أسئلة الرواية العربية

أسئلة الرواية العربية

لعلّ الرواية هي النوع الأدبي الأكثر مقروئيّة في هذه اللحظة من تاريخ العالم، يُقبِل عليها القرّاء من كلّ حدبٍ وصوب، وتُحقّق النّسب الأعلى في مبيعات الكتب، وتُخصَّصُ لها الجوائز العالمية، وتُعطيها جائزة نوبل للآداب الأولوية دون سائر الأنواع الأدبية. 
ونحن، في العالم العربي، لا نشذُّ عن هذا التوصيف، فبعد أن كان الشعر ديوان العرب لقرونٍ خلت، بتنا نسمع من يُولي الرواية هذا الشرف، ونرى من يبشّر بزمن الرواية وينظّر له. ولعلّ السبب في ذلك يعود، في المضمون، إلى التصاق هذا النوع بحياة الناس اليومية، واهتمامه بشؤونهم وشجونهم. ويعود، في الشكل، إلى أنّ النفس الإنسانية ميّالةٌ بالفطرة إلى الحكاية، فنحن منذ الطفولة تغوينا حكايات الجدّات، وكم أخلدنا إلى النوم صغارًا على وقع إيقاعاتها الجميلة. 

 

الرواية العربية هي بنت الواقع العربي، بهمومه واهتماماته، بشؤونه وشجونه، بماضيه وحاضره ومستقبله. ولأنّه حافلٌ بالأسئلة الكبرى يكون على الرواية أن تعيد طرح هذه الأسئلة على طريقتها؛ فالأدب، لا سيما الروائي منه، معنيٌّ بإعادة إنتاج الواقع، في محاولة لتغييره. هذا ما يتوهّمه الأدباء، على الأقل، ولعلّهم يبالغون في الوهم والتوهّم، فهو قد يؤثّر في الواقع، إلى حدٍّ ما، ولكن أن يغيّره، فذلك، بتقديري وهمٌ كبير. ومع هذا لا بدّ من القراءة.
انسجامًا مع ازدهار قراءة الرواية، وإشباعًا لذلك الميل الفطري لسماع الحكايات وتزجية الوقت، أُتيح لي في العامين الأخيرين المنصرمين أن أقرأ ثلاثين رواية عربية مختلفة، من غير بلد عربي، فغنمت متعة الحكي وفائدة المحكي، بنسب تتفاوت من رواية إلى أخرى. 
وبمعزل عن المتعة، فإنّ الفائدة تكمن في أنّ هذه الروايات تطرح رُزمة ملحوظة من أسئلة الواقع العربي، في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ العرب، وهي أسئلة قديمة جديدة، تتراوح بين السياسي، والتاريخي، والاجتماعي، والديني، مما يُشكّل موضوعنا في هذه العجالة. 
مع العلم بأنّ السؤال الواحد قد يرد في روايات عدّة بتمظهرات مختلفة، وأنّ الأسئلة قد تتعدّد ضمن الرواية الواحدة. وبالتالي، إنّ نسبة رواية معيّنة إلى سؤال معيّن لا يعني حصرها فيه، بل لأنّه الأبرز الذي تطرحه، مباشرةً أو مداورةً.

نظرة بانورامية
في نظرة بانورامية على الروايات، نرى أنّ بعضها يطرح السؤال الفلسطيني المطروح منذ قرن، على الأقل، فَمُذْ قطع آرثر جيمس بلفور، وزير الخارجية البريطانية، في حينه، وعدَهُ المشؤوم لليونيل روتشيلد، أحد زعماء الحركة الصهيونية، بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بتاريخ 2 / 11 /1917، راحت المسألة الفلسطينية تُشكّل سؤالًا دائمًا يطرحه الأدب، على اختلاف أنواعه، لا سيّما الرواية، إلى حدٍّ يمكن معه الحديث عن مكتبة روائية فلسطينية صغيرة قائمة بذاتها. 
هذا السؤال تطرحه رواية «زمن الخيول البيضاء» لإبراهيم نصرالله، من منظار تاريخي، فترصد تحوّلات القضية الفلسطينية، بين أواخر الحكم العثماني وبدايات النكبة مرورًا بمرحلة الانتداب البريطاني.
وتطرحه رواية «نجمة البحر» لإلياس خوري، من منظار معاصر، فتصوّر الشخصية الفلسطينية في ظل الاحتلال الإسرائيلي، من منظور إنسانوي، تساوي فيه بين الضحية (اليهودي) وضحية الضحية (الفلسطيني). 
وتطرحه رواية «رحلة القهر» لراغدة المصري، من منظور نضالي، فتصوّر مقاومة المرأة الفلسطينية همجية الاحتلال، من جهة، وذكورية المجتمع، من جهة ثانية.
ونرى أن بعض الروايات يطرح سؤال السلطة، وهو مطروح منذ قتل قابيل أخاه هابيل، حسب الأسطورة الدينية. 

بين المباشرة والمداورة
على أنّ طرحه في الرواية العربية يتراوح بين المباشرة والمداورة، ومن زوايا مختلفة؛ فرواية «في بلاد نون» لأحمد المديني تطرحه من زاوية علاقة السلطة بالمجتمع، وترصد ممارسات السلطة في مجتمع سكوني وآليّات الدفاع التي يلجأ إليها المجتمع.
وتطرحه رواية «خريف البلد» لمحمود الورواري، من الزاوية نفسها، فتتناول الصعود الفردي في مجتمع سلطوي، من جهة، والسقوط الجماعي في هذا المجتمع، من جهة ثانية. 
وتطرحه رواية «شارع سالم» لنزار آغري، من زاوية العلاقة بين القمع السلطوي ونتائجه الوخيمة على المجتمع، برصدها آليّات ممارسة السلطة في كردستان العراق والتحوّلات السلبية المترتّبة عليها. وإذا كانت الروايات المذكورة تطرق الموضوع مباشرةً، رغم ضيق هامش الحرية في العوالم المرجعية التي تُحيل إليها، فإنّ رواية «الحقيقة» لمحمد إقبال حرب تطرّقه مداورةً، على ألسنة الطيور، مستعيدةً بذلك تقنيات عبدالله بن المقفّع في «كليلة ودمنة»، في القرن الثاني الهجري، رغم اتّساع هامش الحريّة في العالم المرجعي الذي تُحيل إليه الرواية، مما يطرح الملاءمة بين طريقة المقاربة والعالم المرجعي الذي تقاربه الرواية على بساط البحث.

سؤال جديد
ثمّة روايات أخرى تطرح سؤال الربيع العربي، وهو سؤال جديد ما كان له أن يُطرَح لولا السؤال السابق المتعلّق بسوء استخدام السلطة والتعسّف في تطبيق القواعد القانونية التي ترعى ممارستها، هذا إن وُجِدَتْ، فمنذ عام 2010، اندلعت في غير مكان من العالم العربي حركات احتجاجية وثورات عُرفت باسم الربيع العربي، آتى بعضها ثماره، وأُفرغ البعض الآخر من مضمونه، وتحوّل إلى شتاء عاصف، بفعل تقاطع عوامل داخلية وخارجية.
وهو ما نراه في رواية «موسم الحوريّات» لجمال ناجي التي يتناول فيها تداعيات الربيع العربي والانحراف به عن مساره ليتحوّل إلى حروب أهلية في غير مكان من هذا العالم. ونرى في رواية «تاريخ العيون المطفأة» لنبيل سليمان التداعيات نفسها وتمظهراتها المختلفة المعروفة.
وثمّة سؤالٌ آخر تطرحه بعض الروايات، ويتمخّض عن السؤال السابق المتعلّق بفشل الربيع العربي، هو سؤال الإرهاب.  تطرحه رواية «القاتل الأشقر» التي يفكّك فيها طارق بكاري الإرهاب، بنسخته الداعشية، منطلقاتٍ وممارساتٍ ومآلات. وتطرحه رواية «البرج الأحمر» لهاشم شفيق التي يرصد فيها النتائج الكارثية، المتمثّلة في التهجير والهجرة، الناجمة عن الإرهاب، الناجم بدوره عن الاستبداد. والاستبداد والإرهاب والتهجير والهجرة والحرب الأهلية حلقات في سلسلة واحدة ما برحت تلقي بظلّها الثقيل على الأحداث، في غير مكانٍ من هذا العالم. 

 نتائج وخيمة
هذه الحلقة الأخيرة، أي الحرب الأهلية وما تتمخّض عنه من نتائج وخيمة على الإنسان والمكان والزمان، تشكّل بدورها سؤالًا مطروحًا في رواية «صيف العدو» لشهلا العجيلي التي تتناول فيها تداعيات الحرب السورية وانعكاساتها على المسارات والمصائر، وهو ما تطرحه رواية «فونوغراف» عن الحرب الأهلية، بنسختها اللبنانية، ورواية «الحفّار والمدينة» لأنطوان أبوزيد التي تتعدّى التداعيات المباشرة للحرب إلى غير المباشرة، المتعلّقة بتصفية آثارها، في مرحلة إعادة الإعمار التي شهدها لبنان، في التسعينيات من القرن الماضي. 
تطرح روايات أخرى سؤال التاريخ، والتاريخ هو جدُّ الحاضر، وبهذا المعنى، الحاضر حفيد التاريخ، إلى حدٍّ كبير. وبين الاثنين علاقة جدلية إشكالية، ولا يعني ذلك استواء طرفي العلاقة في التأثر والتأثير، فتأثير التاريخ في الحاضر هو من دون شك أكبر بكثير من تأثير الحاضر في التاريخ.
ولذلك، كثيرًا ما يلجأ الكاتب الروائي إلى التاريخ يستعين بأحداثه ويُسقطها على الحاضر، في محاولةٍ منه لاستنهاضه. هذا ما نراه في رواية «أليس والكاهن» لإسماعيل الأمين، الذي ينطلق فيها من عراقة التاريخ الفينيقي تجارةً وحضارةً ليوجّه رسالة إلى الأجيال الناشئة تعزّز انتماءها الوطني. 

دروس وعِبَر
قد يلجأ الكاتب إلى السيرة التاريخية لاستخلاص الدروس والعِبَر منها التي يفيد منها الحاضر، كما نرى في رواية «خسوف بدرالدين» لباسم خندقجي التي تقول، من خلال سيرة الصوفي بدرالدين محمود، اصطدام محاولات التغيير بسلطات الأمر الواقع ما يُجهض العملية برمّتها، ويرسل رسالة سلبية إلى المستقبل. بينما تنطوي سيرة الصوفي الآخر الحلاّج على رسالة إيجابية، في رواية «طيف الحلاّج» لمقبول العلوي، حين يتماهى الباحث الذي يدرس شخصية الحلاّج به، فيغفر لمن أساء إليه.
وإذا كان تأثير التاريخ في الحاضر، في الروايات الثلاث، إيجابيًّا، فإنّ مقاربة التاريخ مصدرًا للانقسامات والصراعات سيكون له تأثيره السلبي في الروايات ذات الصلة، بطبيعة الحال. 
في عالم مرجعيٍّ متعدّد يعاني الاستبداد والإرهاب والاحتلال والحروب الأهلية، ويكثر فيه المهمّشون والغرباء الذين يعيشون على هامش المدن، وفي قيعانها، لا بدَّ من طرح السؤال الاجتماعي بقوّة. وهو ما تفعله رواية «غرباء بيروت» لفرح الحاج دياب التي تروي حكايات غرباء بيروت المتحدّرين من أصول ريفية، ورواية «زند الحجر» لضحى المل التي ترصد التحوّلات الاجتماعية العكار- طرابلسية، في النصف الثاني من القرن العشرين. وهو ما يفعله محمود عثمان في رواية «أرواد» التي يتناول فيها حياة البحر من خلال حكاية بحّارٍ مغامر.
وقد يتّخذ السؤال الاجتماعي شكل وجعٍ إنساني، متعدّد المصادر، يتحكّم بمسارات الشخصيات والمصائر، كما نرى في رواية «قتلت أمي لأحيا» لميّ منسّى. وقد يتمخّض طرح السؤال الاجتماعي عن دروس مفيدة، كما نرى في رواية «جزء مؤلم من الحكاية» لأمير تاج السر التي تقول، في إطارٍ من الوقعية السحرية، بخطأ الوثوق بالمتآمر، وحتميّة قتل القاتل، ولو بعد حين. 

منحى إيجابي
على أنّ السؤال الاجتماعي قد يتّخذ منحًى إيجابيًّا، كما في رواية «أقدار» لموريس نجّار التي تحتفي بالصداقة كقيمة اجتماعية، وتفرّق بين من يصنعون أقدارهم بأنفسهم وبين مَن هُم صنائع الأقدار، فَتُعلي قيمتي العمل والمبادرة الاجتماعيّتين.
وغير بعيدٍ من السؤال الاجتماعي، يقيم سؤال المرأة الذي تطرحه بعض الروايات، في خضوعها لذكورية اجتماعية، تتعدّد تمظهراتها، لكنّها تؤدّي إلى نتيجة واحدة مفادها أن المرأة هي الضحية، وإن اختلف الجلاّدون. فالمرأة في «لا ماء يرويها» لنجاة عبدالصمد هي ضحيّة التفكير الذكوري والعادات والتقاليد المحافظة، وهي في «آخر النفق» للطيفة الحاج قديح ضحيَّة الاحتلال الإسرائيلي والذكورية المحليَّة، وهي في «الشيطان يحبّ أحيانًا» لزينب حفني ضحية الخيانة الزوجية، وهي في «أرض المؤامرات السعيدة» لوجدي الأهدل ضحيّة المجتمع المحلّي الذي يبيح زواج القاصرات، وهي في «مشاعر مهاجرة» لمنى الشرافي تيّم مريضة نفسيًّا وضحية الظروف الاجتماعية والأفكار الذكورية.

سؤال العلاقة
على الرّغم من أنّ الدّين يدخل في باب الممنوعات التي لا يجوز الاقتراب منها، فإنّ هاني نقشبندي، في روايته «الخطيب»، يطرح سؤال الدين، من زاوية تفكيك ممارسات بعض المتديّنين الذين ينحرفون بالشعائر الدينية عن الغايات التي وُضِعَت لها في الأصل، لأغراضٍ في أنفسهم، وبتواطؤ غير معلن من السلطات القائمة، ولعلّه يفعل ذلك انطلاقًا من حرصه على الدّين نفسه.
أمّا السؤال الأخير الذي تطرحه بعض الروايات، فهو سؤال العلاقة بين الشمال والجنوب، الذي طُرِحَ مرّاتٍ عديدة، في الرواية العربية، لا سيّما على أيدي الطيّب صالح وسهيل إدريس وتوفيق الحكيم وآخرين، غير أنّ الجديد في طرحه، هذه المرّة، في رواية «الناقوس والمئذنة» لنزار شقرون، هو أنّ الاصطدام بين الشمال والجنوب يتمّ على أرضٍ جنوبيّة، ويتسبّب في هزّات ارتدادية ترصدها الرواية، سواءٌ على مستوى الأفراد أو المؤسّسات.
وبعد، فإنّ الأسئلة المطروحة أعلاه ليست كلّ الأسئلة التي يحبل بها الواقع العربي، وتطرحها الرواية، بل هي بعض الأسئلة، طرحتها الروايات الثلاثون التي قرأت. وهذا البعض يشير إلى الكل، بشكلٍ أو بآخر، وممّا لا ريب فيه أنّ ثمّة أسئلة أخرى كثيرة تطرحها روايات أخرى لم تتسنّ لي قراءتها حتى الآن، فما دام أنّ الواقع ولّاد أسئلة لا بدّ للرواية أن تلعب دور القابلة التي تُخرجها إلى الحياة. غير أنّ الأهمّ من طرح الأسئلة أن يُقيَّض لها من يقرأها، ويُسهم في تقديم الأجوبة المناسبة عنها، إذا ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. وهل الحياة نفسها سوى سؤالٍ كبيرٍ لا جواب له؟ ■