قراءةٌ في فِكْر السيد يسين
رحل عن عالمنا في مارس 2017، المفكر العربي السيد يسين (1933 – 2017)، مخلفا وارءه تراثاً من الأعمال الفكرية شـمل قضايا اجتماعية وسياسية، فضلاً عن دراساته التي رصدت وحللت، بمنهج صاغه وهو منهج التحليل الثقافي، التحولات الكبرى التي حدثت مع بداية تسعينيات القرن الماضي، وانهيار الاتحاد السوفييتي، وبروز ما أسماه «الامبراطورية الكونية» وعنى بها الولايات المتحدة الأمريكية، ولم تكن التحولات التي رصدها الأستاذ يسين قاصرة فقط على ما حدث في بنية النظام الدولي، بل ما صاحب هذا من ظهور قضايا عالمية، مثل العولمة بتجلياتها المختلفة، وبشكل خاص ثورة المعلومات والاتصالات، ثم صراع وحوار الثقافات.
يروي يسين عن تكوينه الثقافي والفكري في شبابه المبكر، حيث قرأ وهو طالب في الجامعة في علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والشعر الإنجليزي، وقصائد إليوت والأساتذة المصريين الذين تأثر بهم، وسياسياً انجذب في هذه الفترة إلى جماعة الإخوان المسلمين، إلى درجة أنه عمل خطيباً «تحت التمرين» في الزوايا الصغيرة، جذبه إليهم أنهم كانوا «منفتحين جداً ولم يكن لديهم أي انغلاق فكري تجاه قضايا الأقباط والمرأة»، غير أنه ما لبث أن اكتشف «أن الإخوان ليس لديهم نظرية علمية تساعده على فهم المجتمع المصري. وهو ما تطور إلى التركيز المبكر على مشكلات المجتمع المصري»: المشكلة الاجتماعية وخاصة الفجوة الطبقية الكبرى بين الفقراء والأغنياء، والمشكلة الوطنية وكيف نجلي الإنجليز عن مصر.
في بدايات عمله البحثي كان من نقاط التحول هو اختياره مساعد باحث في المركز القومي للبحوث الاجتماعية بتشجيع من مؤسسة الراحل الدكتور أحمد خليفة، وهي المرحلة التي استمرت من 1975 إلى 1990، وفي هذه المرحلة تبلور منهجه العلمي، الذي يسميه المنهج التاريخي النقدي المقارن.
وكان أول أعماله في مجال البحث الاجتماعي، كتابه مع آخرين عن «أسس البحث الاجتماعي» عام 1963، ثم «التحليل الاجتماعي للأدب» عام 1970، ثم «السياسة الجنائية المعاصرة: دراسة نقدية للدفاع الاجتماعي» عام 1977.
وقد استمرت اهتمامات يسين حول قضايا قومية، حيث أصدر «الصهيونية أيديولوجية عنصرية» (1977)، ثم «الشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر» (1973)، ثم «تحليل مفهوم الفكر القومي» (1987)، السياسة الجنائية المعاصرة... دراسة نقدية للدفاع الاجتماعي» (1992).
مع التحولات العالمية التي جرت في أوائل التسعينيات حين انهار الاتحاد السوفييتي كنظام، وأيديولوجية ودولة، وانتهاء فترة الحرب الباردة، وبروز الولايات المتحد باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، وتوازيا مع هذا ترسخت ظاهرة العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، والتي كان محركها ثورة تكنولوجيا المعلومات.
مشروع فكري
مع هذا التحول في العالم، شرع السيد يسين في مشروعه الفكري في دراسة هذه التحولات العالمية، حيث كان يركز على قضيتين: العولمة، وحوار الحضارات. ولهذا سنركز على هذا المشروع، حيث نعتبر أنه يتوج التطور الفكري يسين. في كتاباته عن هذا المشروع كان يحاول فهم «نص العالم المعقد»، الذي تتداخل فيه بطريقة جدلية القوى السياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية.
وقد بدت أولى ثمار هذا المشروع في كتابه «الوعي التاريخي والثورة التكنولوجية – حوار الحضارات في عالم متغير» (مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، الأهرام 1995)، والذي حاول فيه تطبيق منهج التحليل الثقافي في قراءة وتفسير خريطة المجتمع الدولي، ما جعله يركز على نظم الأفكار في نشوئها وتحولها وتغيرها، وقد توصل في هذا المنهج إلى أن المناهج السياسية والاقتصادية السائدة عجزت عن سبر أغوار المشكلات التي تواجه العالم. وقد تابع المشروع بكتابه «الزمن العربي والمستقبل العالمي»، (دار المستقبل العربي، عام 1998)، وكانت فضيلة هذا العمل هي قراءة التحولات في بيئة العالم السياسية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية من حيث تداخلها وتأثيرها على الواقع العربي، وينطلق يسين من فرضية محددة، أنه «ما كان ممكنا الحديث عن المستقبل العربي من غير أن نضع في اعتبارنا مستقبل المجتمع العالمي»، بل إنه ذهب إلى تحديات العالم، وجمعها في ستة تحديات رئيسة، هي: مخاطر الأحادية الفكرية، وآفاق التطور السياسي، ومشكلات سياسات الثقافة، والتعامل مع الثورة العلمية والتكنولوجية، والتجديد الاقتصادي، ثم العلاقة بين الأنا والآخر.
أزمة هوية
وبعبارة أخرى مشكلة الحوار بين الحضارات، واتساقاً مع الاهتمام الذي كان يعطيه يسين في بحوثه ودراساته للتحولات العالمية للبعد الثقافي والحاجة إلى التجديد أو الإحياء الثقافي، فإنه في هذا العمل يبحث في أزمة الثقافة العربية ويعتبرها أزمة شرعية، وأزمة هوية وأزمة عقلانية في الوقت نفسه.
وقد كان طبيعياً أن تحتل الولايات المتحدة الأميركية، مكاناً بارزاً في مشروع يسين قراءة التحولات التي حدثت في العالم وبروزها كقوة عظمى أولى ووحيدة، وهذا ما يفسر إصداره كتاب «الامبراطورية الكونية» (دار نهضة مصر، 2004)، وأن تحتل الأحداث الإرهابية التي تعرضت لها أمريكا في سبتمبر 2001، اهتماماً خاصا في هذا الكتاب، وأن يعتبرها «نهاية الامبراطورية الأمريكية» وأن يتوقع في وقت مبكر، من خلال التدخل الأمريكي في العراق، أن إدارة بوش سوف تقع في المستنقع العراقي كما وقعت الولايات المتحدة من قبل في المستنقع الفيتنامي.
في سياق مشروعه الفكري عن التحولات التي تحدث في العالم والقوى التي تحدثها، كانت ظاهرة العولمة، من أهم الظواهر التي استوقفته بتجلياتها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، وهي الظاهرة التي كانت قد ترسخت مع منتصف التسعينيات، وبدا أنها ألغت حواجز المكان والزمان، وسمحت بتدفقات رؤوس الأموال والبشر، ولإدراكه لعمق تأثيرات هذه الظاهرة خصص لها ثلاثة أعمال رئيسية: «العالمية والعولمة» «الحوار الحضاري في عصر العولمة»، «المعلوماتية وقضايا العولمة»، «آفاق المعرفة في عصر العولمة»، ثم «أزمة العولمة وانهيار الرأسمالية». في هذا العمل الأخير، تعرض الكتاب إلى مأزق العولمة الرأسمالية وللبعد الاجتماعي الجذري للعولمة الذي يعد امتداداً وتجاوزاً في الوقت نفسه لنقد الرأسمالية، باعتبارها مذهباً اقتصادياً، فالرأسمالية المعولمة هي مصدر كل من الثراء الناشئ المتنامي، وفي الوقت نفسه لضروب من التوتر، حيث لا يمكن الحفاظ على شرعية الأسواق المعولمة في الوقت الذي لا يستفيد منها إلا خمس سكان العالم، وفي العقد الأخير على وجه الخصوص برزت سلبيات العولمة في ضوء المنافسة غير المقننة وحماية رؤوس الأموال, مما تسبب في إلحاق أضرار متعددة بالأفراد والمجتمعات.
الطريق الثالث
ولعل النقد للاقتصاد الرأسمالي في ظل العولمة وما أحدثه من تأثيرات وفوارق اجتماعية، حتى داخل النظم الرأسمالية الراسخة، هو الذي جعل يسين أن يهتم بالمفهوم الذي بدأ يتبلور في التسعينيات كنتيجة للآثار السلبية للعولمة وتعني به مفهوم «الطريق الثالث الذي يعني طريقاً وسطا بين الاشتراكية، التي دانها التاريخ حسبما يعتبر البعض، والرأسمالية التي اهتزت بعنف من جراء الأزمات في آسيا وروسيا وأمريكا الجنوبية». وقد خصص يسين لهذا المفهوم كتاب «العولمة والطريق الثالث» (دار ميريت 1999)، واستشهد بأن هذا المفهوم انتقل من كتابات الباحثين والمفكرين إلى شخصيات رسمية أمريكية وأوربية كما بدت في الندوة التي عقدت مع جامعة نيويورك وضمت الرئيس الأمريكي كلينتون، وتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني، ورئيس الوزراء الإيطالي، ورئيس الوزراء الهولندي، وجميعهم يمثلون قلاع الرأسمالية التقليدية. ويروي يسين تفاصيل متابعته الندوة ودهشته من الأفكار الراديكالية التي طرحها كلينتون وقربه من بعض الأفكار الاشتراكية، وهو ما جعله يستنتج أن الترجمة الفعلية لتطبيق ما سبق أن أسماه «الاتجاه التوفيقي» الذي يهدف إلى الجمع بين قيم كانت تبدو معارضة لجو الاستقطاب الأيديولوجي الذي ساد القرن العشرين، وخصوصاً بعد سقوط الثنائيات الزائفة؟
نموذج حضاري
وفي كتابه «آفاق المعرفة في عصر العولمة» (الهيئة العامة للكتاب 2011) ينبه إلى أن أبرز تحول شهده المجتمع العالمي في العقود الأخيرة هو الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج حضاري جديد هو مجتمع المعلومات العالمية الذي يتحول بثبات إلى مجتمع المعرفة.
ومن استعراضه لهذا التحول يتساءل يسين عن مدى اهتمام المجتمعات العربية بهذا التحول، ويتساءل عن دور العرب في السباق الحضاري العنيف الذي يدور تحت أعلام العولمة، ويبرز التساؤل الذي وجهه أحد علماء المعلوماتية، وهو د. نبيل علي: هل يمكن أن نلحق بركب السباق الحضاري أم سنعجز عن ذلك؟ ويجيب عن ذلك أن العرب يمتلكون من الموارد البشرية والمادية ما يجعلهم مؤهلين لخوض هذا السباق الذي يتوقف على القدرة على تنظيم موارده الذهنية وتوظيف المعرفة التي تؤسس على البحث العلمي المتكامل للمشكلات وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وينتهي يسين فيما يتعلق بعلاقة العولمة بالمعرفة إلى أن المعرفة ترتبط بالقوة، وبعبارة أخرى ستصبح المفاضلة بين الدول في القرن الحادي والعشرين على أساس قدرة الدولة على إنتاج المعرفة الأصيلة التي تزيد التراكم على مستوى العالم، وهو ما يقتضي التفاعل العربي حول الخلاف مع العولمة لتعظيم إيجابياتها والحد من سلبياتها في إطار صياغة الأنساق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، غير أن يسين لا يريد أن ينهي موقفه من قضايا العولمة دون أن يناقش تياراً فكرياً، عبر عنه د. حسن حنفي، وبشكل قاطع «أن العولمة هي أحد أشكال الهيمنة الغربية الجديدة التي تعبر عن المركزية الأوربية في العصر الحديث التي بدأت منذ الكشوف الجغرافية في القرن الخامس عشر، وعلى الرغم من موافقة يسين على الخط العام للآثار السلبية للهيمنة الغربية، فإنه يتحفظ عن اعتبار أن العولمة هي أحد أشكال الهيمنة الغربية في العصر الحديث، فعنده أن هذا الحكم يختزل ظاهرة العولمة، وهي عملية تاريخية كبرى متعددة المصادر زاخرة بالأبعاد، في كونها مجرد تعبير عن الهيمنة الغربية المركزية.
حوار الحضارات
وإذا كانت ظاهرة «العولمة» كما رأينا، قد نالت اهتماماً ملحوظاً من يسين، فثمة قضية أخرى توازت مع اهتمامه بالعولمة، وهي قضية «حوار الحضارات»، وإن كانت قد أثيرت في أوائل التسعينيات حين أصدر عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتجتنون مقاله ثم كتابه «صدام الحضارات» إلا أن هذه القضية قد ثارت وبقوة من جديد بعد الأحداث الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة في سبتمبر 2001، خاصة بعدما تبين أن جميع من قاموا بها جاءوا من أصول إسلامية.
من هنا كان تخصيص يسين عدداً من أعماله لمناقشة قضية حوار الحضارات، فقد أصدر: «الوعي التاريخي والثورة الكونية وحوار الحضارات في عالم متغير»، «حوار الحضارات... تفاعل الغرب الكوني مع الشرق المتضرر»، «الديمقراطية وحوار الثقافات، وتحليل الأزمة وتفكيك الخطاب»، ثم «جدل الحضارات... ثلاثية الحوار والصراع والتحالف: 2015». في هذه الأعمال انطلق يسين من اعتباره أن قضية حوار الحضارات ليست منعزلة عن أحداث سبتمبر، ويمكن القول إنها أعطتها أبعاداً أعمق. ويعتقد يسين أنه إذا أردنا أن ندرس العلاقات بين الإسلام والغرب، سواء كانت علاقات صراع أو تعاون، فعلينا أن نخوض في غمار الخطابات الأيديولوجية والسياسية الصاخبة التي عادة ما تصدر عن الدول لكي ترصد سلوكها الفعلي وتشريح دوافعها الحقيقية.
ووفقاً لفرد هاليدي فإنه إذا حللنا سلوك الدول في مجال العلاقات الدولية، فليس هناك «إسلام واحد» و«غرب واحد» فهناك 55 دولة إسلامية أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، وهناك دول مثل إثيوبيا والهند توجد فيها جاليات إسلامية كبيرة، وهناك 16 مليون مسلم في روسيا ونحو 60 دولة المسلمون فيها يمثلون أقلية، وكل دولة من هذه الدول لها مصالحها المستقلة، كما أن لها تعريفاتها الخاصة لتقاليدها القومية، وبالتالي لكل منها طريقها في الارتباط بالتقاليد الإسلامية، وهو ما ينطبق على الغرب نفسه.
ويطرح يسين سؤالاً: هل سادت في أوربا موجة عداء ضد الإسلام باعتباره ديناً؟ أم إنها ضد جماعات محددة من المسلمين وفي ظروف معينة ينبغي تجليتها وإبرازها؟
أسباب أخرى
ولظاهرة العداء ضد المسلمين أسباب أخرى ثقافية تضاف إلى الأسباب الاقتصادية، من أهمها أن المهاجرين المسلمين لهم طقوسهم الدينية بشكل علني لافت للنظر، مما جعل شعوب عديد من هذه البلاد يمارسون اتجاهاً عدائيا ضدهم، ولعل معركة الحجاب في فرنسا ومحاولة منع الطالبات المسلمات المحجبات من وصول المدارس الفرنسية دليل على ذلك.
وقد اهتم يسين، بقضية صعود التيارات المتطرفة والفكر التكفيري، وإن عارض بشراسة هذه التيارات وهذا الفكر، وخلال هذا كان لابد له أن يتعرض للفكر الديني، وضرورات تجديده وإصلاحه إذا أردنا حقاً هزيمة هذا الفكر، وأصدر كتابه «نقد الفكر الديني»، الذي ركز فيه على حاجة الجماعات الإسلامية إلى «النقد الذاتي»، ونبه إلى أن مواجهة التطرف لن تتحقق فقـــــط بالوسائل الأمــــنية ولكــن من خلال استراتيجــية شاملة تشمل التعليم والثقافة■