الدخول الثقافي العربي... بأيّ حال عاد؟

 الدخول الثقافي العربي... بأيّ حال عاد؟

الدخول الثقافي طقسٌ من طقوس المرور التي يعبُرها الكِتاب حتى يستوفي دورته على الوجه المطلوب. وهو تقليد راكمته فرنسا منذ عام 1880 محافظةً على رونق الكتاب وهيبته، ومكرّسة مكانته الرمزية داخل المجتمع. وتتدخل أطراف متعددة لتعزيز هذا الطقس إسهامًا في التعريف بالإصدارات الجديدة، وضمانًا لإشعاعها الثقافي لتكوين الإنسان، وتبادل الخبرات، واقتراح بدائل للعيش الكريم. 

 

من ضمن هذه الأطراف نذكر الملاحق الثقافية العتيدة، والبرامج الثقافية المذاعة والمتلفزة، والمكتبات، وفروع لافناك المتخصصة في توزيع المنتجات الثقافية. فأينما ولّينا وجهنا في باريس - مثلاً - نعاين أن الاحتفاء بالإصدارات الجديدة يتجلى في مظاهر متعددة، ومنها ــ على وجه الخصوص ــ تخصيص حيّز خاص بها في مداخل المكتبات أو على واجهاتها، وفي مختلف نقاط البيع التي يرتادها الناس يوميًّا (المترو، والساحات العمومية، والمطار، والأكشاك)، وهو ما يحفّزهم على تعرُّف ما جد في عالم الكتب، وتصفّح الكتب التي تناسب ذوقهم، وقراءة مقاطع منها لأخذ فكرة عن محتوياتها (ما يصطلح عليه بالفرنسية بجمع الرحيق وجَرَسه Butinage). 
وفي هذا الصدد، دأبت مكتبة جوزيف جبير، بشارع سانت ميشيل في الحي اللاتيني، على إرفاق الكتب المعروضة بمسوَّدة مكتوبة بخط يد أصحابها سعيًا إلى خلق الحميمية المتوقعة بينه وبين قارئ مفترض، ودفعه إلى اقتناء الكتاب بعد التأكد من ملاءمته وقيمته. 
وتزدان واجهات المكتبات - بهذه المناسبة - بإعلانات لدعوة المهتمين، بدءًا من منتصف شهر سبتمبر، إلى حضور لقاءات منتظمة مع الكتّاب للتعريف بإصداراتهم وتوقيعها.
ولا يتوقف الدخول الثقافي على الإصدارات الجديدة، وإنما يلتفت أحيانًا إلى إصدارات كلاسيكية بالنظر إلى مناسبات بعينها، كالاحتفاء بمئوية كاتب، أو اكتشاف إحدى مخطوطاته أو مسوداته، أو إعادة المؤسسة الأدبية الاعتبار له أو عنايتها بسير العظماء. وهو ما تجلّى أخيرًا في اهتمام المجلات المتخصصة بالكاتب التشيكي ستيفان زفايغ، واضطلاع بعض المكتبات بتخصيص حيّز لعرض كل مؤلفاته والتعريف بها. 

جهود جبارة
وفي السياق نفسه، التفتت مكتبة جوزيف جبير التفاتة خاصة للشاعر والناقد والمترجم إيف بونفوا، عارضةً كل مؤلفاته بطريقة تليق بمكانته وسمعته. وهي مناسبة يستفيد منها الباحثون لاقتناء كتب أضحت نادرة أو نفِدت مع مرور الوقت، كما تعين الشباب على التعرُّف على ما بذله أسلافهم من جهود جبارة لإنماء بلدهم والنهوض بمستواه الثقافي والعلمي.
وتضطر مكتبة atout livre بشارع دومنيل إلى إعادة ترتيب واجهتها الزجاجية، سعيًا إلى إطلاع المارة على الكتب الجديدة، أو على موضوع معيّن (روايات حول باريس، روايات رايمون كونو، وفليب روت، وغيرهما، مؤلفات حول فن الترسل).
وما يثير الانتباه أن زمن الكتاب مستمر حتى في عز الصيف والعطل من العاشرة صباحًا إلى السابعة مساء. وفي أي وقت ولجت مكتبة تجدها غاصّة بالزوار، وقد تضطر إلى الاصطفاف في طابور من الطوابير لدفع الأداء.
وفي المقابل تعرض بعض المكتبات كتبًا بثمن كأس قهوة أو أقل (يورو أو 2 يورو). وقد يجد فيها القارئ ضالته بالعثور على كتاب نادر نفدت طبعته منذ زمان، أو على عيّنات من الرواية الكلاسيكية في طبعات جديدة.
وعندما تكون في مترو الأنفاق أو في فضاء عمومي تلاحظ أن أشخاصًا - على تفاوت أعمارهم - منغمسين في قراءة رواية أو صحيفة. وهو ما يفنّد كساد الكتاب أو عزوف الناس على القراءة. ربما تكون نسبة القراءة قد تراجعت عما كانت عليه من قبل، لكنها لم تصل إلى الحضيض - الذي وصلت إليه في العالم العربي - بفضل جهود أصحاب المكتبات والإعلام الثقافي وحلقات القراءة، ووجود موقع مشترك لتوجيه القراء إلى نقاط البيع. 

إصدارات نفدت
هذا ما عاينته عندما بحثت عن روايات سيرج دبروفسكي، فلم أجدها، وعندما استفسرت من المكلفة بالرواق أخبرتني أنها نفدت. وفور صدور مؤلفات من قبيل «إعداد الرواية، محاضرات في كوليج دوفرانس لرولاند بارت، أو الهويّات والثقافات، سياسة الدراسات الثقافية لستيوارت هال» يتهافت القراء على اقتنائها غير مكترثين بثمنها، في حين يتأفف الشباب العرب من غلائها، في وقت يسترخصون العلامات التجارية للمفاخرة والمباهاة.
لا يتأثر الطقس بالدخول المدرسي أو السياسي، فكل الطقوس تتم بسلاسة وليونة بالنظر إلى المستوى المعيشي للمواطن، وتقديم مساعدات للتلاميذ المعوزين أو المنتمين إلى المناطق الهامشية، وتيسير ولوج الثقافة لفائدة الفئات والأجيال المختلفة، وتوفُّر دور النشر والمكتبات على تراكمات للنهوض بالكتاب، وتحسين الخدمات لترويجه على نطاق واسع.
كما تحتفي نقاط البيع بالإصدارات الجديدة، وخاصة التي نالت جائزة «الغونكور» أو «فمنينا» أو «الأكاديمية الفرنسية»، أو أثارت ضجة إعلامية (إسقاط رواية «أورليان» ليان موا من قائمة الروايات المرشحة لجائزة «الغونكور» لدورة 2019). ويخصص لها رواق خاص لجلب أنظار الزوّار، وحفزهم على اقتنائها. وغالبًا ما يحمل القرّاء فكرة مسبقة عنها بفضل ما نشرته الصحف السيّارة أو المواقع الإلكترونية المتخصصة أو مواقع التواصل الاجتماعي عن محتوياتها.

مبادرات حسنة
ويقوم المجتمع المدني بمبادرات حسَنة لتشجيع الناس على قراءة الكتب، فبينما كنت أتجول بشارع دومنيل، على مقربة من محطة المترو «ميشيل بيزو» لفت انتباهي حشد من الناس يتصفحون الكتب في معرض تنظّمه جمعية «ترويج الكتاب» بالمجان. يأخذ بعضهم كتابًا أو كتابين وفق ميوله ورغباته، ثم ينصرف. وللجمعية موقع تعرف فيه بأنشطتها وبرامجها ومبادراتها، محيلةً إلى الأمكنة والمواقيت التي ستعرض فيها مزيدًا من الكتب المُتبرَّع بها. لو قامت جمعية ما بمثل هذه المبادرة في بلدي لوقعت حوادث مؤسفة لجشع الزوار وتدافعهم للظفَر بكميات من الكتب دون التحري في عناوينها أو في مجالات اختصاصها، حرصًا على بيعها أو إتلافها، وهو ما سيحرم مَن يستحقها من الاستمتاع بقراءتها والاستفادة منها. فشتّان بين زمنهم وزمننا، وبين طقوسهم وطقوسنا.
ينعدم الدخول الثقافي في العالم العربي، ويشغل مكانه الدخول المدرسي المرهق والمكلف. تضطر دور النشر تأخيرَ إصداراتها الثقافية إلى ما بعد شهر نوفمبر، وتدأب - قبل شهر سبتمبر بشهور- على طبع الكتب المدرسية.
وتضطلع المكتبات بترويج هذه الكتب وبيعها، في حين لا تولي أدنى اهتمام في هذا الوقت للكتاب الثقافي. ولا يدور حديث الناس إلا على الدخول المدرسي وما يستتبعه من التزامات وتعهّدات، وما يستدعيه من مصاريف لشراء ما يحتاج إليه فلذات أكبادهم من معدات مدرسية.

أعطاب كثيرة
مما زاد الطين بلّة أن الدخول المدرسي الحالي جاء بعد عيد الأضحى، واقترن بعودة المصطافين إلى منازلهم، وبتقلّب الأوضاع السياسية، وهو ما جعل «الشأن الثقافي» يتوارى خلف الهموم الطارئة التي تشغل بال الناس، وترهق جيوبهم، وتقلق راحتهم. وبدلًا من إسهام الفضاءات العمومية في إثارة «النقاش العمومي» والرفع من وتيرته لتنوير الرأي العام وإقناعه بـ «البرهان الحجاجي»، ارتدت عن وظيفتها باعتماد «أسلوب دعائي منحطّ»، ينهض على «الكذب المنظم»، والتنابز بالألقاب، والخوض في أعراض الناس، وترويج أشرطة الفرجة والتسلية (ما يروج - عمومًا - بالواتساب)... وهو ما يبيّن أن المسار الديمقراطي في بلادنا ما زال يعاني أعطابًا كثيرة، وفي مقدمتها تفاقم الأميتيْن الثقافية والرقمية، مما يحتّم أن تتبوأ الثقافة المكانة المستحقة للرقي بوعي الناس وحسّهم، وتطوير مؤهلاتهم وقدراتهم، حتى يكونوا فاعلين في المجتمع ومشاركين في بنائه وتقدمه.
وفي السياق نفسه، يجب أن تبادر وزارة الثقافة بدسْترة ولوج الثقافة لإشراك الفئات التي تعاني الهشاشة الاجتماعية (السجناء، والمرضى، وذوو الحاجات الخاصة، والعاطلون) وإدماجها في الحياة العامة، وتوفير الخدمات الثقافية والفنية الضرورية في الأحياء الهامشية والمناطق النائية.
غالبًا ما يبدأ الحديث شاحبًا عن الدخول الثقافي مع اقتراب الموعد السنوي للمعرض الدولي للنشر والكتاب الذي ينظم - بالتناوب - في مختلف العواصم العربية. 
وبدلًا من أن يكرّس تقاليد جديدة بما تستتبعه من طقوس ثقافية وأجواء احتفالية للنهوض بالكتاب والرقيّ به إلى المستويات المنشودة، يطغى عليه الجانب النفعي لمراهنة كل ناشر أو كاتب على جني الأرباح من الكتب التي صدرت حديثًا أو مرّت عليها عقود. وهذا ما يقتضي تعبئة كل الفاعلين والمتدخلين للتفكير في صيغ ناجعة لترسيخ تقليد الدخول الثقافي، وتوفير كل ما يسعف على تداول الكتاب ورواجه وقراءته، وإدماجه ضمن خطة وطنية شاملة لتيسير ولوج الثقافة ■