بلاغة التخاطر في رواية السبيليات لإسماعيل فهد
في رواية السبيليات للروائي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، يبرز التخاطر بوصفه بؤرة أساسية وحافزًا سرديًّا ودلاليًّا يقوم بتحريك السرد وبناء دلالته، من خلال دفع أم قاسم للقيام برحلة العودة إلى قرية السبيليات برفات زوجها، فلم يكن الأمر في بدايته إلا وحشة انتابتها، بعد إن انشغل أبناؤها بحياتهم الجديدة بعد التهجير ودفن الأب، فما كان منها إلا أن أسقطت وحشتها على رفات أبيهم في قبره، وكان هذا الخاطر بمنزلة المحرك الأساسي الذي انطلقت منه أم قاسم في رحلة العودة برفات بو قاسم.
تشكّل هذه الرحلة فعلًا مضادًّا لكل معاني الموت والخراب وما تخلّفه الحرب من تشريد وتهجير، فالرحلة رغم أنها بصحبة عظام نخرة في لفافة وحمار؛ فإنها رحلة بعث وإحياء جديدة وإعلاء من قيمة الحياة، نجحت أم قاسم في إنجازها على خير وجه، ورغم غياب بو قاسم زوجها، وتحوّله إلى كومة من عظام نخرة، فإن فاعليته ظلت متوهجة وناجزة إلى آخر الرواية، على الأقل في مخيلة أم قاسم، فلم يكن الأمر مجرد رميم جثة يتم نقلها، إنما ارتبط الأمر ببناء معرفي فكري، حتى تحولت به الرؤى إلى معتقد والاستبصار إلى بصيرة، تحكم أفعال الشخصية وتوجهاتها واختياراتها، وهذا ما انطبق على أم قاسم في كل حركة وتوجّه وفي تفاعلاتها وأفعالها مع البشر وغير البشر.
ومن ثم كان المدد طوال رحلتها الصعبة يأتيها دائمًا من رؤية أو حلم يظهر فيه بو قاسم أو حركة لحمارها (قدم الخير)، ولم يحدث أن تخليّا عنها. ومن ثم أخذت مع رفات زوجها وحمارها وسائر الكائنات طابعًا بشريًّا مضمّخًا بالإنسانية والسمو في غياب الإنسان وسقوطه المدوي في فخ حرب لا طائل منها.
إن الحضور الفعلي يتمثّل في موجودات غير بشرية، لكنها أكثر رقيًّا من بني البشر، في إطار لعبة التكنية السردية والتعريض ببني البشر الذين كان حقهم التهميش النابع من تآكل المكنون الإنساني لديهم كان بروز الشخصيات في الرواية كلها يقاس بأبعادها الإنسانية، وعلى قدر إنسانيتها يكون حظها من البروز والتوهج على نحو ما وجدناه في شخصية جاسم الذي راهنت على عودته، رغم قطع يده جراء قذيفة أصابته، لكنّه عاد من جديد إلى السبيليات، وكسبت أم القاسم رهانها.
وإلى جوار الخاطر الرئيسي، ومع تحوّله إلى قناعة واعتقاد، بدأت العلاقة بينها وبين زوجها تأخذ منحى اعتياديًا يتمثّل في مجموعة من الأحلام المتوالية التي توجّه أفعالها على مستوى القصة، وتقوم بتحريك السرد وانفتاحه على مستوى الخطاب، وتحولت الأحلام إلى حافز سردي يحرك الأحداث في اتجاه بعث الحياة من جديد في قرية السبيليات؛ لذا كان غياب بو قاسم الجسدي غير مؤثر، مقارنة بحضوره في مخيلة أم قاسم وتأثيره في كل توجهاتها، ومن هنا كثرت الحوارات بينها وبينه في صورة خواطر وأحلام تقدم الحلول لما يواجهها من صعوبات وعوائق في رحلة العودة والبعث.
ضد الحرب
لا تلجأ أم قاسم في رفضها للحرب إلى خطاب مضاد، إنما إلى فعل مضاد لها ومقاوم لويلاتها، فهي تعيد، بدأب المحب للحياة، طلاء البيوت المهجورة وريّ النبات والأشجار وكنس الدور وجمع حطام القصف، لكنها، من ناحية أخرى، تفصل ذاتها تمامًا عن أمر الحرب، فهي حين تتحدث عنها وهي من اكتوت بنارها تشردًا وخرابًا وموتًا لا تتحدث إلا بضمير الغائب، وكأن الحرب بين طرفين لا يربطها بهما رابط ما، فكثيرًا ما نجدها وهي تتخاطر مع ذاتها أو مع رفات زوجها أو حمارها، تردد دائمًا (حربهم)، دون أن تسندها مرة لضمير المتكلم، فهي على الحياد في كل ما من شأنه أن ينشر الموت والخراب، حتى تفاعلها مع الجنود العراقيين لا يأتي من تلك الناحية التي تجهلها تمامًا، بل إنها تستنكر وتستغرب أساليبهم في الدفاع وردم الأنهار وبناء القبور؛ إنما يأتي تفاعلها على المستوى الإنساني من خلال علائق ومشاعر إنسانية سامية، تعتمل عواطف أمومة بداخلها، خاصة حيال جاسم، وكل فعل يصدر عنها يأتي في إطار مقاومة الخراب والحرب ومخلّفاتها والبحث عن حياة آمنة تستحق أن تعاش، فقيمة كل شخصية تتحدد بإنسانيتها وانتصارها للحياة أيًّا كان كُنْه هذه الشخصية، لا فرق بين بشر أو شجر، حيّ أو ميت، فمقاييسها الحاكمة ترتبط بمدى ما يصدر من أفعال تُدنيها أو تبعدها عن مفهوم الإنسانية الحقة. لذا أخذت حواراتها طبيعة خاصة، مع العسكريين والجنود كانت تتسم بالحياد والتعجب والاستنكار لما يصدر عنهم من أفعال لا تستطيع تفسيرها، أما حواراتها الخاصة مع الرفات والحمار والأشجار، فتتسم بحنوّ بالغ وقراءة عالية لما تتواصل معه أو تستبصر أنه يشعر ويحس، «تطلعت لأغصان البمبرة، خيّل لها أنها أبدت سعادتها، للأشجار لغتها الخاصة، قطعت أم قاسم وعدها. لن أغفل أمر سقايتك» (ص68).
إن الخواطر والأحلام لا تظهر إلى الوجود إلا من خلال السرد، ومن هنا جاء الالتفات السردي إلى مخاطبة الشجرة بضمير المخاطب، وهو مجرد خاطر؛ ليجعل من الشجرة كائنًا له قدرة على التواصل وتبادل المشاعر، ومن ثم تبرز أهمية التخاطر وتشكيله في لغة سردية تسهم في بناء الدلالة وإبراز مقاصد الكاتب من خلال الراوي العليم الذي يمثّل ضرورة سردية.
ثنائية الحياة والموت
تقوم رحلة أم قاسم وحياتها في السبيليات على جدلية أساسية قوامها الحياة والموت، حيث يتحول الموت إلى حضور طاغٍ مؤثر، في حين تتبدى الحياة على هامشه أقرب للغياب، فهي رحلة ذات جناحين؛ الأول بصحبة رفات «بو قاسم» لدفنه في مسقط رأسه، والثاني لكونها رحلة لبعث الحياة لها ولقرية كاملة خوت على عروشها، وفي إطار ثنائية الموت والحياة، وجدلية الغياب والحضور يتم تبادل الأدوار، فالغائب بو قاسم حاضر بروحه وهيمنته على زوجته بصورة أكثر فاعلية من أبنائها الأحياء ممن فشلوا في منعها من العودة تحت دوي النيران.
وفي إطار هذه الثنائية تقع المفارقة بين الضفادع البشرية التي لا تعرف كنهها، وإن ارتبطت لديها بردم الأنهار؛ والضفادع الحقيقية التي تنال عنايتها، فهي أولى بالحياة. كذا نجد ثنائية أخرى حاكمة في إطار التنديد بالحرب يتمثّل في الشواهد الفارغة للجنود، والاحتفاء بالموت، مقارنة باحتفاظها برفات بو قاسم، وإصرارها على دفنه في أرض القرية، ولو كلفها ذلك حياتها.
فلم يكن حرصها على الرفات تقديسًا لميت أو إعلاء من أمر الموت، بقدر ما كان إعلاء من شأن الإنسانية وإنسانيتها، حتى ولو كانت في صورة رفات، وإعلاء من قيمة الحياة بوصفها تجربة تستحق أن تعاش في رحاب من الأمن والاستقرار.
دور غائب
على الجانب الآخر، نجد أن للأبناء ممن آثروا الاستمرار في مرحلة التهجير وتركوا السبيليات دورًا غائبًا لا قدرة له على الفعل أو التأثير على مستوى الخطاب أو القصة، إذ تفتقد حياتهم معنى الحياة الحقيقية التي لا تكتسب معناها إلا في التجذر في المكان والالتحاف بمكوناته المكنونة في الذاكرة المكتنزة به، فليس المكان، السبيليات، بمنعزل أو سلبي، بل إنه دافع أساسي ومحرّك أوّلي في مسار السرد من خلال ارتباط أم قاسم به، وهو ما تكرر بصورة أخرى في نهاية الرواية مع جاسم؛ الجندي المصاب الذي مثّل رهانًا لها مع الملازم عبدالكريم، وكسبت الرهان مع عودته وارتباطه الجنيني بها، فهو يناديها يا أمي، ومن ثم كان الحبل السرّي قد امتد في نسغها، فارتبط بأم قاسم من ناحية وبالسبيليات الأرض/ الأم من ناحية ثانية.
والمدهش أن هذا المأزق الذي وقعت فيه أم قاسم كان قائمًا على تخاطُر لها مع بو قاسم حول عودة جاسم خلال شهر، وتحدت بخواطرها مع الموتى أبجديات الجندية وقواعدها التي ترفض عودة المصابين والمعاقين إلى ساحة القتال.
إن الموتى يعرفون أكثر من الأحياء، وعيونهم أكثر حدّة ولديهم من استشراف المستقبل ما لا يعيه بنو البشر، لكن الإشكالية فيمن يمتلك القدرة على التواصل أو الاستبصار، ووفقًا لمنهجية معرفية تشكّل شخصية أم قاسم سمحت لها بهذا الاستبصار، وأتاحت لها السير على هدى خطراتها مع زوجها، فالأمر لا يتعلق بالحياة أو الموت، إنما يتعلق بإنسانية الإنسان أولًا وأخيرًا، تلك الإنسانية في كليّتها التي من شأنها أن تتجاوز الحدود وتزيل العوائق، فيتساوى عندها الموت مع الحياة، بل ويتخطاها في أهميته طالما كان طبيعيًّا، ولم يأت من جراء حرب ضروس تقصف الإنسان قبل أوانه وتستبعد مرحلة لحساب أخرى.
فاعلية «قدم الخير» السردية
في مشهد دالّ، يقوم الجنود في لقائهم الأول بأم قاسم بالتحقيق معها وتقييد حمارها (قدم الخير)، فيندّ عنه صوت شخير يستنجد بها مما يثير تعجّبهم حتى قال أحدهم «دون أن يداري استغرابه، حمارك يفهم عليك، كادت إجابتها تسبق انتظامها وتفكيرها، لأنه حمار» (ص52).
فلا يتعلق الخاطر الذي مرّ بها بالسخرية أو المفارقة، وإنما مناطه استبصار ورهافة حسّ فائقة لدى أم قاسم جعلها تضفي البشرية - في غياب البشر- على رفيقها الرئيسي، فتحدّثه وتقرأ رسائله وتعده بوعود، ليتحول إلى كائن واع له القدرة على الفعل والاختيار، فـ «قدم الخير» شخصية أخرى ذات حضور فاعل على مستوى القصة والخطاب، وذلك في إطار ثنائية الغياب والحضور، فهو وإن كان غائبًا بغياب وعيه وحيوانيته إلا أنه حاضر وواع بدرجة تفوق البشر أحيانًا، على الأقل بالنسبة إلى أم قاسم.
وقد برز هذا من خلال التواصل بينهما الذي يترتب عليه انصياعه لها وتفاعله معها طاعة ومساعدة، فلم يخيّب ظنها في أمر من أمور معيشتها، وارتقت العلاقة بينهما إلى درجة تفوق علاقات البشر، ومن هنا كان الاحتفاء بالحمار احتفاء بالحياة في معناها الكبير الذي يقدس الحياة في مختلف أشكالها البشرية وغير البشرية، ومن هنا كان التخاطر وسيلة ناجزة في تحقق أهداف أم قاسم، ولم ينقطع هذا التخاطر المتبادل إلا في اللحظة التي أسرّت له بقرب الرحيل عن السبيليات، وكان الانقطاع مرتبطًا بالفشل في بعث الحياة في السبيليات، مما يشي بعدم رضاه عن هذه الخطوة.
وكان التخاطر في الرواية مرتبطًا بالمكان وتجذّرها فيه؛ لهذا كانت المرة الوحيدة التي انقطع فيها التخاطر مع الحمار عند اقتراحها بالمغادرة، فلم تبدُ منه أي إشارة بالقبول أو الرفض (ص 150)، فيما كان تفاعله مؤثّرًا في كل مراحل رحلتها ومعيشتها بصورة ترقى به إلى مصاف الشخصية الإنسانية في أبهى صورها، فأضاف بذلك أبعادًا إنسانية أخرى إلى شخصية أم قاسم ذاتها، فهي شخصية رحبة تُحسن تلقّي الإشارات وتحسن قراءتها وفك رموزها، وكلها إشارات بلغة غير لغة البشر، بل لغة أخرى يحكمها التخاطر وتؤسس لها الأحلام والرؤى في خلطة سردية لم تخلُ من المتعة والإدهاش.