عن الرؤية المأساوية في روايات منيف

عن الرؤية المأساوية في روايات منيف

في دراسة مستفيضة منشورة في العدد 726 (مايو 2019) من المجلة الرائدة «العربي»، توقّف الباحث المصري د. جابر عصفور عند مفهوم «الرؤية المأساوية» معتمدًا على اجتهادات الناقد الأمريكي Murray Krieger، وجاعلاً من المفهوم المذكور المدخل الأساس لتحليل بعض قصائد الشاعر المصري صلاح عبدالصبور، وليبرهن على تضمّن هذه القصائد سمات من الرؤية المأساوية كما قدّمها الناقد الأمريكي. وتفاعلاً منّي مع دراسة د. عصفور، أقترح هذه المقالة التي عمدت فيها إلى إضاءة ثلاث روايات للكاتب العربي عبدالرحمن منيف، اعتمادًا على المفهوم نفسه، مفهوم «الرؤية المأساويةّ» لكن كما بلوره وطوّره الباحث المجري لوسيان غولدمان.

 

يقصد المنظّر المجري غولدمان بمفهوم الرؤية للعالم «مجموع التطلعات والأحاسيس والأفكار التي تجمع أعضاء مجموعة ما (وغالبًا ما تكون طبقة اجتماعية) وتجعلها تعارض المجموعات الأخرى». 
ونتبين من هذا التعريف أن الرؤية للعالم ليست ذات طابع فردي، وإنما هي نسَق فكري يعكس – بشكل أو بآخر– الموقع الاجتماعي لطبقة ما. وقد تكون الرؤية للعالم عنصرًا أساسيًّا في تحديد نمط الكتابة الذي يتم تبنيه، فيشي ببعض مكنوناته وهو منساق وراء الوهم الجمالي الذي قد يولّده لديه اختياره نوعًا أدبيًّا معيّنًا كشكل للتعبير.
ويعتبر غولدمان أن الرؤيات للعالم هي بمنزلة إجابات ممكنة على وضع أو أوضاع تاريخية أو اجتماعية بعينها. وقد خصّ إحداها، وهي الرؤية المأساوية للعالم، بدراسة قيّمة في كتابه «الإله الخفي».  هذه الرؤية تتضمن – وفق غولدمان – ثلاثة محاور متداخلة: الإله والعالم والإنسان. فالإله في الفكر المأساوي هو إله غائب وحاضر في الوقت نفسه. وهذه الثنائية تحدد كذلك طبيعة العلاقات القائمة بين الإنسان والعالم، فالحضور الإلهي يدفع الكائن المأساوي إلى تقبّل العالم، وغياب الإله يدفعه إلى رفض هذا العالم.
غير أنه في حالة الرفض، يصطدم بواقعية العالم المرفوض، وبكونه المسرح الوحيد لتحقيق القيم المنشودة، ويظل متشبثًا برهانه على الوجود الإلهي، وإن كان تواصله مع الآخرين يظل تواصلًا متعذرًا، ويكون الحوار الداخلي هو وسيلة تعبيره الرئيسة. كما أن الكائن الإنساني ينظر إلى الإنسان طورًا على أنه كائن حقير وعاجز، وطورًا آخر ينظر إليه على أنه كائن عظيم بوعيه الذي يتجاوز كل العوائق.

رؤية مهيمنة
وبحثًا عن أساسها الاجتماعي، ربط غولدمان الرؤية المأساوية كما تبلورت في كتابات المفكر بليز باسكال ومسرحيات جان راسين ببنية أشمل، هي بنية طبقة نبالة الثوب التي كانت ممزقة بين قبولها للنظام الملكي وولائها له، وبين رفضها له وتبرّمها منه.
وتنطلق هذه المقالة من فرضية أن الرؤية المأساوية للعالم هي الرؤية المهيمنة في أغلب الروايات العربية التي رأت النور بعد نكسة 1967، والتي تأثّر معظمها بحركة المراجعة الشاملة التي عرفتها الحياة العربية في مستوياتها السياسية والاجتماعية والفكرية كردّ فعل على التساؤلات المريرة التي فجّرتها أجواء الهزيمة.
وحتى لا يظل الأمر مجرد فرضية، سنعمد إلى تحليل ثلاث روايات للكاتب العربي عبدالرحمن منيف، وهي «الأشجار... واغتيال مرزوق»، و«شرق المتوسط»، و«حين تركنا الجسر»، لنحاول البرهنة على الفرضية المذكورة. والبداية ستكون بالإشارة إلى أن الرؤية المأساوية كما تمثّلت في الروايات المذكورة قد استبدلت محور الإله بمحور السلطة، وأصبحت محاورها هي الإنسان والعالم والسلطة، ذلك أن الشخصيات الرئيسية لهذه الروايات تجمعها قواسم مشتركة عدة. فنحن إزاء مثقفين ذوي ماض ثوري، عملوا من أجل التغيير، لكنهم اصطدموا بصلابة الواقع وبهمجية السلطات القائمة التي اعتبرتهم نغمات نشاز يجب ترويضها، مما جعل الإحساس الطاغي عليهم هو الإحساس بالخيبة والمرارة.
 فمنصور عبدالسلام الشخصية المركزية في رواية «الأشجار... واغتيال مرزوق» اعتقل ثم سُرّح من عمله كأستاذ جامعي، نظرًا لنشاطه السياسي، واستطاع بعد مدة من تسريحه أن يحصل على عقد للعمل مع بعثة أجنبية تهتمّ بالآثار، لكنّ التردي بلغ به مبلغًا كبيرًا، مما أدى به في آخر الرواية إلى الجنون، بعد محاولة انتحار فاشلة.

صراع عنيف
ورجب إسماعيل في «شرق المتوسط» عمل هو الآخر في تنظيم سياسي سرّي، وكان أن قبض عليه وحُكم عليه بإحدى عشرة سنة، قضى منها قيد الاعتقال خمس سنوات. 
ومراعاة لمرضه الخطير والمزمن، سمح له بالسفر إلى الخارج للعلاج، مع تعهّد بالتخلي عن نشاطه السياسي.
أما رواية «حين تركنا الجسر»، فتختلف بنيتها شيئًا ما عن الروايتين السابقتين، إذ إنها تحكي عن رحلة زكي النداوي لصيد ملكة البط، وهي رحلة يقضيها زكي في شتم نفسه وشتم كلبه وردان، وفي انتظار ملكة البط التي يتراءى له صيدها كتعويض عن الهزيمة التي مُني بها هو ورفاق له بعد انسحابهم وتفريطهم، إبّان معركة كانوا يخوضونها، في جسر بنوه بأنفسهم. وحينما ظنّ أنه قد حصل على الملكة، اكتشف أنه اصطاد مكانها أقبح بومة يمكن أن تراها العين.
إن هذه الشخصيات الروائية تعاني صراعًا داخليًّا عنيفًا نتيجة محاولاتها اليائسة لترسيخ قيم جديدة في وسط لم يكن على استعداد لتقبّلها. وقد يكون حضور موضوعة الرحلة «رحلة الصيد ورحلة البحث عن عمل ورحلة الاستشفاء» بمنزلة التعبير أو المعادل لهذا التوق نحو ما هو جديد وما هو مغاير. وهو توق يوازيه الإصرار على رفض الواقع، فتصير الرغبة في التدمير هي اللازمة التي تتردد باستمرار في الروايات الثلاث، فمنصور عبدالسلام يقول: «لو امتلكت قنبلة ذرية لدمّرت كل شيء لعلّ عالمًا جديدًا يولد» (أ.165). ويعبّر رجب إسماعيل عن الرغبة نفسها بصيغة مغايرة: «أريد أن أتخلص من كل شيء له علاقة بالماضي» (ب30).

حوار مزيف
أما زكي النداوي فيسرّ لكلبه: «أتمنى يا وردان لو أن ناس هذه الأرض ينقرضون» (ج.208)، وهذه الرغبة في التدمير والتخلص من العالم لا تعمل سوى على تعميق الإحساس بالعزلة لدى هذه الشخصيات الروائية الممزقة ما بين قبول العالم ورفضه، ويصبح تحاورها مع الآخرين يكاد يكون متعذرًا وشبه منعدم. «لم أعد أحب أن أتحدث مع إنسان» (ب 70).
ذلك ما يصرح به رجب إسماعيل الذي يفضل التحاور مع السفينة التي تقلّه إلى أوربا، وهو يفكر في كتابة رواية. بينما يفضل زكي النداوي التحاور مع كلبه وردان. ويعمد منصور عبدالسلام إلى كتابة اليوميات بعد أن قال له أحد أصدقائه في إحدى المناسبات: «المناقشة معك عقيمة» (أ.244).
إن الروايات الثلاث موضوع هذا التحليل يغلب عليها الحوار الداخلي المزيف (التحاور مع سفينة أو مع كلب صيد)، لأنه الشكل التعبيري الأثير لدى الكائن المأساوي الذي يعجز عن التواصل مع الآخرين ويفقد ثقته بجدوى الكلمات. 
يعترف رجب ذات ضَعف: «تبدو لي الكلمات مثل أوراق الشجر في بداية الشتاء، مصفرة وضعيفة. حتى إذا صفعتها الريح تطايرت ثم ديست بالأقدام. لم تعد الكلمات كائنًا قادرًا على أن يفعل شيئًا» (ب 142). في حين يصرخ النداوي قائلًا: «لتقتل جميع الكلمات الكبيرة (...)، ولتقتل الأفكار المصابة بالجرب، لأنها قادتنا إلى الهزيمة» (ج.15).

حاجز إضافي
ويسأل عبدالسلام نفسه: «ألا تعترف بأن الكتب هي التي عذبتك وخلقت بينك وبين الناس هذه الفجوة الكبيرة؟» (أ197). ويشكل تصوّر الكائن المأساوي لطبيعة الإنسان حاجزًا إضافيًّا أمام تواصله مع الآخرين، إذ إن تصوره ذاك يتجاذبه طرفان، فهو يرى أن «الإنسان أقوى المخلوقات على هذه الأرض وأضعفها أيضًا (...) إنه يستطيع أن يكون ضعيفًا ويستطيع أن يكون قويًّا بلا حدود. إن هذا يتوقف على الإنسان نفسه» (أ 96). ويعبر النداوي عن الفكر نفسه كما يلي: «إن هذا الإنسان بمقدار ما هو جبّار، فإنه يعادل ضفدعة» (ج97). 
ونخلص إلى القول إن الصراع الذي تخوضه الشخصيات الثلاث هو بالفعل صراع مأساوي، أولاً لعدم قابليته للحل، وثانيًا لعدم استعداد الواقع تمثّل القيم المبشر بها، وأخيرًا لعدم أهلية أية قوة مجتمعية لقيادة عملية التغيير. 
فكما يقول عبدالسلام: «كل شيء في بلادنا مقلوب على رأسه، ويريد أنبياء من أجل أن يوقفوه على قدميه. وهؤلاء الأنبياء ليسوا موجودين. ولكن على كل رجل أن يحاول، نعم أن يحاول» (أ.217). وهي نفس الفكرة المتبناة من طرف رجب إسماعيل، رغم علمه بأن «شيئًا لن يتغير» (ب.137). وكما أوضحت ذلك أبحاث غولدمان، فإنه لابد لكل رؤية للعالم من أساس اجتماعي ترتبط به وتنبثق عنه.
والأساس الاجتماعي للرؤية المأساوية، كما تمظهرت في روايات عبدالرحمن منيف الثلاث، قد نجده في الموقع الذي كانت تحتله البورجوازية الصغيرة ضمن التشكيلة المجتمعية للبلدان العربية.

موقع وسطي
وينبغي التذكير بأن نكسة يونيو 1967 جاءت متواقتة مع وجود ممثّلين عن الطبقة المذكورة في أعلى هرم السلطة ببعض الأقطار العربية (مصر، سورية، الجزائر...)، لذا فإن العديد من الكتابات التي ظهرت في تلك الفترة كانت بمنزلة محاكمة للفكر البورجوازي الصغير ولتجارب الحكم التي سندها، كما أن المثقفين شعروا بأنهم يتحملون قسطًا وافرًا من المسؤولية فيما حدث. 
وقد استحضرت نماذج من الرواية العربية مناخ المراجعة المشار إليه ونقلته بلغتها الخاصة. وقد يفسّر هذا علاقة التماثل الموجودة بين الرؤية المأساوية وبين الوضعية الطبقية للبورجوازية الصغيرة العربية. 
إذ إننا نلاحظ أن ثنائية الرفض والقبول التي تميّز الرؤية المأساوية تنسحب أيضًا على وضعية البورجوازية الصغيرة. فهذه الطبقة تحتل موقعًا وسطيًا في البنية المجتمعية، وهي إذ غالبًا ما تحتل مناصب مرتبطة بالنشاط الذهني، وهناك مفارقة بين حجمها العددي وقدرتها على التأثير، فهي دائمًا ما تكون طبقة – سند.
وعلى المستوى الجمالي، جعلت الرؤية المأساوية للعالم روايات عبدالرحمن منيف، التي تم الاقتراب منها، نصوصًا أحادية الصوت يهيمن فيها صوت منفرد ومتسلّط هو صوت السارد. إضافة إلى ذلك، نلاحظ أن هذه النصوص تستعمل ضمير المتكلم في عملية سردها، فيتماهى السارد مع الشخصية الرئيسية، مما يجعل غالبية القراء يعتبرون أنفسهم أمام سِيَر ذاتية مع ما يعنيه هذا النوع الأدبي من تركيز على الذات وتحجيم لدور الآخر.
وهذا له صلة بالرؤية المأساوية التي تعجز عن التواصل مع الآخرين وتجعل الأعمال الروائية أعمالًا صماء يغيب عنها التحاور والأُنس (حسب تعبير د. صلاح فضل)، ويهيمن عليها الأسى وترقّب الفجائع ■