التراث في عصر الثورة الصناعية الرابعة

التراث في عصر  الثورة الصناعية الرابعة

حدثت تغيّرات تقنية وصناعية كبيرة خلال العقدين الماضيين لم تصل إليها البشرية على امتداد أكثر من 300 ألف سنة من وجودها. 
لقد انخرطنا منذ مطلع القرن الحادي والعشرين في خضم ثورة صناعية رابعة، قوامها الذكاء الاصطناعي وتحوّلات عالم الأنفوسفير، ستعيد طرح كثير من الأسئلة الفلسفية إزاء هويتنا، علاقتنا بذاتنا، والطبيعة، والكون، والمستقبل، من دون أن ننسى تراثنا وخصوصيتنا الثقافية والشعبية.
فكيف أثّرت الثورة التقنية والصناعية في تمثّلنا للتراث؟ وهل يمكن الاستفادة من نتائجها في عقلنة تفاعلنا مع التراث، والثقافة والماضي؟ وإلى أيّ حدّ يمكن التفكير في مستقبل التراث الثقافي المحلي في ظل خطابات الكونية وانشباكية العوالم الرقمية في السياق المعاصر؟

 

لعل الحاجة إلى إعادة التفكير في قضايا التراث يفرضها متغيّران اثنان: أولاً، تطور الممارسة العلمية في حقل «الدراسات الثقافية» خلال العقود الأخيرة في اتجاه مزيد من التعاطي الأنثروبولوجي ودراسات الفلكلور والدراسات الشعبية مع التراث والاعتناء به، حيث تحوّل معه هذا الأخير إلى مجال عابر للتخصصات والأبحاث، في إطار هاجس الاعتراف بـ «الثقافة الشعبية» وصون الهويات المحلية، خصوصًا بالمنطقة العربية. ثانيًا، تحوّلات الثورة الرقمية الثانية والثورة الصناعية الرابعة ومساعي الكونية والانشباكية العالمية التي جعلت من التفكير العلمي في الصيانة الفكرية والمادية للتراث الثقافي والخصوصيات الشعبية والفلكلورية للشعوب والجماعات البشرية رهانًا تنمويًّا معاصرًا.
نتيجة لذلك، أصبحنا نجد أقسامًا للدراسات الشعبية، الثقافية والفلكلورية بالجامعات والمراكز البحثية تُعنى بدراسة الخصوصيات التراثية المادية واللامادية للإنسانية، وتحمل على عاتقها مهمة الإسهام في التعريف بهذه الخصوصيات وصونها في إطار «القوائم التمثيلية السنوية للتراث المادي واللامادي للإنسانية» ونقل التعاطي مع التراث من بُعده الميداني والنظري نحو البعد الاجتماعي.
وعليه، يظهر أن التعاطي العلمي مع التراث في العصر الرقمي قد أضحى أكثر حيوية مع تزايد الأصوات الداعية إلى حماية الخصوصيات الإنسانية المحلية - في أفق كوني - بالموازاة مع الاستفادة القصوى من الإمكانات المنهجية، التقنية والعلمية والمعلوماتية التي أتاحتها الثورة الصناعية الراهنة.

توظيف المعرفة العلمية
يجوز الحديث عن كون العصر الرقمي قد فرض علينا بقوة منطق التاريخ أن ننتقل من دراسة التراث بما هو تراث إلى توظيف المعرفة العلمية من أجل التعاطي الوظيفي مع هذا التراث، بما يخدم رهان المصالحة بين الماضي والحاضر من جهة، والاستثمار في المستقبل والانفتاح الإنساني على الكونية من جهة أخرى. 
بطبيعة الحال، ليست مختلف مقولات الكونية بريئة بالضرورة، فهي مشحونة أحيانًا بأيديولوجيات تنميطية تنتصر لمنطق الاستهلاك الثقافي المركزي على حساب الهويات والثقافات المحلية، وفي أحيان أخرى تحمل معنى الانغلاقية الثقافية والتشبث التراثي بالتراث.
لكن، قد يكون الاستثمار في المحلي أفقًا للكوني أكثر اقترانًا بمتطلبات العصر، حيث التكامل بين خصوصيات التراث الثقافي المادي واللامادي للمجتمعات المحلية شرط أساس للتعايش الثقافي العابر للحدود الوطنية، بالشكل الذي لا ينفي المحلي وينتصر للحوار والتلاقح الثقافي الكوني.
إن كونية التراث لا تخرج عن الإطار الفلسفي لقبول الاختلاف والانفتاح على الآخر، فحينما نعود إلى التحديات المركّبة التي تواجه حماية التراث الثقافي في السياق العربي، نجد أننا في حاجة إلى المصالحة مع تراثنا وتاريخنا وماضينا الخاص بالشكل الذي لا ينفي فاعلية هذا التراث في اللحظة الراهنة، ولا يعيق الانخراط في نسق الحداثة وسياقات العصر الرقمي.

استثمار التطور التقني
بعد هذه المصالحة الانعكاسية مع الذات ونظرتها إلى التراث، تأتي مرحلة استثمار التطور التقني والمعلوماتي والعلمي في التعريف بالتراث، حمايته، وأنسنته، والبحث عن موقع قدم له ضمن مسار بناء الحضارة المعاصرة والمستقبل المنشود.
عند هذه النقطة، يصبح تعريف الآخر على هذا التراث والانفتاح على خصوصياته الثقافية المحلية شرطًا أساسًا لتعزيز أواصر التعايش وقبول الاختلاف ونبذ العنف والانغلاقيات الثقافية. لذلك، يمكن للوعي بهذه المنطلقات أن يجعلنا أمام كونية المحلي وضمان أنسنة التراث بما هو جزء من الهوية والحضارة الإنسانية أكثر من محلية الكوني، نفيًا أو نقيضًا للخصوصيات الثقافية.
يتجاوز تأثير الثورة الرقمية والصناعية حدود النقاشات الفلسفية حول الكوني والمحلي نحو إعادة إنتاج شروط الممارسة العلمية في مجال دراسة التراث نفسه.
وأول ما نسجّله هو تطور التداخل الاختصاصي والعبر - منهاجية وتعدُّد التخصصات المهتمة بدراسة التراث تنظيرًا وميدانًا (الدراسات الثقافية، الدراسات الشعبية، الدراسات الفولكلورية، الأركيولوجيا...)، بالشكل الذي تمّ بموجبه تجسير الحوار بين «العلوم» و«الآداب» في اتجاه البحث عن الشروط الكفيلة بصيانة التراث المادي واللامادي للمجموعات البشرية.
لذلك، تتكامل الغايات العلمية والعملية في أنسنة الوعي الجمعي بأهمية التراث في ربط جسور التواصل بين الماضي والحاضر، وتحقيق الحوار بين الحضارات.
إضافة إلى ذلك، هناك غنى نوعي وكمّي في التقنيات والمناهج العلمية بما يتماشى ورهان العبر- منهاجية والانفتاح على التقنيات السمعية البصرية، العوالم الرقميّة والمعلوماتية والمصالحة بين الكمّي والكيفي، واستثمار البيانات الرقمية في الممارسات العلمية، وتشجيع ربط نتائج البحوث والدراسات العلمية بالعموم.

مسؤولية اجتماعية
يعدّ الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ على التراث أحد التأثيرات الإيجابية للتطور التقني والعلمي، والتي مسّت نظرة الإنسان والفاعل السياسي والاجتماعي لتراثه الثقافي المحلي. خلال العشرين سنة الأخيرة بالمجتمعات العربية على سبيل المثال، أضحت مسألة التعريف بالتراث، جمعه، صيانته وأنسنته مسؤولية اجتماعية بعد أن كانت، إلى حدود مراحل معيّنة، حكرًا على الباحثين والعلماء والمختصين. 
فبفضل التطورات التقنية والعلمية، يتم اليوم دعم البحوث في مجال صيانة مختلف أوجه التراث الثقافي المادي واللامادي بالمنطقة (منح بحثية، ومجلات علمية، ومراكز بحث، ومسالك تكوين جامعي...).
لذلك، تحوّلت بعض التجارب العلمية بمنطقة الخليج العربي إلى نماذج يحتذى بها في التعاطي مع التراث كجزء من الهوية الثقافية للمجتمع وأساس بناء المشروع المجتمعي والثقافي للأمة. 
كما أسهم وعي الفاعل السياسي بضرورة إدراج بعض المكونات الثقافية كتراث عالمي إنساني في حماية العديد من العادات، والمنتوجات، والحيوانات والمقومات التراثية من خطر الاختفاء والاندثار بالشكل الذي جعل المجتمع الدولي يولي مزيدًا من الاهتمام بالخصوصيات الثقافية المحلية كجزء من الهويّة الإنسانية الكونية.

نقطة تلاقٍ
يبدو - إذن - أن التراث أضحى نقطة تلاقي مجموعة من العلوم والتخصصات من ناحية، ويستثمر التطورات التقنية في التنظير والميدان من ناحية ثانية، وأصبح مشروعًا اجتماعيًّا وسياسيًّا بالموازاة مع كونه مشروعًا علميًّا وأكاديميًّا من ناحية ثالثة، وتحوّل إلى عنصر هويّاتي يجسّر التواصل بين المحلي والكوني لما فيه خير الإنسانية ككل من ناحية رابعة.
قصارى القول، لا ننفي التحولات والتطورات الكبرى في التعاطي مع قضايا التراث على المستويين العلمي والاجتماعي بالمنطقة العربية، والاستفادة الوظيفية من نتائج الثورة التقنية الثانية والثورة الصناعية الرابعة بما يتماشى والانتقال من التقديس التراثي للتراث نحو التعاطي العلمي مع التراث كجزء من الهوية المحلية الذي يساعد الأفراد والجماعات على حُسن تمثّل متطلبات الحاضر ومستلزمات المستقبل.
لكن، لابد من بذل مزيد من الجهد من أجل ترسيخ هوية علمية للدراسات الشعبية والثقافية والفولكلورية في الجامعات العربية (خصوصًا بالمغرب والمنطقة المغاربية)، وتجسير الحوار بين الجماعات العلمية الإقليمية والدولية، ثم التفكير في التأصيل الفلسفي لأخلاقيات مهنية وعملية تنظّم تفاعل العلمي والأكاديمي والاجتماعي مع التطور التقني والصناعي، بما يساعد على تثمين الخصوصيات التراثية أكثر من تسليعها وتسويقها كسلع مفرّغة من المعنى خارج شرط حماية الهوية والثقافة المحلية والإنسانية ■