بلاغة التخاطر في رواية السبيليات لإسماعيل فهد

بلاغة التخاطر  في رواية السبيليات لإسماعيل فهد

‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬السبيليات‭ ‬للروائي‭ ‬الكبير‭ ‬إسماعيل‭ ‬فهد‭ ‬إسماعيل،‭ ‬يبرز‭ ‬التخاطر‭ ‬بوصفه‭ ‬بؤرة‭ ‬أساسية‭ ‬وحافزًا‭ ‬سرديًّا‭ ‬ودلاليًّا‭ ‬يقوم‭ ‬بتحريك‭ ‬السرد‭ ‬وبناء‭ ‬دلالته،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬دفع‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭ ‬للقيام‭ ‬برحلة‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬السبيليات‭ ‬برفات‭ ‬زوجها،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬في‭ ‬بدايته‭ ‬إلا‭ ‬وحشة‭ ‬انتابتها،‭ ‬بعد‭ ‬إن‭ ‬انشغل‭ ‬أبناؤها‭ ‬بحياتهم‭ ‬الجديدة‭ ‬بعد‭ ‬التهجير‭ ‬ودفن‭ ‬الأب،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أسقطت‭ ‬وحشتها‭ ‬على‭ ‬رفات‭ ‬أبيهم‭ ‬في‭ ‬قبره،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬الخاطر‭ ‬بمنزلة‭ ‬المحرك‭ ‬الأساسي‭ ‬الذي‭ ‬انطلقت‭ ‬منه‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬العودة‭ ‬برفات‭ ‬بو‭ ‬قاسم‭.‬

تشكّل‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬فعلًا‭ ‬مضادًّا‭ ‬لكل‭ ‬معاني‭ ‬الموت‭ ‬والخراب‭ ‬وما‭ ‬تخلّفه‭ ‬الحرب‭ ‬من‭ ‬تشريد‭ ‬وتهجير،‭ ‬فالرحلة‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬بصحبة‭ ‬عظام‭ ‬نخرة‭ ‬في‭ ‬لفافة‭ ‬وحمار؛‭ ‬فإنها‭ ‬رحلة‭ ‬بعث‭ ‬وإحياء‭ ‬جديدة‭ ‬وإعلاء‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الحياة،‭ ‬نجحت‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭ ‬في‭ ‬إنجازها‭ ‬على‭ ‬خير‭ ‬وجه،‭ ‬ورغم‭ ‬غياب‭ ‬بو‭ ‬قاسم‭ ‬زوجها،‭ ‬وتحوّله‭ ‬إلى‭ ‬كومة‭ ‬من‭ ‬عظام‭ ‬نخرة،‭ ‬فإن‭ ‬فاعليته‭ ‬ظلت‭ ‬متوهجة‭ ‬وناجزة‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬الرواية،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬مخيلة‭ ‬أم‭ ‬قاسم،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬مجرد‭ ‬رميم‭ ‬جثة‭ ‬يتم‭ ‬نقلها،‭ ‬إنما‭ ‬ارتبط‭ ‬الأمر‭ ‬ببناء‭ ‬معرفي‭ ‬فكري،‭ ‬حتى‭ ‬تحولت‭ ‬به‭ ‬الرؤى‭ ‬إلى‭ ‬معتقد‭ ‬والاستبصار‭ ‬إلى‭ ‬بصيرة،‭ ‬تحكم‭ ‬أفعال‭ ‬الشخصية‭ ‬وتوجهاتها‭ ‬واختياراتها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬انطبق‭ ‬على‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬حركة‭ ‬وتوجّه‭ ‬وفي‭ ‬تفاعلاتها‭ ‬وأفعالها‭ ‬مع‭ ‬البشر‭ ‬وغير‭ ‬البشر‭.‬

ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬المدد‭ ‬طوال‭ ‬رحلتها‭ ‬الصعبة‭ ‬يأتيها‭ ‬دائمًا‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬أو‭ ‬حلم‭ ‬يظهر‭ ‬فيه‭ ‬بو‭ ‬قاسم‭ ‬أو‭ ‬حركة‭ ‬لحمارها‭ (‬قدم‭ ‬الخير‭)‬،‭ ‬ولم‭ ‬يحدث‭ ‬أن‭ ‬تخليّا‭ ‬عنها‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬أخذت‭ ‬مع‭ ‬رفات‭ ‬زوجها‭ ‬وحمارها‭ ‬وسائر‭ ‬الكائنات‭ ‬طابعًا‭ ‬بشريًّا‭ ‬مضمّخًا‭ ‬بالإنسانية‭ ‬والسمو‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الإنسان‭ ‬وسقوطه‭ ‬المدوي‭ ‬في‭ ‬فخ‭ ‬حرب‭ ‬لا‭ ‬طائل‭ ‬منها‭.‬

إن‭ ‬الحضور‭ ‬الفعلي‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬موجودات‭ ‬غير‭ ‬بشرية،‭ ‬لكنها‭ ‬أكثر‭ ‬رقيًّا‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬البشر،‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬لعبة‭ ‬التكنية‭ ‬السردية‭ ‬والتعريض‭ ‬ببني‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬كان‭ ‬حقهم‭ ‬التهميش‭ ‬النابع‭ ‬من‭ ‬تآكل‭ ‬المكنون‭ ‬الإنساني‭ ‬لديهم‭ ‬كان‭ ‬بروز‭ ‬الشخصيات‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬كلها‭ ‬يقاس‭ ‬بأبعادها‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وعلى‭ ‬قدر‭ ‬إنسانيتها‭ ‬يكون‭ ‬حظها‭ ‬من‭ ‬البروز‭ ‬والتوهج‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬وجدناه‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬جاسم‭ ‬الذي‭ ‬راهنت‭ ‬على‭ ‬عودته،‭ ‬رغم‭ ‬قطع‭ ‬يده‭ ‬جراء‭ ‬قذيفة‭ ‬أصابته،‭ ‬لكنّه‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬إلى‭ ‬السبيليات،‭ ‬وكسبت‭ ‬أم‭ ‬القاسم‭ ‬رهانها‭.                      

‭ ‬وإلى‭ ‬جوار‭ ‬الخاطر‭ ‬الرئيسي،‭ ‬ومع‭ ‬تحوّله‭ ‬إلى‭ ‬قناعة‭ ‬واعتقاد،‭ ‬بدأت‭ ‬العلاقة‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬زوجها‭ ‬تأخذ‭ ‬منحى‭ ‬اعتياديًا‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأحلام‭ ‬المتوالية‭ ‬التي‭ ‬توجّه‭ ‬أفعالها‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬القصة،‭ ‬وتقوم‭ ‬بتحريك‭ ‬السرد‭ ‬وانفتاحه‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الخطاب،‭ ‬وتحولت‭ ‬الأحلام‭ ‬إلى‭ ‬حافز‭ ‬سردي‭ ‬يحرك‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬بعث‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬السبيليات؛‭ ‬لذا‭ ‬كان‭ ‬غياب‭ ‬بو‭ ‬قاسم‭ ‬الجسدي‭ ‬غير‭ ‬مؤثر،‭ ‬مقارنة‭ ‬بحضوره‭ ‬في‭ ‬مخيلة‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭ ‬وتأثيره‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬توجهاتها،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬كثرت‭ ‬الحوارات‭ ‬بينها‭ ‬وبينه‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬خواطر‭ ‬وأحلام‭ ‬تقدم‭ ‬الحلول‭ ‬لما‭ ‬يواجهها‭ ‬من‭ ‬صعوبات‭ ‬وعوائق‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬العودة‭ ‬والبعث‭.‬

                                                                             

ضد‭ ‬الحرب

‭ ‬لا‭ ‬تلجأ‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭ ‬في‭ ‬رفضها‭ ‬للحرب‭ ‬إلى‭ ‬خطاب‭ ‬مضاد،‭ ‬إنما‭ ‬إلى‭ ‬فعل‭ ‬مضاد‭ ‬لها‭ ‬ومقاوم‭ ‬لويلاتها،‭ ‬فهي‭ ‬تعيد،‭ ‬بدأب‭ ‬المحب‭ ‬للحياة،‭ ‬طلاء‭ ‬البيوت‭ ‬المهجورة‭ ‬وريّ‭ ‬النبات‭ ‬والأشجار‭ ‬وكنس‭ ‬الدور‭ ‬وجمع‭ ‬حطام‭ ‬القصف،‭ ‬لكنها،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬تفصل‭ ‬ذاتها‭ ‬تمامًا‭ ‬عن‭  ‬أمر‭ ‬الحرب،‭ ‬فهي‭ ‬حين‭ ‬تتحدث‭ ‬عنها‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬اكتوت‭ ‬بنارها‭ ‬تشردًا‭ ‬وخرابًا‭ ‬وموتًا‭ ‬لا‭ ‬تتحدث‭ ‬إلا‭ ‬بضمير‭ ‬الغائب،‭ ‬وكأن‭ ‬الحرب‭ ‬بين‭ ‬طرفين‭ ‬لا‭ ‬يربطها‭ ‬بهما‭ ‬رابط‭ ‬ما،‭ ‬فكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬نجدها‭ ‬وهي‭ ‬تتخاطر‭ ‬مع‭ ‬ذاتها‭ ‬أو‭ ‬مع‭ ‬رفات‭ ‬زوجها‭ ‬أو‭ ‬حمارها،‭ ‬تردد‭ ‬دائمًا‭ (‬حربهم‭)‬،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تسندها‭ ‬مرة‭ ‬لضمير‭ ‬المتكلم،‭ ‬فهي‭ ‬على‭ ‬الحياد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬ينشر‭ ‬الموت‭ ‬والخراب،‭ ‬حتى‭ ‬تفاعلها‭ ‬مع‭ ‬الجنود‭ ‬العراقيين‭ ‬لا‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الناحية‭ ‬التي‭ ‬تجهلها‭ ‬تمامًا،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬تستنكر‭ ‬وتستغرب‭ ‬أساليبهم‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬وردم‭ ‬الأنهار‭ ‬وبناء‭ ‬القبور؛‭ ‬إنما‭ ‬يأتي‭ ‬تفاعلها‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الإنساني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬علائق‭ ‬ومشاعر‭ ‬إنسانية‭ ‬سامية،‭ ‬تعتمل‭ ‬عواطف‭ ‬أمومة‭ ‬بداخلها،‭ ‬خاصة‭ ‬حيال‭ ‬جاسم،‭ ‬وكل‭ ‬فعل‭ ‬يصدر‭ ‬عنها‭ ‬يأتي‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬مقاومة‭ ‬الخراب‭ ‬والحرب‭ ‬ومخلّفاتها‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬آمنة‭ ‬تستحق‭ ‬أن‭ ‬تعاش،‭ ‬فقيمة‭ ‬كل‭ ‬شخصية‭ ‬تتحدد‭ ‬بإنسانيتها‭ ‬وانتصارها‭ ‬للحياة‭ ‬أيًّا‭ ‬كان‭ ‬كُنْه‭ ‬هذه‭ ‬الشخصية،‭ ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬بشر‭ ‬أو‭ ‬شجر،‭ ‬حيّ‭ ‬أو‭ ‬ميت،‭ ‬فمقاييسها‭ ‬الحاكمة‭ ‬ترتبط‭ ‬بمدى‭ ‬ما‭ ‬يصدر‭ ‬من‭ ‬أفعال‭ ‬تُدنيها‭ ‬أو‭ ‬تبعدها‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬الحقة‭. ‬لذا‭ ‬أخذت‭ ‬حواراتها‭ ‬طبيعة‭ ‬خاصة،‭ ‬مع‭ ‬العسكريين‭ ‬والجنود‭ ‬كانت‭ ‬تتسم‭ ‬بالحياد‭ ‬والتعجب‭ ‬والاستنكار‭ ‬لما‭ ‬يصدر‭ ‬عنهم‭ ‬من‭ ‬أفعال‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬تفسيرها،‭ ‬أما‭ ‬حواراتها‭ ‬الخاصة‭ ‬مع‭ ‬الرفات‭ ‬والحمار‭ ‬والأشجار،‭ ‬فتتسم‭ ‬بحنوّ‭ ‬بالغ‭ ‬وقراءة‭ ‬عالية‭ ‬لما‭ ‬تتواصل‭ ‬معه‭ ‬أو‭ ‬تستبصر‭ ‬أنه‭ ‬يشعر‭ ‬ويحس،‭ ‬‮«‬تطلعت‭ ‬لأغصان‭ ‬البمبرة،‭ ‬خيّل‭ ‬لها‭ ‬أنها‭ ‬أبدت‭ ‬سعادتها،‭ ‬للأشجار‭ ‬لغتها‭ ‬الخاصة،‭ ‬قطعت‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭ ‬وعدها‭. ‬لن‭ ‬أغفل‭ ‬أمر‭ ‬سقايتك‮»‬‭ (‬ص68‭).‬

إن‭ ‬الخواطر‭ ‬والأحلام‭ ‬لا‭ ‬تظهر‭ ‬إلى‭ ‬الوجود‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬السرد،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬جاء‭ ‬الالتفات‭ ‬السردي‭ ‬إلى‭ ‬مخاطبة‭ ‬الشجرة‭ ‬بضمير‭ ‬المخاطب،‭ ‬وهو‭ ‬مجرد‭ ‬خاطر؛‭ ‬ليجعل‭ ‬من‭ ‬الشجرة‭ ‬كائنًا‭ ‬له‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬وتبادل‭ ‬المشاعر،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬التخاطر‭ ‬وتشكيله‭ ‬في‭ ‬لغة‭ ‬سردية‭ ‬تسهم‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الدلالة‭ ‬وإبراز‭ ‬مقاصد‭ ‬الكاتب‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الراوي‭ ‬العليم‭ ‬الذي‭ ‬يمثّل‭ ‬ضرورة‭ ‬سردية‭.                                                                                         

                                           

ثنائية‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭   

  ‬تقوم‭ ‬رحلة‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭ ‬وحياتها‭ ‬في‭ ‬السبيليات‭ ‬على‭ ‬جدلية‭ ‬أساسية‭ ‬قوامها‭ ‬الحياة‭ ‬والموت،‭ ‬حيث‭ ‬يتحول‭ ‬الموت‭ ‬إلى‭ ‬حضور‭ ‬طاغٍ‭ ‬مؤثر،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تتبدى‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬هامشه‭ ‬أقرب‭ ‬للغياب،‭ ‬فهي‭ ‬رحلة‭ ‬ذات‭ ‬جناحين؛‭ ‬الأول‭ ‬بصحبة‭ ‬رفات‭ ‬‮«‬بو‭ ‬قاسم‮»‬‭ ‬لدفنه‭ ‬في‭ ‬مسقط‭ ‬رأسه،‭ ‬والثاني‭ ‬لكونها‭ ‬رحلة‭ ‬لبعث‭ ‬الحياة‭ ‬لها‭ ‬ولقرية‭ ‬كاملة‭ ‬خوت‭ ‬على‭ ‬عروشها،‭ ‬وفي‭ ‬إطار‭ ‬ثنائية‭ ‬الموت‭ ‬والحياة،‭ ‬وجدلية‭ ‬الغياب‭ ‬والحضور‭ ‬يتم‭ ‬تبادل‭ ‬الأدوار،‭ ‬فالغائب‭ ‬بو‭ ‬قاسم‭ ‬حاضر‭ ‬بروحه‭ ‬وهيمنته‭ ‬على‭ ‬زوجته‭ ‬بصورة‭ ‬أكثر‭ ‬فاعلية‭ ‬من‭ ‬أبنائها‭ ‬الأحياء‭ ‬ممن‭ ‬فشلوا‭ ‬في‭ ‬منعها‭ ‬من‭ ‬العودة‭ ‬تحت‭ ‬دوي‭ ‬النيران‭.‬

وفي‭ ‬إطار‭ ‬هذه‭ ‬الثنائية‭ ‬تقع‭ ‬المفارقة‭ ‬بين‭ ‬الضفادع‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬كنهها،‭ ‬وإن‭ ‬ارتبطت‭ ‬لديها‭ ‬بردم‭ ‬الأنهار؛‭ ‬والضفادع‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬تنال‭ ‬عنايتها،‭ ‬فهي‭ ‬أولى‭ ‬بالحياة‭. ‬كذا‭ ‬نجد‭ ‬ثنائية‭ ‬أخرى‭ ‬حاكمة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬التنديد‭ ‬بالحرب‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬الشواهد‭ ‬الفارغة‭ ‬للجنود،‭ ‬والاحتفاء‭ ‬بالموت،‭ ‬مقارنة‭ ‬باحتفاظها‭ ‬برفات‭ ‬بو‭ ‬قاسم،‭ ‬وإصرارها‭ ‬على‭ ‬دفنه‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬القرية،‭ ‬ولو‭ ‬كلفها‭ ‬ذلك‭ ‬حياتها‭.‬

فلم‭ ‬يكن‭ ‬حرصها‭ ‬على‭ ‬الرفات‭ ‬تقديسًا‭ ‬لميت‭ ‬أو‭ ‬إعلاء‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬الموت،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬إعلاء‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الإنسانية‭ ‬وإنسانيتها،‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬رفات،‭ ‬وإعلاء‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الحياة‭ ‬بوصفها‭ ‬تجربة‭ ‬تستحق‭ ‬أن‭ ‬تعاش‭ ‬في‭ ‬رحاب‭ ‬من‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار‭.‬

 

دور‭ ‬غائب

على‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬للأبناء‭ ‬ممن‭ ‬آثروا‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬التهجير‭ ‬وتركوا‭ ‬السبيليات‭ ‬دورًا‭ ‬غائبًا‭ ‬لا‭ ‬قدرة‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬الفعل‭ ‬أو‭ ‬التأثير‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الخطاب‭ ‬أو‭ ‬القصة،‭ ‬إذ‭ ‬تفتقد‭ ‬حياتهم‭ ‬معنى‭ ‬الحياة‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تكتسب‭ ‬معناها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬التجذر‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬والالتحاف‭ ‬بمكوناته‭ ‬المكنونة‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬المكتنزة‭ ‬به،‭ ‬فليس‭ ‬المكان،‭ ‬السبيليات،‭ ‬بمنعزل‭ ‬أو‭ ‬سلبي،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬دافع‭ ‬أساسي‭ ‬ومحرّك‭ ‬أوّلي‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬السرد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ارتباط‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭ ‬به،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تكرر‭ ‬بصورة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الرواية‭ ‬مع‭ ‬جاسم؛‭ ‬الجندي‭ ‬المصاب‭ ‬الذي‭ ‬مثّل‭ ‬رهانًا‭ ‬لها‭ ‬مع‭ ‬الملازم‭ ‬عبدالكريم،‭ ‬وكسبت‭ ‬الرهان‭ ‬مع‭ ‬عودته‭ ‬وارتباطه‭ ‬الجنيني‭ ‬بها،‭ ‬فهو‭ ‬يناديها‭ ‬يا‭ ‬أمي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬الحبل‭ ‬السرّي‭ ‬قد‭ ‬امتد‭ ‬في‭ ‬نسغها،‭ ‬فارتبط‭ ‬بأم‭ ‬قاسم‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬وبالسبيليات‭ ‬الأرض‭/ ‬الأم‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية‭.‬

والمدهش‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المأزق‭ ‬الذي‭ ‬وقعت‭ ‬فيه‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭ ‬كان‭ ‬قائمًا‭ ‬على‭ ‬تخاطُر‭ ‬لها‭ ‬مع‭ ‬بو‭ ‬قاسم‭ ‬حول‭ ‬عودة‭ ‬جاسم‭ ‬خلال‭ ‬شهر،‭ ‬وتحدت‭ ‬بخواطرها‭ ‬مع‭ ‬الموتى‭ ‬أبجديات‭ ‬الجندية‭ ‬وقواعدها‭ ‬التي‭ ‬ترفض‭ ‬عودة‭ ‬المصابين‭ ‬والمعاقين‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬القتال‭.‬

إن‭ ‬الموتى‭ ‬يعرفون‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الأحياء،‭ ‬وعيونهم‭ ‬أكثر‭ ‬حدّة‭ ‬ولديهم‭ ‬من‭ ‬استشراف‭ ‬المستقبل‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يعيه‭ ‬بنو‭ ‬البشر،‭ ‬لكن‭ ‬الإشكالية‭ ‬فيمن‭ ‬يمتلك‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬أو‭ ‬الاستبصار،‭ ‬ووفقًا‭ ‬لمنهجية‭ ‬معرفية‭ ‬تشكّل‭ ‬شخصية‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭ ‬سمحت‭ ‬لها‭ ‬بهذا‭ ‬الاستبصار،‭ ‬وأتاحت‭ ‬لها‭ ‬السير‭ ‬على‭ ‬هدى‭ ‬خطراتها‭ ‬مع‭ ‬زوجها،‭ ‬فالأمر‭ ‬لا‭ ‬يتعلق‭ ‬بالحياة‭ ‬أو‭ ‬الموت،‭ ‬إنما‭ ‬يتعلق‭ ‬بإنسانية‭ ‬الإنسان‭ ‬أولًا‭ ‬وأخيرًا،‭ ‬تلك‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬كليّتها‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تتجاوز‭ ‬الحدود‭ ‬وتزيل‭ ‬العوائق،‭ ‬فيتساوى‭ ‬عندها‭ ‬الموت‭ ‬مع‭ ‬الحياة،‭ ‬بل‭ ‬ويتخطاها‭ ‬في‭ ‬أهميته‭ ‬طالما‭ ‬كان‭ ‬طبيعيًّا،‭ ‬ولم‭ ‬يأت‭ ‬من‭ ‬جراء‭ ‬حرب‭ ‬ضروس‭ ‬تقصف‭ ‬الإنسان‭ ‬قبل‭ ‬أوانه‭ ‬وتستبعد‭ ‬مرحلة‭ ‬لحساب‭ ‬أخرى‭.‬

                                                                                                         

فاعلية‭ ‬‮«‬قدم‭ ‬الخير‮»‬‭ ‬السردية

في‭ ‬مشهد‭ ‬دالّ،‭ ‬يقوم‭ ‬الجنود‭ ‬في‭ ‬لقائهم‭ ‬الأول‭ ‬بأم‭ ‬قاسم‭ ‬بالتحقيق‭ ‬معها‭ ‬وتقييد‭ ‬حمارها‭ (‬قدم‭ ‬الخير‭)‬،‭ ‬فيندّ‭ ‬عنه‭ ‬صوت‭ ‬شخير‭ ‬يستنجد‭ ‬بها‭ ‬مما‭ ‬يثير‭ ‬تعجّبهم‭ ‬حتى‭ ‬قال‭ ‬أحدهم‭ ‬‮«‬دون‭ ‬أن‭ ‬يداري‭ ‬استغرابه،‭ ‬حمارك‭ ‬يفهم‭ ‬عليك،‭ ‬كادت‭ ‬إجابتها‭ ‬تسبق‭ ‬انتظامها‭ ‬وتفكيرها،‭ ‬لأنه‭ ‬حمار‮»‬‭ (‬ص52‭).‬

فلا‭ ‬يتعلق‭ ‬الخاطر‭ ‬الذي‭ ‬مرّ‭ ‬بها‭ ‬بالسخرية‭ ‬أو‭ ‬المفارقة،‭ ‬وإنما‭ ‬مناطه‭ ‬استبصار‭ ‬ورهافة‭ ‬حسّ‭ ‬فائقة‭ ‬لدى‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭ ‬جعلها‭ ‬تضفي‭ ‬البشرية‭ - ‬في‭ ‬غياب‭ ‬البشر‭- ‬على‭ ‬رفيقها‭ ‬الرئيسي،‭ ‬فتحدّثه‭ ‬وتقرأ‭ ‬رسائله‭ ‬وتعده‭ ‬بوعود،‭ ‬ليتحول‭ ‬إلى‭ ‬كائن‭ ‬واع‭ ‬له‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الفعل‭ ‬والاختيار،‭ ‬فـ‭ ‬‮«‬قدم‭ ‬الخير‮»‬‭ ‬شخصية‭ ‬أخرى‭ ‬ذات‭ ‬حضور‭ ‬فاعل‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬القصة‭ ‬والخطاب،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬ثنائية‭ ‬الغياب‭ ‬والحضور،‭ ‬فهو‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬غائبًا‭ ‬بغياب‭ ‬وعيه‭ ‬وحيوانيته‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬حاضر‭ ‬وواع‭ ‬بدرجة‭ ‬تفوق‭ ‬البشر‭ ‬أحيانًا،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭.‬

وقد‭ ‬برز‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التواصل‭ ‬بينهما‭ ‬الذي‭ ‬يترتب‭ ‬عليه‭ ‬انصياعه‭ ‬لها‭ ‬وتفاعله‭ ‬معها‭ ‬طاعة‭ ‬ومساعدة،‭ ‬فلم‭ ‬يخيّب‭ ‬ظنها‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬من‭ ‬أمور‭ ‬معيشتها،‭ ‬وارتقت‭ ‬العلاقة‭ ‬بينهما‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬تفوق‭ ‬علاقات‭ ‬البشر،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬كان‭ ‬الاحتفاء‭ ‬بالحمار‭ ‬احتفاء‭ ‬بالحياة‭ ‬في‭ ‬معناها‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬يقدس‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أشكالها‭ ‬البشرية‭ ‬وغير‭ ‬البشرية،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬كان‭ ‬التخاطر‭ ‬وسيلة‭ ‬ناجزة‭ ‬في‭ ‬تحقق‭ ‬أهداف‭ ‬أم‭ ‬قاسم،‭ ‬ولم‭ ‬ينقطع‭ ‬هذا‭ ‬التخاطر‭ ‬المتبادل‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬أسرّت‭ ‬له‭ ‬بقرب‭ ‬الرحيل‭ ‬عن‭ ‬السبيليات،‭ ‬وكان‭ ‬الانقطاع‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بالفشل‭ ‬في‭ ‬بعث‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬السبيليات،‭ ‬مما‭ ‬يشي‭ ‬بعدم‭ ‬رضاه‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الخطوة‭.‬

وكان‭ ‬التخاطر‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬مرتبطًا‭ ‬بالمكان‭ ‬وتجذّرها‭ ‬فيه؛‭ ‬لهذا‭ ‬كانت‭ ‬المرة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬انقطع‭ ‬فيها‭ ‬التخاطر‭ ‬مع‭ ‬الحمار‭ ‬عند‭ ‬اقتراحها‭ ‬بالمغادرة،‭ ‬فلم‭ ‬تبدُ‭ ‬منه‭ ‬أي‭ ‬إشارة‭ ‬بالقبول‭ ‬أو‭ ‬الرفض‭ (‬ص‭ ‬150‭)‬،‭ ‬فيما‭ ‬كان‭ ‬تفاعله‭ ‬مؤثّرًا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مراحل‭ ‬رحلتها‭ ‬ومعيشتها‭ ‬بصورة‭ ‬ترقى‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬مصاف‭ ‬الشخصية‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬أبهى‭ ‬صورها،‭ ‬فأضاف‭ ‬بذلك‭ ‬أبعادًا‭ ‬إنسانية‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬شخصية‭ ‬أم‭ ‬قاسم‭ ‬ذاتها،‭ ‬فهي‭ ‬شخصية‭ ‬رحبة‭ ‬تُحسن‭ ‬تلقّي‭ ‬الإشارات‭ ‬وتحسن‭ ‬قراءتها‭ ‬وفك‭ ‬رموزها،‭ ‬وكلها‭ ‬إشارات‭ ‬بلغة‭ ‬غير‭ ‬لغة‭ ‬البشر،‭ ‬بل‭ ‬لغة‭ ‬أخرى‭ ‬يحكمها‭ ‬التخاطر‭ ‬وتؤسس‭ ‬لها‭ ‬الأحلام‭ ‬والرؤى‭ ‬في‭ ‬خلطة‭ ‬سردية‭ ‬لم‭ ‬تخلُ‭ ‬من‭ ‬المتعة‭ ‬والإدهاش‭.