«الحِصَان البَرّي» التقاء الغضب بالغضب

«الحِصَان البَرّي» التقاء الغضب بالغضب

هل يمكننا أن نتصوَّر أنه يوجد لكل إنسان في لحظة ما شبيه له في عالم الحيوان، يَحْمِل انفعالاته نفسها، قوة أعصابه نفسها، توتره، وعُصَابيَّته، رغبته في الانتقام، حَنانه وانسجامه مع الآخر أحيانًا؟ حيوان رُبَّما يُعَاني معاناته نفسها، حتى أنك حين تَرَى أفعال هذا الشخص وأفعال الحيوان، تبتسم وتقول في نفسك: «كأنَّه هُو»! ليس مقصودًا أن الإنسان ينتمي لفصيلة من الحيوانات، إن داخلنا نحن البشر منطقة حسَّاسة تُعَاني مشكلات أو ضغوطًا معيَّنة، فإذا بك تجد حيوانًا يَحْمِل داخل أعماقه الضغوط نفسها، وبالتالي حين تَصْدُر أفعاله فتكون قريبة من نفس أفعال الإنسان الذي يتحمَّل تلك الضغوط أيضاً. 

 

هذا هو لُبّ فيلم الحِصَان البَرّي The Mustang  المُنْتَج في مارس 2019، والذي كتب السيناريو له لور دي كليرمون تونير، ومونا فاستفولد، وبروك نورمان، وأخرجه لور دي كليرمون تونير.
يبدأ الفيلم بمجموعة من الخُيـــــول تُمَارس حياتها الطبيعـــية، تَشدُّنا الكاميــــرا لمتابعتها في كل تفصيلاتها الصغيرة الدقيقـــة: أقــــدامها، عيونها، حُنوّها على بعضـــها بشاعريَّة غريبة، مُلامَسَة الرقاب للرقاب واللحظـــــات الحميميَّة بينهــــا، فَيَصِلُنا معـــنى الحــــريَّة واضحًـــا تمامًا عن هذه الخيول التي تعيـــش حيـــاة خاصة وتستمتع بالطبيعة وهي تمارس حياتهـــا، البرية.
حين يتدخَّل الإنسان في الطبيعة بجفاء عن طريق طائـــرة مزعجة، يَلْمَسُنا حساسيَّة الخُيول وهي تنطلق في ذعر خوفًا من صــــوت الطائرة الذي يوهمك بأن كل شيء في الطبيعة يخترق أذنك، مع دخول الموسيقى السريعة الإيقاع، ونَرَى قوافل الخيـــول تجرى في شَتَات، وأزيز الطائرة يطــــاردها، تدخــــل الخُيول حظيرة تشبه السجن، وهنا تَتَغَيَّر حالتها ويُصِيُبها العنف والتوتُّر والصَّخب، وتشتــاق قلوبنا لحالتها التي رأيناها في مُفْتَتَح الفيلم، فالخُيول الآن مسجونة تعاني الحبسة.

دموع ورغبة 
رأينا رومان، الذي قام بدوره الممثل البلجيكى المولود في عام 1977 ماتياس شوينيرتس بحساسيَّة رائعة جعلتنا نعيش حالته الخاصة طوال الفيلم، دون أي خروج عن الحالة التي يتطلبها الدور، شاهدناه أمام الطبيبة النفسية صامتًا لا يتكلَّم، وفي الوقت ذاته يبدو على عينيه الغضب والحنق، عيناه تقولان إنه متوتِّر وإنه يضغط على أعصابه بشكل قاس، حتى أنه حين يقوم من أمام الطبيبة يقوم بحركة عصبيَّة توتّر المُشَاهد معه، إلى أي مدى هو حزين؟ لقد قال كلمة واحدة كشفت لنا عن علاقته بالعالم، قال: «لستُ جيدًا مع الناس»، لدرجة أنه لم ينطق كلمة حين أُدْخِل الزنزانة، ووجد فيها سجينًا آخر.
لقد كان صمت شوينيرتس وأداؤه غاية في التميُّز، حتى أننا تفاعلنا واندمجنا بشكل مباشر معه، وصِرْنا نعرف رومان كشخصية مأزومة مميزَّة من أول طلَّة، ونريد أن نكتشف أعماقها في تَتَابع الفيلم.
في قلب الفيلم نشــاهد علاقــــة رومان بابنته التي تـــزوره في السجن، وهذه الفتاة هي التي ستكــون رابط وسبب علاقــة رومان بالعالم الخارجي، فقط هــــي التي ستعـــرفنا على أسباب ما حدث، هي المدخل لأسباب دخوله السجن.
رومان هذا الرجل المتوتِّر دائمًا والمشتعل أبدًا من الداخل وكأنَّ أعصابه مكويَّة بحديد ساخن، كأنه ممسوس دائمًا بكهرباء، لقد قالت له ابنته في جُمْلة عابرة «ماذا تعرف حول الاعتناء بطفل؟! ماذا تعرف حول الاعتناء بأي شيء؟!» فيصرخ طالبًا منها أن تخرس وترحل وألا تزوره أبدًا.

حرفيَّة عالية
في اللقاء الأخير مع ابنته بَرَعَ شوينيرتس في تصوير اللحظة، فقد كانت عيناه مليئتين بالفرحة والدموع والانكسار والرغبة في النهوض من السقوط في الوقت ذاته، كان يريد أن تعرف ابنته من نظرات عينيه وأحاسيسه الداخلية أنه قد تغيَّر، كان المشهد بارعًا يحوي انفعالات متناقضة بين الفرح والبكاء، والدموع والشعور بالأهمية، وتَعَرَّفْنَا في هذا اللقاء على أسباب سجنه، فقد قَتَل زوجته بعدما ألقتْ مخدراته في البالوعة، فكسر جمجمتها.
لقد أدى شوينيرتس المشهد بحرفيَّة عالية، دموع محبوسة ومليئة بالأمل والعطف، والسماح، وسقطت من عين رومان دمعة حقيقية، ثم قال وسط الدموع بصوت مبحوح مُعَبرِّ لابنته: «أحبّك، أحبّك كثيرًا»، فقط كان يريد أن تحضر احتفال بيع حِصَانه.

الرجل مقابل الحِصَان
اسم الفيلم ناجح تمامًا، فالحِصَان معروف، وربما نُطْلِق كلمة حِصَان على الرجل من باب القوة التي تميّزه، وكلاهما في هذا الفيلم  The Mustang واحد، أيهما الحِصَان وأيهما الرجل؟ فمنذ البداية ندرك أن الحِصَان البَرِّي هو البطل، في حين أن المُشَاهَدَة المتتابعة للفيلم تقول إن الرجل بطل أيضاَ، الحِصَان قرينه في البطولة.
فلو نَزَعْنَا الحِصَان من الفيلم فلن تعدّ للفيلم فائدة، ولو نَحَّيْنا هذا البطل بالتحديد، شوينيرتس، بكل ما يحمل من عصبية وتوتر وقلق وحنق على الحياة، لوقع الفيلم في مأزق شديد.
لقد أدَّى الرجل والحِصَان دوريهما ببراعة، وشعرنا أنهما نفس واحدة حقيقية. حتى إن رأينا أن للرجل اسمًا هو رومان، وعرفنا أن للحِصَان اسمًا هو ماركيز.
في اللحظة الأولى التي نرى فيها عين الحِصَان البطل متوترًا، قلقًا حزينًا تنتقل الكاميرا لعين البطل رومان، الذي كان نائمًا على وجهه في حيرة وحزن وتوتّر داخلي، يعاني مشكلة ضخمة وهو معزول في السجن، وكأننا منذ الطلَّة الأولى نعلم أن عين الحِصَان هي المقابل لعين رومان، وأن كليهما مسجون في المكان نفسه.
تبدأ علاقة رومان بالحِصَان عندما كان الأول يمر في السجن، فسمع طرَقات الحِصَان المحبوس داخل غرفة مُغْلَقة ومُظْلِمة في وضح النهار، كأنَّه يناديه ويطلب مجيئه، في لقطة رائعة على عينه، رأينا رومان داخلها، وكأنَّه يراه ويعرفه وأنه داخل عينه. كانت عين رومان تتحدَّث للحِصَان في صمت، لقاء عيون واضح، ونعرف أنه حِصَان خطير، فيسأل رومان مدرّبه: «لماذا هو مجنون؟» يقول المدرب: «لا أعرف، لماذا لا تسأله»؟
هل يمكن أن يسأل رومان الحِصَان؟! لماذا لا يكون ذلك مفتاح العلاقة بينهما؟ والأهم هو ما يخبره به المدرب عن حدود العلاقة مع الحِصَان (احترم مساحته، وسيحترم مساحتك، والأهم لا تنظر لعينيه)، الحِصَان هنا إنسان، وهو ما يدفعنا الفيلم بشدَّة لإدراكه، بل هو شبيه ببطل الفيلم في الانفعالات.

علاقة روحيَّة
يأتي مشهد حبس رومان الانفرادي وهو يضرب الكرة في الأرض كأنه يتخلَّص من التوتُّر والقلق، كان المشهد بارعًا حين راح يضرب بقدمه الحائط في لحظة ذكَّرتنا بما فعله الحِصَان من قبل، الخبطات نفسها، الإيقاع نفسه، وكأنه صار حِصَانًا محبوسًا، وكانت في زنزانته فتحة ينظر منها للخارج، وكان كل ما يهمه أن يتابع «صاحبه».
وصَلَنَا للتو أنه على علاقة روحيَّة بالحِصَان، لقد بدأ في عزلته الداخلية يقرأ عن الخيول، ونام وحلم بالحِصَان، ونشأت علاقة بينهما في الحلم، وقام مفزوعًا على عاصفة حقيقية في السجن، كان المطلوب من السجناء جميعًا أن يتعاملوا مع الخيول، وكان هو خارج من الحُلم توًّا، فذهب للحِصَان ودخل له بهدوء في مشهد بارع، يحاول أن يتعامل معه، وبدا على الحِصَان التوتّر، هو يريد رومان، وملامح الحصان تشي بأنه يريد صاحبه، لكنه لا يجد المدخل للعلاقة، وجاءت العلاقة عن طريق جملة وحيدة قالها رومان له: «أنا مُتْعَبٌ يا رجل وأنت مُتْعَب، فلنفعلها».
بدا أن هناك حوارًا صامتًا بينهما، ورأينا الحِصَان يفهمه، وكانت العلاقة على وشك الحدوث.
 ترك رومان الحِصَان وجلس متعبًا، ورأينا مشهدًا عجيبًا، لقد أتى الحِصَان واقترب من رومان وحَنَّ عليه وظلَّ رومان يردِّد: «مرحبًا يا صاحِ»، وهنا نــــرى أول ابتسامة لرومان، فهو منذ بداية الفيلم لم يبتسم أبدًا، وقد لاحظ زميله ذلك من قبل، فقال له: «دعني أخبرك شيئًا، لن يقتلك الابتسام يا رجل، هذا الابتسام مجاني».
وتخلَّص رومان من التوتر هو والحِصَان، ووضع رأسه على رأس صاحبه، وكأنهما قد شُفِيا تمامًا، ورأينا لأول مَرَّة وجه رومان مستريحًا، وخرج الحِصَان معه، وكانت بداية حقيقية لعلاقتهما معا.

لقطة عبقرية
منذ تحسَّنت علاقة رومان مع الحِصَان وبدأتْ حركته على الشاشة تتغيرَّ بالفعل، بدأتْ أكتاف رومان التي كانت متصلِّبة دومًا ترتخي الآن، بدأنا نشعر أنه قد ارتاح، وأن جسده أصابته السكينة، وأن تَوَتُّرَه بدأ يخف. 
في لقطة نادرة هي عصب الفيلم، وقت أن كان رومان غاضبًا من ابنته، كان الحِصَان غاضبًا أيضًا، وتم إدخال رومان ليهدئه، حينها التقى التوتُّر بالتوتُّر، والغضب بالغضب، والنار بالنار، والانفعال بالانفعال، وقامت بين رومان و«صاحبه» مُشَادَّة، ضربه رومان ورفسه الحِصَان.
كان رومان يعامله على أنه رجل يقف أمامه، والحِصَان يعامله على أنه مثله، وكلاهما غاضب يريد أن يتخلَّص من غضبه في الآخر، لقد اشتعل الغضب حتى أدمى الحِصَان رومان، وتدخَّل السجناء وأوقعوهما أرضاً، وسيطروا عليهما، وهدأ كلاهما، كانا يتنفَّسان بعمق وغضب وبسرعة، وكانت لقطة عبقرية وكلاهما ينظر للآخر في عينه، وكأنهما يتعاتبان على هذه الغَضْبَة الحامية.
وفي لحظة وداع الحِصَان وضع رومان حَبَّات السُّكَّر له، ورأينا صورة مبدعة لنصف وجه رومان، ونصف وجه «صاحبه»، وكأنهما يكملان بعضهما، هما الآن صنوان متكاملان.
شَعَرَ رومان بالمتعة وهو يركب الحِصَان ماركيز، وهنا تظهر لحظة درامية بظهور صوت الطائرة، فيتذكَّر ماركيز حادثة حبسه الأولى عن طريق الطائرة، ويهيج ويُسْقِط رومان، والطيارة تئز، وهاج المشاهدون.
ساعتها علِم رومان أن ماركيز سيُقْتَل بسبب هذا الهياج، فأخذه في الفجر وفتح له البوابة، وكان ماركيز لا يريد أن يترك صديقه، لكنّه في النهاية رحل، لقد كان يمكنه الهرب مع حِصَانه، لكنّه لم يكن يفضل الاختلاط بالناس، كان يفضل الوحدة. 
وينتهى الفيلم نهايــــة عجيبة، فـــرومـــــان واقف خلف القضبان ينظر بعيدًا، وترحل الكاميرا حيث ينظر، فنرى الحِصَــان ماركيز خلف السِّياج، يأتي ليطلّ على صديقه، كان كلاهمـا خارج السياج، وكلاهــــما يشـــتــاق لصنوه ■