الإبداع بين الفن والعلم واللون نتاج ضوئي
لم يكن المبدع المؤسس لمرحلة ما في الفن مجرّد رسّام يحمل الفرشاة ويتنقل بين المهرجانات فارغ المحتوى والفكر. هنا سأبدأ من حيث كتب كندنسكي، وهذا ليس وليد مصادفة، بل هو إجابة عن كل من لم يستوعب بعد أن المسار الفني للمبدع والباحث في الجماليات، سواء رسمًا أو كتابة أو عرضًا، لابد أن يكون نتاجه مبنيًّا على أسس بحثية وعلمية، وعلى مدارك تقوده إلى النور، كما هو الشأن بالنسبة إلى رجالات التصوف الذين نهلوا من كل العلوم، بما فيها علوم الدين، لكنّهم غيّروا مفاهيمها من النص الديني إلى الروحي بإدراك عميق الدلالات والمعاني، مخاطبين الآخر بالعقل والروح.
ما ذكرته أراه ينطبق على فناني الحداثة المعاصرين الجادين لا المتطفلين الذين ينحتون أسماءهم في ملتقيات، همّها الوحيد والأساسي جمع المال وتزكية أشباه الفنانين والطفيليين الذين أصبح عالمنا العربي يعجّ بهم، ويجدون حتى تغطية من وزارات الثقافة.
أعود إلى كندنسكي الذي يعزف باللون ويرسم لكي يجيب عن تساؤلات فنان مفكر ولد فيه.
فحينما يقول إن تجـريد الشيء يعني نزع السطحي عَـنه للوصول إلى العمق، وتطهير الشكل من القناع الخارجي، فإن هذه الكلمات ليست مجرد لغة فحسب، بل هو تحليل عميق ومسترسل لوعي الفنان حينذاك لمرحلة جديدة كان يـؤسس لها، لكن ليس عن فراغ.
والمتتبع لكندنسكي سيقف مشدوهًا أمام هذا الكمّ الهائل من الأعمال والكتابات التنظيرية والبحث في علم الجمال الذي يبقى هو المدخل الرئيس لكل عمل فنّي يسمى بالقاعدة الذهبية.
إن الكتابة عن الفن، وخصوصًا علم الجمال، تجعلنا نطرق أبوابًا كانت مغلقة، وتتخوف من الحديث عن مجال أصبح مرتعًا للدخلاء.
من جهتي، أدعو كل الفنانين الجادين إلى أن ينخرطوا في هذا النقاش المـؤسس، في زمن يتم فيه التحكم بكل المجالات، فحتى الفن الذي يبقى ساميًا، لم يسلم منها، بل أصبح هو الأداة والوسيلة ليس لخلق الجمال، بل لإفساد الذوق العام.
وهنا أتساءل: هل فعلًا تعيش فنوننا العربية حاليًا ما كانت تعيشه الفنون في مرحلة الكبار عند كندنسكي وبول كليه وبيكاسو وفانغوغ وبراك وجياكوميتي وليونازدو واللائحة طويلة؟ الجواب بالقطع: لا.
من هنا، يقودني الحديث عن الخطاب الروحي والجمالي في الفن، إلى الحديث حتمًا عن اللون وكيفية التعامل معه. فالتعامل مع اللون ليس بتلك السهولة التي قد يعتقدها البعض. إن أصعب مرحلة، هي تلك التي تكون فيها في حوار مع فضاء اللوحة وبساطها الأبيض، وهي تنتظر لغة اللون التي ستجد بها عملًا فنيًّا، أساسه اللون أولًا والشكل والفكرة ثانيًا.
في كل مرّة، وقبل كل عمل فني، يجتاحني نوع من الهدوء الذي أعرف أنه ستكون بعده عاصفة من الاحتقان الفكري والمعرفي والصراع، فالإبداع مخاض، والمشروع عندما يكون مبنيًّا على أسس وتفكير يكون أصعب.
كثيرًا ما أقوم بعمل فني، وكثيرًا ما أعود إليه، لأنه مع كل نهاية يتجسّد في ذلك الناقد الذي يبحث في أعماله عن الأخطاء لا عن المحاسن.
هل تؤدي الأعمال وظيفتها الفكرية والجمالية فعلًا، وهل فعلًا كل عمل من الأعمال يجسّد أفكاري وأحاسيسي أيضًا؟
لم أعتبر في يوم ما أن الفن هو للإمتاع، أو مجرّد معرض في رواق أو مشاركة في ملتقى من أجل الصور.
إن الفن إبداع له مرتكزات علمية ومعرفية، وهو ليس تجارة كما أصبح الآن ومهرجانات فاقدة للشرعية تمنح الشهادات لمن يدفع أكثر، مغيّبة أهل الاختصاص والفكر والعلم.
اللون علم ورسالة للجمال وتجسيد للضوء داخل إطار اللوحة أو في أي فضاء آخر. والإبداع هو مرحلة تتجسد في العمل الفني بإدراك مطلق وبتجسيد عفوي وبأحاسيس صادقة.
اللون حقيقة علمية
الإدراك اللامطلق واللاحسي في لغة الجمال يختلف تمامًا عما تراه العين المجردة، ويصبح لعلوم فيزياء اللون أهمية قصوى لا يختلف عليها لا العارف بمعانيها، ولا ذلك الذي يرى فقط بعين لا تتجاوز الرؤية فيها مفهوم اللون المبسط.
إن الفيزيائي لا ينظر إلى اللون كشكل من أشكال الجمال، بل هو لغة وأرقام ولوغاريتمات، يتداخل فيها العلمي بالمادي، وتتجاوز إطارها المعرفي.
إن اللون والضوء شيئان متلازمان، ومن دون الضوءتالذي يحلل لنا معلومة اللون وماهيته لا يمكننا أن ندرك اللون وطبيعته ولا حتى معرفة تشكيلاته. فاللون إذًا هو نتاج ضوئي خالص، وهو المعنى الدي تطرّقنا له في بداية حديثنا.
من هنا، فاللون فيزيائيًّا هو شكل من أشكال الضوء، ولعل إسحق نيوتن حين سلّط حزمة من الضوء على منشور زجاجي، فقام المنشور بتحليل حزمة الضوء إلى مكوناتها الأساسية، وهي ما يعرف بألوان قوس قزح، التي نراها ولا ندرك أنها نتاج ضوئي خالص بقوة أشعة الشمس، فتمتزج لتصير بذلك البهاء المطلق الذي تراه العين المجردة كألوان، لكنّ تحليلها يجعلها نتاجًا ضوئيًّا.
خلال دراستنا لمادة التعبير التشكيلي، كنا قد تعلّمنا أن أساس الألوان يعتمد على ثلاثة ألوان أساسية، هي الأحمر والأصفر والأزرق، مع أن اللونين الأبيض والأسود من الألوان المحايدة، وهو ما ذهبت إليه كل مدارس ومعاهد الفنون عبر العالم، لكن مع ظهور التكنولوجيا الحديثة، والتي توظّـف لغة الألوان في أجهزتها تؤكد أنه يوجد في الطبيعة أحد عشر لونًا أساسيًّا، إلا أنه وبمزج أيّ لون منها مع لون آخر، يمكن أن نصل إلى عدد لا نهائي من أطياف اللون، ويقال إن الكمبيوتر يميز بين 256 مليون نقطة ضوئية مختلفة، وأن العين البشرية تميّز أكثر من ذلك بكثير.
كما أن للألوان تأثيرًا في نفوسنا، وهنا تبيّن تلك العلاقة التي وضعها فينا الله جلّت قدرته بين ما هو جمالي، باعتباره نتاجًا لخلق، مع ما هو مخلوق.
إن للكون دلالات، ولكل دلالة لغة، ولكل لغة مقدار وعلم وتفسير يتجاوز لغة الحديث إلى ما هو أعمق وأدقّ، ولعل أهل العلم الذين يخوضون في فيزياء اللون انطلاقًا من آيات الله تعالى يعرفون جيدًا أن هذه الألوان أصلها ضوء، وأصل الضوء ظلام، وهو نقطة البدء.
تمعّنوا معي في لغة اللون كما وردَت الألوان في القرآن الكريمِ في مواضعَ عدة بصيغةِ المفرد والجمع، أما صيغةُ المُفرد (لون) فوَردت مرتين في آيةٍ واحدةٍ مِن سورة البقرة، في قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} (سورة البقرة: 69).
أما لفظة األوانب فوردت في سبعةِ مواضع، في 6 آياتٍ، منها قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ } (سورة الروم: 22)، ومنها أيضًا قوله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (سورة النحل: 13).
وإن المتأملَ في الألوانِ ودلالاتها في القرآنِ الكريم، يدرك أنه لا بد من علاقةٍ وتأثير لتلك الألوان على النُّفوسِ والأرواح، ولا بد من أسرارٍ وراءَ تلكَ اللَّفتات واللَّوحاتِ البديعة في القرآن الكريم، فقد قال علماء النَّفس إنّ تأثير الألوانِ فينا شديد، وإنَّ الألوان تؤثر في سعادتنا وكآبتنا، وفي أقدامنا وأجسامنا، وربما أشْعَرَنا ذلكَ اللَّون بالحرارة، أو بالبرودة، بل رُبَّما أثَّر اللون في شخصية الإنسان، ونظرتِه إلى الحياةِ، فلكل لون سرّ وتأثير.