حبات الترمس المر.. صلاح عبدالسيد

حبات الترمس المر..

وهانم زوجة عبد الصادق حلفت أن لا بد أن تتزوج ابنتها عطا، بواحد من الأفندية الحاصلين على الشهادة العالية، مثلما حصل لعيوشة ابنة سلفتها رتيبة..

وهانم زوجة عبد الصادق، أخذت تعد على أصابع يديها، الأفندية الحاصلين على الشهادة العالية، فوجدتهم سبعة:

حسونة ابن النجار، والعايق ابن بهانة، وحمودة ابن العدوي، والمعدول ابن الباتعة، ومسعود ابن النوري، وعبد الرحمن ابن السحت، والمنجي ابن السقعان.

وهانم زوجة عبد الصادق، أخذت تستبعد من الأصابع السبعة، الإصبع تلو الإصبع، حتى جعلتهم ثلاثة: الخنصر والبنصر والأوسط وهانم زوجة عبدالصادق، ظلت وراء الأصابع الثلاثة، حتى جعلتهم واحدا: المنجي ابن السقعان.

وهانم زوجة عبد الصادق، أخذت تفكر في كيفية الحصول على المنجي ابن السقعان، فلم تجد أمامها غير عبدالعظيم الجبالي.

وعبد العظيم الجبالي، أشار عليها بماء الرجلة يقرأ لها عليه، وتلقيه له أمام عتبة الباب، حتى إذا ما خطا عليه جاء إليها مهرولا، وهانم زوجة عبدالصادق، ألقت بماء الرجلة الذي قرأ لها عليه، أمام عتبة الباب، لكن المنجي لم يأت، فأشار عليها عبدالعظيم الجبالي، بضرورة الحصول على أثر منه- منديل أو جورب- ليكتب له عليه، وبعدها فإنه سيأتي إليها مهرولا.

وهانم زوجة عبد الصادق، استطاعت عن طريق التحايل، أن تحصل على- أثر للمنجي- منديل أو جورب- لكن المنجي لم يأت، فقررت هانم زوجة عبدالصادق، أن تترك عبد العظيم الجبالي، ذلك الذي سلبها لحد الآن، خمس بطات بلدية، وعشرة ديوك شركسية، وشيكارتين من الأرز، وخمسين جنيها، وفكرت في أنه لا أحد سيعطيها المشورة، مثلما تفعل حبيبة قلبها، وكاتمة سرها تفيدة الداية.

وتفيدة الداية أفتت، أنه لا أحد في الدنيا، بقادر على الإتيان بالمنجي غير أخيه محروس.

وهانم زوجة عبد الصادق سألت: كيف؟ وتفيدة الداية أفتت: أطعم الفم تستحي العين. فأخرجت هانم زوجة عبد الصادق، كيس نقودها ودقت عليها، أنها جاهزة.

فأسرعت تفيدة إلى محروس تزف إليه البشارة، ومحروس ابتلع ريقه وقال: ليس الموضوع سهلا، فالمنجي محط أنظار أعيان البلد، والإتيان به دونه أهوال وأهوال.

لكن تفيدة طمأنت محروس أن لا شيء يروح، وأن الذي يطلبه سيجده، فالكيس عمران، وهانم زوجة عبد الصادق هي المتحكمة في كل شيء، والرجل ليس إلا صورة، وعليه أن يشير.

وفي المساء كان محروس يقبع في قاعة منزل هانم زوجة عبدالصادق، وأمامه دكر من البط وسلطانية من المرق الساخن وأرز ومكرونـة، وكان محروس يأكل ويتنهد ثم يعاود الأكل، إلى أن أتى على دكر البط والأرز والمرق والمكرونـة، واستند إلى الجدار وتناول الساقع لكي يهضم، والساخن لكي يفكر، والفاكهة لكي يقر قراره، وتحسس بطنه وهز رأسه: إن على الله التساهيل.

وهانم زوجة عبد الصادق التي عرفت ولع محروس بالبط السمين، أرسلت إلى بيته قفصا من البط السمين الذي يزعق.

وليلة الخميس التي تلت ليلة الخميس التي أرسلت فيها هانم لمحروس قفص البط الذي يزعق، كانت القاعة في بيتها مضاءة بالكلوب الذي يوش، وكان المنجي يجلس في صدر القاعة وإلى جواره عبد الصادق زوج هانم وإلى جواره محروس ثم الخضر- شقيقهم الثالث الأهطل والذي يبيع العسلية في صندوق خشبي وقد ضم الصندوق الخشبي الفارغ إليه- وكانت عطا تدور بزجاجات الساقع عليهم، وكان المنجي يحاول أن يزنها بعينيه.

وفى آخر الليل، كان الكلوب الذي يوش يتقدمهم خارجا بهم من القاعة الخانقة إلى الساحة الواسعة، وكانت زغاريد هانم زوجة عبدالصادق، تتدافع مع الغبار الخارج من أقدامهم.

وأصبحت من عادة محروس والمنجي والخضر- الذي يلحق بهم والصندوق في كنفه- أنه عند آذان العشـاء يكون الأكل محطوطا- بط ومكرونة وأرز ومرق- ويكون عبدالصادق منتصبا يخدم عليهم.

وحين ينتهي الثلاثة من الأكل، يكون عبدالصادق قد تصبب عرقا، فعبد الصادق منذ أن تلف كبده، لم يعد بقادر على العمل لا في الغيط ولا في البيت.

وحين (يطمئن) عبد الصادق إلى أنهم قد أتوا على كل شيء، يتسلل خارجا من القاعة الخانقة، إلى الساحة الواسعة، فيلسعه الهواء، فيشب على أطرافه يعب منه، ثم يتجه إلى المقهى الطيني، وهناك يسند ظهره إلى الشجرة العتيقة ويتفكر.

لم يعد عبد الصادق يطيق تلك الحكاية التي تتكرر كل ليلة، بل إنه لم يعد يطيق الثلاثة: محروس والمنجي والخضر.

وبدا له أنهم لن يكفوا إلا بعد أن يأكلوه، وتخيل نفسه في فم محروس، ثم في فم المنجي، ثم في فم الخضر، وأنهم يتناوبونه، وكل منهم يحاول ابتلاعه، فهم أن يصرخ، لكنه أفاق على صراخ الأخرس بائع الترمس يحمل طبقه الكبير، ويصرخ عليه أن يأخذ عادة كل ليلة- حبات الترمس المر- فمد يده إلى الأخرس وتناول حبات الترمس المر، وألقى بالحبات إلى فمه.

وانتوى عبدالصادق أن يحدث المنجي في الأمر، حتى يضع حدا لتلك الحكاية، فلا المنجي اتفق معه على شيء، أو حدد موعدا لشيء، وحين لمح محروس قادما، وجد نفسه يناديه، ووجده يحدثه في الأمر، طالبا منه أن يضع حدا لتلك الحكاية.

وحين علمت هانم بالأمر صاحت عليه: لماذا فعلت ذلك؟ لقد أفسدت الآن كل شيء.

والذي توقعته هانم كان صحيحا، فلا محروس جاء ولا المنجي ولا الخضر، وأخذ الشك يلعب في رأس هانم، فأرسلت ابنتها الصغيرة إلى محروس لكي يحضر، لكن محروس صرف البنت ولم يحضر، فأرسلت إليه الولد، لكن محروس صرف الولد ولم يحضر، فالتفت في ملاءتها وأسرعت إليه.

ومحروس تثاءب وهرش في صدره وتحت إبطيه ثم قال:

لا بد الآن من الصراحة، المنجي غير جاهز الآن للزواج، فلما اشرأبت هانم قال: وعليك إذا أردتيه أن تتكفلي بالأمر، ثم أكمل: والملآن يفيض على الخالي.

وهانم ارتبكت للحظة لكنها تمالكت، فلم يعد أمامها غير المضي في هذا الطريق، وسلفتها التي تسكن قبالتها، تتمنى لو يقلع لها عين ولا تتم هذه الزيجة.

ووجدت هانم نفسها تقول موافقة، ووجدت نفسها تتفق مع محروس على الشبكة والمهر، لكن محروس طلب منها أن تحدد له المبلغ الذي سيتقاضاه في نظير إتمام هذه الزيجة، فليس معقولا أن يخلص لها المنجي من بين أنياب أعيان البلد، لها ولابنتها التي لم تحصل على شهادة، ويخرج هو من المولد بلا حمص.

ووجدت هانم نفسها تتفق مع محروس على الصفقة.

وليلة الخميس التي تلت ليلة الخميس التي اتفقت فيها هانم مع محروس على الصفقة، كانت الزغاريد تتردد في القاعة، وكان المنجي يدفع بثعبان الذهب إلى ذراع عطا، وكانت هانم تزغرد، وكان عبد الصادق الذي لا يعرف بالصفقة يبتسم فلقد أثمر حديثه لمحروس.

وعلى عجـل اشتروا (الشوار)، وعلى عجل جاء المنجد وضرب بعصاه القطن، وعلى عجل زغردوا، ودفعوا البنت إلى العربة المزينة بالورد وأغلقوا الأبواب، وفرت العربة إلى البندر مخلفة الغبار والزغاريد والدموع. وقرفص عبد الصادق بعد أن خفت كل شيء، تلملم في الركن ودفس رأسه بين ركبتيه.

كان عبدالصادق مصدوعا، فها هي الأرض- الفدانان اللذان ورثهما عن أبيه- قد راحت، والدار هي الأخرى قد رهنت، لكنه ولكي يسهل الأمر قال: يكفي أن البنت تسترت في بيت زوجها. لكنه وبعد شهور وجد البنت تدق عليه الباب، ووجدها تبكي.

- ما الذي حدث؟

- المنجي سرق مصاغي وباعه وطردني من الشقة. وثار عبدالصادق لكن هانم وضعت يدها على فمه، فسلفتها التي تسكن قبالتها ستسمع، ولا بد أنها ستشمت، وعلينا أن نداري الموضوع بحيث يبدو أن البنت قد جاءت في زيارة.

وتلفعت هانم بالملاءة وأسرعت إلى محروس.

ومحروس تثاءب وهرش في صدره وتحت إبطيه، وقبل أن يتكلم، كانت هانم قد دفعت إليه بالمعلوم.

ومحروس قام، لبس الجلباب الصوفي وسافر إلى المنجي، وفي المساء كان المنجـي ومحروس والخضر، يأكلون البط والمكرونة والأرز، وكانت الضحكات تجلجل في القاعة، وكانت هانم توارب باب القاعة لتسمع سلفتها تلك الضحكات المجلجلة.

وفي الصباح كانت عطا تتأبط ذراع المنجي، متجهين إلى شقتهما التي في البندر.

وظن عبدالصادق أن الأمر قد انتهى، وأن البنت غارت مع زوجها، لكنه وبعد شهور، فوجئ بها تدخل عليه باكية.

- ما الذي حدث؟

- المنجى طلقني.

- طلقك !!؟

- وبدد الأثاث كما بدد المصاغ.

وأحس عبدالصادق بحجر يتدحرج داخله، حجر مدبب مسنون، من ارتفاع ألف قدم، يمزق داخله، وأحس بالدم يطفو، يطفو ويتصاعد، حتى لم يعد ممكنا أن يظل مغلقا فمه، ففتح فمه، فاندفع الدم إلى أرض القاعة، أحمر قانيا.

وأحس عبدالصادق أنه في حاجة إلى هواء، إلى هواء يتنفسه، فتساند خارجا، ووجد نفسه- ليس يعرف كيف- يجلس إلى الشجرة العتيقة في المقهى الطيني، ويسند ظهره إليها.

وأحس بالدنيا تدور، تدور به هو والشجرة، وسمع أصواتا من بعيد، كأنها وش الكلوب، ورأى أشباحا تطفو على الظلمة، وأحس أنه سيختنق، لا محالة سيختنق، وأنه ينزل، ينزل إلى الأرض، إلى الجب السحيق.

ورأى الدنيا تغيم ورآه يغرق في الظلمة.

كسف من السحب المعتمة تتسارع إليه وتكاد تطمسه، فأغمض عينيه وتراخى، لكنه سمع صراخا يأتي من بعيد، كأنه من جب سحيق، صراخا ليس بشريا، مفجوع ينادي، فحاول أن يفتح عينيه، فرآه- الأخرس- رآه وسط كسف السحب المعتمة، يصرخ عليه، فاردا له كفه بحبات الترمس المر، فحاول أن يرفع يده، واستطاع أن يأخذ حبتين، ألقى بهما إلى جوفه.

 

صلاح عبدالسيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات