يوسف إدريس مَلِكُ القصّة القصيرة المتوّج

يوسف إدريس مَلِكُ القصّة القصيرة المتوّج

يُعد الكاتب القصصي والروائي والمسرحي، والناقد الثقافي والاجتماعي المصري، يوسف إدريس، (19 مايو 1927 – 1 أغسطس 1991)، من أكبر كتّاب القصة القصيرة العرب وملكها المتوج على عرشها (تشيكوف مصر)، وهو من أهم كتّاب الرواية والمسرحية في لغة الضاد، منذ تطوّر هذه الأشكال الإبداعية في الأدب العربي الحديث منتصف القرن العشرين.

 

بالرغم من أن إدريس احتذى مدة طويلة من حياته الإبداعية النماذج (القوالب) الإبداعية الرئيسة التي تطورت في الأدب الغربي خلال القرن الماضي، ونقلها الجيلان السابقان عليه، فإنه كان من روّاد تيار تأصيل الأشكال الإبداعية الأدبية، وقالب الكتابة المسرحية، وإعادة توظيف الأشكال والقوالب، وحتى الأساليب الموجودة في التراث الشعبي المصري، وفي التراث العربي المكتوب إلى حد ما.
وإن كان إدريس قد مال أكثر إلى توظيف وتطوير القوالب والأشكال والأساليب التي اكتشفها جيله، وجيل الستينيات التالي له بقدر أكبر في التراث الشعبي المصري الأدبي والفني، فإن تأثيره الفكري والنفسي لم يقلّ عن تأثيره الفني على المناخ الثقافي المصري والعربي منذ منتصف الخمسينيات تقريبًا حتى وفاته.
كان هو الصوت الصارخ في البرية، المنذر أحيانًا بالرعود والصواعق، والمبشر أحيانًا أخرى بالرعود والصواعق، أو المفجّر لها في كثير من الأحيان تفجيرًا ثقافيًّا في مختلف جوانب حياتنا.
ولد إدريس في إحدى قرى محافظة الشرقية لأسرة من متوسطي المزارعين تضم كثيرين من المتعلمين الأزهريين والأفندية، وتعلّم في المدارس الحكومية، وتخرّج في كلية الطب بجامعة القاهرة عام 1951.
وفي أثناء دراسته الجامعية منذ عام 1945، عايش ظهور التيارات الفكرية والسياسية الوطنية والديمقراطية واليسارية التي ازدهرت في مراحل الكفاح من أجل الاستقلال الوطني والحكم الدستوري منذ الثلاثينيات، وتضاعف الاهتمام في تلك التيارات بالعدل الاجتماعي الذي تأثرت قضيته طويلًا بالفكر الماركسي التقليدي، بعد أن قوي تأثيره بسبب دور الاتحاد السوفييتي السابق في الحرب العالمية الثانية، وانتصاراته العسكرية على النازية وتحالفه مع القوى الديمقراطية.
واقترب إدريس من التنظيمات الماركسية، وارتبط بأحدها، ودخل المعتقل مرات عدة، لكنه هجر التنظيم بعد ثورة يوليو 1952، ودان مناخ تلك التنظيمات وخواءها الفكري والوجداني في روايته «البيضاء»، التي تنبأ فيها بسقوط الشيوعية، وقد كتبها في المعتقل عام 1954 ونشرها مسلسلة في صحيفة الجمهورية عام 1959.

أوّل قصة
كان إدريس قد هجر التنظيم اليساري مع ازدهار الحركة الوطنية المصرية وتجدّد عزمها بعد تأمين «دولة يوليو» شركة قناة السويس، ثم قيادتها المقاومة الوطنية للعدوان الثلاثي عام 1956 وما أعقب العدوان من محاولات ضم المنطقة إلى تحالفات الحرب الباردة.
ظهرت أول قصة لإدريس عام 1950 تحت عنوان «أنشودة الغرباء»، وكان الأدب القصصي المصري آنذاك يتردد بين نزعة وجدانية انفعالية تزعّمها محمود تيمور، ونزعة طبيعية تميل إلى التطبيق الحرفي لأفكار مدرسة علم النفس التحليلي، وعلى رأسها محمود البدوي، لكن إدريس أعاد اكتشاف الميزات الرئيسة لما عند توفيق الحكيم في «يوميات نائب في الأرياف» من قدرة على تحويل حقائق الحياة وجزئياتها الفعلية إلى صورة واقعية ودالّة على تفاعل خاص بين إنسان فرد أو متفرد لا شبيه له، وبين قوى اجتماعية لا تتكون من تجمّع الأفراد، وإنما تنشأ من تفاعل عناصر وعوامل أكبر من هذا التجمع وجاثمة فوقه.
وحينما نشر إدريس أول مجموعة قصصية له «أرخص ليالي» عام 1954، وضع البداية الفعلية للواقعية المصرية دون تمهيد نظري، وفي توجّه مختلف لما كانت تنقله حركة «النقد الأيديولوجي» أو النقد «الواقعي الاشتراكي».

موهبة فريدة
وعندما أصدر مجموعته التالية «العسكري الأسود» عام 1955، كانت موهبة فريدة قد تفجّرت، موهبة تجمع بين سمات دستويفسكي وسمات كافكا معًا، موهبة تملك قدرة الجمع بين تحليل الواقع الاجتماعي العام في أثناء تصويره المكثف والكشف عن كل من قوانينه المنطقية واللامنطقية في وقت واحد، بين «عادية» الإنساني فيه ووحشية اللاإنساني وبين جموح الإنسان المتفرد خارجه وخضوعه الاضطراري داخله، كانت هذه واقعية تنفي «واقعية النمط» التقليدية، وتؤكد واقعَيه الاستثنائي وغير المعترف به كشيء مألوف. 
ويرى الناقد الراحل محمود أمين العالم أن القصة القصيرة في كتابات إدريس هي لحظة إنسانية مكثّفة مركزة. قد تكون لحظة عابرة، لكنها لا تكون أبدًا لحظة هامشية طفيلية هشّة، فهي لحظة دالّة مضيئة تفرش دلالتها الضوئية على مساحة أكبر منها.
وتوالت مجموعاته ورواياته لترسّخ هذا الكشف الإبداعي، ومن رواياته «قصة حب، والحرام، والعيب» إلى أن أصدر مجموعته التاريخية «لغة الآي آي»، لكي يحقق من خلالها انقلابًا لفت الأنظار في مسيرته الإبداعية؛ ففيها صار الاستثنائي هو الوحيد الممكن، والتقليدي غير منطقي وشبه مستحيل، ولا مبرر عقليًّا لأيٍّ من وجهي الواقع: الاستثنائي والتقليدي. 
غير أن اللغة أو النسيج اللغوي ظلّ كما هو أقرب إلى رفع «الدارجة» المصرية «القاهرية» إلى مستوى الفصحى، دون التزام بقواعد أي من اللهجتين؛ فاللغة في الإبداع الأدبي جزء من إبداع الكاتب نفسه.

ثنائيات متداخلة
أما قصة «الندّاهة» فتصور المدينة بالغول بالنسبة إلى القرويين، وهي طاحونة أحلامهم، وصوّر لنا إدريس في «النداهة» بعضًا من هذه النمطية، وهي حقيقية، لكنه تمرّد عندما هربت بطلة الرواية من زوجها العائد إلى القرية بعد انهيار أحلامه الذي جاء بعد التعدي على زوجته، ففي سكة الحديد قررت البطلة القروية العودة إلى المدينة، رغم كل ما حدث، وهذا الموقف التقدمي للراوي يعبّر عن مدنية الحياة وتطورها، وأن المدينة هي حاضنة التقدم.
وأهم ما يميز عالم إدريس القصصي هو سيادة الثنائيات المتجادلة المتداخلة المتشابكة، وهي ثنائيات تشمل كل شيء من تفاصيل وقائع الحياة الإنسانية وقضاياها الأساسية.
ففي مسرحية «الفرافير» هناك ثنائية العلاقة بين المجتمعي والكوني، بل بين الذاتي والكوني التي نجدها في قصته القصيرة «أكبر الكبائر». 
وهناك ثنائية العلاقة بين النداء الداخلي والقانون الوضعي الخارجي، كما في قصته الصغيرة «فوق حدود العقل»، أو بين النداء الداخلي والتقاليد السائدة مثل قصة «النداهة»، أو بين الظاهر الموحد والباطن المتعدد المختلف، مثل قصة «العصفور والسلك»، أو بين العام المسيطر والخاص الحميم، مثل قصة «الخدعة»، أو بين روحية الفن وفقر الواقع المادي، كما في قصة «في الليل»، و«مارش الغروب»، أو بين الواقع والمثال، مثل «جمهورية فرحات»، أو بين الأسوار الطبقية والجنسية والعاطفية كالسجون والعادات والقيم الجامدة، وبين مواجهتها بالحلم أو التمرد أو الاستسلام، كما في قصة «مسحوق الهمس»، أو قصة «دستورك يا سيدة» وغيرها.

عبقرية مدهشة
 كذلك العلاقة بين القاضي الغني والخادمة الفقيرة في قصة «قاع المدينة»، أو مثل نسبية الحقيقة في وجدان كل فرد، وإطلاقيتها الأخلاقية في وجدان الجماعة، كما في مسرحية «المهزلة الأرضية»، وهناك بشكل عام ثنائية العلاقة بين الرجل والمرأة التي تتخذ في أدب إدريس تجليّات مختلفة.
وحينما نشر إدريس أولى مسرحياته (مسرحيتان قصيرتان: ملك القطن وجمهورية فرحات)، لم يفعل أكثر من تحويل بناء إحدى قصصه إلى شكل حواري عام 1956، وكذلك جاءت مسرحيته الطويلة الأولى «اللحظة الحرجة» عام 1958، ورغم أن العامل الوجداني لعب دورًا في هذه المسرحية لا يقل عن العامل الفكري الخالص، وأن الدافع الفردي لا يقل قوة عن الدافع الاجتماعي؛ فإن مسرحيته الطويلة التالية «الفرافير» الصادرة عام 1963 تظل واحدة من ظواهر عبقرية إدريس المدهشة، التي تتضمن رؤية ميتافيزيقية عن أبدية منظومة التابع والمتبوع، من الكون إلى المجتمع إلى الأسرة... إلخ، تتجسد من خلال نسيج يجمع بين خيال جموح وواقعية مبتذلة تتجول بين الأجرام السماوية ومقابر القاهرة التاريخية وحواريها الخلفية.
وبرغم أن «الفرافير» تدعو إلى الحريّة الفردية المطلقة، فإنها تحرّض على طلب المساواة والحرص على الحياة مهما اعتورها من نقص. فالمسرحية تدور حول رفض الفرفور لفرفوريته، أي لعلاقة التبعية التسلطية، وهي تحرّض للبحث عن حل: «شوفوا لنا حل يا ناس... لازم فيه حل».
أخرج مسرحية الفرافير الفنان كرم مطاوع عام 1964 بعد عودته من بعثته في إيطاليا، وقام بالبطولة توفيق الدقن وسهير البابلي وعبدالسلام محمد، الذي حصل على جائزة نجم العام عن دوره في المسرحية، وحصل على لقب الفرفور، وحققت المسرحية نجاحًا جماهيريًّا كبيرًا، وأثارت موجة من الجدل حول أسلوب الإخراج الجديد وقتها، لكن حدث خلاف بين المخرج مطاوع والمؤلف إدريس أدى إلى توقّف عرض المسرحية، برغم نجاحها الجماهيري.

حساسية فائقة
كان إدريس قد توصّل إلى كشفه الفكري (رؤيته) التي تستند إلى حساسية فائقة وإدراك نافذ، ذاتي للغاية، لمظاهر الوجود الإنساني وحقائقه، لكنها لا تستند إلا إلى معرفة معلوماتية محدودة، وتستغني بنفاذ البصيرة عن تراكم المعلومات، ولا تخشى من ترديد معلومات يطرحها المبدع على أنها حقائق ثابتة.
وتأتي مسرحيته التالية «الجنس الثالث» الصادرة عام 1965 ترجمة مسرحية لقصة سابقة له بعنوان «هي»، لكنها أقل قامة من سابقتها بكثير، برغم طموحها الميتافيزيقي إلى تكوين رؤية غير طوباوية عن عالم يتعثّر في مسيرته إلى العدل والجمال والنظام، ويبدو أن الموهبة قد استهلكت كثيرًا من طاقتها، فتأتي مسرحيتا «المخططين، والبهلوان» أقل قيمة، رغم قوة البناء ورجاحة النقد الاجتماعي والسياسي في كل منهما. 
لكن ثمة ما يوحي أن إدريس صار يخاف من «رؤاه» ويخشى تجسيدها بكل عنفوانها. ومع ذلك فقد انشغل - منذ انتظامه في الكتابة لصحيفة الأهرام كأحد كتّابها الكبار في الثمانينيات والتسعينيات - بسلسلة من القضايا الاجتماعية والثقافية خاضها كمعارك ساخنة، ضد التطرف الديني والجمود الفكري، وضد الإهمال والفساد الإداري.
وقد منحه الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1991. وأدلى إدريس بحديث لمجلة الكرمل (التي كان يرأس تحريرها الشاعر الراحل محمود درويش حتى وفاته)، في العدد 13 (يوليو 1984) تحدّث عن رأيه في أدب نجيب محفوظ، قائلًا إنه لا يحب أدب محفوظ، لكنّه يحب شخصه، وهو يستحق جائزة نوبل لهذا السبب.
وقد وصف نفسه بأنه صاحب الطريقة الإدريسية في الكتابة، ولا يقرأ ما يكتبه فيقول: (لا أحد يستطيع أن يكتب هكذا أبدًا، وفي العالم كله، ولا تناقض بين التواضع والغرور هنا، الاثنان متكاملان، ولولا إحساسي بأن أحدًا غيري لا يستطيع كتابة هذا لراجعته مئة بالمئة، هذا صحيح، ولذلك فأنا مقتنع بما أكتب، ولا أغار من أحد ولا أحسد أحدًا).
أيًّا ما كان الأمر، فسوف تتجدد دائمًا قراءة يوسف إدريس، بتجدّد الحياة من حولنا، وسيظل إبداعه قيمة ملهمة لجسارة التجديد في ثقافتنا العربية ■