في وصف قصر المعتصم بألمرية

 في وصف قصر المعتصم بألمرية

يُعتبر أبو يحيى محمد بن معن المُلقب بالمعتصم (433 - 484هـ) من أعظم ملوك بني صُمادح أصحاب ألمرية بالأندلس، فقد بلغت ألمرية في عهده مبلغًا عظيمًا من الرخاء والازدهار الاقتصادي، الذي انعكس على نشاط الحركة العمرانية الواسعة التي شهدتها ألمرية في أيامه، وكان أوّل أمر أولاه المعتصم عنايته هو بناء قصره الكبير بقصبة ألمرية المعروف بالصمادحية.
ويُفسر أستاذنا د. كمال عناني سبب البناء بقوله «وكان المعتصم يهدف من بناء هذا القصر إلى تحصين عاصمته تحصينًا محكمًا ضد أي عدوان، وإقامة مدينة محصّنة أو قصبة داخل حدود العاصمة، لحمايتها في حالة قيام ثورات أو فتن؛ وعمد المعتصم إلى تزويد قصبته بكل حاجياته، حيث تضم بجوار القصور المعسكرات والإصطبلات والمساكن الخاصة، والملحقات كافة.

 

من هنا، فإن قصر قصبة ألمرية يُعد من أضخم وأوسع القصور الإسلامية في الأندلس، وهو يفوق في مساحته كل القصور المعاصرة له من عصر الطوائف، إذ يشغل رقعة من الأرض مساحتها 6100 متر مربع، ومحيطها 2012 مترًا، وتُغطي المرتفع من قصبة المدينة، حيث يتصل سوره شمالًا بسور ربض المصلى، مُخترقًا الطريق المعروف الآن بطريق لاهويا، وكان يصعد في سيرهم حتى يطل على جبل «ليهم» أو «لاهم»، الذي ذكره الإدريسي صاحب «نُزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، والذي يُسميه أهل ألمرية الآن دل كريستوبال. 

الجُغرافي العُذري يصف القصر
وقد زودنا الجغرافي العُذري بتفاصيل مهمة عن قصر المعتصم بألمرية، فقال واصفًا إياه «وله في بناء قصبة ألمرية آثار عظيمة جميلة في مَنعتها، وسموّ سورها، وإتقان بناء قصورها، فمنها القصر الكبير المُتطلع من جوفيه إلى جبل ليهم، وفي قِبليه بُستان عظيم جدًا، فيه من جميع الثمار وغريبها ما لا يقدرُ واصفٌ على أن يصفه مع طول مساحته قرب عرض القصبة، ويليه في قبلته مجلس عظيم أيضًا على أبوابٍ مفتّحة ودُففٍ (الدُّفف جمع دفَّة وهي المصراع الخارجي الباب)، على حكاية دفف المشرق، بل أغرب في النّقش والإتقان، مفروش ذلك المجلس بالرخام سطحه وأزره، ويليه في قبلته مجلسٌ عظيم مقرنس (يقصد العُذري مُقرنص، وهي الزخرفة المنتشرة التي تُشبه الرواسب الكلسية التي تتدلى من أسقف الكهوف، وعلى غرار خلايا النحل، وغرضها هنا للزخرفة) بالرفوف المزوّقة المنقوشة المنزول فيها الذهب الطيب، مفروش بالرخام الأبيض، وقد أُزِرَ بالرخام المنقوش، المُنزل فيه بغرائب الإنزال، وفي ذلك النقش تاريخ بناه (يقصد النص التأسيسي للقصر).
وفي نفس اتجاه هذه الدار وعلى امتداد المجلس السابق مجلس آخر يُطلّ على الصحن في جهته القبلية أبواب نُصبت عليها شراجب تُطل على جميع مدينة ألمرية، كما تُطل على بحرها ومرساها، وإلى الشرق من هذا المجلس الأخير دار الحكم.
ويُستدل من خلال توزيع مجالس هذا القصر ودُورهِ أنَّ المجلسين المشار إليهما خصصهما المعتصم لاستقبالاته الرسمية، ويدعم هذا الاستدلال ما زوّدنا به العُذري من أوصاف رائعة لهما، حيث تتفق ومكانتهما كمقر لتلك الاستقبالات، كما أنَّ سيكو دي لوثينا انتهى في دراسته لهذين المجلسين إلى أنهما كانا مُخصصين للاستقبالات الرسمية.
أمَّا عن الدارين الملحقتين بهذين المجلسين؛ فالأولى فيما يبدو كانت مقرًا لإقامة المعتصم وحاشيته وجهازه الإداري، ويُرجح ذلك وصف العُذري لها بأنها دار كبيرة أتقنت بأنواع التذهيب وغرائبه الذي تحار فيه الأبصار، كما أشار دي لوثينا في وصفه لها بأنها دار خاصة، أمَّا الدار الثانية فمن المرجّح أنها كانت مخصصة لاجتماع المعتصم مع وزرائه، فهي المكان الذي تُدار فيه شؤون الدولة، ولذا ذكرها العُذري بقوله «وبنى في شرقها دار الحكم».

... والمؤرخ بن سعيد المغربي يصفه
وقد أشاد ابن سعيد بقصور الصُّمَادِحيَّة فقال: «وأعظم مبانيها (يقصد مباني ألمرية) الصُّمَادِحيَّة التي بناها المعتصم بن صمادح. وفي رواية للمقَّري التلمساني يتحدث فيها عن عدل المعتصم وتورّعه، ويُلقي علينا بعض الضوء عن هذا القصر الكبير وبُستانه العظيم الاتساع، فيقول «وكانت الجداول تخترق هذا البستان مُنسابةً على حد قول بن خاقان، وأخبرني الوزير أبو خالد بن بشتيغر أنه حضر مجلس المعتصم بالصُّمَادِحيَّة في يوم، وفيه أعيان الوزراء، ونُبهاء الشعراء، فقعد على موضع يتداخل الماء فيه، ويتلّوى في نواحيه، والمعتصم مُنشرح النفس، مُجتمع الأنس...».
وفي قول المقَّري إشارة إلى أنَّ ألمرية لم تكن تقتصر على هذا البستان العظيم، بل كان لها مُتفرجات عدة كان يقصدها أهل ألمرية للتمتّع بمناظرها، والتلطف بنسيم هوائها العليل، مثل بِركة الصُفر، وعين النَّطِية، ونهرها من أحسن الأنهار.

وصف المؤرخ الإسباني مورينو 
يصف المؤرخ الإسباني جوميث مورينو قصر قصبة ألمرية بقوله «ويبدو قصر هذه القصبة القائم في المرتفع الثاني على شكل شبكة من جدران سميكة، مُشيدة ببلاط شديد الصلابة، وقد اكتشف جزء منها، ويُغطي بعض أجزائها السفلى طلاء من اللون الأحمر المائل إلى الصفرة، وثمة جدار آخر يتراءى فيه اصطفاف الكتل الضخمة بخطوط محفورة في كسوته، وطائفة أخرى من الجدران مُشيّدة بالآجر والأحجار تتألف بينها دروب تمتد بين غرف مربّعة مع بعض الدرج، غير أنَّ كل ذلك يُحيط به الغموض ما دام لم يُستكمل كشف القصبة كلها؛ إذ اقتصر الكشف الدقيق على الطرف الشمالي للنطاق كله، حيث يظهر جسم بناء أشبه ما يكون بشُرفة تُطل على طريق لاهويا، ويتألف من طابقين وعقود ضخمة في الواجهة، احتفظ أحد هذه العقود بصورته على شكل حدوة الفرس، وهذه العقود كانت تُتوج قاعات، ربما كان يُغطيها سوق في كل من الطابقين، وقد بقيت في الجزء الأمامي قاعة أخرى حُفِظ منها طابقها الأسفل، وهو أشبه بسرداب دون باب ظاهر، ويتقدّمها ما يُشبه الرواق.
وعلى يمين ذلك اكتُشف حمّام مؤلف من خمس غرف في صفٍ واحد، باثنتين منهما حواجز جانبية من البناء، وبالغرفة الأخيرة أنابيب التسخين، والمداخن المعروفة الممتدة في الجدران، ويحتفظ الحمّام ببقايا قبوات أسطوانية وعقود من الآجر، وقد عُثر بين أطلال القصر على أجزاء من أحواض من الرخام، مزيّنة بزخارف بارزة، كما عُثر على بقايا نقوش كوفية، وزخارف جصية تُشبه زخارف عصر بني الأحمر ملوك غرناطة.   
  
الأندلسي يصف قصر المعتصم
     أطلق ابن الحداد الأندلسي، وهو شاعر المعتصم، قريحته الشعرية، واصفًا قصر المعتصم بن صمادح في ديوانه بأوصافٍ أبدع فيها، وكأن المُتلقي عند سماعه هذه الأبيات يرى القصر ماثلًا أمام عينيه، فيقول ابن الحداد:
فالحُسن أجمع ما يُريك عِيانُهُ
لا ما أرته سوالف وعُيُون
والروضُ ما اشتملت عليه شَمُوله
لا ما حوته أباطِحُ وحُزُونُ
قد علَّلَ الأزهارَ زاهِرُ حُسنه
لا الورد مُلتفِتُ ولا النِّسرين
والمجلِسان النيّران تآلفا
هذا لهذا في البهاء قرينُ
كالمقبتين أو اليدين تأيّدا
والحُسن يعضد أمره التّحسين
وكأن راسم خطّه إقليدس
فمواثل الأشكال فيه فنون
من دائرٍ ومكعّبٍ ومعيّنٍ
ومُحجّنٍ تقويسُه التحجينُ
شمخت فلا تُحنى سواريها لها
كلّا، ولا تُرمى بها فتبينُ
فنالك التضعيف والتثليث والتــ
ــــــــــربيع والتسديس والتثمين
لو أبصرته الفرس قدسّ نُورهُ
كِسرى وأخبت نارها شيرين

والشاعر يريد أن يُوضّح أن قصر المعتصم روض ترتاح النفس فيه وتُسرّ، وأنَّ مجلسي القصر مُتشابهان في البهاء مُتمِّمان لبعضهما البعض، وأنَّ هذين المجلسين يتآلفان كما تتآلف عينا الإنسان أو كما تتعاضد 
يداه، وأنَّ هذا البناء شامخ وطيد تحمله الأعمدة الضخمة، فلا تنحني تحت ثقله، ولا تتهدم. 
وفي البيت الأخير يُريد الشاعر أن يقول إنَّ قصر المعتصم أكثر عظمة من قصر شيرين، وإنه لو كان على أيام كسرى وزوجته شيرين، لقدسَّ كسرى نوره، ولأخبت شيرين نور قصرها ■

 

أسوار قصبة ألمرية

 

أبراج قصبة ألمرية

 

أطلال حمام قصر المعتصم بن صمادح, وتظهر العقود