تآمر النُّخَب على أوطانها فساد وإفساد

تآمر النُّخَب على أوطانها فساد وإفساد

في‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬الشاسع‭ ‬الواسع‭ ‬المفتوح،‭ ‬يستقبل‭ ‬المرء‭ ‬عبر‭  ‬جهازه‭ ‬الثابت‭ ‬أو‭ ‬المتنقل‭ ‬ويطلع‭ ‬على‭ ‬صور‭  ‬ومقالات‭ ‬منوعة،‭ ‬مسموحة‭ ‬أو‭ ‬ممنوعة،‭ ‬ليختار‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬ويسمعه‭ ‬ويقرأه‭ ‬أو‭ ‬يلغي‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يريد‭. ‬عصر‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬حملها‭ ‬الإنسان‭ ‬وتحملها‭ ‬كمسؤولية،‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬عدم‭ ‬المساس‭ ‬بالآخرين،‭ ‬لا‭ ‬ضرر‭  ‬ولا‭ ‬ضرار،‭ ‬ليصبح‭ ‬القانون‭ ‬هو‭ ‬الحكم،‭ ‬وعلى‭ ‬المتضرر‭ ‬اللجوء‭ ‬إلى‭ ‬القضاء‭. ‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬القانون‭ ‬هو‭ ‬القيد،‭ ‬فمساحات‭ ‬الحرية‭ ‬بلا‭ ‬قيود‭ ‬تؤدي‭ ‬–‭ ‬بلا‭ ‬شكّ‭ - ‬إلى‭ ‬الفتنة‭ ‬والفوضى‭ ‬المجتمعية‭ ‬باقتحام‭ ‬حياة‭ ‬الآخرين،‭ ‬والتعدي‭ ‬على‭ ‬خصوصيتهم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬استئذان‭ ‬أو‭ ‬حقّ‭ ‬مثبت‭. ‬لا‭ ‬ضير‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يخضع‭ ‬الإنسان‭ ‬الحرّ‭ ‬للقانون،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬جور‭ ‬أو‭ ‬ظلم‭ ‬لحدود‭ ‬حرية‭ ‬تعبيره‭ ‬ورأيه‭ ‬في‭ ‬الحقّ‭ ‬والحقيقة،‭ ‬وحين‭ ‬يعجز‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬القانون‭ ‬عن‭ ‬تفسير‭ ‬نصوصه‭ ‬لعامة‭ ‬الناس،‭ ‬فعليه‭ ‬أن‭ ‬يتحمل‭ ‬ردود‭ ‬أفعالهم‭ ‬التي‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬التذمر‭ ‬والثورة‭.‬

معرفة‭ ‬القانون‭ ‬وتفسيره‭ ‬ليسا‭ ‬حصرا‭ ‬على‭ ‬‮«‬نخبة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬طبقة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬حكومة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬سياسي‮»‬،‭ ‬فالقانون‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مكتوباً‭ ‬أولاً‭ ‬بلغة‭ ‬الشعب،‭ ‬ويشترط‭ ‬أن‭ ‬يحقق‭ ‬المصلحة‭ ‬العامة،‭ ‬وليس‭ ‬مخصصاً‭ ‬لفئة‭ ‬دون‭ ‬أخرى،‭ ‬ويكون‭ ‬معلناً‭ ‬عنه،‭ ‬ومعروفاً‭ ‬ومفهوماً‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬كافة‭ ‬ليتم‭ ‬الالتزام‭ ‬به،‭ ‬وليعرف‭ ‬الجميع‭ ‬حقوقه‭ ‬وواجباته‭. ‬

في‭ ‬النظم‭ ‬القانونية‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يُضرب‭ ‬القانون‭ ‬الروماني‭ ‬مثلاً‭ ‬على‭ ‬الفساد،‭ ‬فحين‭ ‬كانت‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭ ‬قوة‭ ‬عالمية‭ ‬عظمى‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد،‭ ‬تعاملت‭ ‬الدولة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬قادتها‭ ‬العسكريين‭ ‬مع‭ ‬شعوب‭ ‬مستعمراتها‭ ‬بقانون‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬قانون‭ ‬روما‭ ‬ومدنها،‭ ‬فكان‭ ‬للمواطن‭ ‬الروماني‭ ‬أولوية‭ ‬في‭ ‬الحقوق،‭ ‬وكان‭ ‬أداؤه‭ ‬للواجبات‭ ‬في‭ ‬المستوطنات‭ ‬أقل،‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬ولمعرفتهم‭ ‬بمواد‭ ‬القانون‭ ‬دون‭ ‬الآخرين،‭ ‬حظي‭ ‬الأرستقراطيون‭ ‬بالثروة‭ ‬دون‭ ‬عامة‭ ‬الشعب،‭ ‬مما‭ ‬زادهم‭ ‬فقراً‭ ‬وعوزاً‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬القانون‭ ‬الروماني‭ ‬آنذاك‭ ‬معلناً،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬انتفاضات‭ ‬وثورات‭ ‬وانقلابات‭ ‬ساعدت‭ ‬على‭ ‬ضعف‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬وعصفت‭ ‬بالأرستقراطيين‭ ‬حتى‭ ‬سقط‭ ‬حكم‭ ‬النخبة‭ ‬وانهارت‭ ‬الدولة‭. ‬أي‭ ‬تشريع‭ ‬عالمي‭ ‬أو‭ ‬إقليمي‭ ‬أو‭ ‬دولي‭ ‬أو‭ ‬محلي،‭ ‬يلزم‭ ‬أن‭ ‬يقتضي‭ ‬المصلحة‭ ‬العامة‭ ‬كأساس‭ ‬للديمومة،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬يُعطي‭ ‬تميزا‭ ‬لفئة‭ ‬دون‭ ‬أخرى،‭ ‬يُصبح‭ ‬قيدا‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬يوما‭ ‬أن‭ ‬ينكسر‭. ‬

هذا‭ ‬ما‭ ‬سطره‭ ‬لنا‭ ‬التاريخ‭ ‬منذ‭ ‬قيام‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الرومانية‭ ‬وحتى‭ ‬أفول‭ ‬نجم‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬البريطانية‭ ‬العظمى‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تغيب‭ ‬عنها‭ ‬الشمس،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬انحسرت‭ ‬سيطرتها‭ ‬عن‭ ‬مستعمراتها‭ ‬شرقا‭ ‬وغربا‭. ‬وفي‭ ‬الدول‭ ‬المتمدنة،‭ ‬وعند‭ ‬الشعوب‭ ‬المتحضرة،‭ ‬تكون‭ ‬نصوص‭ ‬القوانين‭ ‬واضحة،‭ ‬تحدد‭ ‬تعريف‭ ‬الجريمة‭ ‬ونوع‭ ‬الجزاء،‭ ‬ومثل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬قوانين‭ ‬الملكية‭ ‬والتجارة‭ ‬والضرائب‭ ‬والمرور‭ ‬وغيرها،‭ ‬ولا‭ ‬تكون‭ ‬العقوبة‭ ‬إلا‭ ‬بقدر‭ ‬الجريمة،‭ ‬فالعدل‭ ‬أساس‭ ‬المُلْك،‭ ‬ومن‭ ‬أَمِنَ‭ ‬العقوبة‭ ‬أساء‭ ‬الأدب‭ ‬وأهمل‭ ‬الالتزام‭ ‬بالقانون،‭ ‬فيكون‭ ‬ذلك‭ ‬بداية‭ ‬للفساد،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬بداية‭ ‬انهيار‭ ‬الدولة،‭ ‬أي‭ ‬دولة‭.‬

 

تآمر‭ ‬النخبة‭ ‬المختارة

لم‭ ‬يعد‭ ‬للسّرّية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬المفتوح‭ ‬مكان،‭ ‬فأيّ‭ ‬قيادات‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تعقد‭ ‬معاهدات‭ ‬واتفاقيات‭ ‬وصفقات‭ ‬دون‭ ‬علم‭ ‬شعوبها؟‭! ‬إنها‭ ‬حتما‭ ‬قيادات‭ ‬رجعية‭ ‬تُقَدّم‭ ‬مصالحها‭ ‬الشخصية‭ ‬على‭ ‬مطالب‭ ‬الأغلبية‭ ‬الوطنية‭. ‬ويزيد‭ ‬الأمر‭ ‬سوءا‭ ‬أن‭ ‬تتآمر‭ ‬النخبة‭ ‬المختارة‭ ‬على‭ ‬الوطن،‭ ‬خاصة‭ ‬تلك‭ ‬النخبة‭ ‬التي‭ ‬اختارها‭ ‬الشعب‭ ‬لتشريع‭ ‬القوانين‭ ‬وتسهيل‭ ‬متطلبات‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬المواطنين‭ ‬والعابرين،‭ ‬ولتمثيل‭ ‬السواد‭ ‬الأعظم‭ ‬من‭ ‬العامة‭ ‬والبسطاء‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬الشعب،‭ ‬وصيانة‭ ‬الحريات‭ ‬والحقوق‭. ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البرلمانات‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬نرى‭ ‬فيها‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬يمثل‭ ‬الشعب‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬ينعم‭ ‬بالثروة‭ ‬والجاه‭ ‬والسلطة،‭ ‬وقد‭ ‬نراه‭ ‬يرتفع‭ ‬ثم‭ ‬يترفع‭ ‬عن‭ ‬ناخبيه‭ ‬حتى‭ ‬يكون‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬السلطة‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬الشعب‭. ‬

ومع‭ ‬تاريخ‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التآمر‭ ‬نقف‭ ‬لنعيد‭ ‬صفحات‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬اليوناني‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬نعمت‭ ‬بها‭ ‬أثينا‭ ‬بحرية‭ ‬آراء‭ ‬مواطنيها،‭ ‬وعندما‭ ‬كانت‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬والفكرية‭ ‬في‭ ‬أوجها‭. ‬

قمة‭ ‬الحياة‭ ‬الديمقراطية‭ ‬في‭ ‬أثينا‭ ‬عاصرت‭ ‬وجاورت‭ ‬حكما‭ ‬ديكتاتوريا‭ ‬يهددها،‭ ‬تمثَّلَ‭ ‬في‭ ‬حاكم‭ ‬مقدونيا‭ ‬فيليب‭ ‬الثاني،‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تقف‭ ‬طموحاته‭ ‬التوسعية‭ ‬عند‭ ‬أي‭ ‬حد،‭ ‬سواء‭ ‬نحو‭ ‬الشرق‭ ‬أو‭ ‬الغرب،‭ ‬وكانت‭ ‬أثينا‭ ‬أولى‭ ‬طموحاته،‭ ‬بما‭ ‬تملكه‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬جغرافي‭ ‬وأسطول‭ ‬بحري‭ ‬عظيم‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التوسع‭. ‬ولم‭ ‬تَخْفَ‭ ‬على‭ ‬الأثينيين‭ ‬تلك‭ ‬الأطماع،‭ ‬التي‭ ‬قاوموها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬سيادة‭ ‬الوطن‭. ‬وكان‭ ‬خطباء‭ ‬أثينا،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬في‭ ‬حقيقتهم‭ ‬أعضاء‭ ‬البرلمان‭ ‬المنتخب‭ ‬من‭ ‬الشعب،‭ ‬ينددون‭ ‬بأطماع‭ ‬ملك‭ ‬مقدونيا‭ ‬ويتهمونه‭ ‬بالطغيان‭. ‬وعندما‭ ‬تصعّد‭ ‬الخلاف‭ ‬بين‭ ‬الدولتين،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬وضع‭ ‬حل‭ ‬للنزاع‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سفارات‭ ‬متبادلة‭ ‬بين‭ ‬الدولتين،‭ ‬وعادة‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬الخطباء‭ ‬يمثلون‭ ‬الوفد‭ ‬الأثيني‭. ‬وبعد‭ ‬عدة‭ ‬سفارات‭ ‬ومشاورات‭ ‬بين‭ ‬الطرفين،‭ ‬هدأت‭ ‬حدة‭ ‬النبرة‭ ‬لخطباء‭ ‬أثينا‭ ‬ضد‭ ‬فيليب،‭ ‬ولم‭ ‬يبقَ‭ ‬منهم‭ ‬معارض‭ ‬سوى‭ ‬القليل‭. ‬وبرز‭ ‬نجم‭ ‬ديموستنيز‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬هذه‭ ‬القلة‭. ‬

 

اللسان‭ ‬لا‭ ‬يقتل‭ ‬إلا‭ ‬صاحبه

لقد‭ ‬كان‭ ‬ديموستنيز‭ ‬هو‭ ‬الأعلى‭ ‬صوتا‭ ‬ضد‭ ‬الديكتاتورية،‭ ‬والأكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬تحريك‭ ‬الجماهير‭ ‬لمصلحة‭ ‬مبادئه‭ ‬وآرائه‭. ‬كانت‭ ‬اتهامات‭ ‬ديموستنيز‭ ‬لزملائه‭ ‬في‭ ‬البرلمان‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬الإشارات‭ ‬الصريحة‭ ‬والدلائل‭ ‬الصحيحة‭ ‬بأنهم‭ ‬عملاء‭ ‬لفيليب‭ ‬المقدوني‭ ‬الذي‭ ‬استطاع‭ ‬استمالتهم‭ ‬إلى‭ ‬جانبه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الرشوة‭ ‬أحيانا‭ ‬والتهديد‭ ‬أحيانا‭ ‬أخرى‭. ‬وعندما‭ ‬تنكشف‭ ‬لنا‭ ‬الحقائق،‭ ‬يتبين‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬فيليب‭ ‬استطاع‭ ‬استمالة‭ ‬رؤوس‭ ‬القوم‭ ‬في‭ ‬أثينا،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬الخطباء‭ ‬أو‭ ‬الوجهاء‭ ‬أو‭ ‬العلماء‭. ‬

وعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬ظهر‭ ‬منشور‭ ‬موقَّع‭ ‬من‭ ‬عميد‭ ‬الأكاديمية‭ ‬الفلسفية‭ ‬الأفلاطونية‭ ‬سبيسيبوس‭ ‬Speusippus‭ ‬بتأييد‭ ‬دعوى‭ ‬فيليب‭ ‬وأحقيته‭ ‬في‭ ‬ضم‭ ‬إحدى‭ ‬الدويلات‭ ‬المنضمة‭ ‬إلى‭ ‬الحلف‭ ‬الإنفكتيوني‭. ‬

لم‭ ‬يكسب‭ ‬فيليب‭ ‬المقدوني‭ ‬خطيب‭ ‬أثينا‭ ‬ديموستنيز‭ ‬إلى‭ ‬جانبه،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬آراء‭ ‬تقول‭ ‬بأنّ‭ ‬ديموستنيز‭ ‬كان،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشعر،‭ ‬يُلبي‭ ‬بمعارضته‭ ‬السلبية‭ ‬أغراض‭ ‬التوسع‭ ‬المقدوني‭. ‬أما‭ ‬ديموستنيز،‭ ‬فلم‭ ‬تفده‭ ‬خطبه‭ ‬ونقده‭ ‬وشجبه‭ ‬وتنديده‭ ‬بالديكتاتور‭ ‬وطغيانه،‭ ‬فمهما‭ ‬كان‭ ‬اللسان‭ ‬سلاح‭ ‬المرء،‭ ‬فاللسان‭ ‬لا‭ ‬يقتل‭ ‬إلا‭ ‬صاحبه،‭ ‬أما‭ ‬اليد‭ ‬فهي‭ ‬السلاح‭ ‬لمن‭ ‬أراد‭ ‬قتالا‭. ‬كان‭ ‬من‭ ‬الأسهل‭ ‬على‭ ‬فيليب‭ ‬أن‭ ‬يحتل‭ ‬أثينا‭ ‬برشوة‭ ‬قادتها‭ ‬واستمالة‭ ‬خطبائها‭ ‬بالمكر‭ ‬والحيلة‭ ‬والعطايا‭ ‬والهدايا‭ ‬دون‭ ‬حرب‭ ‬أو‭ ‬صراع‭. ‬وبعد‭ ‬سنين‭ ‬طوال،‭ ‬ضحت‭ ‬أثينا‭ ‬بديمقراطيتها‭ ‬مقابل‭ ‬ثقتها‭ ‬بالخطباء‭! ‬لقد‭ ‬تآمر‭ ‬مجلس‭ ‬الخطباء‭ ‬على‭ ‬الشعب،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إخفائه‭ ‬ما‭ ‬دار‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬من‭ ‬محادثات‭ ‬ومعاهدات‭ ‬ظهر‭ ‬ضررها‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬على‭ ‬الشعب‭ ‬الأثيني،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬استطاع‭ ‬فيليب‭ ‬ضم‭ ‬أثينا‭ ‬إلى‭ ‬مقدونيا،‭ ‬وصار‭ ‬الملك‭ ‬الأوحد‭. ‬

إنّ‭ ‬انقلاب‭ ‬أعضاء‭ ‬مجلس‭ ‬الخطباء‭ ‬على‭ ‬الشعب‭ ‬بعدم‭ ‬الرجوع‭ ‬إليه‭ ‬وتهميشه‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عدم‭ ‬الإعلان‭ ‬رسمياً‭ ‬عن‭ ‬المفاوضات‭ ‬الخارجية‭ ‬والخطوات‭ ‬التي‭ ‬تمت‭ ‬بها‭ ‬تلك‭ ‬المعاهدات‭ ‬السرية،‭ ‬كانت‭ ‬نتيجته‭ ‬الحتمية‭ ‬هي‭ ‬انتصار‭ ‬الديكتاتورية‭ ‬وسقوط‭ ‬صرح‭ ‬الديمقراطية‭. ‬ومهما‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أمر،‭ ‬فإنّ‭ ‬الحكومات‭ ‬والقيادات‭ ‬السياسية‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬مواطنيها‭ ‬أو‭ ‬قواعدها‭ ‬الشعبية‭ ‬معاملة‭ ‬العارف‭ ‬الحكيم‭ ‬تجاه‭ ‬الضعيف‭ ‬فاقد‭ ‬الأهلية،‭ ‬فكم‭ ‬من‭ ‬شعوب‭ ‬سكتت‭ ‬فخضعت‭ ‬ثم‭ ‬ثارت‭ ‬فأحرقت‭ ‬ودمرت‭. ‬ولنا‭ ‬من‭ ‬حوادث‭ ‬الأيام‭ ‬عبرة،‭ ‬فمازال‭ ‬العرب،‭ ‬المسلمون‭ ‬والمسيحيون،‭ ‬يشجبون‭ ‬وينددون‭ ‬ويعارضون‭ ‬ويرفضون‭ ‬التوسع‭ ‬الصهيوني‭ ‬والاعتداء‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين،‭ ‬حتى‭ ‬تذهب‭ ‬ريحهم‭ ‬مثلما‭ ‬ذهبت‭ ‬أراضيهم،‭ ‬ليعيشوا‭ ‬على‭ ‬الذكرى‭ ‬يندبون‭ ‬وينحبون‭ ‬ويغنون‭ ‬حزنا‭ ‬ويبكون‭... ‬ويغنون‭ ‬وينوحون‭ ‬على‭ ‬القدس‭ ‬‮«‬زهرة‭ ‬المدائن‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬أعلنت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬نقل‭ ‬سفارتها‭ ‬إليها،‭ ‬كاعتراف‭ ‬رسمي‭ ‬منها‭ ‬بأنّ‭ ‬القدس‭ ‬عاصمة‭ ‬لدولة‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭. ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نعلم‭ ‬أنّ‭ ‬هناك‭ ‬تدابير‭ ‬ظلامية‭ ‬سرية‭ ‬تحاك‭ ‬ضدنا،‭ ‬لتفقدنا‭ ‬هويتنا‭ ‬العربية‭ ‬أولاً،‭ ‬وتسلنا‭ ‬شيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬لننحرف‭ ‬عن‭ ‬صراط‭ ‬ديننا‭ ‬المستقيم‭ ‬القويم،‭ ‬حتى‭ ‬ننصهر‭ ‬باللاهوية‭ ‬ثم‭ ‬نخجل‭ ‬من‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬ديننا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يوهموا‭ ‬أبناءنا‭ ‬بأن‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالدين‭ ‬أو‭ ‬الهوية‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬العنصرية‭. ‬ألا‭ ‬ترانا‭ ‬ننسلخ‭ ‬عن‭ ‬عروبتنا‭ ‬جيلاً‭ ‬بعد‭ ‬جيل‭ ‬حتى‭ ‬مُسخت‭ ‬أرواحنا‭ ‬وعقولنا‭... ‬وأشكالنا‭ ‬أيضاً؟‭! 

هذا‭ ‬ما‭ ‬شجّع‭ ‬عليه‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬يُسمّى‭ ‬بـ«النُخَب‮»‬‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬وراء‭ ‬التطور‭ ‬والتقدم‭ ‬الحضاري،‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تدري‭ ‬بأنها،‭ ‬لكي‭ ‬تجري،‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬لياقة‭ ‬بدنية‭ ‬وروحية‭ ‬وثقافية‭ ‬عالية،‭ ‬فالقوم‭ ‬المتحضرون‭ ‬قد‭ ‬سبقونا‭ ‬بمسافات‭ ‬طويلة‭. ‬تلك‭ ‬النُخب‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬سوى‭ ‬السياسة،‭ ‬فأهملت‭ ‬مناهج‭ ‬التعليم‭ ‬ومدارك‭ ‬الثقافة‭ ‬ومسالك‭ ‬الصحة‭ ‬ودروب‭ ‬العدل‭. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الأولى‭ ‬ترجمة‭ ‬مناهج‭ ‬التعليم‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية،‭ ‬كالرياضيات‭ ‬والفيزياء‭ ‬والكيمياء‭ ‬والأحياء،‭ ‬عن‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة،‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬أوربا‭ ‬وأمريكا‭ ‬واليابان،‭ ‬وإقرارها‭ ‬كمناهج‭ ‬تعليمية‭ ‬للمتوسط‭ ‬والثانوي‭. ‬واتباع‭ ‬سبل‭ ‬التدريب‭ ‬الصناعي‭ ‬والبناء‭ ‬والكهرباء‭ ‬على‭ ‬أحدث‭ ‬الأساليب‭ ‬المتبعة‭ ‬في‭ ‬الصين‭ ‬وكوريا‭. ‬قضت‭ ‬الأجيال‭ ‬أعواما‭ ‬طوالاً‭ ‬تتعلم‭ ‬لغات‭ ‬الدول‭ ‬المتحضرة‭ ‬دون‭ ‬علمٍ‭ ‬متقن‭ ‬ولا‭ ‬معلم‭ ‬أصيل‭! ‬أهملنا‭ ‬كل‭ ‬سبل‭ ‬التقدم،‭ ‬واكتفينا‭ ‬بمنح‭ ‬الجوائز‭ ‬والأوسمة‭ ‬والشهادات‭. ‬

 

انتشار‭ ‬الفساد

قاتل‭ ‬الله‭ ‬الفساد،‭ ‬لقد‭ ‬انتشر‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬انتشار‭ ‬مرض‭ ‬‮«‬الإنفلونزا‮»‬،‭ ‬فصارت‭ ‬الدول‭ ‬تصرف‭ ‬أموالاً‭ ‬طائلة‭ ‬لمكافحته،‭ ‬والكل‭ ‬يعلم‭ ‬أنّ‭ ‬الوقاية‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬العلاج‭. ‬إنّ‭ ‬المشكلة‭ ‬الأساسية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المرض‭ ‬ليست‭ ‬بانتشاره‭ ‬فقط‭ ‬بين‭ ‬قطاع‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع،‭ ‬بل‭ ‬عندما‭ ‬يصيب‭ ‬الطبيب‭ ‬المعالج‭ ‬أو‭ ‬المعلم‭ ‬أو‭ ‬المدير‭ ‬أو‭ ‬صاحب‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬منصب‭. ‬والوقاية‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الداء‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬بإصدار‭ ‬القوانين‭ ‬الرادعة‭ ‬بل‭ ‬بتنفيذها‭. ‬لقد‭ ‬تنوعت‭ ‬أوجه‭ ‬الفساد‭ ‬كما‭ ‬اختلفت‭ ‬فيروسات‭ ‬الإنفلونزا،‭ ‬إسبانية‭ ‬وآسيوية‭ ‬وطيور‭ ‬وخنازير،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬الأدوية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬محاربة‭ ‬الفيروس،‭ ‬لذا،‭ ‬تنصح‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬بالتعقيم‭. ‬

أما‭ ‬تعقيم‭ ‬الأخلاق‭ ‬فلا‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬بالتعليم،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أساس‭ ‬بناء‭ ‬شخصية‭ ‬الشعوب‭ ‬التي‭ ‬تبني‭ ‬أوطانها،‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬للداء‭ ‬طبّ‭ ‬وستصبح‭ ‬الرشوة‭ ‬كسباً‭. ‬الرشوة‭ ‬مفتاح‭ ‬باب‭ ‬فساد‭ ‬الفرد‭ ‬والمجتمع‭ ‬والدولة،‭ ‬والفساد‭ ‬يعشق‭ ‬الفوضى،‭ ‬فبالفوضى‭ ‬يرتبك‭ ‬النظام‭ ‬فيختل‭ ‬الأمن‭ ‬وتنتشر‭ ‬الجريمة،‭ ‬وتقوى‭ ‬عصابات‭ ‬الشطار‭ ‬والصعاليك‭ ‬والمرتزقة،‭ ‬ويضعف‭ ‬حراس‭ ‬الأمن‭ ‬ورجال‭ ‬الشرطة‭. ‬منذ‭ ‬عقد‭ ‬مضى،‭ ‬حضرتُ‭ ‬مستمعا‭ ‬ندوة‭ ‬عن‭ ‬المخدرات‭ ‬أقيمت‭ ‬في‭ ‬عاصمة‭ ‬دولة‭ ‬الإمارات‭ ‬العربية‭ ‬المتحدة،‭ ‬توزعت‭ ‬هذه‭ ‬الندوة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬وِرَشِ‮»‬‭  ‬أمنية‭ ‬وطبية‭ ‬واجتماعية‭. ‬استهدفت‭ ‬هذه‭ ‬الندوة‭ ‬بيان‭ ‬خطر‭ ‬المخدرات‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬والعالم‭. ‬

كانت‭ ‬الفائدة‭ ‬جمة‭ ‬في‭ ‬توضيح‭ ‬مثلث‭ ‬دول‭ ‬زراعة‭ ‬المخدرات‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وكيفية‭ ‬تصدير‭ ‬المحصول‭ ‬غرباً‭. ‬وبيّن‭ ‬المحاضرون‭ ‬سُبُل‭ ‬توزيع‭ ‬المخدرات‭ ‬عبر‭ ‬العالم،‭ ‬والأموال‭ ‬الطائلة‭ ‬التي‭ ‬تدفعها‭ ‬عصابات‭ ‬التهريب‭ ‬للمتنفذين‭ ‬والمسؤولين‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬يتم‭ ‬عبور‭ ‬المخدرات‭ ‬فيها‭. ‬ولا‭ ‬يقف‭ ‬الأمر‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحدّ،‭ ‬بل‭ ‬يتعداه‭ ‬لتدفع‭ ‬هذه‭ ‬العصابات‭ ‬مبالغ‭ ‬كبيرة‭ ‬لصناعة‭ ‬الفتن‭ ‬والقلاقل‭ ‬والثورات‭ ‬الداخلية‭ ‬لزعزعة‭ ‬الأمن‭ ‬والاستقرار،‭ ‬وبذلك‭ ‬يسهل‭ ‬على‭ ‬قوافلهم‭ ‬المحملة‭ ‬بالموت‭ ‬عبور‭ ‬الأراضي‭. ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬يفسر‭ ‬دورا‭ ‬غير‭ ‬محسوب‭ ‬لما‭ ‬يُسمّى‭ ‬بتنظيم‭ ‬‮«‬داعش‮»‬،‭ ‬فطريق‭ ‬المخدرات‭ ‬هو‭ ‬نفس‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬تمركز‭ ‬فيه‭ ‬‮«‬الدواعش‮»‬،‭ ‬ولو‭ ‬عرف‭ ‬الفتية‭ ‬الذين‭ ‬غرر‭ ‬بهم‭ ‬بهذا‭ ‬الأمر‭ ‬لارتدعوا‭ ‬وابتعدوا‭ ‬عن‭ ‬شعارات‭ ‬الشيطان،‭ ‬‭{‬وَلَا‭ ‬تَكُونُوا‭ ‬كَالَّذِينَ‭ ‬خَرَجُوا‭ ‬مِنْ‭ ‬دِيَارِهِمْ‭ ‬بَطَرًا‭ ‬وَرِئَاءَ‭ ‬النَّاسِ‭ ‬وَيَصُدُّونَ‭ ‬عَنْ‭ ‬سَبِيلِ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬وَاللَّهُ‭ ‬بِمَا‭ ‬يَعْمَلُونَ‭ ‬مُحِيطٌ‭ (‬47‭) ‬وَإِذْ‭ ‬زَيَّنَ‭ ‬لَهُمُ‭ ‬الشَّيْطَانُ‭ ‬أَعْمَالَهُمْ‭ ‬وَقَالَ‭ ‬لَا‭ ‬غَالِبَ‭ ‬لَكُمُ‭ ‬الْيَوْمَ‭ ‬مِنَ‭ ‬النَّاسِ‭ ‬وَإِنِّي‭ ‬جَارٌ‭ ‬لَكُمْ‭ ‬فَلَمَّا‭ ‬تَرَاءَتِ‭ ‬الْفِئَتَانِ‭ ‬نَكَصَ‭ ‬عَلَى‭ ‬عَقِبَيْهِ‭ ‬وَقَالَ‭ ‬إِنِّي‭ ‬بَرِيءٌ‭ ‬مِنْكُمْ‭ ‬إِنِّي‭ ‬أَرَى‭ ‬مَا‭ ‬لَا‭ ‬تَرَوْنَ‭ ‬إِنِّي‭ ‬أَخَافُ‭ ‬اللَّهَ‭ ‬وَاللَّهُ‭ ‬شَدِيدُ‭ ‬الْعِقَابِ‭}‬‭. (‬سورة‭ ‬الأنفال]‭: ‬الآيتان‭ ■‬(47‭-‬48‭)