البحث عن الحقيقة الشعرية عباس كيارستمي أنموذجًا *

البحث عن الحقيقة الشعرية عباس كيارستمي أنموذجًا *

لا شك في أن للفيلم والشعر تقاطعات جمّة تجعل منهما ومن التفكير الجمالي أيضًا وسائل للبحث عمّا يسمّى بالحقيقة الشعرية، التي ترتبط أساسًا بالوجود باعتباره تمظهرًا أسمى لتحقق الفن والإنسان وبحثه المضني عن حقائق أخرى. 
غير أن هناك تحديًا حقيقيًّا يتعلق بماهية الشعرية وقد اندمجت بخطاب مغاير، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالخطاب الفيلمي باعتباره منطوقًا بصريًّا بامتياز.

 

 

ارتبطت التجربة الفيلمية /الشعرية في مجال الإبداع الفيلمي بالمغايرة والتجريبية لسينمائيين أمثال كوكتو، وبونويل، وتاركوفسكي، وبازوليني.
وحسب شوكلوفسكي، فإن التجربة الشعرية تعطي الأولوية للشكل على المضمون، ويؤكد مردفًا أن كل فيلم خالٍ من الحبكة هو فيلم شعري. وبالتالي نجد أنفسنا أمام خطابين؛ خطاب سردي وآخر شعري».
ويُستعمل مصطلح «شعري»، عند بازوليني، بالمعنى «الشكلاني» مع كونه مرادفًا للحلم. إذا كانت الطبيعة النثرية التقليدية للسينما قد منعت «شعريتها» من التطور، فلأنه تم إهمال كل ما كان فيها من لاعقلانية، وحلم، وبدائية وتوحُّش. 
السينما لغة حرة تتكون من صور - علامات (لغة الذاكرة والحلم) على مستويين: مستوى الشخصية والتشخيص، ومستوى المؤلف والعبارة: إذ تتميز السينما الشعرية بإنتاج أفلام ذات طبيعة مزدوجة، فالفيلم الذي نراه ونتلقاه عادة هو ذاتية حرّة غير مباشرة وأحيانًا غير منتظمة وتقريبية.
ذاتية تأتي من كون المؤلف يستخدم «الحالة الذهنية المهيمنة في الفيلم»، وهي حالة شخصية، تشخيص مستمر يسمح له بحريّة أسلوبية كبرى، غريبة ومستفزة.
خلف هذا الفيلم يجري فيلم آخر – الذي صنعه المؤلف حتى من دون ذريعة التشخيص البصري مع البطل؛ فيلم تعبيري أو تعبيراني، كامل التمام والحرية». 

أسلوب للتحرر
لقد عرّف بونويل السينما بكونها أداة الشعر، لأنها أسلوب للتحرر، كما أنها خرق للواقع، وهي عبور للعجائبي ولعالم اللاوعي، وهي أيضًا كل خروج عن القيود النمطية التي يفرضها المجتمع. 
وبالتالي يمكن أن نقول إن بونويل قابل بين الشعر والواقع وكلّ ما هو واقعي. 
أما بازوليني فقد تحدّث عن سينما الشعر، مستدلاً عن ذلك بأن التجربة الفيلمية هي تجربة ذات بُعد لعبي، لما تتضمنه من مكوّن لاعقلاني، كما يمكننا إضافة بُعدين آخرين، هما البُعد الأسطوري والبعد الطفولي لطبيعة السينما.  
يعتبر ميشيل فوكو مثلاً (1926 - 1984) أن هناك أشكالًا متعددة من الحقيقة، كما أن هناك أكثر من طريقة للتعبير عنها. والحقيقة حسب الفلسفة ليست هي كل ما نملك أداة البرهان عليها أو الإمساك بها بالملموس في مجتمعاتنا.
لم تكن الحقيقة بالنسبة إلى سقراط ولدى الإغريق مجرد كلمات وتعابير، بل كانت عبارة عن تجربة أو تحوّل في التجارب التي نخوضها في اليومي والحياة.
كما لامس هايدغر أيضًا الحقيقة الشعرية من خلال الأعمال الفنية شعرًا أو موسيقى أو فنًّا تشكيليًّا، لأنها تخاطب فينا تلك المشاعر التي تشكّل نواة الإنسان في حالاته الوجودية والوجدانية، مثل الفرح واليأس والتعاطف والامتعاض، بل ترقى لما هو أكبر من ذلك، لتعانق أسئلة العدم، والموت، والسكينة الروحية.
غير أن السؤال الشعري في الفيلم لا يتجلى بالقوة كما ينأى عن القبض بحكم طبيعته الفلسفية والهاربة باستمرار، وهو ما عبّر عنه جيل دولوز من خلال ما أسماه بالصور الفيلمية التي تصبح تمثيلًا مباشرًا للزمن، وتعويضًا عن السرد باعتباره شكلًا للمعرفة وبحثًا مضنيًا عن محاولة القبض على جوهر الأشياء، وهو ما أسماه بازوليني «الهوس بالتأطير»، وفي هاته العبارة تناصّ لمقولة لكيارستمي حول ارتباط العين بكل ما يوجد فقط داخل إطار.  

أسلوب كيارستمي البصري/ الفيلمي 
يتميز أسلوب كيارستمي البصري في أخذ المشاهد؛ سواء في أفلامه أو صوره الفوتوغرافية باستخدام اللقطات الواسعة والبانورامية، كما هي الحال في العديد من المشاهد الختامية لأفلامه عن الحياة، ولا شيء أكثر، ومن خلال أشجار الزيتون أيضًا، حيث يتم استبعاد الجمهور بشكل قصدي عن الشخصيات لدعوته إلى التفكير في مصيرها وهي تواجه العالم. 
تتقاطع مشاهد فيلم طعم الكرز مع بقية اللقطات من هذا النوع، بما فيها تلك اللقطات البعيدة العلوية لانتحار شخصية Baddi حول التلال، وعادة ما يكون ذلك في محادثة مع أحد الركاب.
تقف تقنيات الابتعاد الجسدي كطرف مقابل للحوار،  الذي يبقى دائمًا في الخلفية. كما تتعايش المساحات الخاصة والعامة عبر تأطير المناظر الطبيعية بشكل متكرر، وهو ما يسمح بتأطير مزدوج من داخل إطارات أخرى، عادة الأبواب والنوافذ، وبالتالي فإن دمج المسافات البعيدة والممتدة في الأفق مع حميمية الشخصيات يعتبران وسيلة لتوليد التشويق في أكثر اللحظات التي تُبرز بشكل ما هشاشة الإنسان عمومًا، أو من خلال فئات عمرية مقصاة بشكل ما كالأطفال والنساء.
يبرع كيارستمي في نسج العلاقات والمسافات بين البرّاني والجوّاني، بين العام والحميمي، بين الصور والصوت، بين التفاصيل الدقيقة والمشاهد العامة، كما هو موجود في المشاهد الافتتاحية من فيلم «سوف تحملنا الريح». 
ومنذ البداية يصوغ كيارستمي علاقة جدلية بين الصورة والصوت، حيث تنتقل الكاميرا من اللقطات الطويلة لسيارة لاند روفر وهي تشق طريقها عبر مسارات الجبال إلى تلك المقرّبة من بطل الفيلم.
في الوقت نفسه، يخلق المخرج امتدادًا سمعيًّا يمتد إلى ما هو أبعد من أن يتمكن المشاهد من رؤيته في أي لحظة، ولو حتى عندما تظل الكاميرا على مسافة كبيرة من الموضوع على الشاشة. 
ينشئ كيارستمي مسافات عدة خارج المجال البصري عن طريق تجزئة مقطوعاته الصوتية، لتشمل أصواتًا أخرى، مثل غناء الطيور ونباح الكلاب والأجهزة الإلكترونية، مثل الهواتف المحمولة وأجهزة الراديو التي تنطلق من بعيد، حيث يعمل على توسيع المجال الصوتي في أفلامه، ليتشعب بذلك حقل الدلالات المرتبطة بمحيط الشخصيات وبكل صوت على حدة في ارتباطه بذلك. 

التشكيل البصري عند كيارستمي 
إن التشكيل الفسيفسائي للصورة لدى المخرج الإيراني عباس كيارستمي في تشظيه وخروجه عن المألوف من خلال خلفيّة بانورامية، أو بها فنية التوازي بين الكثل، حيث غالبًا ما يكون فيها اللعب بالأساس على مناظر طبيعية ليس بأسلوب الطبيعة الميتة في معناه الضيق، كتصوير بعض الفواكه أو الأدوات المنزلية، ولكن في تحويل الطبيعة إلى بؤر مشهدية، لكونها تعدّ تحديًا واضحًا للعين على فك التشفير البصري، ليس باعتباره خرافيًّا أو أسطوريًّا، لكنه تحدّ يجعل المشهد ذا حمولة جمالية تنبض بشاعرية تسحر ولا تستهلك.
وبالتالي يظل أفق التأويل لكُنْهِها الشعري لا مجال فيه للمصادفة، حيث يتميز ذلك اللعب بالغرابة وبالمتعة اللامنتهية في بساطته المينيمالية، أسوة بفلسفة الهايكو في اقتناص أدق اللحظات، وهي تتشكل أمام بصيرة الناظر في برهة من الزمن. هو أصلًا بحث لامتناهٍ عن حقيقة شعرية تتمظهر في مختلف أشكال تجليات العالم البشري والحيواني والمجالي.
من هنا يظل عباس مثل عين لا تنضب باحثة بشكل الفضول الطفولي، وهو لازمة موضوعاتية في جلّ أفلامه، عن أساليب وتعبيرات فنية وجمالية، لذلك تراه يتنقل بين الـ «ديزاين» والفوتوغرافي، والتشكيل والسينما، وكأنه يجدد أدوات بحثه عن مكنونات الوجد والوجدان من خلال لحظة زمنية عابرة.
يسعى المخرج دومًا إلى التوحد والحلول بموضوعه على طريقة المتصوفة، متجاوزًا المادي ليصبح لاماديًا، والبصري ليصبح غير مرئي، حيث شخصياته دائمة البحث عن شيء أو معنى ما.

التكثيف الدلالي للصور 
بقدر ما يمعن المخرج في بحثه عن حقيقته هو كإنسان من منظور روحاني، مسقطًا انشغالاته الفكرية والجمالية على الخارج وموضوعات التصوير، بقدر ما تتحول المشاهد المصورة ذاتها إلى وسائل لحمل تلك الدلالات الموغلة في الترميز والتكثيف البصري المتعدد المعاني والمولّد لها بشكل دائري، كما نلاحظ من خلال فيلم نسخة مطابقة للأصل، حيث يحيل الفيلم باستمرار لما معنى أن نكون ساقطين في الحب فعلًا أو نمثّل فقط؟ أو ما أسماه وولتر بنجامين بـ «العمل الفني في العصر الآلي» إلى اختفاء الأصول والاحتفاء بالنسخ.
قد تتحول تلك المشاهد المؤطرة في أفلامه بعناية فائقة، جامعةً بين مساحات الأرض وما عليها من أشجار ومنعرجات متطابقة مع كثل السحب والسماء إلى معادلات موضوعاتية لهلوسة الشخصيات أو ضجرها المأساوي، أو بحثها عن خلاص مرتقب في دائرة من التقابل بين الأنا والعالم عبر الوسيط الصوتي أو البصري، بل أكثر من ذلك تظل لازمة بصرية أو صوتية يعاد استثمارها تقريبًا في كل المشاهد السينمائية، وخصوصًا القروية منها كصوت الكلاب وصورة الطفل المشاكس.  
وقد عرض كيارستمي سلسلة من الصور الفوتوغرافية بعنوان «الطرق والمطر» في معرض بوردي هيكس بلندن.

حقيقة شخصية
بدأ المصور الذي درس بنفسه منذ سبعينيات القرن العشرين، والمعروف بأفلامه التي نالت استحسان النقاد، وهي تصور حياة إيران ومناظرها الطبيعيــة في المناطق الريفية (التي دمرها الزلزال)، عرض أعماله الفوتـــوغرافية في التسعينيات، بعد أن أطلــــق عليــها اسم «صور أنقى» من السينما.
«لحظة الصورة هي حقيقة شخصية وليست قصة. أشعر بشيء في منظر طبيعي وأريد التقاطه، حيث تظهر تلك اللحظة الزمنية فقط. خلال ثورة 1979، كان من المستحيل إنتاج أفلام، وهربت من المدينة ووجدت ملجأ في الريف. 
بدأت في صنع الصور، وأصبح لي أصدقاء بالمدينة. يمكنني مشاركة المشهد معهم من خلال التصوير. أنا أفضّل الريف عن المدن. وينطبق هذا أيضًا على أفلامي: لقد صنعت أفلامًا في المجتمعات الريفية والقرى أكثر من المدن».
من المعلوم أن الحساسية الجمالية للسينمائي عمومًا لا تقوم فقط على مدى تجاوبه مع ميكانيزمات اللغة السينمائية ذاتها، لكن أيضًا، وبشكل حاسم، بناء على مرجعياته الفكرية والفنية التي تستقي من جميع فروع الفنون سردًا وشعرًا ورقصًا ومسرحًا مقوماتها وطاقاتها، ويبقى كيارستمي متأثرًا بالشعر الفارسي وبميوله الشخصية في التعامل مع الطبيعة الإيرانية. 
طبيعي أن يكون لهذا الامتداد الباطني في تربية العين على هندسة الكون من خلال ترجمة وقع الألوان والأصوات والأحاسيس الرهيفة ووقعها على الوجدان إلى كلمات وجمل أو صور أو مشاهد غاية في الرقّة وفي الدقة.
وكثيرًا ما تتم الإحالة إلى أبيات شعرية فارسية في لقطات من أفلامه، كفيلم يحملنا الريح، أو أين يوجد بيت صديقي؟، كما يحصل في أفلام تاركوفسكي مثلًا أو أفلام غودار، حيث يجد الشعر مكانًا له ضمن البناء الفني والقولي للفيلم.

تطبيق موضوعي
يرى مايكل ج. أندرسون «أن مثل هذا التطبيق الموضوعي للوجود من دون حضور يعالج تصورنا للطبيعة والفضاء، في إطار العمل الذي يتم فيه تصوير العالم. استخدام كيارستمي للصوت والصور متجاوزًا ما هو مرئي و / أو مسموع مباشرة، وهو ما يؤكده الكاتب على مفهوم تقلّص الزمان والمكان والترابط في العالم الحديث». 
ولعل توظيف كيارستمي كفنان للمناظر الطبيعية واضح في تكوين لقطاته البعيدة للتلال الجافة، كما في عدد من أفلامه، وهو ما يذكّرنا بالفكر الحلولي أو الطوطمي، حيث لا ينفصل الإنسان عن الطبيعة.   
ونلمس استخدامه للمواقع الريفية، حيث يذكّر اهتمامه بالمنجز الشعري لسهراب سبيهري بالمناظر الطبيعية، كما هو موضّح في قصائده، مثل جولستانه، حيث يعامل الشاعر البيئة الريفية بشكل واقعي ويشرّبها بهالة شعرية، أو كما نجد تقاطعًا أو تناصًّا مع الروح الشعرية لكل من رباعيات الخيام وفروخ فرخزاد، وهي تصوّر العالم البديع لحقول الزرع وسط الهضاب التي تتلوى حولها المسارات والطرقات.
ويذهب المخرج في تجسيم أفكاره وميولاته الفنية من خلال إنتاج تقنيات محددة عابرة في الشعر الفارسي، مبطّنة مواقفه الفلسفية ومعلنة عن أنطولوجية الشعري والفيلمي معًا، متجاوزًا تقمّص النص الأصلي، سواء في الشعر أو في القصص، لخلق معادل نوعي جديد يخلق بينها منطقة تتجاوز الحدود ■

* عباس كيارستمي: مخرج سينمائي إيراني عالمي، وكاتب سيناريو، ومنتج أفلام، ومصوّر.