أوراق أدبية: من أمل دنقل إلى جونار إكيلوف جابر عصفور

أوراق أدبية: من أمل دنقل إلى جونار إكيلوف

مرت عشر سنوات على وفاة الشاعر أمل دنقل، وما زالت أصداء قصائده تلح على الذاكرة العربية. وتقدم هذه الدراسة المقارنة رؤية جديدة لهذا الشاعر من خلال تشابك التجربة الإنسانية مع شاعر عالمي آخر رغم اختلاف البلدين.

احتفلنا في شهر مايو الماضي بمرور عشر سنوات على وفاة الشاعر القومي أمل دنقل الذي فقدته الحياة الأدبية العربية في الصباح الباكر للثالث والعشرين من مايو 1983. اللافت لانتباهي أنني كلما تداعت على خاطري ذكريات أمل دنقل الصديق تداعت على ذاكرتي قصائد الشاعر السويدي جونار إكيلوف أغلب الظن أن السبب في ذلك يرجع إلى أن كلا الشاعرين قد مات بسبب مرض السرطان اللعين. وأنني قد تعرفت إلى شعر إكيلوف في فترة زمنية من فترات الغربة والقلق الملهوف على أمل الذي كان يعالج حينئذ في المعهد القومي للأورام في مصر. وقد توفي إكيلوف قبل أمل دنقل بسبعة عشر عاما على وجه التحديد. ولم يكن أحدهما يعرف الآخر بالقطع، فهما من جيلين مختلفين، وثقافة مغايرة، واتجاه شعري متعارض إلى حد لافت. ومع ذلك فقد كان أمل دنقل- بشكل غير مباشر- هو سبب تعرفي إلى شعر إكيلوف وإقبالي عليه.

المعاناة في الشعر والمرض

كان ذلك عام 1981 بعد أن غادرت القاهرة مضطرا للعمل أستاذا زائرا في جامعة استكهولم في السويد، وكان علي أن أفترق عن أمل دنقل الذي كان السرطان قد بدأ ينهش جسده ويخوض فيه معركته الأخيرة المنتصرة. وكانت صداقتي لأمل دنقل معروفة لأصدقائي القليلين في السويد، ومنهم كاتبة مغرمة بالدراسات العربية فاجأتني يوماً بواحدة من سلسلة كتب "البينجوين" المعروفة عن الشعراء الأوربيين المحدثين. وقدمتها إلى قائلة: هذه مختارات لشاعر سويدي متميز اسمه جونار إكيلوف، وهو يشبه صديقك المصري في المعاناة من المرض نفسه، وهو متأثر مثل صديقك بالتراث العربي، ويستخدم كثيراً من الأقنعة التراثية في شعره.

تلقيت المختارات التي ترجمها الكاتب السويدي ليف سيبري مع الشاعر الإنجليزي و. هـ. أودن وكتب مقدمتها جوران بنتز بالسون ونشرت لأول مرة عام 1971 في سلسلة الشعراء الأوربيين المحدثين التي يتولى الإشراف عليها أ. الفاريز ضمن سلاسل "البنيجوين" الشهيرة. وقدمتني المقدمة التي كتبها المترجمان إلى جونار إكيلوف الشاعر الذي ولد عام 1907 في مدينة استوكهولم لأب وأم لمن الأثرياء، الأم كانت من صغار النبلاء والأب كان سمسارا ناجحا في سوق الأوراق المالية، سرعان ما فقد حياته بسبب مرض الزهري الذي انتهى به إلى الجنون. وقد أفضت حياة الوحدة التي عاشها الطفل جونار إكيلوف بعد فقد والده إلى الأحلام التي تعوضه عن جهامة الواقع، وإلى القراءة التي تستبدل بعالم الكآبة عوالم من المسرة، ومع القراءة المتصاعدة والتعليم الجامعي تعرف إكيلوف إلى التراث العربي واكتشف ديوان ترجمان الأشواق في المكتبة الملكية في مدينة استوكهولم، وأصبح الديوان كتابه المفضل لسنوات طوال، وتعلم منه أول ما تعلم المعنى المقصود من وراء الرمزية والسريالية. ومن هذه البداية الشعرية انطلق إكيلوف إلى الدراسة في مدرسة اللغات الشرقية في مدينة لندن، حيث قضى فترة عاد بعدها إلى السويد ليدرس- إلى جانب العربية- اللغة الفارسية في جامعة أوبسالا، وهناك دهمه المرض بعد أن كان قد أخذ يحتل مكانة متميزة بوصفه واحدا من شعراء الطليعة المحدثة في الشعر السويدي. وقد بدأت الأنظار تتجه إليه منذ مطالع الأربعينيات بعد أن نشر "أغنية العبّارة" عام 1941. وتوالت أعماله الشعرية التي كان من أهمها ديوانه عن "الأمير أمجيون" الذي صدر عام 1965، و "حكاية فاطمة" الذي صدر عام 1966، و"دليل العالم السفلي" الذي صدر عام 1967، وهو ديوانه الأخير الذي أصدره قبل وفاته بعام واحد، فقد توفي إكيلوف عام 1968. وقد أصدر أصدقاؤه ومحبوه بعد موته مجموعات ومختارات من شعره مترجم إلى الإنجليزية، وغيرها، ومنها المختارات التي تضمنت بعض قصائد ديوانين من أهم دواوينه على الإطلاق، وهما ديوان "الأمير أمجيون" 1965 وديوان "حكاية فاطمة" 1966.

الشعر واستلهام الماضي

ويقول المترجمان في مقدمة المختارات الإنجليزية: إن إكيلوف يشبه الشاعر اليوناني الإسكندراني كفافيس، فقصائده تدور في الماضي وتستلهم أحداثه ومشاهده. صحيح أن كلا من إكيلوف وكفافيس يختلف عن الآخر في الحساسية الشعرية، فكفافيس ساخر متباعد عن موضوعه، وإكيلوف عاطفي ومنغمس في موضوعاته، ولكن كليهما، لا يختار الماضي بوصفه فرارا، بل بوصفه وسيلة لإضاءة الحاضر ونقده. يضاف إلى ذلك أن إكيلوف الذي كان مشغولا ببيزنطة مثل كفافيس لم يتصورها تصورا مثاليا بل تصورا واقعيا لعالم ينحدر. هذه الصفة التراثية لا تصل إكيلوف بكفسافيس فقط، بل وصلته- في ذهني - بأمل دنقل، فمن يقرأ شعر أمل يرى للماضي مكانة أساسية في هذا الشعر، ويرى الأقنعة التراثية تلعب دور كبيرا في البناء. ولا أظن أن واحدا من قراء أمل يستطيع أن ينسى قصائده عن "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" أو "من مذكرات المتنبي" أو "الحداد يليق. بقطر الندى" أو " العهد الآتي" أو "من أوراق أبي نواس" أو "أقوال جديدة عن حرب البسوس" بما تنطوي عليه من قصائد "لا تصالح" و "مراثي اليمامة" أضف إلى ذلك "بكائية لصقر قريش" و "الخيول" التي صاغها الصياغة الأخيرة في السنة الأخيرة من حياته، وقبل أن يكتب قصيدته الأخيرة " الجنوبي" مباشرة.

كان الماضي عند أمل دنقل هو المرآة التي ينعكس عليها الحاضر ليجتلي الحاضر مجلاه فيه، ويتعرف ما هو عليه بالقياس إلى أصله. ولم تكن هذه العودة تنطوي على تقديس مطلق للماضي، أو تصوير له في صورة الفردوس المفقود، فقد كان أمل دنقل- مثل جونار إكيلوف- لا ينظر إلى الماضي إلا بوصفه وسيلة لإضاءة الحاضر ونقده.

الخيول وإيجابية الماضي

قد نجد عند أمل إلحاحا يوهمنا أحيانا بتفضيل الماضي على الحاضر، خصوصا في بعض قصائد النهاية، من مثل قصيدة "الخيول" التي تلفت الانتباه بالتضاد الذي تنطوي عليه، حيث يتقابل الماضي والحاضر، ويتحول الماضي إلى عنصر موجب بالقياس إلى الحاضر. ولكن لو تمعنا في المشهد الكلي لشعر أمل دنقل ودققنا في سياقاته الكلية، لوجدنا أن الماضي صورة أخرى من الحاضر بكل مشكلاته في آخر الأمر، فالماضي مرآة للحاضر، ووسيلة رمزية للإشارة إلى ما يقع فيه من انحدار. كان ذلك المغزى الأساسي لقصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" و "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" و "حديث خاص مع أبي موسى الأشعري" و"مذكرات المتنبي" و "من أوراق أبي نواس" على السواء، فالماضي في هذه القصائد وغيرها مجموعة من الأحداث الدالة والشخصيات النموذجية التي تنطوي على دلالة رمزية تؤكد الأبعاد السالبة للحاضر وتعكسها كما تعكس المرآة ما يقع على صفحتها. الواقع أن الحديث عن المرآة- في هذا السياق- يقودنا إلى نقطة أساسية، يختلف بها شعر جونار إكيلوف عن شعر أمل دنقل كل الاختلاف في الدلالة، ويتشابه معه رغم ذلك في استغلاله الوسائل الفنية، فالشاعر السويدي يتكئ على التراث العربي القديم مثل أمل دنقل، ويصوغ منه أقنعة لافتة، لعل أهمها قناع "فاطمة" المنسوج بمهارة من التراث الصوفي بوجه خاص. يضاف إلى ذلك أن الشاعر كان يرى في الشعر الصوفي عامة، سواء المكتوب باللغة العربية أو الفارسية أو التركية، مصدرا ثريا وينبوعا متدفقا للإبداع الرمزي والسريالي.

المرآة والتراث الصوفي

وقد تعرف إكيلوف في هذا التراث الصوفي على رمز المرآة الذي لعب عند الصوفية أكثر من دور، فالمرآة رمز لانقسام الوعي على نفسه عندما يتحول الوعي إلى ذات ناظرة وذات منظور إليها على السواء، وهي رمز للتطلع الداخلي إلى النفس، ورمز للعوالم التي يمكن أن تكتشفها الأنا في عزلتها عن شغب الحواس وغوصها عميقا في أقاليم الروح وتحولاتها. هذا المستوى هو الذي يباعد إكيلوف عن أمل دنقل ويربطه به في الوقت نفسه. ذلك لأن أمل دنقل- مثل إكيلوف- يهتم - برمزية المرآة، يذكرها في شعره، ويجعل منها موازيا رمزيا لانقسام الأنا المحدثة في تضادها مع العالم حولها، وتضادها مع نفسها في الوقت نفسه. وأحسب أن قراء أمل يذكرون الإصحاح الثاني من قصيدته "سرحـان لا يتسلم مفاتيح القدس" خصوصا حين نقرأ:

أتجزأ في المرآة
يصفعني وجهي المتخفي تحت قناع النفط

ولكن رمزية المرآة في شعر إكيلوف لا تنطوي على هذه الإشارة الواقعية الحادة في شعر أمل دنقل، إنها رمزية تنقلنا من عالم الواقع الخشن، حيث تناقضات المدينة التي تثقل قصيدة أمل دنقل، إلى عالم ما فوق الواقع حيث نغادر حيثيات الحس المألوفة، وندلف إلى أعماق الوعي الصوفي، حيث العوالم الذاتية، والغوص في قرارة اللا وعي، والإبحار في أقاليم الروح ما بين ملكوت الغياب وفناء الجسد.

إن هذه الأبعاد الصوفية التي تباعد بين شعر جونار إكيلوف وشعر أمل دنقل هي التي تجعلنا نفهم المغزى الروحي الذي يومئ إليه هذا المقطع من شعره، حين يقول في قصيدة بعنوان "بادة":

أأستطيع
أن أصف السمو
سأختار الأزرق
ورقشتين من ذهب
نجمة على الرأس
نجمة على القدم
وتحت القدم صورة مرآة
قرارها نجمة

وهي نفسها الأبعاد التي تصل المرآة التي تنطوي على معنى السمو (أو الذروة أو "الشهود") بالمرآة المقابلة التي تطالعنا في الأسطر الأولى من قصيدة "فاطمة" حيث نقرأ:

في المرآة الساكنة رأيت مجلى
نفسي وروحي

وهي نفسها الأبعاد التي تصل المرآتين السابقتين بالمرآة الأخيرة التي تتضوأ بها قصيدة "العاشق" حيث نقرأ:

أعرف، بعد كل شيء، أن المرآة هناك
وأن ثمة كائنا مختلفا ينظر من المرآة
يوما ما ستدير عينيك إليه
وعندما تحول عينيك عنه، أتلاشى، أنا، بدوري.
أنت مجلى حزنك، مجلى رغبتك
مرآة ذاتك والصورة في المرآة.

الهجرة إلى أقاليم الروح

إن هذه الدلالات الغنية التي تكتسيها رمزية المرآة في التراث الصوفي، في النهاية، هي التي فتنت جونار إكيلوف وشدته إلى شعر التصوف العربي، خصوصا شعر محيي الدين بن عربي، وهي التي جعلته يفتتح ديوانه "عن الأمير أمجيون" باقتباس شعري من "ترجمان الأشواق" يقول فيه ابن عربي:

شعرنا هذا بلا قافية
إنما قصدي منه حرف ها
غرضي لفظة ها من أجلها
لست أهوى البيع إلا ها وها

ولكن إذا كان في عوالم التصوف وفي الهجرة إلى داخل أقاليم للروح ما يميز شعر جونار إكيلوف عما يمكن أن نراه في شعر أمل من بعض التجارب الخاصة التي تجسدها قصيدة من مثل "الهجرة إلى الداخل"، فإن في شعر الشاعرين ما يؤكد إيمانهما معا بأهمية الكلمة الشعرية، وقدرتهما على إصلاح العالم وإعادة بنائه في آن. إن هذا الإيمان هو الذي دفع كلا الشاعرين إلى الكتابة، وهما على يقين من أن الكتابة انتصار على المرض وانتصار على الموت على السواء. ومن هذا المنظور أجد نفسي، كلما فكرت في غياب أمل دنقل صديقي الذي فقدته، والذي حدثته طويلا في خلواتنا عن جونار إكيلوف، أسترجع أبيات الشاعر السويدي التي افتتح بها ديوان "حكاية فاطمة" وأرى فيها رثاء لصديقي الشاعر العربي المعاصر أمل دنقل، أعني الأبيات التي تقول:

في الخريف أو الربيع
هل ثم فارق يهم؟
في الشباب أو الكهولة
هل ثم فارق مهم؟
أنت تغيب على كل حال
في صورة الكل
أنت تفني، أنت فان
الآن، أو في اللحظة السالفة
أو منذ ألف من الأعوام الماضية
ولكن غيابك
يبقى.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أمل دنقل





جونار إكيلوف





كفافيس