قراءة في تجربة «إلياس أبوشبكة الشعريَّة» ورؤاه

قراءة في تجربة  «إلياس أبوشبكة الشعريَّة» ورؤاه

تهدف هذه المقالة إلى التعريف بتجربة إلياس أبو شبكة الشعريَّة التي خلُصت إلى بلورة رؤى لقضيتين مركزيتين؛ أولاهما الحياة وقضاياها، وثانيتهما الشّعر وقضاياه.
أصدر أبو شبكة ديوانه الشهير «أفاعي الفردوس» في عام 1938، فأحدث جدلا في الأوساط الثقافية، إن من حيث النُّصوص الشعرية التي تصوّر حالات نفسيَّة تتمثَّل في التمرُّد والتوتر والقلق، وإن من حيث الآراء التي تضمَّنتها مقدّمته، التي وضع فيها أسس رؤيته الرومانسيَّة، ووجد النُّقاد آنذاك قرابة بين ديوانه هذا وديوان «أزهار الشر» لبودلير، و«ليالي» موسيه.

 

كان‭ ‬يستيقظ‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬بين‭ ‬الرابعة‭ ‬والخامسة،‭ ‬ويبدأ‭ ‬الكتابة‭ ‬وركوة‭ ‬القهوة‭ ‬إلى‭ ‬جانب،‭ ‬والنارجيلة‭ ‬إلى‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر،‭ ‬وكان‭ ‬إذا‭ ‬بدأ‭ ‬النّظم‭ ‬يحرّك‭ ‬يديه‭ ‬كأنَّه‭ ‬يلقي‭ ‬خطابًا‭ ‬في‭ ‬مهرجان،‭ ‬ويهزُّ‭ ‬رأسه‭ ‬وكتفيه‭ ‬ورجليه‭ ‬كأنَّه‭ ‬مصاب‭ ‬بالحمَّى‭.‬

كان‭ ‬أبو‭ ‬شبكة،‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬‮«‬أبرز‭ ‬شعراء‭ ‬العهد‭ ‬الجديد‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬وضع‭ ‬أسس‭ ‬الاتجاه‭ ‬الرومانسي،‭ ‬نظريًا،‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬‮«‬أفاعي‭ ‬الفردوس‮»‬،‭ ‬وممارسة‭ ‬في‭ ‬عطائه‭ ‬الشعري‭.‬

يعدُّ‭ ‬أبو‭ ‬شبكة‭ ‬الشعر‭ ‬‮«‬لغة‭ ‬الروح‮»‬،‭ ‬ويراه‭ ‬عصيًّا‭ ‬على‭ ‬التحديد،‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬النفس،‭ ‬ويستخدم‭ ‬الطبيعة‭ ‬قيثارة‭ ‬له‭. ‬ويصدر‭ ‬تعبيرًا‭ ‬كليًّا‭ ‬مرتديًا‭ ‬ثوبه‭ ‬الكامل،‭ ‬وعناصره‭ ‬متساوية‭ ‬في‭ ‬الأهميَّة‭.‬

أمَّا‭ ‬الشاعر‭ ‬العظيم،‭ ‬عند‭ ‬أبو‭ ‬شبكة،‭ ‬فهو‭ ‬ذلك‭ ‬الكائن‭ ‬الذي‭ ‬يملك‭ ‬شعلة‭ ‬سريَّة‭ ‬تجعله‭ ‬فوق‭ ‬النظريات‭ ‬والمدارس،‭ ‬لأن‭ ‬إبداعه‭ ‬بثُّ‭ ‬الذات‭ ‬وفيضها‭ ‬وليس‭ ‬صناعة،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬فاليري‭ ‬وأتباعه‮»‬‭.‬

وكان‭ ‬يرى‭ ‬أنَّ‭ ‬الشَّاعر‭ ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬التوتُّر‭ ‬الأعظم‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تنقر‭ ‬عليه‭ ‬أحاسيس‭ ‬الناس‭ ‬ومشاعرهم،‭ ‬فيبدع‭ ‬الَّلحن‭ ‬العظيم‭ ‬الخالد،‭ ‬وذلك‭ ‬الكائن‭ ‬الذي‭ ‬يرى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يراه‭ ‬النَّاس،‭ ‬فكأنَّه‭ ‬يمتلك‭ ‬نورًا‭ ‬عميقًا‭ ‬تمتلئ‭ ‬به‭ ‬نفسه،‭ ‬فعندما‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬يفيض‭ ‬ذلك‭ ‬النُّور،‭ ‬فيكشف‭.‬

وإن‭ ‬يكن‭ ‬الشاعر‭ ‬يمتلك‭ ‬هذه‭ ‬الموهبة،‭ ‬فإنَّه،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬أبو‭ ‬شبكة،‭ ‬‮«‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬ثقافته‭ ‬من‭ ‬الرُّقي‭ ‬والذَّوق،‭ ‬والموسيقى‭ ‬في‭ ‬روحه،‭ ‬يكون‭ ‬البيان‭ ‬راقيًا‭ ‬في‭ ‬شعره‮»‬‭. ‬لهذا‭ ‬كانت‭ ‬فرنسا‭ ‬من‭ ‬منظوره‭ ‬‮«‬الفرن‭ ‬الذي‭ ‬يخبز‭ ‬فيه‭ ‬خبز‭ ‬الإنسانيَّة‭ ‬الثقافي‮»‬‭.‬

يعاني‭ ‬الشاعر‭ ‬الموهوب‭ ‬المثقَّف،‭ ‬فيسقي‭ ‬قَلَمَه‭ ‬ألمُه،‭ ‬وهو‭ ‬صاحب‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬المشهور‭:‬

اجْرح‭ ‬القلبَ‭ ‬واسْقِ‭ ‬شعركَ‭ ‬منه

فَدَمُ‭ ‬القلب‭ ‬خمرةُ‭ ‬الأقلام

 

‭ ‬لكنَّ‭ ‬الألم‭ ‬المعيش‭ ‬لا‭ ‬يغدو‭ ‬شعرًا‭ ‬إلاَّ‭ ‬إذا‭ ‬صُهرَ‭ ‬في‭ ‬النَّفس،‭ ‬ففي‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬المصْهَر‮»‬‭ ‬يتمُّ‭ ‬الخلق،‭ ‬لذا‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بدَّ‭ ‬من‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬‮«‬الشّعر‭/ ‬التعبير‮»‬‭ ‬و«الشّعر‭/ ‬الفن‮»‬‭.‬

‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬هذا‭ ‬أنَّ‭ ‬الشَّاعر‭ ‬‮«‬صَانعٌ‮»‬‭ ‬ينظم‭ ‬ساعة‭ ‬يشاء،‭ ‬وإنَّما‭ ‬يعني‭ ‬أنَّ‭ ‬الإنسان‭ ‬الشاعر‭ ‬يمتلك‭ ‬‮«‬قدرة‭ ‬خارقة‮»‬‭ ‬هي‭ ‬جوهر‭ ‬نفسه،‭ ‬ففي‭ ‬هذا‭ ‬الجوهر‭ ‬تنصهر‭ ‬معطيات‭ ‬العيش،‭ ‬وتفيض‭ ‬شعرًا‭ ‬من‭ ‬‮«‬المصْهَر‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تشترك‭ ‬قوى‭ ‬الإنسان‭ ‬جميعها‭ ‬في‭ ‬تكوينه‭ ‬‮«‬جوهرًا‭/ ‬روحًا‮»‬‭.‬

وبهذا،‭ ‬يكون‭ ‬الشعر‭ ‬‮«‬لغة‭ ‬الرُّوح‮»‬‭ ‬هذه،‭ ‬أو‭ ‬‮«‬لغة‭ ‬الحسّ‭ ‬الوجداني‭ ‬العميق‮»‬‭ ‬المتمثّلة‭ ‬مجازًا‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬النُّور‭ ‬الأسمى‮»‬‭ ‬الكاشف‭ ‬أشياء‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬وقضاياه،‭ ‬وتتعاضد‭ ‬فيه‭ ‬عناصره‭ ‬جميعها،‭ ‬‮«‬فلا‭ ‬تنحطُّ‭ ‬الفكرة‭ ‬عن‭ ‬الموسيقى‭ ‬أو‭ ‬الصُّورة‮»‬‭.‬

ولا‭ ‬بدَّ‭ ‬للشَّاعر،‭ ‬كي‭ ‬يكون‭ ‬شعره‭ ‬لغة‭ ‬روح‭ ‬الذَّات‭ ‬المتميّزة،‭ ‬والمتمثّلة‭ ‬ذات‭ ‬الفرد‭ ‬المبدع‭ ‬والجماعة‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يمتلك‭ ‬الُّلغة،‭ ‬وإذ‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬تسلم‭ ‬إليه‭ ‬أسرارها،‭ ‬فيبدع‭ ‬ما‭ ‬ينقل‭ ‬الحالة‭ ‬الشعريَّة‭ ‬ويثيرها‭. ‬والُّلغة‭ ‬العربيَّة‭ ‬الفصحى‭ ‬
هي،‭ ‬لكلّ‭ ‬شاعر‭ ‬بها،‭ ‬‮«‬أعظم‭ ‬ترجمان‭ ‬عن‭ ‬الذَّات‮»‬‭.‬

عن‭ ‬وظيفة‭ ‬الشاعر‭ ‬ودوره،‭ ‬يقول‭ ‬أبو‭ ‬شبكة‭: ‬‮«‬عصفور‭... ‬عصفور‭...‬،‭ ‬طار‭... ‬طار‭ ‬وهبط،‭ ‬ما‭ ‬يستطيع‭ ‬عصفور‭ ‬صغير؟‭!‬‮»‬‭.‬

تتيح‭ ‬قراءة‭ ‬النماذج‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬سطَّرها‭ ‬أبو‭ ‬شبكة‭ ‬ونظراؤه‭ ‬القول‭ ‬إنَّ‭ ‬الشعراء‭ ‬الرومانسيين‭ ‬لم‭ ‬يتجاوزوا‭ ‬صنيع‭ ‬الشعراء‭ ‬المهجريين،‭ ‬فكانت‭ ‬قصيدتهم‭ ‬اتباعيَّة‭ ‬البناء،‭ ‬أو‭ ‬تنويعًا‭ ‬على‭ ‬القصيدة‭ ‬الاتباعية‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لديهم‭ ‬من‭ ‬تجديد‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬إطار‭ ‬التنويع‭ ‬البنائي‭ ‬الذي‭ ‬توجّهه‭ ‬مقوّمات‭ ‬القصيدة‭ ‬الاتباعيَّة‭ ‬نفسها،‭ ‬محدَّدةً‭ ‬في‭ ‬الوزن‭ ‬الخليلي،‭ ‬أو‭ ‬تفاعيله،‭ ‬وفي‭ ‬القافية‭ ‬منوَّعة‭ ‬أحيانًا،‭ ‬وفي‭ ‬شكل‭ ‬بنية‭ ‬القصيدة،‭ ‬منوَّعًا‭ ‬عليه‭ ‬أحيانًا‭ ‬أيضًا‭.‬

 

التجربة‭ ‬الشعريَّة

ونرى‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الصَّواب‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬إلى‭ ‬تجربة‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬شبكة‮»‬‭ ‬الحياتية‭ /‬الشعرية،‭ ‬بوصفها‭ ‬مسارًا‭ ‬لم‭ ‬ينفكَّ‭ ‬عن‭ ‬التكوُّن‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬الشاعر‭ ‬تجسيد‭ ‬تجربة‭ ‬حياته‭ ‬نصوصًا‭ ‬شعرية،‭ ‬وتقديم‭ ‬معرفة‭ ‬جمالية‭ ‬شعرية‭ ‬بها،‭ ‬فشعره،‭ ‬كما‭ ‬هو،‭ ‬معروف،‭ ‬سجل‭ ‬جمالي‭ ‬لحياته‭.‬

عاش‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬شبكة‮»‬،‭ ‬في‭ ‬آونة‭ ‬مبكرة،‭ ‬تجربة‭ ‬الفَقْد،‭ (‬فقَد‭ ‬الأب‭ ‬والثروة‭) ‬والعجز‭ ‬عن‭ ‬تعويضه‭ ‬العملي،‭ ‬فسعى‭ ‬إلى‭ ‬التَّعويض‭ ‬في‭ ‬ميادين‭ ‬بديلة،‭ ‬منها‭ ‬المرأة‭/ ‬الحب،‭ ‬نقد‭ ‬الواقع‭ ‬السياسي‭/ ‬الاجتماعي‭ ‬والدعوة‭ ‬إلى‭ ‬تغييره،‭ ‬وتمثُّل‭ ‬ذلك‭ ‬وتمثيله‭ ‬نصوصًا‭ ‬شعرية،‭ ‬رائية‭ ‬كاشفة،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬بلورة‭ ‬رؤى‭ ‬شعرية،‭ ‬تمثَّلت‭ ‬في‭ ‬بيان‭ ‬شعري،‭ ‬جعله‭ ‬الشاعر‭ ‬مقدمة‭ ‬لمجموعته‭ ‬الشعرية،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬النظريات‭ ‬الشعرية،‭ ‬وكان‭ ‬يسخر‭ ‬من‭ ‬‮«‬هَوَس‮»‬‭ ‬بعض‭ ‬النقَّاد‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬المصطلح‭ ‬الغربي‭ ‬بلفظه‭ ‬إلى‭ ‬العربيَّة،‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬رياليسم‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬شاع‭ ‬مدَّة،‭ ‬ثمَّ‭ ‬شاع‭ ‬واستقرَّ‭ ‬بدلًا‭ ‬منه،‭ ‬المصطلح‭ ‬المترجم،‭ ‬وهو‭ ‬الواقعية،‭ ‬وتشبهه،‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬ومصطلحات‭ ‬منها‭: ‬الكوبيسم‭ = ‬التكعيبيَّة،‭ ‬والابريسم‭ = ‬الانطباعيَّة،‭ ‬والفيوتشيريزم‭ = ‬المستقبليَّة‭.‬

 

1-‭ ‬المرأة‭ ‬والحب

يروي‭ ‬عارفو‭ ‬أبو‭ ‬شبكة‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يروه‭ ‬يضحك‭ ‬ملء‭ ‬فمه‭ ‬ضحكة‭ ‬غبطة‭ ‬وارتياح‭. ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الشقاء‭ ‬الشخصي‭ ‬الذي‭ ‬بدأ‭ ‬منذ‭ ‬اغتيال‭ ‬والده،‭ ‬وتكثَّف‭ ‬لدى‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬يسوده‭ ‬الخلل،‭ ‬وبدأ‭ ‬التعبير‭ ‬عنه‭ ‬مع‭ ‬بداية‭ ‬شقاء‭ ‬إنساني‭ ‬تمثَّل‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬وعبَّر‭ ‬عن‭ ‬فاتحة‭ ‬ذلك‭ ‬الشقاء‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬الشعرية‭ ‬الأولى‭ ‬‮«‬القيثارة‮»‬‭.‬

في‭ ‬فضاء‭ ‬هذا‭ ‬الشقاء‭ ‬المركَّب،‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بدَّ‭ ‬من‭ ‬‮«‬عسلٍ‭ ‬مُحَل‮»‬،‭ ‬فكانت‭ ‬المرأة‭/ ‬الحبُّ‭ ‬هذا‭ ‬العسل،‭ ‬إذ‭ ‬إنَّه‭ ‬أحبَّ‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬السابعة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬امرأة‭ ‬تكبره‭ ‬بثلاث‭ ‬سنوات‭ ‬هي‭ ‬أولغا‭ ‬ساروفيم،‭ ‬أحبَّها‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات،‭ ‬ثمَّ‭ ‬خطبها،‭ ‬وبعد‭ ‬سبع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬الخطبة‭ ‬تزوجها،‭ ‬زيجة‭ ‬عجيبة،‭ ‬إذ‭ ‬استدعى‭ ‬الخوري‭ ‬إلى‭ ‬بيتها،‭ ‬وبعد‭ ‬إجراء‭ ‬عقد‭ ‬الزواج‭ ‬ذهب‭ ‬لينام‭ ‬في‭ ‬بيته‭.‬

غنَّى‭ ‬قصَّة‭ ‬علاقته‭ ‬بأولغا‭ ‬في‭ ‬مطوَّلة‭ ‬شعرية‭ ‬قصصيَّة‭ ‬غنائية،‭ ‬نظم‭ ‬قصائدها‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1926‭ ‬و1932‭. ‬تتألف‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬من‭ ‬أناشيد،‭ ‬موزَّعة‭ ‬على‭ ‬أربعة‭ ‬أقسام‭ ‬هي‭: ‬1‭ - ‬تعريف‭ ‬بالفتاة،‭ ‬ووصف‭ ‬جمالها‭ ‬الممتزج‭ ‬بجمال‭ ‬الطبيعة،‭ ‬2‭ - ‬عذاب‭ ‬الضمير،‭ ‬3‭ - ‬التجلّي‭: ‬السعادة‭ ‬لا‭ ‬تتحقق‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬الجلجلة،‭ ‬4‭ - ‬الغفران‭.‬

سمَّى‭ ‬الشاعر‭ ‬مطوَّلته‭ ‬الشعرية‭ ‬هذه‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬غلواء‮»‬،‭ ‬وفيه‭ ‬تبديل‭ ‬لأحرف‭ ‬اسم‭ ‬الفتاة،‭ ‬ليكون‭ ‬اسم‭ ‬المطوَّلة‭ ‬علامة‭ ‬دالَّة،‭ ‬من‭ ‬نحوٍ‭ ‬أوَّل،‭ ‬على‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬الغلوّ،‭ ‬ومن‭ ‬نحوٍ‭ ‬ثانٍ‭ ‬على‭ ‬اسم‭ ‬عربي،‭ ‬عروس‭ ‬شعر،‭ ‬شبيه‭ ‬بأسماء‭ ‬عرائس‭ ‬الشّعر‭ ‬العربيَّة،‭ ‬مثل‭ ‬سمراء‭ ‬وعفراء،‭ ‬ومن‭ ‬نحوٍ‭ ‬ثالث‭ ‬على‭ ‬وزن‭ ‬حواء،‭ ‬بوصفها‭ ‬أمَّ‭ ‬البشر‭ ‬المتسبّبة‭ ‬في‭ ‬النزول‭ ‬من‭ ‬الجنة‭ ‬إلى‭ ‬الأرض،‭ ‬ليسعى‭ ‬البشر‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬المغفرة،‭ ‬ثمَّ‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الفردوس‭ ‬المفقود،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬دلالة‭ ‬هذا‭ ‬الاسم‭ ‬ذ‭ ‬اسم‭ ‬حواء‭ ‬ذ‭ ‬على‭ ‬المرأة‭ ‬بعامَّة،‭ ‬فكأن‭ ‬غلواء‭ ‬هي‭ ‬أنموذج‭ ‬المرأة‭ ‬الخالد‭.‬

في‭ ‬مرحلة‭ ‬سابقة،‭ ‬وقبل‭ ‬الخلوص‭ ‬إلى‭ ‬عهد‭ ‬الغفران،‭ ‬كانت‭ ‬المرأة‭ ‬تمثّل‭ ‬‮«‬أفعى‭ ‬الفردوس‮»‬،‭ ‬قال‭: ‬‮«‬إن‭ ‬النساء،‭ ‬إذا‭ ‬راوغن‭ ‬لا‭ ‬عجب‭/ ‬فهن‭ ‬من‭ ‬جنة‭ ‬الفردوس‭ ‬أمزجة‮»‬‭. ‬فإن‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬نيل‭ ‬‮«‬العسل‭ ‬المحلّى‮»‬‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بالحب،‭ ‬فإن‭ ‬‮«‬الأفعى‮»‬‭ ‬تكمُن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العسل،‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬المرأة‭ ‬أفعى‭ ‬أصيبت‭ ‬بحمَّى‭ ‬المجد‮»‬‭. ‬وتمثَّل‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬الشعرية‭ ‬‮«‬أفاعي‭ ‬الفردوس‮»‬‭ ‬التي‭ ‬بلغ‭ ‬فيها‭ ‬قمة‭ ‬شعريته،‭ ‬وقد‭ ‬نظم‭ ‬قصائدها‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1928‭ ‬و1938،‭ ‬وعندما‭ ‬سئل‭: ‬لماذا‭ ‬اخترت‭ ‬لديوانك،‭ ‬أو‭ ‬ارتضيت‭ ‬له،‭ ‬كلمة‭ ‬أفاعٍ‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬أفعى‭ ‬واحدة؟‭ ‬أجاب‭: ‬‮«‬إن‭ ‬أفعاي‭ ‬بسبعة‭ ‬رؤوس،‭ ‬فهي‭ ‬سبع‭ ‬أفاعٍ‮»‬‭.‬

في‭ ‬‮«‬أفاعي‭ ‬الفردوس‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬مجموعاته‭ ‬الشعرية‭ ‬الأخرى،‭ ‬يجري‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬منبعه‭ ‬الأصيل،‭ ‬اعترافاتٍ‭ ‬صادقة،‭ ‬تؤكد‭ ‬قوله‭:‬

فيا‭ ‬أذنُ‭ ‬لا‭ ‬تخدعكِ‭ ‬في‭ ‬القول‭ ‬بهجةٌ

ويا‭ ‬قلبُ‭ ‬علّم‭ ‬أعذبُ‭ ‬الشعر‭ ‬ما‭ ‬صدَقَ

 

ففيها‭ ‬‮«‬وصف‭ ‬للشهوات‭ ‬الجامحة،‭ ‬وصوت‭ ‬للحياة‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬عارية‮»‬‭ ‬من‭ ‬أغطيتها،‭ ‬وبوح‭ ‬أعماق‭ ‬النفس‭ ‬الإنسانية،‭ ‬حيث‭ ‬كوامن‭ ‬الرَّغبات،‭ ‬مما‭ ‬جعلها‭ ‬‮«‬فتحًا‭ ‬جديدًا‮»‬‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭.‬

ثمَّ‭ ‬عاش‭ ‬تجربة‭ ‬مع‭ ‬امرأة‭ ‬متزّوجة‭ ‬ولديها‭ ‬ولد،‭ ‬هي‭ ‬وردة،‭ ‬الجميلة،‭ ‬ذات‭ ‬الأنوثة‭ ‬العارمة،‭ ‬ولم‭ ‬يأثم‭ ‬معها،‭ ‬فهو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬فؤاد‭ ‬حداد‭: ‬‮«‬ضمير‭ ‬في‭ ‬قعر‭ ‬الخطيئة‮»‬،‭ ‬فهرب‭ ‬من‭ ‬مخدعها،‭ ‬وأنشد‭:‬

لا‭ ‬تقنطي،‭ ‬إن‭ ‬رأيت‭ ‬الكأس‭ ‬فارغةً

يومًا،‭ ‬ففي‭ ‬كلّ‭ ‬عام‭ ‬ينضج‭ ‬العنب

 

ثمَّ‭ ‬تعرَّف‭ ‬إلى‭ ‬ليلى،‭ ‬وقال‭ ‬فيها‭:‬

هي‭ ‬يا‭ ‬ربُّ‭ ‬فلذة‭ ‬منك‭ ‬في‭ ‬الحب

جرت‭ ‬من‭ ‬دموعك‭ ‬الخضراء

تُوّج‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬من‭ ‬تجارب‭ ‬الحب،‭ ‬بتحوُّل‭ ‬الشاعر‭. ‬يصف‭ ‬أبو‭ ‬شبكة‭ ‬هذا‭ ‬التحوُّل،‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬أيُّها‭ ‬الجمال‭ ‬البهي‭ ‬النَّقي‭ ‬الذي‭ ‬يمدُّني‭ ‬بأمل‭ ‬الحياة،‭ ‬أيُّها‭ ‬الجمال‭ ‬الجميل‭ ‬سبع‭ ‬مرات‭ ‬الذي‭ ‬أعاد‭ ‬إليَّ‭ ‬حبَّ‭ ‬عيلتي،‭ ‬إنّي‭ ‬أباركك،‭ ‬لقد‭ ‬جعلت‭ ‬منّي،‭ ‬أنا‭ ‬الشاعر‭ ‬ذا‭ ‬الرؤى‭ ‬الجهنميَّة،‭ ‬شاعرًا‭ ‬حنونًا‭ ‬صافيًا‭ ‬هادئًا،‭ ‬فأنا‭ ‬مَدينٌ‭ ‬لك‭ ‬سبع‭ ‬مرَّات‮»‬‭.‬

وهكذا‭ ‬طُرح‭ ‬السؤال‭ ‬المقرّر‭ ‬حقيقة‭ ‬صار‭ ‬إليها‭ ‬الشاعر‭:‬

إذا‭ ‬فجَّر‭ ‬الحب‭ ‬دنيا‭ ‬القلوب

فما‭ ‬تنفع‭ ‬الحَطم‭ ‬الباقية؟‭!‬

يفيد‭ ‬تتبُّع‭ ‬هذا‭ ‬المسار‭ ‬أنَّ‭ ‬رؤية‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬المرأة‭/ ‬الحبَّ‭ ‬تطوَّرت،‭ ‬ومرَّت‭ ‬بتحوُّلات،‭ ‬رأى‭ ‬في‭ ‬فاتحة‭ ‬عهده‭ ‬بها‭ ‬أنَّها‭ ‬العسل‭ ‬المحلّي‭ ‬شقاء‭ ‬القدر‭ ‬الإنساني،‭ ‬ثم‭ ‬بدت‭ ‬له‭ ‬خاطئة‭ ‬غادرة،‭ ‬توفّر‭ ‬نعيمًا‭ ‬هي‭ ‬أفعاه،‭ ‬ثمَّ‭ ‬تبدَّت‭ ‬خاطئة‭ ‬ثابتة‭ ‬ترجو‭ ‬الغفران‭. ‬وإذ‭ ‬تبدَّت،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الصُّورة،‭ ‬صفت‭ ‬نفسه،‭ ‬وشعر‭ ‬بالغفران‭... ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬عاش‭ ‬الحلم‭ ‬بالمرأة‭ ‬النَّعيم‭ ‬التي‭ ‬يحبُّها‭ ‬الشاعر،‭ ‬بعدما‭ ‬أضحى‭ ‬صافي‭ ‬النَّفس‭ ‬ويتَّحد‭ ‬بها‭ ‬حبيبًا‭...‬،‭ ‬كأنَّها‭ ‬‮«‬الحبيب‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬إليه‭ ‬الصُّوفي‭ ‬متجاوزًا‭ ‬مقامات‭ ‬رحلته‭ ‬إلى‭ ‬التوحُّد‭ ‬في‭ ‬بيان‭ ‬رؤيته‭ ‬إلى‭ ‬المرأة‭ ‬الخاطئة‭ ‬الغادرة‭/ ‬المرأة‭ ‬الأفعى،‭ ‬استخدم‭ ‬رموزًا‭ ‬استقاها‭ ‬من‭ ‬التوراة،‭ ‬ومن‭ ‬التاريخ‭ ‬للدلالة‭ ‬عليها،‭ ‬مثل‭ ‬دليلة،‭ ‬وابنتي‭ ‬لوط،‭ ‬ومسلينا‭ ‬عاهرة‭ ‬روما،‭ ‬التي‭ ‬أرسلت،‭ ‬فيما‭ ‬أرسلت،‭ ‬قميصًا‭ ‬مسمومًا‭ ‬لزوجها‭ ‬هرقل‭.‬

يخاطب‭ ‬دليلة،‭ ‬فيقول‭:‬

ملّقيــه‭ ‬بــحــسـنـك‭ ‬المأجـور

وادفـعــيــه‭ ‬للانـتـقـام‭ ‬الكــبــيــر

إن‭ ‬فــي‭ ‬الحسن‭ ‬يا‭ ‬دليلة،‭ ‬أفعــى

كـم‭ ‬سمعنا‭ ‬فحيحها‭ ‬فــي‭ ‬سريــر

أسكرت‭ ‬خدعة‭ ‬الجمال‭ ‬هــرقلًا

قبل‭ ‬شمشـون‭ ‬بالهوى‭ ‬الشّـريـر

ملّقيه،‭ ‬فبين‭ ‬نهديك‭ ‬غامــت

هوَّة‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬الفراش‭ ‬الوثير

 

وينظر‭ ‬إلى‭ ‬المرأة‭ ‬الخاطئة،‭ ‬التائبة،‭ ‬فيخاطبها،‭ ‬فيقول‭:‬

غلواء‭ ‬فردوس‭ ‬الحياة‭ ‬ههنا

فأنت‭ ‬لم‭ ‬تزنِ،‭ ‬بل‭ ‬الوهم‭ ‬زنى

احتفظي‭ ‬بقدس‭ ‬تذكار‭ ‬الشفا

فهو‭ ‬طريــق‭ ‬للعفاف‭ ‬والتقــى

إن‭ ‬الشقاء‭ ‬سلَّم‭ ‬إلى‭ ‬السما

فَعَدنُ‭ ‬ميراثاً‭ ‬لمن‭ ‬تألَّما

 

ويُلقي‭ ‬نظرة‭ ‬سريعة‭ ‬إلى‭ ‬المرأة‭ ‬بوجهيها،‭ ‬فيقول‭:‬

وانظر،‭ ‬أخيرًا‭ ‬نظرةً‭ ‬سريعة

مختلف‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬الطبيعة

تعرف،‭ ‬إذًا،‭ ‬معرفة‭ ‬علياء

كيف‭ ‬السماء‭ ‬أبدعت‭ ‬غلواء

وانظر،‭ ‬أخيرًا،‭ ‬نظرة‭ ‬سريعة

مختلف‭ ‬الشُّرور‭ ‬في‭ ‬الطبيعة

يبدُ‭ ‬لك‭ ‬المقت‭ ‬إذًا‭ ‬فتعلم

كيف‭ ‬أرادت‭ ‬وردة‭ ‬جَهنم

 

ويرى‭ ‬إلى‭ ‬المرأة،‭ ‬وقد‭ ‬نالت‭ ‬الغفران،‭ ‬وإليها‭ ‬خلصت‭ ‬تجربته‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬فكأنَّ‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬الغنيَّة‭ ‬التي‭ ‬عاشها‭ ‬كانت‭ ‬مَصْهرًا‭ ‬مطهّرًا،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬هو‭:‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬ماضيَّ‭ ‬في‭ ‬الحبّ‭ ‬سوى

مطْهَرٍ‭ ‬أفضــى‭ ‬إلــى‭ ‬هذا‭ ‬النَّعيم

كـأنَّك‭ ‬شطر‭ ‬من‭ ‬حياتي‭ ‬أضعته

ولما‭ ‬تلاقينا‭ ‬اهتديت‭ ‬إلى‭ ‬أصلي

أنت‭ ‬أرض‭ ‬الميعاد‭ ‬ما‭ ‬سمح‭ ‬اللـ

ــــه‭ ‬بــها‭ ‬أو‭ ‬بمثلها‭ ‬لسوايـــا

وهكذا‭ ‬وصل‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬النعيم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬الوصول‭ ‬إليه،‭ ‬فبدا‭ ‬مثل‭ ‬الصُّوفي‭ ‬الذي‭ ‬يمرُّ‭ ‬بمقامات‭ ‬ليتحّد‭ ‬بالحبيب،‭ ‬إذ‭ ‬إنَّه‭ ‬يثير،‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة،‭ ‬أسئلة‭ ‬عن‭ ‬اتحاده‭ ‬بالحبيب،‭ ‬ويجيب‭ ‬بأنَّ‭ ‬الحبَّ‭ ‬تجلَّى‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يرى،‭ ‬فيتصفَّى‭ ‬المشهد‭ ‬أمامه‭ ‬حبًّا،‭ ‬وهو‭ ‬إنَّما‭ ‬سعى‭ ‬ليرقى‭ ‬بحبّه‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المقام،‭ ‬وهنا‭ ‬تتبدَّى‭ ‬صوفيته‭ ‬وليدة‭ ‬لتجربة‭ ‬الحبّ‭ ‬المعيش،‭ ‬مما‭ ‬يذكّر‭ ‬بالشاعر‭ ‬العذري‭ ‬الذي‭ ‬رأى،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬أنَّه‭ ‬إنَّما‭ ‬يطيع‭ ‬الله،‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى،‭ ‬إذ‭ ‬يتعلَّق‭ ‬بالحبيب‭ ‬ويتَّحد‭ ‬به‭.‬

وإن‭ ‬كان‭ ‬بدأ‭ ‬شبيهًا‭ ‬بطرفة‭ ‬بن‭ ‬العبد‭ ‬يريد‭ ‬الاستمتاع‭ ‬الجموح‭ ‬كأنَّه‭ ‬يريد‭ ‬الثأر‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬الذي‭ ‬أورثه‭ ‬الشقاء،‭ ‬فإنَّه‭ ‬انتهى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شبيهًا‭ ‬بالشاعر‭ ‬العذري،‭ ‬كما‭ ‬قلنا‭ ‬قبل‭ ‬قليل،‭ ‬وبالشاعر‭ ‬الصوفي،‭ ‬كالحلاج‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬بالحبيب‭.‬

يقول‭ ‬أبو‭ ‬شبكة‭:‬

‮«‬وهذا‭ ‬الذي‭ ‬أحيا‭ ‬به،‭ ‬أنت‭ ‬أم‭ ‬أنا؟‭/ ‬وهذا‭ ‬الذي‭ ‬أهواه‭ ‬شكلك‭ ‬أم‭ ‬شكلي؟‭/ ‬وحين‭ ‬أرى،‭ ‬في‭ ‬الحلم،‭ ‬للحبّ‭ ‬صورةً‭/ ‬أظلُّك‭ ‬يجري،‭ ‬في‭ ‬ضميري،‭ ‬أم‭ ‬ظلّي؟‭/ ‬تربَّع‭ ‬الحبُّ‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬أرى‭/ ‬أمن‭ ‬روحك‭ ‬الكلّي‭ ‬هذا‭ ‬السَّنى‭ ‬الكلّي؟‮»‬‭.‬

عاش‭ ‬أبو‭ ‬شبكة‭ ‬غياب‭ ‬المحبوب،‭ ‬وغياب‭ ‬الجميل،‭ ‬فعاش‭ ‬تجربة‭ ‬الفَقْد،‭ ‬وسعى‭ ‬إلى‭ ‬تعويض‭. ‬مرَّ‭ ‬بخيبات،‭ ‬وانتهى‭ ‬إلى‭ ‬تجلٍّ‭ ‬اتَّحد‭ ‬فيه‭ ‬بالحبيب،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬حلمًا‭ ‬بتحقيق‭ ‬الذات‭ ‬ما‭ ‬تسعى‭ ‬إليه،‭ ‬وإذ‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك،‭ ‬يكون‭ ‬الشاعر‭ ‬أسعد‭ ‬الناس‭ ‬حبًّا،‭ ‬ويرقى‭ ‬بالحبيبين‭ ‬المتحدين‭ ‬إلى‭ ‬الفردوس‭ ‬الذي‭ ‬تخلَّص‭ ‬من‭ ‬أفاعيه‭ ‬ويقول‭:‬

أنا‭ ‬يا‭ ‬ليل،‭ ‬أسـعــد‭ ‬النَّاس‭ ‬حــبًّا

مــلء‭ ‬عيني‭ ‬نورٌ،‭ ‬وقلبي‭ ‬ولائم

 

2-‭ ‬نقد‭ ‬الواقع‭ ‬السياسي‭ ‬الاجتماعي

‭ ‬إن‭ ‬تكن‭ ‬المرأة‭ ‬الطاهرة‭/ ‬القديسة‭ ‬ترقى‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬‮«‬الحبيب‮»‬‭ ‬الأعلى،‭ ‬فإن‭ ‬القارئ‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬المرأة‭/ ‬الأفعى‭ ‬تضحي‭ ‬رمزًا‭ ‬للمجتمع‭ ‬الظالم‭ ‬والحضارة‭ ‬الفاسدة،‭ ‬فهي‭ ‬‮«‬سدوم‮»‬،‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬تحمل‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭:‬

ذوَّبت‭ ‬خمرك‭ ‬لا‭ ‬ليصبح‭ ‬طاهـرًا

لكن‭ ‬ليستهوي‭ ‬النفوس‭ ‬فتجــرعــه

وجعلت‭ ‬غــرغرة‭ ‬الأفاعــي‭ ‬كأســـه

ليذوق‭ ‬منها‭ ‬كــل‭ ‬قلــبٍ‭ ‬مصــرعــه

إيـه‭ ‬ســدوم‭ ‬بُعثتِ‭ ‬من‭ ‬خلل‭ ‬اللَّظى

حــمــراء‭ ‬فــي‭ ‬شهواتك‭ ‬المتسرّعـــة

قذفتك‭ ‬صــحــراء‭ ‬الزَّمــن‭ ‬بحضارةٍ

ثكلــى‭ ‬مشوَّهة‭ ‬الوجوه‭ ‬مــفــجَّــعة

 

تفضي‭ ‬به‭ ‬تجربة‭ ‬العيش،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬الذي‭ ‬تشكّله‭ ‬المرأة‭ ‬الأفعى،‭ ‬والمجتمع‭ ‬الظالم،‭ ‬والحضارة‭ ‬الفاسدة،‭ ‬إلى‭ ‬شهوة‭ ‬الموت،‭ ‬فتعلو‭ ‬صرخته‭ ‬عالية‭: ‬إني‭ ‬ناقم‭:‬

‭- ‬ناقمٌ‭ ‬على‭ ‬السَّماء‭/ ‬حاقدٌ‭ ‬على‭ ‬البشر‭/ ‬ساخط‭ ‬على‭ ‬القضاء‭/ ‬

ثائرٌ‭ ‬على‭ ‬القدر

في‭ ‬الحقيقة،‭ ‬كان‭ ‬الشاعر‭ ‬ناقمًا‭ ‬على‭ ‬الخلل‭ ‬الاجتماعي‭/ ‬السياسي،‭ ‬ثائرًا‭ ‬على‭ ‬الظلم‭ ‬والفساد،‭ ‬فمن‭ ‬المعروف‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬مايو‭ ‬1923،‭ ‬ألقى‭ ‬قصيدة‭ ‬عنوانها‭ ‬‮«‬العامل‭ ‬الثائر‮»‬،‭ ‬بقاعة‭ ‬سينما‭ ‬‮«‬الكريستال‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬في‭ ‬سينما‭ ‬‮«‬روكسي‮»‬،‭ ‬وذلك‭ ‬بمناسبة‭ ‬عيد‭ ‬العمال،‭ ‬وألهب‭ ‬الأكفَّ،‭ ‬وهو‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬كبار‭ ‬الموظفين‭ ‬الزاحفين‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬المستعمر،‭ ‬وقال‭ ‬يصفهم‭: ‬إنَّهم‭ ‬الذئاب‭ ‬الذين‭ ‬تمشي‭ ‬أظافرهم‭ ‬على‭ ‬أكباد‭ ‬الشعب‭!‬

فهم‭ ‬الذّئاب،‭ ‬وفي‭ ‬سبيل‭ ‬وظيفةٍ

تمشي‭ ‬أظافرهم‭ ‬على‭ ‬أكباده

 

في‭ ‬مقابل‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬يصفهم‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الذئاب‮»‬‭ ‬نجد‭ ‬الفلاح‭ ‬الذي‭ ‬يخاطبه‭ ‬بقصيدة،‭ ‬بوصفه‭ ‬‮«‬سيّد‭ ‬الناس‮»‬،‭ ‬و«كل‭ ‬ما‭ ‬يقتنيه‭ ‬حلال‭ ‬باسمه‭ ‬الخير‭ ‬يُذكر‮»‬،‭ ‬وينتهي‭ ‬إلى‭ ‬ندائه‭:‬

‭- ‬يا‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬البشر‭ ‬أنت‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬الشرور‭/ ‬تعرف‭ ‬الماء‭ ‬والحجر‭ ‬والأعاصير‭ ‬والزُّهور‭.‬

ويقرّر‭:‬

من‭ ‬يسترق‭ ‬قومًا‭ ‬يعيشُ‭ ‬بمالهم

فلتبصق‭ ‬الدنيا‭ ‬علـى‭ ‬ألحـاده

 

ويبارك‭ ‬نهضة‭ ‬الشعب،‭ ‬فمن‭ ‬عبقها‭ ‬تشكَّلت‭ ‬روائع‭ ‬شعره‭:‬

بوركت،‭ ‬يا‭ ‬نهضة‭ ‬للشعب‭ ‬ثائرةً

هذي‭ ‬الروائع‭ ‬من‭ ‬إيمانها‭ ‬عبق

 

دور‭ ‬الشّعر

وهو،‭ ‬وإن‭ ‬غنَّى‭ ‬للفقراء‭ ‬والفلاحين‭ ‬والعمَّال،‭ ‬وندَّد‭ ‬بالظالمين‭ ‬الفاسدين،‭ ‬تساءل‭: ‬أي‭ ‬غذاء‭ ‬هو‭ ‬الشعر‭ ‬للبؤساء؟،‭ ‬يروي‭ ‬هذه‭ ‬التجربة،‭ ‬فيقول‭:‬

عصرت‭ ‬فؤادي‭ ‬في‭ ‬إناء‭ ‬من‭ ‬الهوى

وأدنيته‭ ‬من‭ ‬مرشف‭ ‬الفقراء

فقالوا‭: ‬خمورٌ‭ ‬ما‭ ‬تبرّد‭ ‬غُلَّه‭!‬

فتمتمتُ‭: ‬واهًا‭ ‬أكبُدَ‭ ‬الشعراء

أينكرُ‭ ‬حتى‭ ‬البؤسُ‭ ‬ما‭ ‬فيك‭ ‬من‭ ‬غنىً

وأيُّ‭ ‬غذاءٍ‭ ‬أنت‭ ‬للبؤساء‭!‬؟

هذا‭ ‬هو‭ ‬التساؤل‭ ‬الذي‭ ‬تمتم‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬حياته‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬الفرنسي،‭ ‬يوم‭ ‬السبت‭ ‬الواقع‭ ‬فيه‭ ‬27‭/‬1‭/‬1947،‭ ‬عندما‭ ‬قال‭ ‬لصديقه‭ ‬فؤاد‭ ‬حبيش‭: ‬‮«‬عصفور‭ ‬صغير‭! ‬طار،‭ ‬طار،‭ ‬وحطَّ‭. ‬ماذا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬عصفور‭ ‬صغير؟‭!‬‮»‬‭.‬

 

3-‭ ‬التَّنظير‭ ‬الشّعري

وإن‭ ‬كان‭ ‬أبو‭ ‬شبكة‭ ‬يكرّر‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬الشّعر،‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬لحظات‭ ‬حياته،‭ ‬فإنه‭ ‬وضع‭ - ‬تنظيرًا‭ - ‬أُسُسَ‭ ‬اتجاه‭ ‬شعري‭ ‬في‭ ‬مقدَّمة‭ ‬مجموعته‭ ‬الشعرية‭ ‬‮«‬أفاعي‭ ‬الفردوس‮»‬،‭ ‬فكان‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الكبار‭ ‬أصحاب‭ ‬البيانات‭ ‬الشعريَّة،‭ ‬و‭- ‬ممارسةً‭ -‬،‭ ‬وفي‭ ‬عطائه‭ ‬الشعري،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الكبار،‭ ‬أصحاب‭ ‬الرَّوائع‭ ‬الشعريَّة‭.‬

يعدُّ‭ ‬أبو‭ ‬شبكة‭ ‬الشعر‭ ‬‮«‬لغة‭ ‬الروح‮»‬،‭ ‬ويراه‭ ‬عصيًّا‭ ‬على‭ ‬التَّحديد،‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬النفس‭ ‬تعبيرًا‭ ‬كليًّا‭ ‬مرتديًا‭ ‬ثوبه‭ ‬الكامل،‭ ‬وعناصره‭ ‬متساوية‭ ‬في‭ ‬الأهميَّة‭. ‬أما‭ ‬الشاعر‭ ‬العظيم،‭ ‬فهو‭ ‬ذلك‭ ‬الكائن‭ ‬الذي‭ ‬يملك‭ ‬شعلةً‭ ‬سرّيَّة،‭ ‬تجعله‭ ‬فوق‭ ‬النظريات‭ ‬والمدارس،‭ ‬لأن‭ ‬إبداعه‭ ‬بثُّ‭ ‬الذات‭ ‬وفيضها‭.‬

وفي‭ ‬حالة‭ ‬الإبداع،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬أبو‭ ‬شبكة،‭ ‬يرى‭ ‬الشاعر‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يُرى،‭ ‬ويكون‭ ‬متأثرًا‭ ‬بقوةٍ‭ ‬تصهر‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يكتسبه‭ ‬وتحيله‭ ‬نصوصًا‭ ‬شعرية‭ ‬ينطق‭ ‬بها،‭ ‬وبهذا‭ ‬يكون‭ ‬الشاعر‭ ‬‮«‬ذلك‭ ‬التوتر‭ ‬الأعظم‭ ‬الذي‭ ‬تنقر‭ ‬عليه‭ ‬أحاسيس‭ ‬الناس‭ ‬ومطامحهم‮»‬‭.‬

يؤكد‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬بقوله‭ ‬المشهور‭:‬

اجرحِ‭ ‬القلبَ‭ ‬واسْقِ‭ ‬شعرك‭ ‬منه

فدمُ‭ ‬القلب‭ ‬خمرةَ‭ ‬الأقلام

 

وإذ‭ ‬يقرّر‭ ‬أبو‭ ‬شبكة‭ ‬دور‭ ‬نفس‭ ‬الشَّاعر‭ ‬الكبير‭/ ‬المصهَر،‭ ‬وقد‭ ‬رأينا‭ ‬آنفًا‭ ‬أنَّها‭ ‬مثلث‭ ‬المَصْهَر‭ ‬المطهّر،‭ ‬يضيف‭ ‬أنه‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬‮«‬ثقافة‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬الرقي‭ ‬والذوق‭ ‬الموسيقي‭ ‬في‭ ‬روحه،‭ ‬يكون‭ ‬البيان‭ ‬راقيًا‭ ‬في‭ ‬شعره‮»‬‭.‬

‮«‬للشعر،‭ ‬كما‭ ‬يرى‭ ‬أبو‭ ‬شبكة،‭ ‬عناصر‭ ‬متساوية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تجري‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬حلبة‭ ‬واحدة،‭ ‬فلا‭ ‬تنحط‭ ‬الفكرة‭ ‬عن‭ ‬الموسيقى‭ ‬أو‭ ‬الصورة‮»‬‭. ‬وإن‭ ‬يكن‭ ‬أعلن‭ ‬تمسّكه‭ ‬بقواعد‭ ‬العروض‭ ‬الأساسيَّة،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬من‭ ‬فهم‭ ‬الوزن‭ ‬بوصفه‭ ‬أداة‭ ‬لنقل‭ ‬الشعر،‭ ‬وليس‭ ‬عنصرًا‭ ‬يُحدُّ‭ ‬الشّعر‭ ‬به‭.‬

وتبدو‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬له‭ ‬أعظم‭ ‬ترجمان‭ ‬عن‭ ‬الذات،‭ ‬لهذا‭ ‬يدعو‭ ‬بغية‭ ‬صوغ‭ ‬اللغة‭ ‬الشعرية،‭ ‬إلى‭ ‬رفع‭ ‬الكُلفة‭ ‬بين‭ ‬الشاعر‭ ‬واللغة،‭ ‬وإلى‭ ‬أن‭ ‬يمتلك‭ ‬الشاعر‭ ‬اللغةَ،‭ ‬فتُسلم‭ ‬إليه‭ ‬أسرارها،‭ ‬فيبدع‭ ‬ما‭ ‬ينقل‭ ‬الحالة‭ ‬الشعرية،‭ ‬ويثيرها،‭ ‬كما‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬حصر‭ ‬اللغة‭ ‬الشعرية‭ ‬في‭ ‬قاموس‭ ‬ضيّق‭ ‬أعجز‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬أعمق‭ ‬حقائق‭ ‬النَّفس‭.‬

تتميَّز‭ ‬اللغة‭ ‬الشعريَّة‭ ‬التي‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬أعمق‭ ‬حقائق‭ ‬النفس،‭ ‬في‭ ‬رأي‭ ‬أبو‭ ‬شبكة،‭ ‬عن‭ ‬اللغة‭ ‬الوضعيَّة‭ ‬بصفة‭ ‬‮«‬التشنُّج‭ ‬الكلامي‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬بحملها‭ ‬شحنة‭ ‬الانفعال‭ ‬الإنساني،‭ ‬وبكونها‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬النفس‭ ‬الإنسانيَّة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬الشاعر‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬طاقة‭ ‬له‭ ‬على‭ ‬اختيار‭ ‬اللفظة‭ ‬‮«‬فله‭ ‬من‭ ‬شعوره‭ ‬الزَّاخر‭ ‬ما‭ ‬يصرفه‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الملهيات؛‭ ‬إذ‭ ‬إنَّ‭ ‬الشعر‭ ‬ينزل‭ ‬مرتديًا‭ ‬ثوبه‭ ‬الكامل،‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ ‬آنفًا‭.‬

ولئن‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬مهمَّة‭ ‬الأدب‭ ‬الالتزام‭ ‬بأداء‭ ‬رسالة‭ ‬وحَمْل‭ ‬بلاغ‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬المهمة،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬منوطة‭ ‬بضمير‭ ‬الكاتب‮»‬‭ ‬وليس‭ ‬بإلزامٍ‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬يحدُّ‭ ‬من‭ ‬حرية‭ ‬الإبداع‭ ‬لديه‭.‬

ويرى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الغموض‭ ‬دخيل‭ ‬على‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬فهو‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬الجو‮»‬‭. ‬وأن‭ ‬‮«‬الأدب‭ ‬لا‭ ‬يكتب‭ ‬إلّا‭ ‬ليُفهم‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬ضرورة‭ ‬للفهم‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬فيجب‭ ‬ألّا‭ ‬يتم‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬طريق‭ ‬السهولة‭.‬

في‭ ‬الختام،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭: ‬إن‭ ‬الشاعر‭ ‬إلياس‭ ‬أبو‭ ‬شبكة‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬ولادة‭ ‬القصيدة‭ ‬العربيَّة‭ ‬الحديثة،‭ ‬التي‭ ‬جسَّدت‭ ‬تجربة‭ ‬الحياة‭ ‬المعيشة‭ ‬لشاعر‭ ‬موهوب،‭ ‬فكان‭ ‬شعره‭ ‬وليد‭ ‬تجربته‭ ‬الفريدة،‭ ‬التي‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬تكوينها‭ ‬عوامل،‭ ‬منها‭: ‬الشعر‭ ‬الرومانطيقي،‭ ‬وبخاصَّة‭ ‬الفرنسي،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬أنَّ‭ ‬فرنسا‭ ‬هي‭ ‬‮«‬الفرن‭ ‬الذي‭ ‬يُخبز‭ ‬فيه‭ ‬خبز‭ ‬الإنسانية‭ ‬الثقافي‮»‬،‭ ‬والتراث‭ ‬العربي،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬تجربة‭ ‬العيش‭ ‬بمختلف‭ ‬مكوّناتها،‭ ‬فشعره،‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬تأثره‭ ‬باتجاه‭ ‬رومانطيقي‭ ‬أو‭ ‬مشابه‭ ‬له،‭ ‬ليس‭ ‬نقلًا،‭ ‬وإنما‭ ‬إبداع‭ ‬تمليه‭ ‬الذات،‭ ‬وتنضجه‭ ‬شعلتها‭ ‬السرّية‭.‬

‮«‬الوجد‮»‬‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يفهمه‭ ‬من‭ ‬المذهب‭ ‬الرومانط‭ ‬يقي‭ ‬وليس‭ ‬المبادئ‭ ‬والنظريات‭ ‬المستخلصة‭ ‬من‭ ‬إبداع‭ ‬الآخر‭. ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬استفادة‭ ‬من‭ ‬كنوز‭ ‬الآخرين،‭ ‬فإن‭ ‬المهم‭ ‬هو‭ ‬الكنز‭ ‬الأساس،‭ ‬وهو‭ ‬ذواتنا‭ ‬النابتة‭ ‬في‭ ‬جوّنا‭ ‬وتربتنا‭ ‬