«مُشاكَلَة الناس لزمانهم» التحليل العمراني للأعمال التراثية

«مُشاكَلَة الناس لزمانهم» التحليل العمراني للأعمال التراثية

أعجبني الكتاب الأخير لعبدالرحمن الشقير * لسببين؛ فمن ناحية يقدّم فيه للقرّاء عملًا تراثيًّا غير معروف، هو كتاب المؤرخ أحمد بن إسحاق اليعقوبي، الذي يحمل عنوان «مشاكلة الناس لزمانهم، وما يغلُب عليهم في كل عصر»، ومن ناحية ثانية يعتمد صيغة مقاربة منهجية جديدة تعتمد «دراسة وتحقيق» هذا النص التراثي المهم، لا مجرد «مراجعة وتحقيق» المادة الموضوعة بعهدته.
فالفرق كبير بين أن تدخل إلى التراث العربي من باب المراجعة، كما هو مألوف، أو أن تدخل إليه من باب الدراسة، فعندما تُلزم نفسك بالدراسة تكون قد ألزمتها طوعًا باعتماد المنهج التحليلي النوعي، في حين أنه عندما تربط نفسك بالمراجعة، تكتفي باللجوء إلى المنهج الوصفي.

 

هنا يبرز السؤال الكبير: أيهما الأفضل؟ 
وللإجابة عنه، وقبل أن نسأل الغربيين الذين نخشى دومًا المشي على خطاهم في هذا الحقل، فلنسأل أحد أبرز مراجعنا التراثية العربية، أعني به ابن خلدون نفسه، فكيف تعامل هذا العلّامة مع الأعمال السابقة لعصره؟ هل تعامل معها وصفيًّا، ناقلّا إياها لنا بحرفيّتها، كالسّمك المجلّد، أم أنه أخضعها للدراسة والتحليل؟ 
التراث هو مجموع الأعمال التي نقلها لنا أسلافنا في ميادين الحياة المختلفة، ولكلّ شعب تراثه الخاص، ولكن لكل عصر أيضًا تراثه الخاص. من هذا المنطلق فإن ابن خلدون، وهو علَمٌ من أعلام التراث عندنا، قد واجه هو أيضًا التراث الذي نقلته إليه الأجيال السالفة لعصره. 
كان مبدعًا، وللتعامل معها أسّس علمًا جديدًا هو علم العمران البشري. ومن ضمن هذا العلم يتعامل ابن خلدون مع ما نقله إليه التراث السابق لعصره عمرانيًّا، أي بالفحص العقلاني على ضوء أشكال العمران البشري وتطوّرها، مما يعني أنه تعامل بشكل عقلي تفاعلي مع أحداث التراث التي استرعت انتباهه. فلاحظ في الممالك أطوارًا متداخلة، وفي العصبيّة ديناميّتين متعارضتين، وفي اللغات البشرية أصولًا جيو- سياسية، إلى آخره من ملاحظات سوسيولوجية ثاقبة.
وكذلك فعل اليعقوبي نفسه، إذ إنه لجأ هو أيضًا إلى الملاحظة السوسيولوجية في تفحّصه لسيرة 31 خليفة من خلفاء الإسلام الذين عاصرهم أو سبقوا عصره.
فيتعامل مع المادة التراثية التي جمعها، عمرانيًّا، بدراسة كل حالة على حدة، واستخلاص نوعيّة تأثيرها على معاصريها في صفوف العامة، فيتبيّن له أنها لم تأت لا موحّدة ولا متجانسة. 

تمجيد التراث
بما أن أعلام التراث عندنا قد تعاملوا على هذا النحو مع أعمال التراث، بالمنهج التحليلي والمقاربة النوعيّة، فلِمَ يصرّ دارسو التراث الكلاسيكيّون خاصتنا على اعتماد المنهج الوصفي والكمّي؟
فالمنهج الوصفي (الذي يكتفي بالمراجعة والتحقيق) لا يليق في نظرنا بالتراث العربي العظيم لأسباب عدة، أبرزها أنه يؤدي إلى تمجيد التراث من ناحية، ثم إلى تجميده، بل بإمكاننا أن نقول إنه يؤدي إلى تمجيد التراث بُغية تجميده. وهذا أخطر ما في الأمر. 
والمشكلة ليست في التراث بتاتًا، بل هي في نوعيّة تعاملنا مع هذا التراث. ونرى أن العلماء العرب الذين سبقونا قد أشاروا إلينا – من دون تنظير – إلى الاتجاه الصحيح. فحريٌّ بنا أن نتابع عملهم باعتماد المنهج العقلي الذي اتبعوه، وعدم الاكتفاء بالمنهج النقلي الذي نبذوه.
لقد فهم الشقير جيّدًا هذه الفكرة التي تنطوي في الوقت نفسه على خيار، لذلك، ومن أول الطريق، وضع تحقيقه لكتاب اليعقوبي في خانة الدراسة، لا في خندق المراجعة، وحسنًا فعل. 

حقائق ميدانية
في مقدّمته الطويلة والغنيّة، يبدأ باحثنا باستعراض سريع لأربع نظريّات لطالما رافقت المراجعات التراثية التقليدية: نظرية الناس على دين ملوكهم، ونظرية كيفما تكونوا يولَّ عليكم ونظرية المناخ ونظرية تأثير الأطعمة على الأفكار والمزاج. لكن سرعان ما يبيّن أن أيًّا من هذه النظريّات لا يصحّ بالمجمل والعام، ذلك أنها تشكّل، مجموعةً، مداخل مختلفة ومتداخلة للشأن التفسيري العام الذي ينبغي ألا يسقط من حسابه الفاعل المعرفي، المسؤول عن طرائق التفكير والتخطيط والتنفيذ لدى الأفراد، والذي ضبط أطره الذهنية الدفينة الفرنسي بيار بورديو. 
لذلك يصل دارسنا إلى خلاصة مفادها أن أفضل معين لنا في دراسة أعمال التراث هو مقاربة هذا النتاج مقاربة سوسيو - معرفية، حيث إن الجدول المقارن الذي يقدّمه حول سمات الخلفاء التي شاكلهم الناس عليها (ص45) يبيّن لنا سلسلة حقائق ميدانية.
أوّلها وأبسطها، والخاضعة للبنية الذهنية السائدة لدى المجتمعات التقليدية كافة، في الماضي كما في الحاضر، هي ظاهرة مشاكلة أهل العامة لأهل الخاصة، وفقًا لتوزّع أفراد هذه المجتمعات على هاتين الطبقتين بشكل رئيس، علمًا بأن الخاصة تضمّ أهل الأسر الحاكمة والمالكة، وفق ابن خلّكان، في حين تضمّ العامة الشعب بفئاته المختلفة. 

سمات نوعيّة
فنحن هنا أمام ظاهرة اجتماعية مادية وحسّية يمكن ضبطها عينيًا وإخضاعها للوصف والتحليل البرّاني إذا صحّ التعبير. إذ يكفي أن نصفَ كم من الناس شاكل وقلّد مَن، وبماذا قلّده (الوزراء والحاشية الذين يقلّدون شكل غطاء الرأس، وطول أكمام الثوب، وهندام الشعر واللحية، واللباس الفاخر أو المتزهد للخليفة؛ والعدوى التي تنتقل لاحقًا إلى عموم الناس خارج القصور). فالتفاصيل موجودة كلها لدى اليعقوبي الذي يتابع المسألة بالملاحظة السوسيولوجية الدقيقة، تاركًا لنا تحليلها، أو الاكتفاء بالتعليق الوصفي عليها. 
لكن اليعقوبي ليس مجرّد مؤرخ، حيث إنه يلتقط براداره السوسيولوجي، سمات أخرى، نوعيّة، يهرع أيضًا إلى تقليدها الناس، مع الإشارة إلى أن هذه السمات النوعيّة ليست كلها نفيسة، بل إن بعضها الكثير هو من الصنف المتعارف على نعته بالخسيس في لغة ذلك العصر، غير أن أهل الحاشية والعامة يميلون أيضًا إلى تقليد خليفتهم في هذه الحالة أيضًا. 

تعادل كمّي
اللافت للأمر، فيما ينقله اليعقوبي بهذا الصدد، أن ثمة تعادلًا كمّيًا بين حملة السمات النفيسة (15) وحملة السمات الخسيسة (16) بين الخلفاء الذين يستعرض سيرتهم الحياتية الواحد تلو الآخر.
ففي السمات الفاضلة التي التصق بها اسم عدد من الخلفاء (وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون) يذكر اليعقوبي الزهد والشدّة في ذات الله تعالى، والسماحة والخطب والمالك العادل والأدب والزهد وترجمة الكتب العلمية والحجّ والكرم والعفو عن الجناة والحزم والشهامة.
أما في السمات غير الفاضلة التي عُرف بها عدد آخر من الخلفاء، فيذكر اليعقوبي اللهو والشرب والجور والعصبيّة القبلية وشيوع الإلحاد والزندقة في عهده، والسماح بالمضاحيك في المجالس والبخل والجهل والتشاوف بالذهب. 

الكاتب والدارس
لا بدّ من التوقّف هنا عند دور كاتب الوثيقة التراثية، حيث يتضح للقارئ أن اليعقوبي أكثر من مؤرخ، هو كاتب ومحلّل سوسيولوجي للظاهرة التي يقدّمها، وهو واثق بتناوله للموضوع ويتعامل عقلانيًّا معه، من دون تحفّظات ولا ماكياج.
يقول عن كل عنصر من عناصر جمهور بحثه ما له وما عليه، على نحو مباشر. وجرأته تشبه تلك التي اعتمدها لاحقًا ابن خلدون، الأمر الذي يشير إلى أن أعلام التراث العربي لم يكونوا مجرّد نقَلة للعلوم أو للظاهرات الاجتماعية الخاصة بعصورهم، بل كانت لآرائهم الخاصة مساحة واسعة من الاستقلالية، المعترف بها والمقبولة سياسيًّا واجتماعيًّا، فاليعقوبي لم يعتبر زنديقًا أو خائنًا للأمة لمجرد أنه تناول سيرة الخلفاء على هذا النحو المكشوف. 
في أسلوب معالجة المادة تستوقفنا منهجيًا إقامة اليعقوبي مقارنة ضمنيّة ملزمة في نصّه، حيث يقود القارئ إلى الدخول في عمليّة مقارنة من دون اللجوء إلى الجدولة. يدعو القارئ لإجراء مقارنة بشكل طبيعي، ولكن غير معلن، بمجرّد استعراضه المتنوّع للأسماء والسّيَر. 

مفاهيم وعقلانية
وأبرع ما قام به - في رأينا - يأتي في عرضه لسيرة الخليفة الخامس عشر، مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، حيث يقول: «كان في أيامه كلها في حروب، إلّا أنه أول خليفة أظهر العصبيّة وأوقعها في الناس». 
وهنا يأتي دور الشقير كدارس، إذ يتوقف عند هذه الظاهرة السوسيو - معرفية في الحاشية، شارحًا ومفسّرًا كيف أن انحياز الخليفة للعصبيّة القبلية النزارية استنفر العصبيّة القبليّة القحطانية «فكانت أحد أبرز أسباب سقوط الدولة الأموية» (ص91). 
فدور دارس التراث ليس نقل ما هو منقول، بل التوقّف عند ما هو غير مشروح، والعمل على شرحه، ثم تفسيره على مستوى المشهد البانورامي العام، بلغة ومفاهيم وعقلانية اليوم، من دون تردد، وإلّا لا فائدة من عمله. ذلك أن الفرق بين العلوم الطبية الغربية الحديثة - مثلًا - وعلومنا الطبية التراثية يكمن في أن الأولى حيّة وتلجأ إلى الاختبار لتجديد نظرياتها على الدوام، في حين أن الثانية لا تتعامل مع المادة الطبية تعاملًا حيًّا، بل تخضعها لتعامُل متحفي، نابذة فكرة الاختبار والدرس، فيؤدي الأمر إلى خيانة المقصد الأساس من العمل التراثي الذي أراده صاحبه في الأزمنة السالفة حيًّا يرزق، لا جامدًا وبلا حياة، لذلك أعتبر أن عمل دارس التراث لا يقلّ أهمية عن كاتبه، فهو جسر العبور الحقيقي الممكن الوحيد لإيصال فكرة وروح العمل التراثي إلينا، بتفعيلها وجعلها حيّة تستولد فينا أفكارًا جديدة، أو كما يقوله ابن خلدون بأجمل تعبير، باستنبات «عقل جديد» فينا نستعد به لتقبّل معارف أخرى.
ولهذا السبب بالذات استمتعت بقراءة كتاب دارس حقيقي للتراث ■