دور القراءة والكتاب في المجتمع العربي

دور القراءة والكتاب  في المجتمع العربي

الكتاب قديم، يرتبط بالحضارات الكبرى التي أنشأت السرديات والحِكَم والأساطير، وخطّتها على الأحجار وأوراق البردي. وكانت الكتب المقدسة وكتب الفلاسفة والعلماء والشعراء، تنتقل في نسخ قليلة من جيل إلى جيل، وكان النساخون والخطاطون حفظةً للأفكار والآداب.

 

كانت الكتب تنتقل من إقليم إلى آخر، عابرةً المسافات التي لم تكن تحدها حدود، والحضارة العربية الكلاسيكية قبل القرن الرابع الهجري وبعده، من أكثر الحضارات غنى بالثقافة والمؤلفات والمخطوطات المنتشرة اليوم في مكتبات العالم، وقد وجد بعضها طريقه إلى الطباعة، وبعضها الكثير لم يصل بعد إلى المطابع.
أعادت الطباعة، التي ابتكرت في وسط القرن الخامس عشر، تنظيم وترتيب الموروثات المخطوطة والشفهية. ومثل كل الابتكارات الحديثة، واجهت الطباعة رفضًا من جانب كتّاب الإدارة والنسّاخين، كما واجهت رفضًا من جانب السلطات الدينية، ومع ذلك، فإنّ الطباعة والكتاب غيّرا العالم والقيَم والأفكار.
لقد غيّر الكتاب المطبوع صورة الكتاب وصورة المجتمعات، لكن ذلك لم يحدث إلّا عبر حقب متوسطة أو مديدة. وأول كتاب طبعه جوتنبرغ في 160 نسخة هو الكتاب المقدس عام 1452، بذلك فكّ احتكار الكنيسة للكتاب المقدس.
وما لبث أن تُرجم العهد القديم والجديد إلى الألمانية وطُبع. وبعد نصف قرن ونيّف (عام 1517) طبع مارتن لوثر رسالته الشهيرة، وألصق نسخها على أبواب الكنائس، وبذلك بدأ عصر الإصلاح الديني في أوربا. إن الطباعة هي نتيجة للنهضة، لكنّ الطباعة وإنجازات النهضة مهّدتا للإصلاح الديني الذي بُنيَ على رفض سلطة الكنيسة، باعتبارها وسيطًا بين الله وبين المؤمن، فقد أصبح بمقدور المؤمن أن يقيم الصلة المباشرة مع الكتاب من دون واسطة. هكذا تتبدّل صورة المجتمعات وتتغيّر القيم.

أول مطبعة
تأخرت الطباعة في العالم الإسلامي لأسباب دينية، خوفًا من امتلاك هذه الوسيلة الحديثة لكتب الشريعة والفقه. وأول مطبعة أنشئت عام 1727 في إسطنبول هي المطبعة التي تُعرف باسم مؤسسها إبراهيم متفرقة.
وكان ذلك في عهد السلطان أحمد الثالث الذي سمح بالانفتاح على أوربا، إلا أن شيخ الإسلام آنذاك اشترط ألّا تطبع الكتب الدينية. وبهذا المعنى فإن الطباعة في العالم الإسلامي نشأت في بدايتها نشأة علمانية. والكتب التي طبعها متفرقة في مطبعته تتراوح بين الكتب الجغرافية والمعاجم اللغوية والمؤلفات التاريخية.
وقد وضعت النسخ المطبوعة في خدمة أفراد الطبقة الحاكمة والإداريين. وبعد ما يقرب من قرن من الزمن أُسّست في القاهرة المطبعة الأميرية في بولاق عام 1820، وكانت قد باشرت عملها بطبع الكتب التي تخدم بناء الجيش، إذ إن الإصلاح العسكري كان بداية للإصلاح الإداري والتربوي.
كانت المطبعة تطبع الكتب التي تخدم مشروع محمد علي في بناء الجيش والإدارة والتعليم. ولعب الكتاب المطبوع دورًا في تأسيس البيروقراطية المصرية، من محمد علي باشا إلى الخديوي إسماعيل، كما أسهم في نهضة التعليم الرسمي العسكري والطبي والعلمي من خلال الكتب المترجمة والمطبوعة، والتي تتوزع على الطلاب. كما أن الكتاب المطبوع لعب دوره في نمو نخبة من القرّاء و»المثقفين» المتجانسة الأفكار والتطلعات. ومثال على ذلك ما كان يحدث في ولاية بيروت ومتصرفية جبل لبنان، حيث أسست المطابع، وبعضها أسسته الإرساليات الغربية. 

دائرة المعارف
شهد لبنان نهضة العربية الفصحى، وكذلك شهد استيعابًا للأفكار الغربية وتأثيرها في تكوين نخبة تؤمن بأفكار الحرية والمساواة، والمثال الساطع على ذلك بطرس البستاني الذي عرف قيمة الطباعة والكتاب المطبوع، فأنشأ دائرة المعارف، وكان يهدف من خلالها إلى نشر الأفكار الحديثة من خلال موسوعة ميسّرة يمكن للقراء أن يحصلوا عليها إذا تعذّر عليهم الحصول على الكتب من مصادرها.
ولا شك في أن دائرة المعارف التي لم تكتمل تحاكي الموسوعة الفرنسية التي أشرف على إصدارها ديدرو، وشارك في إعدادها 160 من الفلاسفة والمفكرين. ولكي يتيسر طبع أعدادها دعا المشرف إلى الاكتتاب في الأعداد العشرة الأولى، وصدر المجلد الأول عام 1751، وكان عدد المكتتبين من سائر دول أوربا (كانت الفرنسية لغة الثقافة في أوربا في القرن الثامن عشر)، 1200 مكتتب، وسرعان ما وصل عام 1757 إلى 4200، بالرغم من العقبات التي واجهتها الموسوعة من السلطات السياسية والكنسية.
إلا أن ما يمكن استنتاجه هنا أن النخبة الأوربية كانت تعد بضعة آلاف من المتعلمين والمثقفين. وقد أسهمت الموسوعة الفرنسية في توحيد أو تقريب آرائهم ووجهات نظرهم من قضايا عصرهم، كما وحّدت مداركهم حول تقدّم العلوم والتقنيات. ولا يمكن إغفال دور الموسوعة ومؤلفات الذين ساهموا في إعدادها أمثال فولتير وروسّو في التمهيد للعصر الثوري الذي دشّنته الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789.

أداة الفكر
إن الأفكار هي التي تغيّر العالم، وليست الاكتشافات والخامات، فالاكتشافات العلمية والتقنيات هي ثمرة جهود الباحثين والمفكرين، والكتاب هو أداة الفكر وناقل القيم.
أسهم الكتاب المطبوع في البلدان العربية بانتشار التعليم الرسمي أو «المعارف»، وقد ارتبطت المدرسة بالمشاريع النهضوية في مصر ولبنان وتونس، ثم في البلدان العربية الأخرى.
وكانت المدارس محدودة العدد، وسرعان ما توسعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وإذا كان الكتاب قد أسهم في انتشار التعليم وافتتاح المدارس، فإن الكتاب المطبوع سمح بنشر تعاليم وعلوم وثقافة موحدة على امتداد القطر أو البلد، وبهذا المعنى، فإن الدولة التي تفتح المدارس أصبحت أكثر قدرة على مراقبة التعليم، وبثّ القيم التي تريد نشرها.
لكن الدولة التي أسهم التحديث بما في ذلك الطباعة والكتاب في تدعيم قوّتها ورقابتها، واجهت أيضًا ضغوطًا من أولئك الذين تعلّموا في مدارسها، وخصوصًا في مدارس الحقوق، الذين صاروا يطالبون باعتماد الدستور وفصل السلطات، وسرعان ما أسهمت الصحف (المطبوعة) والكتب المطبوعة في نشر فكرة الوطنية، ولم يكن للفكرة الوطنية أن تنتشر لولا اتّساع دائرة القرّاء والمتعلمين الذين توحّدهم التعاليم التي تلقّوها في المدارس عبر كتب موحّدة المضامين.
لقد تبدّلت صورة المجتمع العربي في نهاية القرن التاسع عشر، مع انتشار الأفكار التي تنطوي عليها الصحف والمجلات والكتب المطبوعة. وأسهم الكتاب في ازدياد أفراد النخب الإدارية والثقافية، لكن التغيير الذي حدث هو أن اللغة التي تنطق بهذه الأفكار هي العربية الفصحى.

دور حاسم
أصبحت الفصحى هي لغة المجتمع الثقافي والنُخب المتعلمة، ليس هذا فحسب، لكن الكتاب سهّل الصلات بين أفراد النخب المتعلمة، ووحّد تطلعاتها وقيمها.
فقد شهدت الفترة بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إعادة طبع المؤلفات التراثية في التاريخ والعلوم والشريعة والآداب. 
وقد أسهم بذلك المستشرقون الذين كانوا يحققون كتب التراث ويكتشفون المخطوطات وينقلونها من النسخة المخطوطة باليد إلى النسخ المحققة والمطبوعة التي أصبحت في متناول النُخب التي اكتشفت تراثها العربي أو الإسلامي، الأمر الذي أسهم في نشوء التيارات القومية أو الدينية أو غير ذلك.
كان دور الكتاب حاسمًا في نشر قيم الحداثة عن طريق المدرسة، أو عن طريق الاتصال المباشر بالقرّاء عبر الكتاب والصحيفة. وأصبحت قيم الحرية والدستور والديمقراطية شائعة في لغة المثقفين والمفكرين الذين أخذوا على عاتقهم نشر المؤلفات ذات الطابع التعليمي، أمثال أحمد لطفي السيد، وعباس العقّاد، وسلامة موسى. 
كما أسهم الكتاب في تعرُّف أبناء العربية إلى عالَمهم الواسع والمنوّع مع مؤلفات أمين الريحاني وشكيب أرسلان. 
انتشر الحس النقدي لدى المثقفين مع أعمال طه حسين وجبران خليل جبران. وخلال النصف الأول من القرن العشرين اكتسب الكتّاب الذين ألّفوا في الأدب والفكر والعلم والتراث مكانة رفيعة، وأصبحت مؤلفات، مثل «الأيام» لطه حسين، و«هؤلاء علّموني» لسلامة موسى، و«عودة الروح» لتوفيق الحكيم، و«حياة محمد» لمحمد حسين هيكل، و«الأجنحة المتكسرة» و«النبي» لجبران خليل جبران، و«رسالة التوحيد» لمحمد عبده، بمنزلة أيقونات لا بدّ للمثقف من اقتنائها والاطّلاع عليها، وكانت ميزة الكتاب الانتقال والانتشار، فالكتب التي تصدر في القاهرة أو بيروت تنتشر شرقًا وغربًا وينتظرها القرّاء الذين كانوا يشكّلون فئة محددة العدد هي النخبة المتعلمة الاجتماعية والثقافية والسياسية على حد سواء.

مرحلة جديدة
كان ذلك في الزمن الليبرالي الذي كان يتسامح في نشر الكتب ونقل الأفكار وترويجها، بالرغم من بعض الرقابة الدينية التي كانت تتصدى لبعض المؤلفات، مثل كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين و«المرأة في الإسلام» لمنصور فهمي.
ومع ذلك، فإنّ المصلحين في الإسلام اكتشفوا أهمية الطباعة وانتشار الكتاب والصحيفة، وكان من بين هؤلاء السيد رشيد رضا، تلميذ الإمام محمد عبده، الذي أصدر مجلة المنار، ونشر فيها مؤلفات الإمام عبده ومؤلفاته.
تبدّلت صورة العالم العربي في أربعينيات القرن العشرين مع انتشار التيارات الأيديولوجية الشيوعية والقومية والدينية وتبدّلت صورة المجتمع، فلم تعد القيم الليبرالية تتصدر المكتبات، بل أصبحت الكتب العقائدية التي تروّج للشعارات الدينية والاشتراكية والقومية تحتل الصدارة، حدث ذلك بشكل تدريجي، وصولاً إلى ستينيات القرن العشرين، حينما اشتد زخم الشعارات الأيديولوجية والصراع بينها.
إن بلوغ أنظمة عقائدية أحادية التوجّه، أدخلنا في مرحلة جديدة تبدّلت معها صورة العالم العربي مجددًا.
لقد أصبحت الدولة تتملك النشر وتراقب الإصدارات وتوجّهها وتفرض رقابتها على المؤلفين، وانتشرت الثقافة الجماهيرية الموجهة على حساب ثقافة المفكرين النقدية. في تلك الآونة بدأ المثقف يخسر دوره الذي لم يعد يطلب رأيه، وإنما يُطلب أن يكون أداة ترويج ودعاية للنظام وتوجهاته.
تراجع دور المثقف الليبرالي، حين احتل المثقف الأيديولوجي والداعية الديني الصدارة، إلا أنّ الأمر الذي أخفض من صورة المثقف هو الترويج للعلوم التطبيقية على العلوم الإنسانية والاجتماعية. 
وقد اعتبرت السلطات التربوية أن مَن يحصل على معدلات أعلى في الشهادة الثانوية هو من يستحق الدخول إلى الكليات الهندسية والطب والعلوم. والمعدلات المنخفضة تركت لها اختصاصات الأدب والتاريخ والفلسفة وعلم النفس.  إن تراجع تدريس العلوم الإنسانية والاجتماعية واعتبارها لزوم ما لا يلزم، أدى إلى رواج الأفكار المتطرفة والأصولية. لقد تغيرت صورة المجتمع وتبدّلت صورة الثقافة، فلم تعد القراءة ضرورة، وراج أن المجتمع لم يعد بحاجة إلى الأفكار، لكنه بحاجة إلى الخبراء والتقنيين. 
ولكي نغير صورتنا المتدهورة، لا بدّ لنا من إعادة الاعتبار للمدرسة والكتاب والبحث العلمي الجاد والمحكّم، ونُعيد الاعتبار للعلوم الإنسانية والاجتماعية، إن الأفكار هي التي تغيّر المجتمعات. وما زلنا نعوّل على الكتاب والكُتّاب الذين ننتظر أن يسهموا في تغيير مجتمعاتنا وتقدمها ■