الصّوت السوداني الأوّل جلال النضال الوطني وعنفوان النشيد

الصّوت السوداني الأوّل جلال النضال الوطني وعنفوان النشيد

الثورة ليست حلمًا ولا فكرة، بل هي كائن انفعالي له وجود حقيقي وتوارث جيني متناسل، ذات وجه واحد، تبدأ من نطفة إلى علَقَة، متغذيّة بالأحداث، فتكون مضغةً لتتخلّق رويدًا رويدًا حتى تكتمل وتخرُج للعلن، ومتى ما شبت واستعرت في النفوس سلكت مسالكها نحو غاياتها المرجوة، لا تبغي غير الظّفَر، وإن خبت جذوتها خلسة، فهي حتمًا لا تموت، وإنما تذكيها أصوات الجماهير والشعارات القوية الصادقة، لكونها الشرايين النابضة في أجزاء جسدها، والحالة السودانية في الثورات الثلاث مثالًا.

 

استمعت مصادفة للإذاعة السودانية، وهي تذيــــع بعــــد أكثـــر من ثلاثة عقود نشيدًا ظلّ مغيبًا قسرًا بعنوان «قصة ثورة»، الذي عرفته أجيال سابقة في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي بـ «الملحمة» للشاعر هاشم صديق، غنّاه الفنان محمد الأمين، ومجموعة من المطربين:
وفي ليلة كنا حشود بتّصارع
عهد الظلم الشبَّ حواجز شبَّ موانع
جانا هتاف من عند الشارع
قسمًا قسمًا لن ننهار
طريق الثورة هدى الأحرار
والشارع ثار

هذا النشيد الذي استمعت إليه عقب انهيار الحكم السابق في 11 أبريل الماضي، منحني الفرصة للكتابة بعيدًا عن السياسة، عن الأدب الثوري، وأناشيد ثورية باذخة برهنت على تفرُّد المزاج السوداني في المقام الأول، وأنها تجارب نضالية تاريخية، وصوت حقيقي لجموع الشعب الثائر، ما زال صداه يتردد في الآفاق، مثل نشيد الشاعر الفيتوري (1936 - 2015م)، الذي غنّاه المطرب محمد وردي إثر اندلاع ثورة 21 أكتوبر 1964م.
أصبحَ الصبحُ
فلا السجنُ ولا السجّانُ باقِ    

العامل الجيني
أفرزت الثورات التي شهدها الواقع السوداني خلال الـ 64 سنة تقريبًا في شؤون الثقافة والأدب ما يتصل بالأجيال على اختلاف أطيافهم، وكشفت أن لكل جيل وسائله التعبيرية من أجل الحريّة، وأن لكل مرحلة ظروفها، وتجلياتها في الأدب والتراث الثقافي، والتجارب الواسعة.
بالطبع ليس مصادفة أن ترتبط المتلازمتان (الحريّة والثقافة) ارتباطًا وثيقًا، فالقارئ لتاريخ السودان قديمة وحديثة يدرك طبيعة العلاقة، لاسيما أن الإحساس بالحرية - كما ذكر لنا الأديب عبدالوهاب مالك - «يعززه العامل الجيني، وفقًا لطبيعة أهل السودان الذين يطيلون الصبر، إلا أن هبّتهم تصبح غير مقدور على احتوائها حينما يصطفون لمواجهة أي نظام لا يرون فيه طموحاتهم وآمالهم ذات المواصفات العالية والمحصنة بالأخلاق والشفافية والعدل والمساواة، يتمظهر هذا بجلاء في نشيد الشاعر محجوب شريف (1948 - 2014م) «يا شعبًا لهبك ثوريتك»:
عمّق إحساسك بحريتك
يبقى ملامح في ذُريّتك

وهذه حالة من حالات توحّد الذهن الجمعي حول موقف يرون فيه حتمية الخلاص من منظومة لم تعد جديرةً بتحريك مقود الدولة، وفي هذه الحالة عادة ما تخترق الثقافة بمشمولاتها الحواجز، وتضع نفسها موضع المحرّك للمناهضة بالفعل الثقافي، لتكون الثورة درسًا وأدبًا في كيفية الانصياع إلى حقوق الأمة. 
بعد إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955م، ورفع العلم السوداني في أول يناير 1956م، قبل أن ترسخ مفاهيم الدولة المستقلة، جيء بالفريق إبراهيم عبود القائد العام للقوات المسلحة في 17 نوفمبر 1958م، ليجلس على سدة الحكم بترحيب مستتر من بعض التيارات السياسية - كما تشير الوقائع - ليدخل السودان للمرة الأولي في تاريخه نفق الحكم العسكري، وغنى المطرب محمد وردي (1932 - 2012م) من كلماته نشيد «17 نوفمبر»:
افرح وطني هلّل وكبّر في يوم الحرية
في سبعة عشر بعثت ثورة... ثورتنا السلميّة
جيشنا الباسل هبَ وعلّى راية الجمهورية

وأعرب زمرة المستنيرين والمثقفين عن استنكارهم للواقع، وما يجري من كبت وتضييق على الحريات، وهم يرون أن الاستبداد المحلي أجل خطراً عما سواه، فكانوا أوّل من استهل الدعوة إلى التغيير والثورة، وكان الشعر الأداة التعبيرية الأبرز والأكثر مضاء، فظهرت أصوات شعرية كثيرة، منهم محمد عثمان «كجراي» القائل في 4 ديسمبر 1958م «إلى القلوب البيضاء»:
ما زال في بلادنا يعبث أخطبوط
يغزل من أحقاده خيوط
ليخنق الزنابق

مثّل الأدب خطوة أولى في طريق طويل بمشوار الثورة، فاصطخبت الحياة السودانية وازدهرت بالتيارات السياسية والفكرية والثقافية بالعكوف الجاد على العمل، والانكباب المستمر على التجويد لإذكاء شعلة النضال على يقين ساقه الشاعر محيي الدين فارس في «لهيب المعركة».
لابد من يوم تخرُّ به الطواغيت المسنَّة
لابد من يومٍ تضجّ به الرياح المرجحنَّة
فلكلّ مذبحة بجنح الليل مذبحة مرنَّة
تلغو المدافع للمدافع والأسنّة للأسنَّة
إن الطريق مخضبٌ بدمِ الصباحات المعنَّة 

 الصوت الأول
كانت الطرق شائكة نحو الحريّة والديمقراطية، وممهدة في الوقت نفسه، يقف على نواصيها جملة الذين نافحوا من أجل الاستقلال، مع زمرة المهنيين والطلاب والسائرين في درب الكفاح.
وازداد الوعي السياسي تفتّحًا، وتنامى النشاط الإبداعي ككل، واكبه خروج التظاهرات في الأرجاء كافة، فالتحم في الأرواح جلال النضال الوطني بعنفوان النشيد، جسّده ببراعة طلاب جامعة الخرطوم، ومنهم الشاعر فضل الله محمد بأناشيد «أكتوبر 21»، و«المبادئ» و«الانطلاقة»، التي صدح بها لاحقًا المطرب محمد الأمين:
 المجد للآلاف تهدر في الشوارع كالسيول
يدكّ زاحفها قلاعَ الكبت والظّلم الطويل
المجد للثوار المجد للإصرار 
المجد للشهداء المجد للشرفاء 
في الموت الكريم

تفجّرت الأوضاع وخرجت عن دائرة السيطرة في أمسية 21 أكتوبر 1964م بالندوة التي أقامها طلاب الجامعة، مما أدى إلى مقتل أحد طلابها، وهو أحمد القرشي طه، كأول طالب سوداني يُصرع برصاص حكومة بلاده، ليكون الحدث غذاءً جيّدًا للثورة، وسبيلًا إلى بعث أناشيد جديدة غنّت باسمه، مثل «عرس الدم» للشاعر حسين بازرعة، غناء عثمان حسين و«في طريق الجامعة» لعبدالمجيد حاج الأمين، غناء عبدالكريم الكابلي:
فإذا الشعب رجال ورجال
وهتاف ملأ الأفق دويًّا
كان للركب حداء
كان بعثًا قرشيًّا

تواصل الحراك الشعبي متصاعدًا على كل الجبهات، ورفعت قوى الثورة شعار «الإضراب العام والعصيان المدني»، و«إلى القصر حتى النصر»، ولم يفلح الرئيس في سعيه لتهدئة الجماهير التي انفجرت غاضبة وأقامت المتاريس، للحيلولة دون مرور الآليات العسكرية، خلّدها الشاعر مبارك حسن خليفة بـ «المتاريس»، الذي غنّاه الأمين:
المتاريس التي شيدتها
في ليالي الثورة 
هاتيك الجموع 
وبنتها من قلوب وضلوع 
وسقتها من دماء ودموع 

أجبر المد الثوري وقوة صوت الجماهير الرئيس على الاستقالة في 15 نوفمبر 1964م، لينتهي المخاض بتكوين حكومة مدنية انتقالية حتى إجراء الانتخابات. 
ومن ناحية شعورية أصبح المبدع ضميرًا متصلًا بالحياة والشارع وكفاحه، وتدفقت أنهار الشعر تُبشّر بغد واعد تغنّى وردي «أكتوبر الأخضر» لشاعر «الأكتوبريات» الأبرز محمد المكي إبراهيم:
باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغنّي 
الحقول اشتعلت قمحًا ووعدًا وتمنّي 
والكنوز انفتحت في باطن الأرض تنادي 

تراث أدبي
وبرغم أن كثيرًا من الأشعار الأكتوبرية، ظهرت بعد انطلاق الثورة أغنيات في الفضاء السوداني على أوقات متفرقة، إلا أنها أحدثت قفزة نوعية في الأناشيد والشّعر الثوري كنموذج جديد من الوعي، ومثّلت تراثًا إبداعيًّا خالدًا، مع تجارب واسعة في النضال الوطني، وفي رأيي هما في الغالب الشيئان الخالدان فيها إن لم يكونا الوحيدين. حدّثني شاعر الثورة فضل الله محمد بأن «من النتائج الإيجابية لثورة أكتوبر أنها أنعشت الغناء الوطني، بعد أن كان في مرحلة بيات في أثناء فترة حكم عبود، ولعب جيل أكتوبر، وبالذات في جامعة الخرطوم، دورًا كبيرًا جدًا وثرًّا في الجانب الإبداعي؛ سواء في الشعر أو الموسيقى، أو الغناء أو في المسرح».
ويأتي هذا الثراء الكبير - كما ذكر لي أستاذ القانون بالجامعات السودانية د. مصطفى الجزولي - «لأن الجيل الذي عايش الفترة وجد أرضية تعليمية خصبة، كما وجد إرثًا ودعامة كبيرة من روّاد الفكر والمثقفين الذين حققوا الاستقلال، وبفضل التكوين الفكري والثقافي لهؤلاء، كان طبيعيًّا أن تتغذى الثورة بإبداع وأدب رفيع لأدباء استطاعوا أن يعبّروا بقدراتهم العالية ولغتهم الرفيعة عمّا يجيش بخواطرهم ومشاعرهم للجماهير». نجده في أشعار كثيرة، منها «أكتوبر الأخضر مرحى» للشاعر فارس، غناه زيدان إبراهيم و«مجد أكتوبر» للشاعر الهادي آدم، وغنّاه المطرب إبراهيم الكاشف:
هلّل الشعبُ لقد ولّى الطغاة
فابتسم يا نيل عودي يا حياة 

كما برهن التاريخ على مدى ارتباط الكفاح الأدبي بنظيره السياسي والاجتماعي، يقول المخرج التلفزيوني طارق بركة: «مع أنها ثورة كفاح شعبية، إلا أن قادتها من النخب خصوصًا جماعة اليسار، وكانوا هم الأعلى صوتًا وسلطة، ومعروف أنهم عاشقون للحريّة، ومولعون بالثقافة والأدب، وهم الأكثر إقبالًا عليهما، وهذا أدى إلى بروز تيّار شعري جديد، وحرف جديد، ومضامين جديدة بلغة عربية فصيحة سليمة أوحتها روح الثورة، لذا كان منتوجها الأدبي راقيًا وخالدًا»، نلمسه في إبداع كثير من الشعراء والمطربين، وما يجعله شاملًا ومتنوعًا، وذاكرة حافظة لرصيد جموع الشعب السوداني في الأدب الثوري أنه لم يكن مقصورًا على مبدعي المركز وحسب.
لذا ليس غريبًا أن يكتبوا أناشيد رصينة بالفصحى أو العامية (المثقفة)، مثلما كتب محجوب سراج للمطرب صلاح مصطفى «في الحادي والعشرين من شهر أكتوبر»، وكتب الشاعران صلاح أحمد إبراهيم والطاهر إبراهيم لوردي «ثوّار أكتوبر»، و«أيام أكتوبر».
وتكمن الأهمية التاريخية لثورة أكتوبر في كونها أول صوت احتجاجي سوداني شَكّل ثورة شعبية سلمية في إفريقيا والعالم العربي، بل هي من الأوائل في دول العالم الثالث إن لم تكن الأولى، التي انتصرت بقوة الصوت وسلاح (الإضراب العام والعصيان المدني)، وكذلك تعبيرها الكامل لتطلعات وأحلام الذين خرجوا للانقضاض على أول حُكم عسكري دكتاتوري في السودان، ومن سماتها العامة أن الأدب خطّ خطًا أيديولوجيًّا متماهيًا مع الواقعية الاشتراكية، ومع التغيّر الذي طرأ على شكل القصيدة العربية «قصيدة التفعيلة أو الحرّة»، وظهور عقول مبدعة جديدة في شتى مجالات الفنون نثروا إبداعهم في قوالب جديدة، مشكّلين جبهة واسعة من الفن الثوري، ليكون سندًا لظهر الثورة، وذا خاصيّة توحي للأجيال أن «أكتوبر» حققت للجماهير كل ما تريد.

الطفل الجريح
لما تولّت الأحزاب المنتخبة في أبريل 1965م حكم السودان للمرة الثانية لم يحسنوا حماية المسار الديمقراطي، وكان طبيعيًّا أن يرى الكثيرون خيبة أملهم ماثلة، وقد ذهبت ثورتهم هباء، خصوصا التقدميين والطليعيين، وعبّر مبدعوهم عن الواقع بصورة ناصعة، و«أكتوبر الحزين» الذي غناه وردي للشاعر علي عبدالقيوم، مثالًا:

أكتوبر الحزين
 يا طفلنا الذي جرحه العدا
ها نحن نصطفيك موعدا ومولدا
 في ذلك الجو المشحون بالتوترات بأوساط الحكومة الحزبية، استولى العقيد - آنذاك - جعفر محمد نميري في 25 مايو 1969 على السلطة بتوجّهات يساريّة، وظن اليساريون أنهم لحقوا ما فاتهم في «أكتوبر»، (وتمامًا أصبح الصبح)، وصدح وردي بأناشيد محجوب شريف:
لم تكن حلمًا ولكن كنت للشعبِ انتظاراً
وتمامًا أصبح الصبح على الشّعب تمامًا

استطالت سنوات مايو، وجرت مياه كثيرة عكرة، تحت الجسر، أفضت إلى تغيير مسار الحكم من اليسار إلى اليمين.

الصوت الثاني
لما حلّ عقد الثمانينيات بلغت الأوضاع حدًّا من المعاناة دفع الناس للخروج في تظاهرات في وسط العاصمة الخرطوم، تصاعدت وتيرتها بخروج تلامذة المدارس، وطلاب جامعة أم درمان الإسلامية في 26 مارس 1985م (رجب 1405هـ) وانضم إليهم كثير من الفئات، يهتفون بأصوات مدويّة بشعارات عديدة، ضمت فئات كثيرة، حتى تم في 4 أبريل ليتم تنفيذ الإضراب العام والعصيان المدني، بقيادة التجمّع النقابي، ومن ثمّ انطلقت مدن عدة في انتفاضة عارمة بهتافات داوية «شعب واحد... جيـــش واحــد»، مما حدا بالفريق عبدالرحمن سوار الذهب لإعلان استيلاء الجيش على السلطة في 6 أبريل 1985 حقنًا للدماء، واستجابة لرغبة الشعب، لنقلها له عبر فترة انتقالية محددة. وصدح المطرب أبوعركي البخيت بقصيدة لهاشم صديق:
الله أكبر... الله أكبر... أذّن الأذان
بنصليك يا صبح الخلاص حاضر... 
ونفتح دفتر الأحزان من الأول وللآخر 

 كما غنّى الكابلي بعربية فصحى أقرب للوجدان الشعبي من كلماته وألحانه: «لماذا» و«ليس في الأمر عجب».

أصوات حبيسة
 لم تكن انتفاضة أبريل 1985م، أو كما يطلق عليها ثورة «جمادى/ رجب» وليدة راهن، وإنما كانت وليدًا شرعيًّا متطاولًا على انفجارات وأصوات داخلية حبيسة، لذا لم يتوانَ صنّاع الإبداع في التعبير عن مشاعرهم مجاهرةً، خصوصًا الشعراء والمغنين، بيد أن أغلبهم استحضر روح أكتوبر، وهذا نستشفّه في نصوص كثيرة، مع ملاحظة قلّة المطروح في ساحة الأدب والغناء الثوري.
ويحدثني الشاعر محيي الدين الفاتح قائلًا: «انتفاضة أبريل لم تُحدِث تعبيرًا خاصًا بها، أي لا توجد في دفتر الشعر السوداني أبريليات، مثلما كانت هناك أكتوبريات، وحتى القصائد التي كُتِبت من وحيها مثل قصائد «عرس السودان»، التي يغنّيها وردي عندما تطرق الآذان يشعر المستمع بروح أكتوبر كامنة فيها، كأنما يريد الفيتوري أن يعوّضنا عن «أصبح الصبح».
وتأمل المطرب صلاح مصطفى يغني «جددناك يا أكتوبر في أبريل» أو الهادي آدم يقول:
فإذا الأُلــى حملــوا لــواء أكتـــوبر
عادوا الغـــداة ففجّـــروا أبريـلا
وهنا لا يفوتنا أن نشير إلى ظاهرة تراجُع اللغة في أدب انتفاضة أبريل، إذ جاءت غالبية الأناشيد على قلّتها بالعامية، مثل أشعار شريف التي غنّاها وردي، أو تلك التي غناها الأمين «نغني... ونحن في أسرك/ وترجف وأنت في قصرك»، ويٌعزى هذا لكونها لم تكن ثورة نخبة مثلما كانت ثورة أكتوبر. وحتى القصائد التي كُتِبت بالعامية المثقّفة، برغم جودتها، لم تؤصل لأبريل كثورة قائمة بذاتها. 

أصوات الخلاص
من جانب آخر، بعد انتهاء الفترة الانتقالية وتولّي الأحزاب مسيرة الحكم في السودان للمرة الثالثة في انتخابات يونيو 1986م، ساد المشهد كثير من الصراعات، دلّت دالته في تشكيل حكومات ائتلافية عدة خلال (1100 يوم تقريبًا)، وكأنما التاريخ يعيد نفسه بعد عشرين عامًا، فلم يأخذوا بالتجربتين السابقتين، وتضاعفت معاناة الناس، وبرزت أصوات تجهر مناديةً بالخلاص، في طليعتها الشاعر حميد، بـ «الشوارع لا تخون»:
يا أيها الآتون من صدف الجسارة
بالسحائب والحريق
ضيّقوا ليتّسع الطريق
هذي الشوارع لا تخون
هي الشوارع علّمتنا أن نفيق
أن نبرّ البرتقالة أو نموت فداء الرحيق

ثم زادت الشقّة بين الجماهير والحكومة المدنية، مما مهد الطريق لوأد الحكم الديمقراطي للمرة الثالثة.
هذه التداعيات من دواعي التعرف إلى الكفاح الثوري لشعب السودان، وهي تكشف عن تعاطيه مع أنظمة الحكــم، وتفرّده بإحداث ثورتين شعبيتيـــن رائدتيــــن خــلال ثلاثيـــــن عــــامًا في القـــرن الماضــــي، وأخرى ثالثــة تعدّ من أعظم وأرقــــى الثورات في هذه الألفية، ربما يُكـــتَب تاريخــــهـــا في المستــقــبل القريب بإذن الله ■