تولستوي... أيقونة الأدب الإنساني الحديث والمعاصر

تولستوي... أيقونة الأدب الإنساني الحديث والمعاصر

يُعد‭ ‬ليو‭ ‬تولستوي‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬وأشهر‭ ‬أدباء‭ ‬روسيا‭ ‬والعالم‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬وأغزرهم‭ ‬إنتاجًا‭. ‬فقد‭ ‬استمد‭ ‬شهرته‭ ‬وعظمته‭ ‬من‭ ‬مصدرين‭ ‬أساسيين؛‭ ‬الأول،‭ ‬واقعيته‭ ‬وصراحته‭ ‬في‭ ‬إنتاجه‭ ‬الأدبي‭ ‬المفعم‭ ‬بالتحليل‭ ‬النفسي‭ ‬العميق‭ ‬لشخصيات‭ ‬رواياته‭ ‬وقصصه‭ ‬ومسرحياته،‭ ‬والثاني،‭ ‬الانقلاب‭ ‬الروحي‭ ‬الجذري‭ ‬الذي‭ ‬حوّل‭ ‬حياته‭ ‬من‭ ‬نعيم‭ ‬الشهرة‭ ‬الأدبية‭ ‬والثراء‭ ‬المادي‭ ‬والمركز‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الأرستقراطي‭ ‬إلى‭ ‬جحيم‭ ‬التساؤل‭ ‬المخيف‭: ‬لماذا‭ ‬أحيا؟

‭ ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬أن‭ ‬أمتلك‭ ‬الدنيا‭ ‬كلها،‭ ‬وأصبح‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬شكسبير‭ ‬وبوشكين‭ ‬وموليير‭ ‬وكل‭ ‬أدباء‭ ‬العالم؟‭ ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬وما‭ ‬أسباب‭ ‬الخلاف‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر؟‭ ‬كيف‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬أعيش؟‭ ‬ما‭ ‬سبب‭ ‬وجودي‭ ‬ووجود‭ ‬البشر‭ ‬الآخرين؟‭ ‬وكيف‭ ‬يمكنني‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬السكينة؟‭ ‬إنها‭ ‬أسئلة‭ ‬من‭ ‬أصعب‭ ‬لحظات‭ ‬الحياة،‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬شباكها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الحكماء،‭ ‬والفلاسفة‭ ‬والعلماء‭ ‬فقادتهم‭ ‬الإجابة‭ ‬عليها‭ ‬إما‭ ‬إلى‭ ‬العبقرية‭ ‬وإما‭ ‬إلى‭ ‬الجنون‭ ‬والانتحار،‭ ‬وإما‭ ‬إلى‭ ‬العبثية‭ ‬واللاأدرية‭ ‬واليأس‭ ‬والقنوط‭.‬

كان‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬الخمسين‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬عندما‭ ‬بدأت‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬تلحّ‭ ‬عليه‭ ‬وتزلزل‭ ‬حياته‭ ‬وتوقعه‭ ‬في‭ ‬قلق‭ ‬روحي‭ ‬عظيم،‭ ‬وتغيّر‭ ‬نظرته‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬والإنسان‭ ‬والعالم‭ ‬والحياة‭. ‬وقد‭ ‬وصف‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬بدقة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الاعتراف‮»‬‭ (‬1879‭) ‬بقوله‭: ‬‮«‬لما‭ ‬أنهيت‭ ‬كتابي‭ ‬‮«‬أنّا‭ ‬كرانينا‮»‬‭ (‬1876‭ - ‬1877‭)‬،‭ ‬بلغ‭ ‬بي‭ ‬اليأس‭ ‬أقصى‭ ‬حدوده،‭ ‬وصرت‭ ‬أدمن‭ ‬على‭ ‬التفكير،‭ ‬وأطيل‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬الرهيبة‭ ‬التي‭ ‬اعترتني،‭ ‬وكانت‭ ‬الأسئلة‭ ‬تنهال‭ ‬عليّ‭ ‬وتتكاثر‭ ‬وتضغط‭ ‬بإلحاح‭ ‬للإجابة‭ ‬عنها،‭ ‬وكانت‭ ‬تتزاحم‭ ‬جميعها‭ ‬متجهة‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬سوداء،‭ ‬وبقيت‭ ‬مسمّرًا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النقطة،‭ ‬وقد‭ ‬استولى‭ ‬عليّ‭ ‬هلع‭ ‬شديد،‭ ‬وشعرت‭ ‬بالضعف‭ ‬والإرهاق،‭ ‬وكنت‭ ‬على‭ ‬مشارف‭ ‬الخمسين‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬لما‭ ‬قادتني‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬المضني‭ ‬المفاجئ،‭ ‬وأوصلتني‭ ‬إلى‭ ‬النتيجة‭ ‬التالية‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬الرجل‭ ‬السعيد‭ ‬الموفور‭ ‬الصحة،‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أتمالك‭ ‬البقاء‭ ‬ولا‭ ‬أقوى‭ ‬على‭ ‬العيش‭. ‬

كنت‭ ‬أستطيع‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الجسدية‭ ‬أن‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬حصاد‭ ‬المواسم‭ ‬كأي‭ ‬مزارع،‭ ‬وكنت‭ ‬أستطيع‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الذهنية‭ ‬ممارسة‭ ‬الأعمال‭ ‬الفكرية‭ ‬معظم‭ ‬ساعات‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬إرهاق‭ ‬أو‭ ‬مرض،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬تبيّنت‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أتحمّل‭ ‬البقاء،‭ ‬ولا‭ ‬أرى‭ ‬أمامي‭ ‬سوى‭ ‬شيء‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬الموت،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬عداه‭ ‬باطل‭ ‬وزائل‮»‬‭.‬

تساءل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬تولستوي‭ ‬وفكره‭ ‬عن‭ ‬الأسباب‭ ‬الحقيقية‭ ‬لهذا‭ ‬التحول‭ ‬الدرامي‭ ‬المثير‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬ردة‭ ‬فعل‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬الأرستقراطية‭ ‬الماجنة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬في‭ ‬شبابه؟‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬انعكاس‭ ‬لتأثره‭ ‬بتعاليم‭ ‬المسيح‭ ‬وبأفكار‭ ‬بعض‭ ‬الفلاسفة‭ ‬والمفكرين‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب؟‭ ‬أم‭ ‬نتيجة‭ ‬عوامل‭ ‬نفسية‭ ‬وجسدية‭ ‬وعائلية‭ ‬تفاعلت‭ ‬جميعها‭ ‬في‭ ‬أعماقه،‭ ‬فحوّلته‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬آخر‭ ‬لا‭ ‬يألفه‭ ‬معظم‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬الروتينية‭ ‬العقيمة؟

 

نشأة‭ ‬تولستوي

إن‭ ‬تقصّي‭ ‬نشأة‭ ‬تولستوي‭ ‬وتربيته‭ ‬ضرورية‭ ‬للإجابة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة،‭ ‬فقد‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬28‭ ‬أغسطس‭ ‬عام‭ ‬1828‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬والده‭ ‬بقرية‭ ‬ياسيانا‭ ‬بوليانا‭ (‬التي‭ ‬تعني‭ ‬مرج‭ ‬الضياء‭) ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬تولا‭. ‬وهو‭ ‬الابن‭ ‬الرابع‭ ‬وقبل‭ ‬الأخير‭ ‬للكونت‭ (‬النبيل‭) ‬نيقولا‭ ‬تولستوي‭ ‬و‭(‬الكونتيسة‭) ‬ماري‭ ‬فولكونسكي،‭ ‬وهما‭ ‬من‭ ‬الأسر‭ ‬الروسية‭ ‬الأرستقراطية‭ ‬العريقة‭ ‬التي‭ ‬لعبت‭ ‬دورًا‭ ‬مهمًا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬روسيا‭ ‬السياسي‭.‬

كان‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬تقريبًا‭ ‬عندما‭ ‬فقد‭ ‬والدته،‭ ‬وفي‭ ‬التاسعة‭ ‬عندما‭ ‬فقد‭ ‬والده‭. ‬وبذلك‭ ‬حُرم‭ ‬من‭ ‬عاطفتين‭ ‬مهمتين‭ ‬جدًّا‭ ‬في‭ ‬تكوينه‭ ‬النفسي‭. ‬انتقل‭ ‬الاهتمام‭ ‬بأفراد‭ ‬العائلة‭ (‬أربعة‭ ‬أولاد‭ ‬وأخت‭) ‬إلى‭ ‬وصاية‭ ‬عمته‭ ‬شقيقة‭ ‬أبيه،‭ ‬لكن‭ ‬الإشراف‭ ‬الحقيقي‭ ‬كان‭ ‬لعمته‭ ‬تاتيانا‭ ‬إيرجولسكي،‭ ‬وهي‭ ‬سيدة‭ ‬متديّنة،‭ ‬جياشة‭ ‬العاطفة،‭ ‬وكانت‭ ‬مثالًا‭ ‬لكل‭ ‬خلق‭ ‬كريم‭. ‬كانت‭ ‬تُبر‭ ‬بالفقراء‭ ‬والمعوقين،‭ ‬وتظلل‭ ‬هذه‭ ‬العائلة‭ ‬بالسعادة‭ ‬الروحية،‭ ‬وقد‭ ‬اعترف‭ ‬تولستوي‭ ‬بتأثيرها‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬تكوينه‭ ‬النفسي‭ ‬والأخلاقي،‭ ‬بقوله‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الاعتراف‮»‬‭:‬

‮«‬كان‭ ‬للعمة‭ ‬تاتيانا‭ ‬أثر‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬إذ‭ ‬علمتني‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬الفرح‭ ‬الأخلاقي‭ ‬بحب‭ ‬الآخرين،‭ ‬كما‭ ‬عرّفتني‭ ‬بسعادتها‭ ‬بمثل‭ ‬هذا‭ ‬الحب،‭ ‬وجعلتني‭ ‬أشعر‭ ‬به،‭ ‬وأعيش‭ ‬فرحه‭. ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬الدرس‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬تعلّمته‭ ‬منها،‭ ‬أما‭ ‬الدرس‭ ‬الثاني‭ ‬فكان‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬جمال‭ ‬الحياة‭ ‬الهادئة‭ ‬المتوحدة‮»‬‭. ‬

وعندما‭ ‬أصبح‭ ‬ليو‭ ‬وإخوته‭ ‬في‭ ‬مراتب‭ ‬الدراسة‭ ‬الجامعية‭ ‬التحقوا‭ ‬بجامعة‭ ‬قازان،‭ ‬فانتسب‭ ‬ليو‭ ‬إلى‭ ‬كلية‭ ‬الفلسفة‭ ‬عام‭ ‬1844‭ ‬لدراسة‭ ‬اللغتين‭ ‬العربية‭ ‬والتركية،‭ ‬بهدف‭ ‬الدخول‭ ‬إلى‭ ‬السلك‭ ‬الدبلوماسي‭ ‬الروسي،‭ ‬لكنّه‭ ‬ما‭ ‬لبث‭ ‬أن‭ ‬تخلى‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬ليلتحق‭ ‬بكلية‭ ‬الحقوق،‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬لبث‭ ‬أن‭ ‬تخلى‭ ‬عنها‭ ‬أيضًا‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬التالية‭.‬

 

اتجاهان‭ ‬متناقضان

في‭ ‬هذه‭ ‬الأثناء‭ ‬بدأ‭ ‬يتنازعه‭ ‬اتجاهان‭ ‬متناقضان‭: ‬الأول‭ ‬أخلاقي‭ ‬تنسُّكي،‭ ‬أساسه‭ ‬الفضيلة‭ ‬ومساعدة‭ ‬الآخرين،‭ ‬والثاني‭ ‬دنيوي‭ ‬مادي،‭ ‬أساسه‭ ‬الرذيلة‭. ‬أدى‭ ‬به‭ ‬الاتجاه‭ ‬الأول‭ ‬إلى‭ ‬الانصراف‭ ‬لإدارة‭ ‬أملاكه‭ ‬الشاسعة‭ ‬التي‭ ‬ورثها‭ ‬عن‭ ‬والده‭ ‬في‭ ‬ياسنايا‭ ‬بوليانا،‭ ‬وليروّض‭ ‬نفسه‭ ‬جسديًّا‭ ‬وروحيًّا،‭ ‬وليركز‭ ‬على‭ ‬التأمل‭ ‬الذاتي‭ ‬والمطالعة‭ ‬ومساعدة‭ ‬الفلاحين‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يعانون‭ ‬البؤس‭ ‬والشقاء‭ ‬في‭ ‬أكواخهم‭ ‬الحقيرة‭ ‬نتيجة‭ ‬ظلم‭ ‬الإقطاعيين‭ ‬وملاّك‭ ‬الأراضي‭ ‬ووكلائهم،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬المثالية‭ ‬اصطدمت‭ ‬بالواقع‭ ‬المرير‭ ‬لحياة‭ ‬المزارعين،‭ ‬وأدت‭ ‬إلى‭ ‬إحباط‭ ‬تولستوي‭ ‬الشديد‭ ‬وخضوعه‭ ‬للاتجاه‭ ‬الثاني،‭ ‬وذهابه‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬بتروغراد‭ (‬لينينغراد‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭) ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مقصدًا‭ ‬للشباب‭ ‬ولطلاب‭ ‬العلم‭ ‬والملذات؛‭ ‬لينغمس‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬اللهو‭ ‬والشراب‭ ‬والفسق‭ ‬والفجور،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬اعترافاته‭: ‬‮«‬أردت‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬رجلًا‭ ‬فاضلًا‭ ‬مخلصًا،‭ ‬لكنني‭ ‬كنت‭ ‬شابًا‭ ‬تضطرم‭ ‬في‭ ‬نفسه‭ ‬الأهواء،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يساعدني‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬طلب‭ ‬الفضيلة‭ ‬والسعي‭ ‬إليها‭. ‬وكان‭ ‬أصحابي‭ ‬يقابلونني‭ ‬بالهزء‭ ‬والازدراء‭ ‬والاستهجان‭ ‬كلما‭ ‬حاولت‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬نزوعي‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬الفاضلة،‭ ‬وأتلقى‭ ‬منهم‭ ‬المديح‭ ‬والتشجيع‭ ‬عندما‭ ‬أستسلم‭ ‬لأحط‭ ‬الأهواء‭ ‬والنزوات،‭ ‬ولا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أتذكر‭ ‬تلك‭ ‬السنوات‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يعتريني‭ ‬شعور‭ ‬أليم‭ ‬بالتقزز‭ ‬والاستفظاع‭. ‬

فقد‭ ‬قتلت‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬وبارزت‭ ‬الكثيرين‭ ‬لأقضي‭ ‬عليهم،‭ ‬وخسرت‭ ‬أموالًا‭ ‬طائلة‭ ‬في‭ ‬المقامرة،‭ ‬وبددت‭ ‬الأموال‭ ‬التي‭ ‬انتزعتها‭ ‬من‭ ‬عرق‭ ‬الفلاحين‭ ‬البؤساء‭ ‬الذين‭ ‬أنزلت‭ ‬بهم‭ ‬أقسى‭ ‬العقوبات،‭ ‬ولهوت‭ ‬وعربدت‭ ‬مع‭ ‬النساء‭ ‬الفاجرات،‭ ‬وخدعت‭ ‬الناس،‭ ‬ولم‭ ‬أتورع‭ ‬عن‭ ‬الكذب‭ ‬والسرقة‭ ‬وكل‭ ‬ضروب‭ ‬الفحشاء،‭ ‬ولم‭ ‬أتوانَ‭ ‬عن‭ ‬اقتراف‭ ‬أي‭ ‬إثم‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الآثام‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينتقص‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬مكانتي‭ ‬عند‭ ‬الأصحاب‮»‬‭.‬

 

مستنقع‭ ‬موبوء

كان‭ ‬تولستوي‭ ‬غارقًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المستنقع‭ ‬الموبوء‭ ‬بكل‭ ‬أنواع‭ ‬الرذائل‭ ‬المنحطة‭ ‬عندما‭ ‬دعاه‭ ‬شقيقه‭ ‬الأكبر‭ ‬نيقولا‭ ‬للإقامة‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬القوقاز‭ (‬1851‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬يعمل‭ ‬ضابطًا‭ ‬في‭ ‬جيش‭ ‬القيصر‭. ‬وقد‭ ‬أمضى‭ ‬ليو‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬وسط‭ ‬الطبيعة‭ ‬الساحرة‭ ‬لهذه‭ ‬المنطقة،‭ ‬التي‭ ‬أيقظت‭ ‬في‭ ‬أعماقه‭ ‬المشاعر‭ ‬الروحانية‭ ‬وحب‭ ‬الطبيعة‭ ‬وبراءتها،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬تفتّح‭ ‬براعم‭ ‬عبقريته‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أولى‭ ‬ثمارها‭ ‬ثلاثيته‭ ‬القصصية‭ ‬الشهيرة‭: ‬طفولة‭ (‬1852‭)‬،‭ ‬مراهقة‭ (‬1854‭)‬،‭ ‬وشباب‭ (‬1855‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬تجلّت‭ ‬فيها‭ ‬قدراته‭ ‬الفائقة‭ ‬على‭ ‬سبر‭ ‬أغوار‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬وتحليلها‭ ‬تحليلًا‭ ‬دقيقًا،‭ ‬والتي‭ ‬اعتبرها‭ ‬البعض‭ ‬تاريخًا‭ ‬لحياة‭ ‬تولستوي‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترات‭ ‬من‭ ‬العمر‭.‬

نُشرت‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬طفولة‮»‬‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ ‬المعاصر‭ (‬عدد‭ ‬سبتمبر‭ ‬1852‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أشهر‭ ‬مجلة‭ ‬أدبية‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬حينئذ،‭ ‬وصوت‭ ‬المفكرين‭ ‬الليبراليين‭ ‬فيها،‭ ‬وقد‭ ‬أشاد‭ ‬بها‭ ‬جميع‭ ‬النقاد‭ ‬وكبار‭ ‬الكتّاب،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬تورجنيف‭ ‬ودوستويفسكي،‭ ‬وتساءلوا‭ ‬عمّن‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬الكاتب‭ ‬الواعد،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬مقص‭ ‬الرقيب‭ ‬حذف‭ ‬منها‭ ‬بعض‭ ‬المقاطع،‭ ‬مما‭ ‬وتّر‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬تولستوي‭ ‬والسلطات‭ ‬السياسية‭ ‬الروسية‭.‬

وقد‭ ‬شجّعه‭ ‬هذا‭ ‬الترحيب‭ ‬الحار‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬سلسلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬كتب‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬القوقاز‭ ‬وبعضها‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬القرم،‭ ‬وتدور‭ ‬موضوعاتها‭ ‬حول‭ ‬الأحداث‭ ‬المأساوية‭ ‬والفظائع‭ ‬التي‭ ‬شاهدها‭ ‬وعاشها‭ ‬وشارك‭ ‬فيها‭ ‬خلال‭ ‬حربي‭ ‬القوقاز‭ ‬والقرم‭ ‬كجندي‭ ‬متطوع‭ ‬ثم‭ ‬ضابط،‭ ‬من‭ ‬أهمها‭: ‬الغارة‭ (‬1852‭)‬،‭ ‬وقطع‭ ‬أشجار‭ ‬الغابة‭ (‬1855‭) ‬وقصص‭ ‬سيباستوبول‭ ‬في‭ ‬ديسمبر‭ (‬1855‭) ‬وسيباستوبول‭ ‬في‭ ‬مايو‭ (‬1855‭)‬،‭ ‬وسيباستوبول‭ ‬في‭ ‬أغسطس‭ (‬1856‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬قصص‭ ‬كرسته‭ ‬بشهادة‭ ‬جميع‭ ‬النقاد‭ ‬والباحثين‭ ‬والأدباء‭ ‬كأحد‭ ‬عظماء‭ ‬الأدب‭ ‬الروسي،‭ ‬بفضل‭ ‬تحليلاتها‭ ‬العميقة‭ ‬لسيكولوجية‭ ‬الحرب‭ ‬ولنفسية‭ ‬الجنود‭ ‬والضباط‭ ‬الروس‭ ‬في‭ ‬ساحات‭ ‬القتال،‭ ‬ومظاهر‭ ‬البطولة‭ ‬والتضحية‭ ‬بالنفس‭ ‬التي‭ ‬أبدوها‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬شاقة،‭ ‬دفاعًا‭ ‬عن‭ ‬وطنهم‭ ‬وشعبهم‭. ‬

 

مدرسة‭ ‬الفضائل

إذا‭ ‬كان‭ ‬تولستوي‭ ‬قد‭ ‬اعتبر‭ ‬الحروب‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭ ‬مدرسة‭ ‬للفضائل‭ ‬والبطولات،‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬أبدى‭ ‬مقته‭ ‬الشديد‭ ‬لها،‭ ‬لأنها‭ ‬تزهق‭ ‬نفوسًا‭ ‬نبيلة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬غايات‭ ‬لا‭ ‬تستحق‭ ‬ما‭ ‬يُبذل‭ ‬في‭ ‬سبيلها‭ ‬من‭ ‬تضحيات‭ ‬ودماء‭ ‬ودموع،‭ ‬لذلك‭ ‬استقال‭ ‬من‭ ‬الجيش‭ ‬عام‭ ‬1855‭ ‬وترك‭ ‬ساحات‭ ‬الحرب‭ ‬عائدًا‭ ‬إلى‭ ‬بتروجراد‭ ‬التي‭ ‬تعرّف‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬نوابغ‭ ‬عصره‭ ‬من‭ ‬الكتّاب،‭ ‬على‭ ‬رأسهم‭ ‬تور‭ ‬جنيف‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الأثناء،‭ ‬توفي‭ ‬إمبراطور‭ ‬روسيا‭ ‬نيقولا‭ ‬الأول،‭ ‬وخلفه‭ ‬الإمبراطور‭ ‬ألكسندر‭ ‬الثاني‭ ‬الذي‭ ‬تحققت‭ ‬في‭ ‬عهده‭ ‬إصلاحات‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬طليعتها‭ ‬إلغاء‭ ‬نظام‭ ‬الرق‭ (‬1861‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬رحّب‭ ‬به‭ ‬الليبراليون‭ ‬الروس‭ ‬ترحيبًا‭ ‬حارًّا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مجلتهم‭ ‬‮«‬العصري‮»‬‭. ‬وكان‭ ‬تولستوي‭ ‬قد‭ ‬ألقى‭ ‬محاضرة‭ ‬في‭ ‬جمعية‭ ‬الأدب‭ ‬الروسي‭ ‬عام‭ ‬1859،‭ ‬دافع‭ ‬فيها‭ ‬عن‭ ‬الفن‭ ‬المتحرر‭ ‬من‭ ‬الانفعالات‭ ‬الظرفية،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬القطيعة‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الليبراليين‭ ‬الروس‭ ‬ومجلتهم‭ ‬الطليعية‭.‬

وكان‭ ‬قد‭ ‬حاول‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1856‭ ‬إطلاق‭ ‬سراح‭ ‬الأقنان‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬أملاكه،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬جدوى،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬عمل‭ ‬حكمًا‭ ‬لحل‭ ‬النزاعات‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬منطقته‭ ‬بين‭ ‬النبلاء‭ ‬وأصحاب‭ ‬الأراضي‭ ‬وأقنانهم‭ (‬1861‭ - ‬1863‭)‬،‭ ‬مما‭ ‬جرّ‭ ‬عليه‭ ‬نقمة‭ ‬هؤلاء‭ ‬النبلاء،‭ ‬لأن‭ ‬أحكامه‭ ‬كانت‭ ‬دائمًا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬حقوق‭ ‬الفلاحين‭ ‬وحمايتهم‭ ‬من‭ ‬خدع‭ ‬تلك‭ ‬الطبقة‭ ‬الأرستقراطية‭ ‬الجائرة‭.‬

 

أفكاره‭ ‬التربوية

أنشأ‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬قريته‭ ‬ياسنايا‭ ‬بوليانا‭ ‬مدارس‭ ‬على‭ ‬النهج‭ ‬الأوربي‭ ‬لتعليم‭ ‬أولاد‭ ‬الفلاحين،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬زار‭ ‬معظم‭ ‬مدن‭ ‬أوربا‭ ‬الغربية‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1857‭ (‬من‭ ‬فبراير‭ ‬إلى‭ ‬يوليو‭) ‬وتعرّف‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬المفكرين‭ ‬والأدباء،‭ ‬فالتقى‭ ‬في‭ ‬بروكسل‭ ‬المفكر‭ ‬الاشتراكي‭ ‬الفرنسي‭ ‬بيير‭ ‬جوزف‭ ‬برودون،‭ ‬الذي‭ ‬أقنعه‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬الملكية‭ ‬هي‭ ‬السرقة‮»‬،‭ ‬والتقى‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬الكاتب‭ ‬الثوري‭ ‬الروسي‭ ‬ألكسندر‭ ‬هيرزن‭ (‬1812‭ - ‬1870‭)‬،‭ ‬واهتم‭ ‬بالاطلاع‭ ‬على‭ ‬مناهج‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬وألمانيا‭ ‬وإنجلترا،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬نظريات‭ ‬روسو‭ ‬في‭ ‬التربية‭ ‬وحب‭ ‬الطبيعة‭ ‬والعدالة‭ ‬والحرية‭ ‬والمساواة‭.‬

ولما‭ ‬عاد‭ ‬إلى‭ ‬بلاده‭ ‬نظّم‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬بطرق‭ ‬مبتكرة‭ ‬تسمح‭ ‬للأطفال‭ ‬بالنمو‭ ‬العقلي‭ ‬الحر‭ ‬الذي‭ ‬يساعد‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬الشخصية‭ ‬المستقلة‭ ‬لكل‭ ‬طفل،‭ ‬وتطلق‭ ‬ملكاته‭ ‬الإبداعية‭. ‬وقد‭ ‬ذاعت‭ ‬شهرة‭ ‬هذه‭ ‬المدارس‭ ‬الشعبية‭ ‬ومناهجها‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬كلها،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أنه‭ ‬عكف‭ ‬شخصيًا‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬كراريس‭ ‬التعليم‭ ‬والأقاصيص‭ ‬التي‭ ‬امتازت‭ ‬بالبساطة‭ ‬ودقة‭ ‬الملاحظة‭ ‬عن‭ ‬الإنسان‭ ‬والحيوان‭ ‬والنبات،‭ ‬وعن‭ ‬مغامرات‭ ‬صيد‭ ‬الأرانب‭ ‬والدببة‭ ‬والذئاب‭ ‬في‭ ‬سهول‭ ‬روسيا‭ ‬وجبالها‭. ‬

كما‭ ‬أنشأ‭ ‬المجلة‭ ‬التربوية،‭ ‬‮«‬ياسنايا‭ ‬بوليانا‮»‬‭ ‬لترويج‭ ‬أفكاره‭ ‬التربوية،‭ ‬وناهض‭ ‬كل‭ ‬اتجاه‭ ‬لفرض‭ ‬منهج‭ ‬تعليمي‭ ‬على‭ ‬أطفال‭ ‬الفلاحين‭ ‬يعارض‭ ‬حاجاتهم‭ ‬المادية‭ ‬والروحية،‭ ‬داعيًا‭ ‬النخبة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الروسي‭ ‬إلى‭ ‬الاقتداء‭ ‬بحياة‭ ‬الفلاحين‭ ‬الطبيعية‭ ‬البسيطة‭ ‬والنظر‭ ‬إليها‭ ‬باحترام‭ ‬وإجلال‭.‬

لكن‭ ‬هذه‭ ‬الطريقة‭ ‬في‭ ‬تنشئة‭ ‬أطفال‭ ‬الفلاحين‭ ‬التي‭ ‬ابتدعها‭ ‬تولستوي‭ ‬أثارت‭ ‬حفيظة‭ ‬رجالات‭ ‬القيصر،‭ ‬فأغلقوا‭ ‬تلك‭ ‬المدارس‭ ‬وطمسوا‭ ‬مناهجها‭.‬

 

بين‭ ‬السعادة‭ ‬والأنانية

في‭ ‬عام‭ ‬1860‭ ‬توفي‭ ‬شقيقه‭ ‬البكر‭ ‬نيقولا‭ ‬بمرض‭ ‬السل،‭ ‬وكان‭ ‬أحب‭ ‬إخوته‭ ‬إليه،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬كان‭ ‬لغز‭ ‬الموت‭ ‬والعدم‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬يؤرقه،‭ ‬فازداد‭ ‬قلقًا‭ ‬وحيرةً،‭ ‬ضمّنهما‭ ‬بالقصص‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬ومنها‭: ‬الجنديان‭ ‬الخيالان‭ (‬1856‭)‬،‭ ‬ألبرت‭ ‬لوسرن‭ (‬1857‭ - ‬1858‭)‬،‭ ‬الموتى‭ ‬الثلاثة‭ (‬1859‭)‬،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬زواجه‭ ‬في‭ ‬23‭ ‬سبتمبر‭ ‬1862‭ ‬من‭ ‬صوفيا‭ ‬بيرز‭ (‬1844‭ - ‬1919‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬ابنة‭ ‬أحد‭ ‬أطباء‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي،‭ ‬خفّف‭ ‬عنه‭ ‬بعض‭ ‬ذلك‭ ‬القلق‭ ‬الوجودي،‭ ‬ووفّر‭ ‬له‭ ‬حياة‭ ‬عائلية‭ ‬سعيدة‭ ‬انصرف‭ ‬خلالها‭ ‬إلى‭ ‬الاهتمام‭ ‬بأولاده‭ (‬13‭ ‬ولدًا‭) ‬وأملاكه‭ ‬الواسعة،‭ ‬والانكباب‭ ‬على‭ ‬الإنتاج‭ ‬الأدبي‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬وروايات‭ ‬ومسرحيات،‭ ‬وقام‭ ‬بزيارة‭ ‬ثانية‭ ‬لأوربا‭ ‬الغربية‭ ‬عام‭ ‬1862،‭ ‬فكانت‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬أسعد‭ ‬أيام‭ ‬حياته‭ ‬وأخصبها،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬اعتبرها‭ - ‬فيما‭ ‬بعد‭ - ‬ضربًا‭ ‬من‭ ‬الأنانية،‭ ‬وهي‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬أصدر‭ ‬فيها‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬سعادة‭ ‬العائلة‮»‬‭ (‬1862‭)‬،‭ ‬وقصة‭ ‬الكوزاك‭ (‬1862‭) ‬اللتين‭ ‬كانتا‭ ‬بمنزلة‭ ‬مقدمة‭ ‬لروايتيه‭ ‬الخالدتين‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬والسلام‮»‬‭ (‬1863‭ - ‬1869‭) ‬و«أنا‭ ‬كرانينا‮»‬‭ (‬1873-1877‭)‬،‭ ‬اللتين‭ ‬وطدتا‭ ‬شهرته‭ ‬الأدبية‭ ‬العالمية‭. ‬

يدور‭ ‬موضوع‭ ‬الرواية‭ ‬الأولى‭ ‬حول‭ ‬الحروب‭ ‬البطولية‭ ‬التي‭ ‬خاضها‭ ‬الروس‭ ‬ضد‭ ‬جيوش‭ ‬نابليون‭ ‬الغازية‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1812،‭ ‬لذلك‭ ‬عكف‭ ‬قبل‭ ‬كتابتها‭ ‬على‭ ‬قراءات‭ ‬تاريخية‭ ‬وافية‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬المضطربة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬روسيا‭. ‬

 

‮«‬أنا‭ ‬كرانينا‮»‬

أما‭ ‬موضوع‭ ‬الرواية‭ ‬الثانية‭ (‬أنا‭ ‬كرانينا‭) ‬فيدور‭ ‬حول‭ ‬حادثة‭ ‬حقيقية‭ ‬عن‭ ‬انتحار‭ ‬الشابة‭ ‬أنا‭ ‬كرانينا،‭ ‬بعد‭ ‬فشلها‭ ‬في‭ ‬الحب،‭ ‬بأن‭ ‬رمت‭ ‬نفسها‭ ‬تحت‭ ‬عجلات‭ ‬أحد‭ ‬قطارات‭ ‬السكك‭ ‬الحديدية‭. ‬كانت‭ ‬زوجته‭ ‬الحسناء‭ ‬تساعده‭ ‬في‭ ‬جهوده‭ ‬الأدبية،‭ ‬لأنها‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تستطيع‭ ‬قراءة‭ ‬خطه‭ ‬الرديء‭ ‬وما‭ ‬يُدخله‭ ‬من‭ ‬التعديلات‭ ‬على‭ ‬نصوصه،‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬تعيد‭ ‬كتابة‭ ‬النص‭ ‬الأصلي‭ ‬بكامله،‭ ‬ولها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬فضل‭ ‬في‭ ‬التعريف‭ ‬بحقيقة‭ ‬النصوص‭ ‬الأصلية،‭ ‬لكتب‭ ‬تولستوي‭ ‬بعد‭ ‬زواجه‭ ‬منها‭.‬

كان‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬سعادته‭ ‬العائلية‭ ‬والصحية‭ ‬والمادية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬ويتمتع‭ ‬بشهرة‭ ‬أدبية‭ ‬كاسحة‭ ‬تجاوزت‭ ‬حدود‭ ‬روسيا‭ ‬إلى‭ ‬أقطار‭ ‬العالم‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬أصبحت‭ ‬دارته‭ ‬في‭ ‬ياسنايا‭ ‬بوليانا‭ ‬محجًّا‭ ‬لرجال‭ ‬السياسة‭ ‬والأدب‭ ‬والفلسفة‭ ‬والطب‭ ‬والفقه‭ ‬واللاهوت‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬للتعرف‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الروسي‭ ‬‮«‬الشبيه‭ ‬بالآلهة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬وصفه‭ ‬مكسيم‭ ‬جوركي،‭ ‬وكان‭ ‬يتلقى‭ ‬يوميًّا‭ ‬عشرات‭ ‬رسائل‭ ‬الإعجاب‭ ‬والتأييد‭ ‬من‭ ‬شخصيات‭ ‬لا‭ ‬يعرفها،‭ ‬ومنهم‭ ‬المهاتما‭ ‬غاندي‭ ‬والشيخ‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭.‬

لكن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأمجاد‭ ‬لم‭ ‬تمنع‭ ‬الأزمة‭ ‬النفسية‭ ‬والروحية‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تعصف‭ ‬بكيان‭ ‬تولستوي‭ ‬الجسدي‭ ‬والروحي،‭ ‬بحيث‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يرى‭ ‬أمامه‭ ‬سوى‭ ‬الموت‭ ‬والعدم،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬لذلك‭ ‬سببًا،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬في‭ ‬اعترافاته‭. ‬

كان‭ ‬يقف‭ ‬وحيدًا‭ ‬وسط‭ ‬العاصفة‭ ‬التي‭ ‬أثارتها‭ ‬تلك‭ ‬الأسئلة‭ ‬المحرجة‭ ‬التي‭ ‬طرحها‭ ‬على‭ ‬نفسه‭. ‬وكاد‭ ‬اليأس‭ ‬يدفعه‭ ‬إلى‭ ‬الانتحار‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يقتنع‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬باستنتاجات‭ ‬دينية‭ ‬مستخلصة‭ ‬من‭ ‬الإنجيل،‭ ‬وخصوصًا‭ ‬موعظة‭ ‬الجبل،‭ ‬جعلها‭ ‬محور‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬ومؤداها‭ ‬أن‭ ‬المادة‭ ‬هي‭ ‬مصدر‭ ‬الشرور‭ ‬والمظالم‭ ‬والآلام‭ ‬والخطايا‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وأن‭ ‬الوسيلة‭ ‬الوحيدة‭ ‬لإنقاذه‭ ‬وتغييره،‭ ‬وخلق‭ ‬معنى‭ ‬للوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬هي‭ ‬الإيمان‭ ‬بالإحسان‭ ‬والعمل‭ ‬بقانون‭ ‬الله‭ ‬الأساسي‭ ‬الذي‭ ‬نستطيع‭ ‬بواسطته‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭ ‬المظالم‭ ‬والحروب‭ ‬والأمراض‭ ‬التي‭ ‬تفتك‭ ‬بالجنس‭ ‬البشري،‭ ‬لذلك،‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬أن‭ ‬يتحلى‭ ‬بالبساطة‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬وأن‭ ‬يعطي‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يأخذ،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬عمل‭ ‬الخير‭ ‬رائده،‭ ‬وأن‭ ‬يساعد‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬حل‭ ‬مشكلاتهم،‭ ‬وبذلك‭ ‬يخلق‭ ‬لنفسه‭ ‬وللآخرين‭ ‬السعادة،‭ ‬ويجعل‭ ‬لحياته‭ ‬وحياتهم‭ ‬معنى‭.‬

كما‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شديد‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬نفسه،‭ ‬فلا‭ ‬يسمح‭ ‬لأحد‭ ‬بالدخول‭ ‬إليها‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يسرق‭ ‬منها‭ ‬وقتًا‭ ‬مثمرًا‭ ‬أو‭ ‬شعورًا‭ ‬جميلًا‭ ‬أو‭ ‬فكرة‭ ‬عميقة،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬يحترم‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬ويجعلها‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭ ‬وصدق‭ ‬مليئة‭ ‬بالعمل،‭ ‬وبذلك‭ ‬يحفظها‭ ‬من‭ ‬الصدأ‭ ‬والتعفن،‭ ‬ولا‭ ‬يبددها‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬لا‭ ‬جدوى‭ ‬منها‭.‬

 

تحوُّل‭ ‬جوهري

أطلق‭ ‬تولستوي‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬الحراسة‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬الخاصة‮»‬،‭ ‬وطبّقها‭ ‬بدقة‭ ‬على‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياته‭. ‬فالتزم‭ ‬البساطة‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬العملية،‭ ‬وتزهد‭ ‬في‭ ‬مأكله‭ ‬وملبسه،‭ ‬وأصبح‭ ‬نباتيًّا،‭ ‬ولبس‭ ‬ملابس‭ ‬الفلاحين‭ ‬وعمل‭ ‬في‭ ‬الحقول،‭ ‬وبقطع‭ ‬الأخشاب‭ ‬في‭ ‬الغابات،‭ ‬وتولى‭ ‬تنظيف‭ ‬حاجاته‭ ‬بنفسه،‭ ‬وكتب‭ ‬الكراريس‭ ‬لأبناء‭ ‬الفلاحين،‭ ‬وصنع‭ ‬له‭ ‬ولهم‭ ‬الأحذية،‭ ‬وكان‭ ‬يجلس‭ ‬للكتابة‭ ‬والتفكير‭ ‬في‭ ‬أوقاته‭ ‬الحرة‭. ‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬أحد‭ ‬يفهم‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬تولستوي،‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬أقرب‭ ‬المقربين‭ ‬إليه‭ ‬كزوجته‭ ‬وأولاده‭. ‬كان‭ ‬اعتقاد‭ ‬الجميع‭ ‬أنه‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬الإفلاس‭ ‬العقلي‭ ‬والجنون،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رأوه‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬غريب‭ ‬لا‭ ‬يألفه‭ ‬معظم‭ ‬البشر‭ ‬الغارقين‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬الروتينية‭ ‬التافهة،‭ ‬فيحيط‭ ‬نفسه‭ ‬بالكتب‭ ‬الدينية‭ ‬المختلفة‭ ‬من‭ ‬توراة‭ ‬وإنجيل‭ ‬وقرآن،‭ ‬ومن‭ ‬تعاليم‭ ‬بوذا‭ ‬ولاوتس‭ (‬مؤسس‭ ‬الديانة‭ ‬الطاوية‭ - ‬القرن‭ ‬السادس‭ ‬ق‭.‬م‭)‬،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬شريعة‭ ‬العقل‭ ‬والفضيلة‮»‬‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬حكماء‭ ‬الهند‭ ‬والصين‭ ‬وفلاسفة‭ ‬اليونان‭ ‬ومتصوفي‭ ‬الإسلام‭.‬

كان‭ ‬يقرأ‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬بتمعّن‭ ‬كمن‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬دفين‭ ‬وكنز‭ ‬ثمين،‭ ‬ويكتب‭ ‬بغزارة‭ ‬عن‭ ‬الأخلاقيات‭ ‬الروحية،‭ ‬ويهجر‭ ‬حياته‭ ‬الأرستقراطية‭ ‬الصاخبة‭ ‬وزوجته‭ ‬وأولاده،‭ ‬ويقرر‭ ‬توزيع‭ ‬أملاكه‭ ‬وأمواله‭ ‬الكثيرة‭ ‬على‭ ‬الفلاحين‭ ‬والفقراء،‭ ‬ويتهم‭ ‬جميع‭ ‬المظاهر‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بالكذب‭ ‬والخداع،‭ ‬لأنها‭ ‬تلوث‭ ‬معنى‭ ‬الحياة‭ ‬وتزيّف‭ ‬حقائقها،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬صديقه‭ ‬الأديب‭ ‬إيفان‭ ‬تورجنيف‭ ‬كتب‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬باريس،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يتداوى‭ ‬عام‭ ‬1883،‭ ‬رسالة‭ ‬قال‭ ‬فيها‭: ‬‮«‬عد‭ ‬ثانيةً‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الأدب‭ ‬يا‭ ‬ليو‭ ‬نيقولاي‭ ‬فيتش،‭ ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬موهبتك‭ ‬الحقيقية‭ ‬يا‭ ‬فنان‭ ‬أرضنا‭ ‬الروسية‭ ‬العظيم،‭ ‬استمع‭ ‬إلى‭ ‬رجائي‭ ‬وعُد‭ ‬إلينا،‭ ‬فنحن‭ ‬بحاجة‭ ‬إليك‮»‬‭.‬

 

مرض‭ ‬غريب

أصبحت‭ ‬زوجته‭ ‬المسكينة‭ ‬تخاف‭ ‬الفقر‭ ‬والإملاق‭ ‬مع‭ ‬أولادها‭ ‬الثلاثة‭ ‬عشر،‭ ‬بعد‭ ‬عزّ‭ ‬وجاه،‭ ‬وقد‭ ‬حاولت‭ ‬الاستعانة‭ ‬بالسلطات‭ ‬لإثبات‭ ‬أن‭ ‬زوجها‭ ‬مختلّ‭ ‬العقل،‭ ‬وبالتالي‭ ‬عاجز‭ ‬عن‭ ‬إدارة‭ ‬أملاكه‭. ‬

وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬كانا‭ ‬يبكيان‭ ‬معًا،‭ ‬هي‭ ‬تبكي‭ ‬حظها‭ ‬وحظ‭ ‬أولادها‭ ‬العاثر‭ ‬ومصيرهم‭ ‬المجهول،‭ ‬وهو‭ ‬يبكي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المرض‭ ‬الغريب‭ ‬الذي‭ ‬أصابه‭ ‬ولا‭ ‬يفهم‭ ‬له‭ ‬سببًا‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1880‭ ‬قالت‭ ‬زوجته‭ ‬إن‭ ‬زوجها‭ ‬‮«‬كان‭ ‬يستغرق‭ ‬تمامًا‭ ‬في‭ ‬عمله،‭ ‬ويحدّق‭ ‬بشكل‭ ‬غريب‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتكلم،‭ ‬وكان‭ ‬منظره‭ ‬يوحي‭ ‬كأنه‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬آخر،‭ ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يشكو‭ ‬من‭ ‬ألم‭ ‬في‭ ‬الرأس،‭ ‬لقد‭ ‬تغيّر‭ ‬كثيرًا،‭ ‬وأصبح‭ ‬مخلصًا‭ ‬لمسيحيته،‭ ‬وزحف‭ ‬الشيب‭ ‬على‭ ‬رأسه،‭ ‬وتدهورت‭ ‬صحته،‭ ‬أصبح‭ ‬أكثر‭ ‬هدوءًا‭ ‬وأكثر‭ ‬حزنًا‭. ‬

لقد‭ ‬مضى‭ ‬علينا‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬موسكو‭ (‬1881‭) ‬شهر،‭ ‬وكنت‭ ‬في‭ ‬الأسبوعين‭ ‬الأولين‭ ‬من‭ ‬وصولنا‭ ‬أبكي‭ ‬يوميًا،‭ ‬لأن‭ ‬ليو‭ ‬لم‭ ‬يقع‭ ‬فقط‭ ‬فريسة‭ ‬الكتابة،‭ ‬بل‭ ‬أيضًا‭ ‬لنوع‭ ‬من‭ ‬اللامبالاة‭ ‬اليائسة‭.‬

لم‭ ‬ينم‭ ‬ولم‭ ‬يأكل،‭ ‬وكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يبكي‭ ‬كالمجنون،‭ ‬واعتقدت‭ ‬بكل‭ ‬بساطة‭ ‬بأنني‭ ‬فقدت‭ ‬عقلي‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬إحدى‭ ‬المرات‭ ‬توجهت‭ ‬لزوجها‭ ‬قائلة‭ ‬بيأس‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬بدأت‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬السعيد‭ ‬عندما‭ ‬يتوقف‭ ‬فجأة‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬الأشياء‭ ‬الجميلة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬ولا‭ ‬يعود‭ ‬يرى‭ ‬سوى‭ ‬الرعب‭ ‬والكراهية،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يعني‭ ‬المرض‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬شك‭. ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تهتم‭ ‬بنفسك،‭ ‬أقول‭ ‬لك‭ ‬ذلك‭ ‬بنيّة‭ ‬صافية،‭ ‬والحقيقة‭ ‬كما‭ ‬تبدو‭ ‬لي‭ ‬أنني‭ ‬أشعر‭ ‬بالشفقة‭ ‬عليك‭. ‬ألم‭ ‬تكن‭ ‬تشعر‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬بوجود‭ ‬جائعين‭ ‬ومرضى‭ ‬وبؤساء‭ ‬وأشرار؟‭ ‬انظر‭ ‬جيدًا،‭ ‬فهناك‭ ‬أيضًا‭ ‬بشر‭ ‬سعداء‭ ‬وطيبون‭ ‬وأصحاء،‭ ‬إنك‭ ‬مريض‭ ‬بكل‭ ‬تأكيد،‭ ‬وليكن‭ ‬الله‭ ‬بعونك‮»‬‭.‬

أما‭ ‬تولستوي‭ ‬نفسه‭ ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬في‭ ‬اعترافاته‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬ساءت‭ ‬صحتي‭ ‬شيئًا‭ ‬فشيئًا،‭ ‬وغالبًا‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أتمنى‭ ‬الموت،‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬حلّ‭ ‬بي،‭ ‬ولماذا‭ ‬أصبحت‭ ‬هكذا؟‭ ‬هل‭ ‬هو‭ ‬التقدم‭ ‬في‭ ‬العمر،‭ ‬أم‭ ‬هو‭ ‬المرض؟‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬شيئًا‮»‬‭.‬

 

حل‭ ‬وسط

كانت‭ ‬نهاية‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬العائلية‭ ‬قبول‭ ‬تولستوي‭ ‬بحل‭ ‬وسط‭ ‬يقضي‭ ‬بأن‭ ‬يتنازل‭ ‬عن‭ ‬أملاكه‭ ‬لأسرته‭ (‬1888‭). ‬وأن‭ ‬يثابر‭ ‬هو‭ ‬على‭ ‬التأليف،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬الكتب‭ ‬الدينية،‭ ‬ومنها‭: ‬‮«‬ديانتي‮»‬‭ ‬و«ملكوت‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬نفسك‮»‬‭.‬

وبعد‭ ‬عكوفه‭ ‬على‭ ‬القراءات‭ ‬المعمقة‭ ‬للتوراة‭ ‬والأناجيل،‭ ‬تبيّن‭ ‬أن‭ ‬التقاليد‭ ‬اليهودية‭ ‬وتعاليم‭ ‬الكنيسة‭ ‬قد‭ ‬غيّرت‭ ‬بها‭. ‬ونطالع‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كتبه‭ ‬‮«‬نقد‭ ‬اللاهوت‭ ‬العقدي‮»‬‭ (‬1879‭ - ‬1881‭)‬،‭ ‬و«جمع‭ ‬الأناجيل‭ ‬الأربعة‭ ‬وترجمتها‭ (‬1881‭)‬‮»‬،‭ ‬و«مختصر‭ ‬الأناجيل‮»‬‭ (‬1883‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬يرفض‭ ‬فيها‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بما‭ ‬فوق‭ ‬الطبيعة‭ ‬وبألوهية‭ ‬المسيح،‭ ‬رغم‭ ‬اعتقاده‭ ‬بالله‭. ‬أما‭ ‬رسالة‭ ‬المسيح‭ ‬الحقيقية‭ ‬فهي‭ - ‬في‭ ‬رأيه‭ - ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬مبدأين‭ ‬أساسيين‭: ‬محبة‭ ‬الله،‭ ‬ومحبة‭ ‬الآخر،‭ ‬المستمدين‭ ‬من‭ ‬موعظة‭ ‬الجبل‭.‬

وبعد‭ ‬انتقاله‭ ‬مع‭ ‬عائلته‭ ‬إلى‭ ‬موسكو،‭ ‬أتيح‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1882‭ ‬الاشتراك‭ ‬في‭ ‬إحصاء‭ ‬سكان‭ ‬روسيا،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬يلمس‭ ‬على‭ ‬الطبيعة‭ ‬مدى‭ ‬انتشار‭ ‬البؤس‭ ‬والفقر‭ ‬والفساد‭ ‬في‭ ‬بلاده‭. ‬وتجد‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬ما‭ ‬العمل‭ ‬إذن؟‮»‬‭ ‬تصويرًا‭ ‬واقعيًّا‭ ‬ومؤثرًا‭ ‬لكل‭ ‬أنواع‭ ‬الفساد‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مستشرية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الروسي‭ ‬يومئذ،‭ ‬وبيان‭ ‬عجز‭ ‬وسائل‭ ‬البر‭ ‬والإحسان‭ ‬عن‭ ‬علاج‭ ‬هذه‭ ‬المساوئ،‭ ‬كما‭ ‬ضمّنه‭ ‬نقدًا‭ ‬عنيفًا‭ ‬للأسس‭ ‬والمبادئ‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬المجتمعات‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬وسائر‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬طليعتها‭: ‬الدولة‭ ‬باعتبارها‭ ‬أداة‭ ‬ضغط‭ ‬مستمرة‭ ‬لسيطرة‭ ‬الأغنياء‭ ‬على‭ ‬الفقراء،‭ ‬والكنيسة‭ ‬باعتبارها‭ ‬خاضعة‭ ‬للدولة،‭ ‬والملكية‭ ‬الخاصة‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬استغلال‭ ‬الإنسان‭ ‬للإنسان،‭ ‬وفقدان‭ ‬العدالة‭ ‬والمساواة‭.‬

أما‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬والتقني‭ ‬فلا‭ ‬تستفيد‭ ‬منه‭ ‬سوى‭ ‬طبقة‭ ‬الأثرياء‭ ‬والمحظوظين‭. ‬وكذلك‭ ‬الفن‭ ‬الذي‭ ‬يرضي‭ ‬المشاعر‭ ‬المصطنعة‭ ‬للطبقات‭ ‬الغنية‭ ‬والأرستقراطية‭.‬

 

قصص‭ ‬أخلاقية

في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬ما‭ ‬هو‭ ‬الفن؟‮»‬‭ (‬1898‭) ‬عرض‭ ‬وتحليل‭ ‬لهذا‭ ‬الفن‭ ‬الذي‭ ‬يتعارض‭ ‬مع‭ ‬الفن‭ ‬الشعبي‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬صدقًا‭ ‬وواقعية‭ ‬وبساطة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الفنون‭ ‬المصطنعة‭. ‬

أما‭ ‬أنجع‭ ‬السبل‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬أنواع‭ ‬المظالم‭ ‬والفساد‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬بقاع‭ ‬العالم،‭ ‬فهي‭ ‬اتباع‭ ‬وصايا‭ ‬المسيح‭ ‬والتبشير‭ ‬بها،‭ ‬وممارسة‭ ‬الأعمال‭ ‬الخيرية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬محبة‭ ‬البشر،‭ ‬ونشر‭ ‬الفضائل‭ ‬الدينية‭ ‬بالوسائل‭ ‬السلمية،‭ ‬والابتعاد‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬العنف‭. ‬بهذه‭ ‬العقلية‭ ‬المثالية‭ ‬وضع‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1872‭ ‬و1874‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬القصيرة‭ ‬أهمها‭ ‬‮«‬أربعة‭ ‬كتب‭ ‬للقراءة‮»‬‭.‬

ومنذ‭ ‬عام‭ ‬1885‭ ‬شرع‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬والمسرحيات‭ ‬الشعبية‭ ‬المشبعة‭ ‬بالمبادئ‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬والمكتوبة‭ ‬بلغة‭ ‬بسيطة،‭ ‬فاشتهرت‭ ‬وانتشرت‭ ‬انتشارًا‭ ‬واسعًا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬روسيا،‭ ‬باستثناء‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬قوة‭ ‬الظلام‮»‬‭ ‬التي‭ ‬منعتها‭ ‬الرقابة‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬لأنها‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬المال‭ ‬والشرور‭ ‬الخلقية‭ ‬وإفساد‭ ‬المجتمع،‭ ‬مما‭ ‬جعلها‭ ‬من‭ ‬روائع‭ ‬الأدب‭ ‬المسرحي‭ ‬الروسي‭. ‬

وإذا‭ ‬انتقلنا‭ ‬إلى‭ ‬كتابات‭ ‬تولستوي‭ ‬الأخيرة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬موت‭ ‬إيفان‭ ‬إيلليتش،‭ ‬والسيد‭ ‬والخادم،‭ ‬ولحن‭ ‬كروتزر،‭ ‬والأب‭ ‬سيرج،‭ ‬والحاجي‭ ‬مراد،‭ ‬نجدها‭ ‬تشهّر‭ ‬بالمظاهر‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الكاذبة،‭ ‬وبشهوات‭ ‬الجسد‭ ‬الدنيوية‭ ‬وإغراءات‭ ‬الأمجاد‭ ‬الأرضية‭ ‬الزائفة‭. ‬وبالمبادئ‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬الحضارة‭ ‬الحديثة‭ ‬والمجتمعات‭ ‬البشرية‭ ‬المنبثقة‭ ‬عنها‭.‬

ويغلّف‭ ‬هذه‭ ‬الموضوعات‭ ‬تشاؤم‭ ‬بالوضع‭ ‬الإنساني،‭ ‬ملطّف‭ ‬بمسحة‭ ‬روحانية،‭ ‬وربما‭ ‬كانت‭ ‬روايته‭ ‬العظيمة‭ ‬الثالثة‭ ‬‮«‬البعث‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬استغرق‭ ‬وضعها‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ (‬1889‭ - ‬1899‭) ‬أفضل‭ ‬عرض‭ ‬لهذه‭ ‬الموضوعات‭ ‬وأعمقها‭.‬

 

حرمان‭ ‬كنسي

في‭ ‬عام‭ ‬1901‭ ‬أصدرت‭ ‬الكنيسة‭ ‬الروسية‭ ‬قرارًا‭ ‬بحرمانه،‭ ‬بسبب‭ ‬آرائه‭ ‬المعارضة‭ ‬لتعاليمها،‭ ‬وللنظام‭ ‬القائم،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬تعلّق‭ ‬الجماهير‭ ‬الشعبية‭ ‬بآرائه‭ ‬وقراءة‭ ‬كتبه‭.‬

وعندما‭ ‬قامت‭ ‬ثورة‭ ‬عام‭ ‬1905‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬هاجم‭ ‬الوسائل‭ ‬العنيفة‭ ‬التي‭ ‬استُعملت‭ ‬لإخمادها،‭ ‬وكتب‭ ‬رسالة‭ ‬نشرتها‭ ‬الصحف‭ ‬الأوربية‭ ‬تنمّ‭ ‬عن‭ ‬حزنه‭ ‬العميق،‭ ‬بدأها‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬التزام‭ ‬الصمت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك‮»‬،‭ ‬وفيها‭ ‬حث‭ ‬الشعب‭ ‬الروسي‭ ‬على‭ ‬الامتناع‭ ‬عن‭ ‬العنف‭ ‬والكراهية،‭ ‬واتباع‭ ‬الوسائل‭ ‬السلمية‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬روسيا‭ ‬تئن‭ ‬تحتها،‭ ‬لكن‭ ‬دعوته‭ ‬ذهبت‭ ‬هباءً‭ ‬بقيام‭ ‬ثورة‭ ‬1917‭ ‬الدموية‭ ‬التي‭ ‬راح‭ ‬ضحيتها‭ ‬الآلاف‭. ‬

لقد‭ ‬فكّر‭ ‬تولستوي‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬1894‭ ‬في‭ ‬ترك‭ ‬أملاكه‭ ‬وعائلته،‭ ‬ليحرر‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬القيود‭ ‬التي‭ ‬تعارض‭ ‬أفكاره‭. ‬وفي‭ ‬صبيحة‭ ‬يوم‭ ‬عاصف‭ ‬مثلّج‭ ‬من‭ ‬شتاء‭ ‬عام‭ ‬1910،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬في‭ ‬28‭ ‬أكتوبر،‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬قصره،‭ ‬هائمًا‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬في‭ ‬الطرقات‭ ‬ثلاثة‭ ‬أسابيع،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أعيته‭ ‬برودة‭ ‬الطقس،‭ ‬وعناء‭ ‬الشيخوخة‭ ‬ومشقة‭ ‬السفر،‭ ‬فالتجأ‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬متواضعة‭ ‬لناظر‭ ‬محطة‭ ‬استابوفو‭ ‬للقطارات،‭ ‬حيث‭ ‬قضى‭ ‬نحبه‭ ‬بالتهاب‭ ‬رئوي‭ ‬حاد‭ ‬في‭ ‬20‭ ‬نوفمبر‭ ‬عام‭ ‬1910‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬والثمانين‭ ‬من‭ ‬العمر‭.‬

يتضح‭ ‬من‭ ‬السياق‭ ‬العام‭ ‬لتطور‭ ‬حياة‭ ‬تولستوي‭ ‬وتفكيره‭ ‬أنه‭ ‬تأثر‭ ‬بعمق‭ ‬بالنزعات‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬الأديان‭ ‬والفلسفات‭ ‬والشخصيات‭ ‬التي‭ ‬درسها‭ ‬بعقل‭ ‬تحليلي‭ ‬ناقد‭ ‬وقلب‭ ‬متلهف‭ ‬إلى‭ ‬المعرفة،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬حياة‭ ‬وتعاليم‭ ‬بوذا‭ ‬الشبيهة‭ ‬بحياته،‭ ‬وتعاليم‭ ‬لاوتسو‭ ‬والمسيح‭ ‬والمتصوفة‭ ‬المسلمين،‭ ‬وكتب‭ ‬جان‭ ‬جاك‭ ‬روسو‭ ‬كلها،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬إعجابه‭ ‬به‭ ‬يضع‭ ‬قلادة‭ ‬على‭ ‬صدره‭ ‬تحمل‭ ‬صورته‭.‬

وقد‭ ‬ساهمت‭ ‬جميع‭ ‬هذه‭ ‬العوامل‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬عبقريته‭ ‬الأدبية،‭ ‬وانقلابه‭ ‬الروحي‭ ‬المثير،‭ ‬وكانت‭ ‬ثمراتها‭ ‬عددًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬والمسرحيات‭ ‬والقصص،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬الفلسفية‭ ‬والدينية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي‭.‬

 

‭ ‬ضد‭ ‬التولستوية

أدى‭ ‬انتقاد‭ ‬تولستوي‭ ‬للحكم‭ ‬القيصري‭ ‬الفاسد‭ ‬والكنيسة‭ ‬الأرثوذكسية‭ ‬التي‭ ‬وصفها‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬المؤسسة‭ ‬المنافقة‭ ‬التي‭ ‬تسيّرها‭ ‬جماعات‭ ‬معيّنة‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬الآخرين‮»‬،‭ ‬إلى‭ ‬إصدار‭ ‬المجمع‭ ‬الكنسي‭ ‬المقدس‭ ‬قرارًا‭ ‬بحرمانه‭ ‬من‭ ‬الكنيسة‭ ‬الروسية‭ ‬الأرثوذكسية‭. ‬كما‭ ‬اختلفت‭ ‬آراء‭ ‬الباحثين‭ ‬في‭ ‬تقييم‭ ‬إنتاجه‭ ‬الأدبي‭ ‬واتجاهاته‭ ‬الفكرية‭ ‬الجديدة‭.‬

ففي‭ ‬روسيا‭ ‬وصف‭ ‬مكسيم‭ ‬غوركي‭ ‬صديقه‭ ‬تولستوي‭ ‬بالقديس،‭ ‬وفي‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬حركة‭ ‬دينية‭ ‬اجتماعية‭ ‬ينتمي‭ ‬أعضاؤها‭ ‬إلى‭ ‬فئات‭ ‬اجتماعية‭ ‬مختلفة‭ ‬تنادي‭ ‬بأفكار‭ ‬تولستوي‭ ‬الدينية‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬أفكاره‭ ‬عن‭ ‬الحب‭ ‬والتسامح‭ ‬بين‭ ‬البشر،‭ ‬وأضافت‭ ‬إليها‭ ‬رفض‭ ‬الخدمة‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬ورفض‭ ‬دفع‭ ‬الضرائب،‭ ‬والعمل‭ ‬في‭ ‬حقل‭ ‬التعليم‭ ‬والنشر‭ ‬لترويج‭ ‬التفاهة‭ ‬الأخلاقية‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬تولستوي‭ ‬عارض‭ ‬تحويل‭ ‬أفكاره‭ ‬إلى‭ ‬ديانة‭ ‬جديدة،‭ ‬وأصدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1906‭ ‬كتيبًا‭ ‬حول‭ ‬الموضوع‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬ضد‭ ‬التولستوية‮»‬‭. ‬وقال‭ ‬لينين‭ ‬‮«‬إن‭ ‬أفكار‭ ‬تولستوي‭ ‬الاجتماعية‭ ‬تعكس‭ ‬آراء‭ ‬ملايين‭ ‬الفلاحين،‭ ‬وأنه‭ ‬أدخل‭ ‬في‭ ‬تعاليمه‭ ‬سذاجتهم،‭ ‬واغترابهم‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية،‭ ‬ورغبتهم‭ ‬في‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬شؤون‭ ‬العالم‭ ‬ومقاومة‭ ‬الشر،‭ ‬ورفضهم‭ ‬غير‭ ‬المنظم‭ ‬وغير‭ ‬الفعال‭ ‬للرأسمالية‭ ‬والإقطاع‭ ‬ولسلطة‭ ‬وقوة‭ ‬النفوذ‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1960‭ ‬تألفت‭ ‬بجنيف‭ ‬في‭ ‬سويسرا‭ ‬‮«‬الجمعية‭ ‬العالمية‭ ‬للتسلح‭ ‬الخلقي‮»‬‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الفكر،‭ ‬في‭ ‬طليعتهم‭ ‬المفكر‭ ‬الفرنسي‭ ‬المتدين‭ ‬غابرييل‭ ‬مارسيل،‭ ‬الذين‭ ‬تبنوا‭ ‬أفكار‭ ‬تولستوي‭ ‬في‭ ‬دعوته‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬العالم‭ ‬بالحب‭ ‬واللاعنف،‭ ‬وقد‭ ‬أصدرت‭ ‬كتابًا‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬أمل‭ ‬جديد‭ ‬للعالم‮»‬‭ ‬جاء‭ ‬فيه‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الحب‭ ‬الذي‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬الله‭ ‬هو‭ ‬الأمل‭ ‬الوحيد‭ ‬لتغيير‭ ‬العالم،‭ ‬وإن‭ ‬الثورة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬نريد‭ ‬تحقيقها‭ ‬هي‭ ‬الثورة‭ ‬التي‭ ‬ستغير‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية،‭ ‬وتخلصها‭ ‬من‭ ‬الأنانية،‭ ‬لتخلق‭ ‬النموذج‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬الإنسان‭ ‬المتحرر‭ ‬من‭ ‬الإعجاب‭ ‬بنفسه‭. ‬وأن‭ ‬هذه‭ ‬الثورة‭ ‬تؤمن‭ ‬بعالَم‭ ‬يحكمه‭ ‬الله،‭ ‬وأن‭ ‬العالم‭ ‬لا‭ ‬يسير‭ ‬إلى‭ ‬اليمين‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬اليسار،‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬وأن‭ ‬المهمة‭ ‬الأساسية‭ ‬للثورة‭ ‬العالمية‭ ‬هي‭ ‬خلق‭ ‬الإنسان‭ ‬العالمي‭ ‬المليء‭ ‬بالحب‭ ‬لجميع‭ ‬البشر،‭ ‬الخالي‭ ‬من‭ ‬شوائب‭ ‬التعصب،‭ ‬والذي‭ ‬يرتكز‭ ‬أمله‭ ‬في‭ ‬الله‮»‬‭.‬

 

تصوّف‭ ‬فجائي

قال‭ ‬الكاتب‭ ‬الفرنسي‭ ‬أوجين‭ ‬فوجيه‭ (‬1848‭ ‬‭- ‬1910‭) ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬القصة‭ ‬الروسية‮»‬‭ (‬1886‭) ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يتوقع‭ ‬ذلك‭ ‬الشكل‭ ‬الصوفي‭ ‬الفجائي‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬تولستوي،‭ ‬لأن‭ ‬بذوره‭ ‬الجنينية‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬كتابيه‭ ‬‮«‬طفولة‮»‬‭ ‬و«مراهقة‮»‬‭.‬

وقال‭ ‬العالم‭ ‬النفسي‭ ‬الأمريكي‭ ‬كورت‭ ‬لوين‭ (‬1890‭ - ‬1947‭)‬،‭ ‬أحد‭ ‬مؤسسي‭ ‬نظرية‭ ‬دينامية‭ ‬الجماعات،‭ ‬إن‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬أنا‭ ‬كرانينا‮»‬‭ ‬أعلنت‭ ‬بشكل‭ ‬واضح‭ ‬الوجهة‭ ‬التي‭ ‬ستتخذها‭ ‬أفكار‭ ‬تولستوي‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭. ‬

أما‭ ‬الكاتب‭ ‬الألماني‭ ‬توماس‭ ‬مان‭ (‬1875‭ - ‬1955،‭ ‬نوبل‭ ‬للآداب‭ ‬1929‭)‬،‭ ‬فيقول‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬جوته‭ ‬وتولستوي‮»‬‭ ‬إن‭ ‬النرجسية‭ ‬وحب‭ ‬الذات‭ ‬وحب‭ ‬الظهور‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬الرئيسة‭ ‬لتحوّل‭ ‬حياة‭ ‬تولستوي‭ ‬وتفكيره،‭ ‬بينما‭ ‬يذكر‭ ‬الناقد‭ ‬الروسي‭ ‬مرزكوفسكي‭ ‬أن‭ ‬أزمة‭ ‬تولستوي‭ ‬سببها‭ ‬هبوط‭ ‬حيويته‭ ‬عند‭ ‬بلوغه‭ ‬الخمسين،‭ ‬وقال‭ ‬آخرون‭ ‬إنه‭ ‬نبي‭ ‬دجال‭. ‬أما‭ ‬زوجته‭ ‬التي‭ ‬عاش‭ ‬معها‭ ‬خمسين‭ ‬عامًا‭ ‬وأنجبت‭ ‬منه‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬ولدًا،‭ ‬وكان‭ ‬يحبها‭ ‬حبًا‭ ‬جمًّا،‭ ‬فقد‭ ‬عجزت‭ ‬عن‭ ‬فهم‭ ‬أفكاره،‭ ‬واتهمته‭ ‬بأنه‭ ‬ضحية‭ ‬حب‭ ‬امرأة‭ ‬أخرى،‭ ‬وأنه‭ ‬مريض،‭ ‬وكانت‭ ‬تفتش‭ ‬أوراقه‭ ‬ومكتبه‭ ‬باستمرار‭ ‬وتتضايق‭ ‬من‭ ‬زواره‭ ‬الكثر‭.‬

وعندما‭ ‬وزع‭ ‬أراضيه‭ ‬على‭ ‬الفلاحين،‭ ‬جنّ‭ ‬جنونها،‭ ‬واستعادت‭ ‬هذه‭ ‬الأراضي‭ ‬بالقوة،‭ ‬وحولت‭ ‬الفلاحين‭ ‬إلى‭ ‬أجراء‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬ويقول‭ ‬معظم‭ ‬الباحثين‭ ‬إن‭ ‬زوجته‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تعاسته‭ ‬ودفعته‭ ‬إلى‭ ‬اليأس‭ ‬والهرب،‭ ‬ليموت‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬صغيرة‭ ‬للقطارات‭. ‬وقد‭ ‬انتهت‭ ‬هذه‭ ‬الزوجة‭ ‬المسكينة‭ ‬مجنونة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬هجرها‭ ‬كل‭ ‬الناس،‭ ‬حتى‭ ‬أولادها،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬مجرد‭ ‬امرأة،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬تولستوي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬إنسان،‭ ‬وكانت‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬كأميرة‭ ‬وزوجة‭ ‬أمير،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬الإنسانية‭ ‬كلها‭. ‬

 

رسالة‭ ‬من‭ ‬مجهول

قبل‭ ‬وفاة‭ ‬تولستوي‭ ‬بوقت‭ ‬قصير،‭ ‬وردت‭ ‬إليه‭ ‬رسالة‭ ‬من‭ ‬مجهول‭ ‬يقول‭ ‬له‭ ‬فيها‭: ‬‮«‬كلا‭ ‬يا‭ ‬ليو‭ ‬نيقولايفينش،‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أفكر‭ ‬مثلك‭ ‬بأن‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتحسن‭ ‬بالحب‭ ‬وحده‭. ‬إن‭ ‬الناس‭ ‬ذوو‭ ‬التربية‭ ‬المترفة،‭ ‬والذين‭ ‬يأكلون‭ ‬حتى‭ ‬تمتلئ‭ ‬بطونهم،‭ ‬يستطيعون‭ ‬وحدهم‭ ‬أن‭ ‬يتكلموا‭ ‬هذه‭ ‬اللغة،‭ ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬تقول‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يتضورون‭ ‬جوعًا‭ ‬منذ‭ ‬طفولتهم؟‭ ‬إنهم‭ ‬سيناضلون‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬العبودية،‭ ‬وإني‭ ‬أقول‭ ‬لك‭ ‬ذلك‭ ‬يا‭ ‬ليو‭ ‬وأنت‭ ‬في‭ ‬أيامك‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭: ‬إن‭ ‬العالم‭ ‬سيختنق‭ ‬تحت‭ ‬أمواج‭ ‬الدماء،‭ ‬وسوف‭ ‬يقتل‭ ‬ويمزق‭ ‬ليس‭ ‬الظالمين‭ ‬وحدهم،‭ ‬بل‭ ‬أولادهم‭ ‬أيضًا،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬تخشاه‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬هؤلاء،‭ ‬وأني‭ ‬لآسف‭ ‬أنك‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬عندئذ‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬كي‭ ‬تكون‭ ‬شاهدًا‭ ‬عيانًا‭ ‬على‭ ‬خطيئتك‭. ‬إني‭ ‬أتمنى‭ ‬لك‭ ‬موتًا‭ ‬هادئًا‮»‬‭.‬

لقد‭ ‬مات‭ ‬تولستوي‭ ‬جسديًا،‭ ‬لكنه‭ ‬ترك‭ ‬بصمات‭ ‬عميقة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬والتفكير‭ ‬الإنسانيين‭ ‬كأحد‭ ‬أعظم‭ ‬الكتّاب‭ ‬وأعظم‭ ‬الإنسانيين‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وما‭ ‬غاندي‭ ‬وألبرت‭ ‬شفيتزر‭ ‬ونيلسون‭ ‬مانديلا‭ ‬وغيرهم‭ ‬سوى‭ ‬أصداء‭ ‬لأفكاره‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تغيّر‭ ‬العالم‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يشتهي،‭ ‬وإنما‭ ‬ستبقى‭ ‬مشعلًا‭ ‬يضيء‭ ‬طريق‭ ‬الإنسانية‭ ‬إلى‭ ‬آفاق‭ ‬روحية‭ ‬سامية‭ ‬لا‭ ‬يدركها‭ ‬سوى‭ ‬قلّة‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬وسيبقى‭ ‬الصراع‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭ ‬قائمًا‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬هناك‭ ‬بشر‭ ‬يتفكرون‭.