كما عرّفتني بسعادتها بمثل هذا الحب، وجعلتني أشعر به، وأعيش فرحه. وكان ذلك هو الدرس الأول الذي تعلّمته منها، أما الدرس الثاني فكان عن أهمية جمال الحياة الهادئة المتوحدة».
وعندما أصبح ليو وإخوته في مراتب الدراسة الجامعية التحقوا بجامعة قازان، فانتسب ليو إلى كلية الفلسفة عام 1844 لدراسة اللغتين العربية والتركية، بهدف الدخول إلى السلك الدبلوماسي الروسي، لكنّه ما لبث أن تخلى عن هذه الدراسة ليلتحق بكلية الحقوق، التي ما لبث أن تخلى عنها أيضًا في السنة التالية.
اتجاهان متناقضان
في هذه الأثناء بدأ يتنازعه اتجاهان متناقضان: الأول أخلاقي تنسُّكي، أساسه الفضيلة ومساعدة الآخرين، والثاني دنيوي مادي، أساسه الرذيلة. أدى به الاتجاه الأول إلى الانصراف لإدارة أملاكه الشاسعة التي ورثها عن والده في ياسنايا بوليانا، وليروّض نفسه جسديًّا وروحيًّا، وليركز على التأمل الذاتي والمطالعة ومساعدة الفلاحين الذين كانوا يعانون البؤس والشقاء في أكواخهم الحقيرة نتيجة ظلم الإقطاعيين وملاّك الأراضي ووكلائهم، إلا أن هذه الفكرة المثالية اصطدمت بالواقع المرير لحياة المزارعين، وأدت إلى إحباط تولستوي الشديد وخضوعه للاتجاه الثاني، وذهابه إلى مدينة بتروغراد (لينينغراد فيما بعد) التي كانت مقصدًا للشباب ولطلاب العلم والملذات؛ لينغمس في حياة اللهو والشراب والفسق والفجور، كما يقول في اعترافاته: «أردت أن أكون رجلًا فاضلًا مخلصًا، لكنني كنت شابًا تضطرم في نفسه الأهواء، من دون أن يساعدني أحد في طلب الفضيلة والسعي إليها. وكان أصحابي يقابلونني بالهزء والازدراء والاستهجان كلما حاولت التعبير عن حقيقة نزوعي إلى الحياة الفاضلة، وأتلقى منهم المديح والتشجيع عندما أستسلم لأحط الأهواء والنزوات، ولا أستطيع أن أتذكر تلك السنوات من غير أن يعتريني شعور أليم بالتقزز والاستفظاع.
فقد قتلت الرجال في الحرب، وبارزت الكثيرين لأقضي عليهم، وخسرت أموالًا طائلة في المقامرة، وبددت الأموال التي انتزعتها من عرق الفلاحين البؤساء الذين أنزلت بهم أقسى العقوبات، ولهوت وعربدت مع النساء الفاجرات، وخدعت الناس، ولم أتورع عن الكذب والسرقة وكل ضروب الفحشاء، ولم أتوانَ عن اقتراف أي إثم من هذه الآثام من دون أن ينتقص كل ذلك من مكانتي عند الأصحاب».
مستنقع موبوء
كان تولستوي غارقًا في هذا المستنقع الموبوء بكل أنواع الرذائل المنحطة عندما دعاه شقيقه الأكبر نيقولا للإقامة معه في القوقاز (1851)، حيث يعمل ضابطًا في جيش القيصر. وقد أمضى ليو ثلاث سنوات وسط الطبيعة الساحرة لهذه المنطقة، التي أيقظت في أعماقه المشاعر الروحانية وحب الطبيعة وبراءتها، إلى جانب تفتّح براعم عبقريته التي كان من أولى ثمارها ثلاثيته القصصية الشهيرة: طفولة (1852)، مراهقة (1854)، وشباب (1855)، التي تجلّت فيها قدراته الفائقة على سبر أغوار النفس البشرية وتحليلها تحليلًا دقيقًا، والتي اعتبرها البعض تاريخًا لحياة تولستوي نفسه في هذه الفترات من العمر.
نُشرت قصة «طفولة» لأول مرة في مجلة المعاصر (عدد سبتمبر 1852)، التي كانت أشهر مجلة أدبية في روسيا حينئذ، وصوت المفكرين الليبراليين فيها، وقد أشاد بها جميع النقاد وكبار الكتّاب، وعلى رأسهم تورجنيف ودوستويفسكي، وتساءلوا عمّن يكون هذا الكاتب الواعد، على الرغم من أن مقص الرقيب حذف منها بعض المقاطع، مما وتّر العلاقة بين تولستوي والسلطات السياسية الروسية.
وقد شجّعه هذا الترحيب الحار على وضع سلسلة جديدة من القصص كتب بعضها في القوقاز وبعضها الآخر في القرم، وتدور موضوعاتها حول الأحداث المأساوية والفظائع التي شاهدها وعاشها وشارك فيها خلال حربي القوقاز والقرم كجندي متطوع ثم ضابط، من أهمها: الغارة (1852)، وقطع أشجار الغابة (1855) وقصص سيباستوبول في ديسمبر (1855) وسيباستوبول في مايو (1855)، وسيباستوبول في أغسطس (1856)، وهي قصص كرسته بشهادة جميع النقاد والباحثين والأدباء كأحد عظماء الأدب الروسي، بفضل تحليلاتها العميقة لسيكولوجية الحرب ولنفسية الجنود والضباط الروس في ساحات القتال، ومظاهر البطولة والتضحية بالنفس التي أبدوها في ظروف شاقة، دفاعًا عن وطنهم وشعبهم.
مدرسة الفضائل
إذا كان تولستوي قد اعتبر الحروب في هذه القصص مدرسة للفضائل والبطولات، فإنه من ناحية أخرى أبدى مقته الشديد لها، لأنها تزهق نفوسًا نبيلة من أجل غايات لا تستحق ما يُبذل في سبيلها من تضحيات ودماء ودموع، لذلك استقال من الجيش عام 1855 وترك ساحات الحرب عائدًا إلى بتروجراد التي تعرّف فيها على نوابغ عصره من الكتّاب، على رأسهم تور جنيف.
في هذه الأثناء، توفي إمبراطور روسيا نيقولا الأول، وخلفه الإمبراطور ألكسندر الثاني الذي تحققت في عهده إصلاحات مهمة في طليعتها إلغاء نظام الرق (1861)، الذي رحّب به الليبراليون الروس ترحيبًا حارًّا من خلال مجلتهم «العصري». وكان تولستوي قد ألقى محاضرة في جمعية الأدب الروسي عام 1859، دافع فيها عن الفن المتحرر من الانفعالات الظرفية، مما أدى إلى القطيعة بينه وبين الليبراليين الروس ومجلتهم الطليعية.
وكان قد حاول منذ عام 1856 إطلاق سراح الأقنان الذين يعملون في أملاكه، لكن من دون جدوى، حتى أنه عمل حكمًا لحل النزاعات التي نشأت في منطقته بين النبلاء وأصحاب الأراضي وأقنانهم (1861 - 1863)، مما جرّ عليه نقمة هؤلاء النبلاء، لأن أحكامه كانت دائمًا إلى جانب حقوق الفلاحين وحمايتهم من خدع تلك الطبقة الأرستقراطية الجائرة.
أفكاره التربوية
أنشأ تولستوي في قريته ياسنايا بوليانا مدارس على النهج الأوربي لتعليم أولاد الفلاحين، بعد أن زار معظم مدن أوربا الغربية للمرة الأولى في عام 1857 (من فبراير إلى يوليو) وتعرّف فيها على بعض المفكرين والأدباء، فالتقى في بروكسل المفكر الاشتراكي الفرنسي بيير جوزف برودون، الذي أقنعه بأن «الملكية هي السرقة»، والتقى في لندن الكاتب الثوري الروسي ألكسندر هيرزن (1812 - 1870)، واهتم بالاطلاع على مناهج التربية والتعليم في فرنسا وألمانيا وإنجلترا، وخصوصًا نظريات روسو في التربية وحب الطبيعة والعدالة والحرية والمساواة.
ولما عاد إلى بلاده نظّم تلك المدارس بطرق مبتكرة تسمح للأطفال بالنمو العقلي الحر الذي يساعد في تكوين الشخصية المستقلة لكل طفل، وتطلق ملكاته الإبداعية. وقد ذاعت شهرة هذه المدارس الشعبية ومناهجها في روسيا كلها، خصوصًا أنه عكف شخصيًا على كتابة كراريس التعليم والأقاصيص التي امتازت بالبساطة ودقة الملاحظة عن الإنسان والحيوان والنبات، وعن مغامرات صيد الأرانب والدببة والذئاب في سهول روسيا وجبالها.
كما أنشأ المجلة التربوية، «ياسنايا بوليانا» لترويج أفكاره التربوية، وناهض كل اتجاه لفرض منهج تعليمي على أطفال الفلاحين يعارض حاجاتهم المادية والروحية، داعيًا النخبة في المجتمع الروسي إلى الاقتداء بحياة الفلاحين الطبيعية البسيطة والنظر إليها باحترام وإجلال.
لكن هذه الطريقة في تنشئة أطفال الفلاحين التي ابتدعها تولستوي أثارت حفيظة رجالات القيصر، فأغلقوا تلك المدارس وطمسوا مناهجها.
بين السعادة والأنانية
في عام 1860 توفي شقيقه البكر نيقولا بمرض السل، وكان أحب إخوته إليه، في وقت كان لغز الموت والعدم قد بدأ يؤرقه، فازداد قلقًا وحيرةً، ضمّنهما بالقصص التي وضعها في تلك الفترة، ومنها: الجنديان الخيالان (1856)، ألبرت لوسرن (1857 - 1858)، الموتى الثلاثة (1859)، إلا أن زواجه في 23 سبتمبر 1862 من صوفيا بيرز (1844 - 1919)، وهي ابنة أحد أطباء الجيش الروسي، خفّف عنه بعض ذلك القلق الوجودي، ووفّر له حياة عائلية سعيدة انصرف خلالها إلى الاهتمام بأولاده (13 ولدًا) وأملاكه الواسعة، والانكباب على الإنتاج الأدبي من قصص وروايات ومسرحيات، وقام بزيارة ثانية لأوربا الغربية عام 1862، فكانت تلك الفترة من أسعد أيام حياته وأخصبها، بالرغم من أنه اعتبرها - فيما بعد - ضربًا من الأنانية، وهي الفترة التي أصدر فيها رواية «سعادة العائلة» (1862)، وقصة الكوزاك (1862) اللتين كانتا بمنزلة مقدمة لروايتيه الخالدتين «الحرب والسلام» (1863 - 1869) و«أنا كرانينا» (1873-1877)، اللتين وطدتا شهرته الأدبية العالمية.
يدور موضوع الرواية الأولى حول الحروب البطولية التي خاضها الروس ضد جيوش نابليون الغازية في عام 1812، لذلك عكف قبل كتابتها على قراءات تاريخية وافية عن تلك الفترة المضطربة من تاريخ روسيا.
«أنا كرانينا»
أما موضوع الرواية الثانية (أنا كرانينا) فيدور حول حادثة حقيقية عن انتحار الشابة أنا كرانينا، بعد فشلها في الحب، بأن رمت نفسها تحت عجلات أحد قطارات السكك الحديدية. كانت زوجته الحسناء تساعده في جهوده الأدبية، لأنها الوحيدة التي كانت تستطيع قراءة خطه الرديء وما يُدخله من التعديلات على نصوصه، وكانت في بعض الأحيان تعيد كتابة النص الأصلي بكامله، ولها في ذلك فضل في التعريف بحقيقة النصوص الأصلية، لكتب تولستوي بعد زواجه منها.
كان تولستوي في قمة سعادته العائلية والصحية والمادية والاجتماعية، ويتمتع بشهرة أدبية كاسحة تجاوزت حدود روسيا إلى أقطار العالم الأخرى في الشرق والغرب، في وقت أصبحت دارته في ياسنايا بوليانا محجًّا لرجال السياسة والأدب والفلسفة والطب والفقه واللاهوت من جميع أنحاء العالم للتعرف إلى هذا الروسي «الشبيه بالآلهة»، كما وصفه مكسيم جوركي، وكان يتلقى يوميًّا عشرات رسائل الإعجاب والتأييد من شخصيات لا يعرفها، ومنهم المهاتما غاندي والشيخ محمد عبده.
لكن كل هذه الأمجاد لم تمنع الأزمة النفسية والروحية من أن تعصف بكيان تولستوي الجسدي والروحي، بحيث لم يعد يرى أمامه سوى الموت والعدم، من دون أن يعرف لذلك سببًا، كما يقول في اعترافاته.
كان يقف وحيدًا وسط العاصفة التي أثارتها تلك الأسئلة المحرجة التي طرحها على نفسه. وكاد اليأس يدفعه إلى الانتحار لو لم يقتنع في النهاية باستنتاجات دينية مستخلصة من الإنجيل، وخصوصًا موعظة الجبل، جعلها محور ما تبقى من حياته، ومؤداها أن المادة هي مصدر الشرور والمظالم والآلام والخطايا في العالم، وأن الوسيلة الوحيدة لإنقاذه وتغييره، وخلق معنى للوجود الإنساني هي الإيمان بالإحسان والعمل بقانون الله الأساسي الذي نستطيع بواسطته القضاء على كل أنواع المظالم والحروب والأمراض التي تفتك بالجنس البشري، لذلك، على كل إنسان في هذا العالم أن يتحلى بالبساطة في حياته، وأن يعطي أكثر مما يأخذ، وأن يكون عمل الخير رائده، وأن يساعد الناس على حل مشكلاتهم، وبذلك يخلق لنفسه وللآخرين السعادة، ويجعل لحياته وحياتهم معنى.
كما يجب على كل إنسان أن يكون شديد الرقابة على نفسه، فلا يسمح لأحد بالدخول إليها حتى لا يسرق منها وقتًا مثمرًا أو شعورًا جميلًا أو فكرة عميقة، أي أن يحترم كل لحظة من الحياة ويجعلها بكل بساطة وصدق مليئة بالعمل، وبذلك يحفظها من الصدأ والتعفن، ولا يبددها في أعمال لا جدوى منها.
تحوُّل جوهري
أطلق تولستوي على هذه العملية اسم «الحراسة على الحياة الخاصة»، وطبّقها بدقة على الفترة الأخيرة من حياته. فالتزم البساطة في حياته العملية، وتزهد في مأكله وملبسه، وأصبح نباتيًّا، ولبس ملابس الفلاحين وعمل في الحقول، وبقطع الأخشاب في الغابات، وتولى تنظيف حاجاته بنفسه، وكتب الكراريس لأبناء الفلاحين، وصنع له ولهم الأحذية، وكان يجلس للكتابة والتفكير في أوقاته الحرة.
لم يكن أحد يفهم هذا التحول الغريب في حياة تولستوي، حتى من أقرب المقربين إليه كزوجته وأولاده. كان اعتقاد الجميع أنه يسير في طريق الإفلاس العقلي والجنون، بعد أن رأوه يتحول إلى عالم غريب لا يألفه معظم البشر الغارقين في حياتهم الروتينية التافهة، فيحيط نفسه بالكتب الدينية المختلفة من توراة وإنجيل وقرآن، ومن تعاليم بوذا ولاوتس (مؤسس الديانة الطاوية - القرن السادس ق.م)، لا سيما كتابه «شريعة العقل والفضيلة» وغيرهم من حكماء الهند والصين وفلاسفة اليونان ومتصوفي الإسلام.
كان يقرأ هذه الكتب بتمعّن كمن يبحث عن سر دفين وكنز ثمين، ويكتب بغزارة عن الأخلاقيات الروحية، ويهجر حياته الأرستقراطية الصاخبة وزوجته وأولاده، ويقرر توزيع أملاكه وأمواله الكثيرة على الفلاحين والفقراء، ويتهم جميع المظاهر الاجتماعية بالكذب والخداع، لأنها تلوث معنى الحياة وتزيّف حقائقها، حتى أن صديقه الأديب إيفان تورجنيف كتب إليه من باريس، حيث كان يتداوى عام 1883، رسالة قال فيها: «عد ثانيةً إلى عالم الأدب يا ليو نيقولاي فيتش، تلك هي موهبتك الحقيقية يا فنان أرضنا الروسية العظيم، استمع إلى رجائي وعُد إلينا، فنحن بحاجة إليك».
مرض غريب
أصبحت زوجته المسكينة تخاف الفقر والإملاق مع أولادها الثلاثة عشر، بعد عزّ وجاه، وقد حاولت الاستعانة بالسلطات لإثبات أن زوجها مختلّ العقل، وبالتالي عاجز عن إدارة أملاكه.
وكثيرًا ما كانا يبكيان معًا، هي تبكي حظها وحظ أولادها العاثر ومصيرهم المجهول، وهو يبكي من هذا المرض الغريب الذي أصابه ولا يفهم له سببًا.
وفي عام 1880 قالت زوجته إن زوجها «كان يستغرق تمامًا في عمله، ويحدّق بشكل غريب من دون أن يتكلم، وكان منظره يوحي كأنه من عالم آخر، وكثيرًا ما كان يشكو من ألم في الرأس، لقد تغيّر كثيرًا، وأصبح مخلصًا لمسيحيته، وزحف الشيب على رأسه، وتدهورت صحته، أصبح أكثر هدوءًا وأكثر حزنًا.
لقد مضى علينا هنا في موسكو (1881) شهر، وكنت في الأسبوعين الأولين من وصولنا أبكي يوميًا، لأن ليو لم يقع فقط فريسة الكتابة، بل أيضًا لنوع من اللامبالاة اليائسة.
لم ينم ولم يأكل، وكثيرًا ما كان يبكي كالمجنون، واعتقدت بكل بساطة بأنني فقدت عقلي».
وفي إحدى المرات توجهت لزوجها قائلة بيأس: «لقد بدأت أعتقد أن الإنسان السعيد عندما يتوقف فجأة عن رؤية الأشياء الجميلة في الحياة ولا يعود يرى سوى الرعب والكراهية، فإن ذلك يعني المرض من دون أدنى شك. يجب أن تهتم بنفسك، أقول لك ذلك بنيّة صافية، والحقيقة كما تبدو لي أنني أشعر بالشفقة عليك. ألم تكن تشعر في الماضي بوجود جائعين ومرضى وبؤساء وأشرار؟ انظر جيدًا، فهناك أيضًا بشر سعداء وطيبون وأصحاء، إنك مريض بكل تأكيد، وليكن الله بعونك».
أما تولستوي نفسه فقد قال عن تلك الفترة في اعترافاته: «لقد ساءت صحتي شيئًا فشيئًا، وغالبًا ما كنت أتمنى الموت، لأنني لم أعرف ما حلّ بي، ولماذا أصبحت هكذا؟ هل هو التقدم في العمر، أم هو المرض؟ لا أدري شيئًا».
حل وسط
كانت نهاية هذه القضية العائلية قبول تولستوي بحل وسط يقضي بأن يتنازل عن أملاكه لأسرته (1888). وأن يثابر هو على التأليف، لا سيما الكتب الدينية، ومنها: «ديانتي» و«ملكوت الله في داخل نفسك».
وبعد عكوفه على القراءات المعمقة للتوراة والأناجيل، تبيّن أن التقاليد اليهودية وتعاليم الكنيسة قد غيّرت بها. ونطالع ذلك في كتبه «نقد اللاهوت العقدي» (1879 - 1881)، و«جمع الأناجيل الأربعة وترجمتها (1881)»، و«مختصر الأناجيل» (1883)، حيث يرفض فيها الاعتقاد بما فوق الطبيعة وبألوهية المسيح، رغم اعتقاده بالله. أما رسالة المسيح الحقيقية فهي - في رأيه - تستند إلى مبدأين أساسيين: محبة الله، ومحبة الآخر، المستمدين من موعظة الجبل.
وبعد انتقاله مع عائلته إلى موسكو، أتيح له في عام 1882 الاشتراك في إحصاء سكان روسيا، مما جعله يلمس على الطبيعة مدى انتشار البؤس والفقر والفساد في بلاده. وتجد في كتابه «ما العمل إذن؟» تصويرًا واقعيًّا ومؤثرًا لكل أنواع الفساد التي كانت مستشرية في المجتمع الروسي يومئذ، وبيان عجز وسائل البر والإحسان عن علاج هذه المساوئ، كما ضمّنه نقدًا عنيفًا للأسس والمبادئ التي تقوم عليها المجتمعات في روسيا وسائر أنحاء العالم في طليعتها: الدولة باعتبارها أداة ضغط مستمرة لسيطرة الأغنياء على الفقراء، والكنيسة باعتبارها خاضعة للدولة، والملكية الخاصة التي تعني استغلال الإنسان للإنسان، وفقدان العدالة والمساواة.
أما التقدم العلمي والتقني فلا تستفيد منه سوى طبقة الأثرياء والمحظوظين. وكذلك الفن الذي يرضي المشاعر المصطنعة للطبقات الغنية والأرستقراطية.
قصص أخلاقية
في كتابه «ما هو الفن؟» (1898) عرض وتحليل لهذا الفن الذي يتعارض مع الفن الشعبي الذي هو أكثر صدقًا وواقعية وبساطة من تلك الفنون المصطنعة.
أما أنجع السبل للقضاء على كل أنواع المظالم والفساد في روسيا وفي كل بقاع العالم، فهي اتباع وصايا المسيح والتبشير بها، وممارسة الأعمال الخيرية القائمة على محبة البشر، ونشر الفضائل الدينية بالوسائل السلمية، والابتعاد عن كل أشكال العنف. بهذه العقلية المثالية وضع بين عامي 1872 و1874 مجموعة من القصص القصيرة أهمها «أربعة كتب للقراءة».
ومنذ عام 1885 شرع تولستوي في وضع مجموعة من القصص والمسرحيات الشعبية المشبعة بالمبادئ الأخلاقية، والمكتوبة بلغة بسيطة، فاشتهرت وانتشرت انتشارًا واسعًا في كل أنحاء روسيا، باستثناء مسرحية «قوة الظلام» التي منعتها الرقابة فترة من الزمن لأنها تربط بين المال والشرور الخلقية وإفساد المجتمع، مما جعلها من روائع الأدب المسرحي الروسي.
وإذا انتقلنا إلى كتابات تولستوي الأخيرة مثل «موت إيفان إيلليتش، والسيد والخادم، ولحن كروتزر، والأب سيرج، والحاجي مراد، نجدها تشهّر بالمظاهر الاجتماعية الكاذبة، وبشهوات الجسد الدنيوية وإغراءات الأمجاد الأرضية الزائفة. وبالمبادئ التي تقوم عليها الحضارة الحديثة والمجتمعات البشرية المنبثقة عنها.
ويغلّف هذه الموضوعات تشاؤم بالوضع الإنساني، ملطّف بمسحة روحانية، وربما كانت روايته العظيمة الثالثة «البعث»، التي استغرق وضعها عشر سنوات (1889 - 1899) أفضل عرض لهذه الموضوعات وأعمقها.
حرمان كنسي
في عام 1901 أصدرت الكنيسة الروسية قرارًا بحرمانه، بسبب آرائه المعارضة لتعاليمها، وللنظام القائم، إلا أن ذلك زاد من تعلّق الجماهير الشعبية بآرائه وقراءة كتبه.
وعندما قامت ثورة عام 1905 في روسيا هاجم الوسائل العنيفة التي استُعملت لإخمادها، وكتب رسالة نشرتها الصحف الأوربية تنمّ عن حزنه العميق، بدأها بقوله: «لا أستطيع التزام الصمت أكثر من ذلك»، وفيها حث الشعب الروسي على الامتناع عن العنف والكراهية، واتباع الوسائل السلمية في معالجة المشكلات التي كانت روسيا تئن تحتها، لكن دعوته ذهبت هباءً بقيام ثورة 1917 الدموية التي راح ضحيتها الآلاف.
لقد فكّر تولستوي منذ عام 1894 في ترك أملاكه وعائلته، ليحرر نفسه من كل القيود التي تعارض أفكاره. وفي صبيحة يوم عاصف مثلّج من شتاء عام 1910، وبالتحديد في 28 أكتوبر، خرج من قصره، هائمًا على وجهه في الطرقات ثلاثة أسابيع، إلى أن أعيته برودة الطقس، وعناء الشيخوخة ومشقة السفر، فالتجأ إلى غرفة متواضعة لناظر محطة استابوفو للقطارات، حيث قضى نحبه بالتهاب رئوي حاد في 20 نوفمبر عام 1910 وهو في الثانية والثمانين من العمر.
يتضح من السياق العام لتطور حياة تولستوي وتفكيره أنه تأثر بعمق بالنزعات الإنسانية في الأديان والفلسفات والشخصيات التي درسها بعقل تحليلي ناقد وقلب متلهف إلى المعرفة، لا سيما حياة وتعاليم بوذا الشبيهة بحياته، وتعاليم لاوتسو والمسيح والمتصوفة المسلمين، وكتب جان جاك روسو كلها، حيث كان من شدة إعجابه به يضع قلادة على صدره تحمل صورته.
وقد ساهمت جميع هذه العوامل في صياغة عبقريته الأدبية، وانقلابه الروحي المثير، وكانت ثمراتها عددًا كبيرًا من الروايات والمسرحيات والقصص، إلى جانب عدد من الأعمال الفلسفية والدينية والأخلاقية التي أثرت الأدب العالمي.
ضد التولستوية
أدى انتقاد تولستوي للحكم القيصري الفاسد والكنيسة الأرثوذكسية التي وصفها بـ «المؤسسة المنافقة التي تسيّرها جماعات معيّنة من البشر للسيطرة على الآخرين»، إلى إصدار المجمع الكنسي المقدس قرارًا بحرمانه من الكنيسة الروسية الأرثوذكسية. كما اختلفت آراء الباحثين في تقييم إنتاجه الأدبي واتجاهاته الفكرية الجديدة.
ففي روسيا وصف مكسيم غوركي صديقه تولستوي بالقديس، وفي تسعينيات القرن التاسع عشر ظهرت في روسيا حركة دينية اجتماعية ينتمي أعضاؤها إلى فئات اجتماعية مختلفة تنادي بأفكار تولستوي الدينية والأخلاقية، لا سيما أفكاره عن الحب والتسامح بين البشر، وأضافت إليها رفض الخدمة في الجيش ورفض دفع الضرائب، والعمل في حقل التعليم والنشر لترويج التفاهة الأخلاقية.
إلا أن تولستوي عارض تحويل أفكاره إلى ديانة جديدة، وأصدر في عام 1906 كتيبًا حول الموضوع بعنوان «ضد التولستوية». وقال لينين «إن أفكار تولستوي الاجتماعية تعكس آراء ملايين الفلاحين، وأنه أدخل في تعاليمه سذاجتهم، واغترابهم عن الحياة السياسية، ورغبتهم في الابتعاد عن شؤون العالم ومقاومة الشر، ورفضهم غير المنظم وغير الفعال للرأسمالية والإقطاع ولسلطة وقوة النفوذ.
وفي عام 1960 تألفت بجنيف في سويسرا «الجمعية العالمية للتسلح الخلقي» من عدد من رجال الفكر، في طليعتهم المفكر الفرنسي المتدين غابرييل مارسيل، الذين تبنوا أفكار تولستوي في دعوته إلى تغيير العالم بالحب واللاعنف، وقد أصدرت كتابًا بعنوان «أمل جديد للعالم» جاء فيه: «إن الحب الذي يتمثل في الله هو الأمل الوحيد لتغيير العالم، وإن الثورة الكبرى التي نريد تحقيقها هي الثورة التي ستغير الطبيعة البشرية، وتخلصها من الأنانية، لتخلق النموذج الجديد من الإنسان المتحرر من الإعجاب بنفسه. وأن هذه الثورة تؤمن بعالَم يحكمه الله، وأن العالم لا يسير إلى اليمين أو إلى اليسار، بل إلى الأمام، وأن المهمة الأساسية للثورة العالمية هي خلق الإنسان العالمي المليء بالحب لجميع البشر، الخالي من شوائب التعصب، والذي يرتكز أمله في الله».
تصوّف فجائي
قال الكاتب الفرنسي أوجين فوجيه (1848 - 1910) في كتابه «القصة الروسية» (1886) إنه كان يتوقع ذلك الشكل الصوفي الفجائي الذي أصاب تولستوي، لأن بذوره الجنينية موجودة في كتابيه «طفولة» و«مراهقة».
وقال العالم النفسي الأمريكي كورت لوين (1890 - 1947)، أحد مؤسسي نظرية دينامية الجماعات، إن رواية «أنا كرانينا» أعلنت بشكل واضح الوجهة التي ستتخذها أفكار تولستوي فيما بعد.
أما الكاتب الألماني توماس مان (1875 - 1955، نوبل للآداب 1929)، فيقول في كتابه «جوته وتولستوي» إن النرجسية وحب الذات وحب الظهور هي من الأسباب الرئيسة لتحوّل حياة تولستوي وتفكيره، بينما يذكر الناقد الروسي مرزكوفسكي أن أزمة تولستوي سببها هبوط حيويته عند بلوغه الخمسين، وقال آخرون إنه نبي دجال. أما زوجته التي عاش معها خمسين عامًا وأنجبت منه ثلاثة عشر ولدًا، وكان يحبها حبًا جمًّا، فقد عجزت عن فهم أفكاره، واتهمته بأنه ضحية حب امرأة أخرى، وأنه مريض، وكانت تفتش أوراقه ومكتبه باستمرار وتتضايق من زواره الكثر.
وعندما وزع أراضيه على الفلاحين، جنّ جنونها، واستعادت هذه الأراضي بالقوة، وحولت الفلاحين إلى أجراء من جديد. ويقول معظم الباحثين إن زوجته ساهمت في تعاسته ودفعته إلى اليأس والهرب، ليموت في محطة صغيرة للقطارات. وقد انتهت هذه الزوجة المسكينة مجنونة، بعد أن هجرها كل الناس، حتى أولادها، لأنها كانت مجرد امرأة، بينما كان تولستوي أكثر من إنسان، وكانت تريد أن تعيش كأميرة وزوجة أمير، بينما كان هو يعيش في الإنسانية كلها.
رسالة من مجهول
قبل وفاة تولستوي بوقت قصير، وردت إليه رسالة من مجهول يقول له فيها: «كلا يا ليو نيقولايفينش، لا أستطيع أن أفكر مثلك بأن العلاقات بين الناس يمكن أن تتحسن بالحب وحده. إن الناس ذوو التربية المترفة، والذين يأكلون حتى تمتلئ بطونهم، يستطيعون وحدهم أن يتكلموا هذه اللغة، ولكن ماذا تقول لهؤلاء الذين يتضورون جوعًا منذ طفولتهم؟ إنهم سيناضلون للخروج من العبودية، وإني أقول لك ذلك يا ليو وأنت في أيامك الأخيرة على هذه الأرض: إن العالم سيختنق تحت أمواج الدماء، وسوف يقتل ويمزق ليس الظالمين وحدهم، بل أولادهم أيضًا، حتى لا يعود هناك ما تخشاه الأرض من جانب هؤلاء، وأني لآسف أنك لن تكون عندئذ على قيد الحياة، كي تكون شاهدًا عيانًا على خطيئتك. إني أتمنى لك موتًا هادئًا».
لقد مات تولستوي جسديًا، لكنه ترك بصمات عميقة في الأدب والتفكير الإنسانيين كأحد أعظم الكتّاب وأعظم الإنسانيين في العالم، وما غاندي وألبرت شفيتزر ونيلسون مانديلا وغيرهم سوى أصداء لأفكاره التي لم تغيّر العالم كما كان يشتهي، وإنما ستبقى مشعلًا يضيء طريق الإنسانية إلى آفاق روحية سامية لا يدركها سوى قلّة من البشر، وسيبقى الصراع بين الخير والشر قائمًا في العالم ما دام هناك بشر يتفكرون.