تآمر النُّخَب على أوطانها فساد وإفساد
في هذا الفضاء الشاسع الواسع المفتوح، يستقبل المرء عبر جهازه الثابت أو المتنقل ويطلع على صور ومقالات منوعة، مسموحة أو ممنوعة، ليختار ما يراه ويسمعه ويقرأه أو يلغي ما لا يريد. عصر الحرية التي حملها الإنسان وتحملها كمسؤولية، في حدود عدم المساس بالآخرين، لا ضرر ولا ضرار، ليصبح القانون هو الحكم، وعلى المتضرر اللجوء إلى القضاء.
إذا كان القانون هو القيد، فمساحات الحرية بلا قيود تؤدي – بلا شكّ - إلى الفتنة والفوضى المجتمعية باقتحام حياة الآخرين، والتعدي على خصوصيتهم من دون استئذان أو حقّ مثبت. لا ضير في أن يخضع الإنسان الحرّ للقانون، ولكن من دون جور أو ظلم لحدود حرية تعبيره ورأيه في الحقّ والحقيقة، وحين يعجز القائم على القانون عن تفسير نصوصه لعامة الناس، فعليه أن يتحمل ردود أفعالهم التي تتراوح بين التذمر والثورة.
معرفة القانون وتفسيره ليسا حصرا على «نخبة» أو «طبقة» أو «حكومة» أو «نظام سياسي»، فالقانون لا بد أن يكون مكتوباً أولاً بلغة الشعب، ويشترط أن يحقق المصلحة العامة، وليس مخصصاً لفئة دون أخرى، ويكون معلناً عنه، ومعروفاً ومفهوماً من أفراد المجتمع كافة ليتم الالتزام به، وليعرف الجميع حقوقه وواجباته.
في النظم القانونية عادة ما يُضرب القانون الروماني مثلاً على الفساد، فحين كانت الإمبراطورية الرومانية قوة عالمية عظمى في عصر ما قبل الميلاد، تعاملت الدولة عن طريق قادتها العسكريين مع شعوب مستعمراتها بقانون يختلف عن قانون روما ومدنها، فكان للمواطن الروماني أولوية في الحقوق، وكان أداؤه للواجبات في المستوطنات أقل، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ولمعرفتهم بمواد القانون دون الآخرين، حظي الأرستقراطيون بالثروة دون عامة الشعب، مما زادهم فقراً وعوزاً. لم يكن القانون الروماني آنذاك معلناً، مما أدى إلى انتفاضات وثورات وانقلابات ساعدت على ضعف الإمبراطورية وعصفت بالأرستقراطيين حتى سقط حكم النخبة وانهارت الدولة. أي تشريع عالمي أو إقليمي أو دولي أو محلي، يلزم أن يقتضي المصلحة العامة كأساس للديمومة، وما إن يُعطي تميزا لفئة دون أخرى، يُصبح قيدا لا بد يوما أن ينكسر.
هذا ما سطره لنا التاريخ منذ قيام الإمبراطورية الرومانية وحتى أفول نجم الإمبراطورية البريطانية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس، تلك التي انحسرت سيطرتها عن مستعمراتها شرقا وغربا. وفي الدول المتمدنة، وعند الشعوب المتحضرة، تكون نصوص القوانين واضحة، تحدد تعريف الجريمة ونوع الجزاء، ومثل ذلك في قوانين الملكية والتجارة والضرائب والمرور وغيرها، ولا تكون العقوبة إلا بقدر الجريمة، فالعدل أساس المُلْك، ومن أَمِنَ العقوبة أساء الأدب وأهمل الالتزام بالقانون، فيكون ذلك بداية للفساد، الذي هو بداية انهيار الدولة، أي دولة.
تآمر النخبة المختارة
لم يعد للسّرّية في هذا العالم المفتوح مكان، فأيّ قيادات تلك التي تعقد معاهدات واتفاقيات وصفقات دون علم شعوبها؟! إنها حتما قيادات رجعية تُقَدّم مصالحها الشخصية على مطالب الأغلبية الوطنية. ويزيد الأمر سوءا أن تتآمر النخبة المختارة على الوطن، خاصة تلك النخبة التي اختارها الشعب لتشريع القوانين وتسهيل متطلبات الحياة على المواطنين والعابرين، ولتمثيل السواد الأعظم من العامة والبسطاء من أفراد الشعب، وصيانة الحريات والحقوق. كثير من البرلمانات في التاريخ نرى فيها أنّ من يمثل الشعب سرعان ما ينعم بالثروة والجاه والسلطة، وقد نراه يرتفع ثم يترفع عن ناخبيه حتى يكون أقرب إلى السلطة منه إلى الشعب.
ومع تاريخ مثل هذا التآمر نقف لنعيد صفحات من التاريخ اليوناني في الفترة التي نعمت بها أثينا بحرية آراء مواطنيها، وعندما كانت الحياة السياسية والفكرية في أوجها.
قمة الحياة الديمقراطية في أثينا عاصرت وجاورت حكما ديكتاتوريا يهددها، تمثَّلَ في حاكم مقدونيا فيليب الثاني، الذي لم تقف طموحاته التوسعية عند أي حد، سواء نحو الشرق أو الغرب، وكانت أثينا أولى طموحاته، بما تملكه من موقع جغرافي وأسطول بحري عظيم يساعد على مثل هذا التوسع. ولم تَخْفَ على الأثينيين تلك الأطماع، التي قاوموها من أجل سيادة الوطن. وكان خطباء أثينا، الذين كانوا في حقيقتهم أعضاء البرلمان المنتخب من الشعب، ينددون بأطماع ملك مقدونيا ويتهمونه بالطغيان. وعندما تصعّد الخلاف بين الدولتين، كان من الضروري وضع حل للنزاع من خلال سفارات متبادلة بين الدولتين، وعادة ما كان الخطباء يمثلون الوفد الأثيني. وبعد عدة سفارات ومشاورات بين الطرفين، هدأت حدة النبرة لخطباء أثينا ضد فيليب، ولم يبقَ منهم معارض سوى القليل. وبرز نجم ديموستنيز على رأس هذه القلة.
اللسان لا يقتل إلا صاحبه
لقد كان ديموستنيز هو الأعلى صوتا ضد الديكتاتورية، والأكثر قدرة على تحريك الجماهير لمصلحة مبادئه وآرائه. كانت اتهامات ديموستنيز لزملائه في البرلمان لا تخلو من الإشارات الصريحة والدلائل الصحيحة بأنهم عملاء لفيليب المقدوني الذي استطاع استمالتهم إلى جانبه من خلال الرشوة أحيانا والتهديد أحيانا أخرى. وعندما تنكشف لنا الحقائق، يتبين لنا أن فيليب استطاع استمالة رؤوس القوم في أثينا، سواء من الخطباء أو الوجهاء أو العلماء.
وعلى سبيل المثال، ظهر منشور موقَّع من عميد الأكاديمية الفلسفية الأفلاطونية سبيسيبوس Speusippus بتأييد دعوى فيليب وأحقيته في ضم إحدى الدويلات المنضمة إلى الحلف الإنفكتيوني.
لم يكسب فيليب المقدوني خطيب أثينا ديموستنيز إلى جانبه، وإن كانت هناك آراء تقول بأنّ ديموستنيز كان، ومن دون أن يشعر، يُلبي بمعارضته السلبية أغراض التوسع المقدوني. أما ديموستنيز، فلم تفده خطبه ونقده وشجبه وتنديده بالديكتاتور وطغيانه، فمهما كان اللسان سلاح المرء، فاللسان لا يقتل إلا صاحبه، أما اليد فهي السلاح لمن أراد قتالا. كان من الأسهل على فيليب أن يحتل أثينا برشوة قادتها واستمالة خطبائها بالمكر والحيلة والعطايا والهدايا دون حرب أو صراع. وبعد سنين طوال، ضحت أثينا بديمقراطيتها مقابل ثقتها بالخطباء! لقد تآمر مجلس الخطباء على الشعب، من خلال إخفائه ما دار بين الطرفين من محادثات ومعاهدات ظهر ضررها فيما بعد على الشعب الأثيني، بعد أن استطاع فيليب ضم أثينا إلى مقدونيا، وصار الملك الأوحد.
إنّ انقلاب أعضاء مجلس الخطباء على الشعب بعدم الرجوع إليه وتهميشه في عملية اتخاذ القرار من خلال عدم الإعلان رسمياً عن المفاوضات الخارجية والخطوات التي تمت بها تلك المعاهدات السرية، كانت نتيجته الحتمية هي انتصار الديكتاتورية وسقوط صرح الديمقراطية. ومهما يكن من أمر، فإنّ الحكومات والقيادات السياسية يجب ألا تتعامل مع مواطنيها أو قواعدها الشعبية معاملة العارف الحكيم تجاه الضعيف فاقد الأهلية، فكم من شعوب سكتت فخضعت ثم ثارت فأحرقت ودمرت. ولنا من حوادث الأيام عبرة، فمازال العرب، المسلمون والمسيحيون، يشجبون وينددون ويعارضون ويرفضون التوسع الصهيوني والاعتداء على أرض فلسطين، حتى تذهب ريحهم مثلما ذهبت أراضيهم، ليعيشوا على الذكرى يندبون وينحبون ويغنون حزنا ويبكون... ويغنون وينوحون على القدس «زهرة المدائن»، التي أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية نقل سفارتها إليها، كاعتراف رسمي منها بأنّ القدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني. لا بدّ لنا أن نعلم أنّ هناك تدابير ظلامية سرية تحاك ضدنا، لتفقدنا هويتنا العربية أولاً، وتسلنا شيئا فشيئا لننحرف عن صراط ديننا المستقيم القويم، حتى ننصهر باللاهوية ثم نخجل من الإعلان عن ديننا، بعد أن يوهموا أبناءنا بأن الاعتراف بالدين أو الهوية نوع من أنواع العنصرية. ألا ترانا ننسلخ عن عروبتنا جيلاً بعد جيل حتى مُسخت أرواحنا وعقولنا... وأشكالنا أيضاً؟!
هذا ما شجّع عليه بعض ما يُسمّى بـ«النُخَب» في دول العالم العربي، تلك التي تجري وراء التطور والتقدم الحضاري، وهي لا تدري بأنها، لكي تجري، تحتاج إلى لياقة بدنية وروحية وثقافية عالية، فالقوم المتحضرون قد سبقونا بمسافات طويلة. تلك النُخب لا تعرف من الحياة سوى السياسة، فأهملت مناهج التعليم ومدارك الثقافة ومسالك الصحة ودروب العدل. لقد كان من الأولى ترجمة مناهج التعليم في العلوم الطبيعية، كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء، عن الدول المتقدمة، في غرب أوربا وأمريكا واليابان، وإقرارها كمناهج تعليمية للمتوسط والثانوي. واتباع سبل التدريب الصناعي والبناء والكهرباء على أحدث الأساليب المتبعة في الصين وكوريا. قضت الأجيال أعواما طوالاً تتعلم لغات الدول المتحضرة دون علمٍ متقن ولا معلم أصيل! أهملنا كل سبل التقدم، واكتفينا بمنح الجوائز والأوسمة والشهادات.
انتشار الفساد
قاتل الله الفساد، لقد انتشر في هذا العالم أكثر من انتشار مرض «الإنفلونزا»، فصارت الدول تصرف أموالاً طائلة لمكافحته، والكل يعلم أنّ الوقاية خير من العلاج. إنّ المشكلة الأساسية في هذا المرض ليست بانتشاره فقط بين قطاع كبير من أفراد المجتمع، بل عندما يصيب الطبيب المعالج أو المعلم أو المدير أو صاحب القرار في كل منصب. والوقاية من هذا الداء لا تكون بإصدار القوانين الرادعة بل بتنفيذها. لقد تنوعت أوجه الفساد كما اختلفت فيروسات الإنفلونزا، إسبانية وآسيوية وطيور وخنازير، ولم تعد الأدوية قادرة على محاربة الفيروس، لذا، تنصح منظمة الصحة العالمية بالتعقيم.
أما تعقيم الأخلاق فلا يكون إلا بالتعليم، الذي هو أساس بناء شخصية الشعوب التي تبني أوطانها، ومن غير ذلك لا يكون للداء طبّ وستصبح الرشوة كسباً. الرشوة مفتاح باب فساد الفرد والمجتمع والدولة، والفساد يعشق الفوضى، فبالفوضى يرتبك النظام فيختل الأمن وتنتشر الجريمة، وتقوى عصابات الشطار والصعاليك والمرتزقة، ويضعف حراس الأمن ورجال الشرطة. منذ عقد مضى، حضرتُ مستمعا ندوة عن المخدرات أقيمت في عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة، توزعت هذه الندوة إلى «وِرَشِ» أمنية وطبية واجتماعية. استهدفت هذه الندوة بيان خطر المخدرات على الإنسان والعالم.
كانت الفائدة جمة في توضيح مثلث دول زراعة المخدرات في العالم، وكيفية تصدير المحصول غرباً. وبيّن المحاضرون سُبُل توزيع المخدرات عبر العالم، والأموال الطائلة التي تدفعها عصابات التهريب للمتنفذين والمسؤولين في الدول التي يتم عبور المخدرات فيها. ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل يتعداه لتدفع هذه العصابات مبالغ كبيرة لصناعة الفتن والقلاقل والثورات الداخلية لزعزعة الأمن والاستقرار، وبذلك يسهل على قوافلهم المحملة بالموت عبور الأراضي. ولعل هذا يفسر دورا غير محسوب لما يُسمّى بتنظيم «داعش»، فطريق المخدرات هو نفس الطريق الذي تمركز فيه «الدواعش»، ولو عرف الفتية الذين غرر بهم بهذا الأمر لارتدعوا وابتعدوا عن شعارات الشيطان، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. (سورة الأنفال]: الآيتان ■(47-48)