حوارٌ حولَ الشِّعر

حوارٌ حولَ الشِّعر

الفكرة‭ ‬الأعمق‭ ‬في‭ ‬نسبة‭ ‬قول‭ ‬آدم‭ ‬شعرًا‭ ‬في‭ ‬الرثاء‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬العواطف‭ ‬الإنسانية‭ ‬العميقة‭ ‬تظلُّ‭ ‬تفتّشُ‭ ‬عن‭ ‬منسربٍ‭ ‬لها‭ ‬فيما‭ ‬يناسبها‭ ‬من‭ ‬وسائل،‭ ‬والشعر‭ ‬أكثر‭ ‬الفنون‭ ‬التي‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬ملامسة‭ ‬هذه‭ ‬الأمنيات‭ ‬العميقة‭.‬

إن‭ ‬نسبة‭ ‬وجود‭ ‬الشعر‭ ‬للموجود‭ ‬الأول‭ ‬تدلّ‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬الشعر‭ ‬بالإنسان‭ ‬لأنه‭ ‬مولود‭ ‬الشعور‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الشّعر‭ ‬قد‭ ‬سبق‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية‭. ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬بداهته‭ ‬وليد‭ ‬الشعور‭ ‬فهو‭ ‬سابق‭ ‬الفلسفة،‭ ‬لأنه‭ ‬كينونة،‭ ‬والفلسفة‭ ‬تعليل‭.‬

الطفل‭ ‬يبكي،‭ ‬فهل‭ ‬بكاؤه‭ ‬فلسفة‭ ‬أم‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬شعور؟‭! ‬وما‭ ‬علاقة‭ ‬البكاء‭ ‬بالشعر؟‭ ‬إن‭ ‬المصنع‭ ‬الداخلي‭ ‬فينا‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬البكاء‭ ‬لغة،‭ ‬لأننا‭ ‬نفهم‭ ‬البكاء‭ ‬باعتباره‭ ‬صوتًا‭ ‬لا‭ ‬ينتظر‭ ‬إجابتنا‭ ‬عنه‭.‬

لقد‭ ‬جعل‭ ‬الشاعر‭ ‬أراغون‭ ‬البكاء‭ ‬لغة‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬أيِّ‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الشعور‭ ‬حين‭ ‬قال‭: ‬‮«‬كُفَّ‭ ‬عن‭ ‬الشكوى،‭ ‬فليس‭ ‬أدعى‭ ‬للسخرية‭ ‬من‭ ‬إنسانٍ‭ ‬يشكو‭ ‬إنْ‭ ‬لم‭ ‬يكنْ‭ ‬يبكي‮»‬،‭ ‬هنا‭ ‬يعتبر‭ ‬أراغون‭ ‬أن‭ ‬البكاء‭ ‬أعلى‭ ‬الكلام‭ ‬وأقدره‭ ‬على‭ ‬النفاذ‭ ‬إلى‭ ‬الذات‭. ‬لقد‭ ‬ارتبط‭ ‬الشعر‭ ‬بالبكاء،‭ ‬وارتبط‭ ‬بأقاليم‭ ‬النفس‭ ‬الجُوّانيّة،‭ ‬وتجوّلَ‭ ‬فيها،‭ ‬وحمل‭ ‬مكنوناتها،‭ ‬وحاول‭ ‬صياغتها‭ ‬كلامًا‭.‬

الشعر‭ ‬لن‭ ‬يموت‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬هـــناك‭ ‬إنسانٌ‭ ‬يشعر،‭ ‬ومن‭ ‬يشعرْ‭ ‬يعبّرْ‭ ‬عن‭ ‬شعوره،‭ ‬ووسائل‭ ‬التعبير‭ ‬كثيرة،‭ ‬فقــــد‭ ‬تكون‭ ‬لوحة‭ ‬فنية‭ ‬تحملُ‭ ‬ذاتَ‭ ‬صانعها،‭ ‬كالموناليزا‭ ‬مثلًا‭ ‬للفـــــنان‭ ‬الــخالد‭ ‬ليوناردو‭ ‬دافنشي،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬الموسيقى‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬بيتهوفن‭ ‬يسمع‭ ‬في‭ ‬وجدانه‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تدركه‭ ‬الحواس‭. ‬والموسيقى‭ ‬لغة‭ ‬أيضًا،‭ ‬وفيها‭ ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬عبد‭ ‬ربه‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬العقد‭ ‬الفريد‮»‬‭: ‬‮«‬النغم‭ ‬فضلٌ‭ ‬في‭ ‬المنطق‭ ‬لم‭ ‬يقدر‭ ‬اللسان‭ ‬على‭ ‬استخراجه،‭ ‬فاستخرجته‭ ‬الطبيعة‭ ‬بالألحان‮»‬،‭ ‬والموسيقى‭ ‬شعر‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬لأنها‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الترجيع‭.‬

 

‭ ‬لماذا‭ ‬الشعر؟

حتى‭ ‬الآن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬وسائل‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬المشاعر‭ ‬هو‭ ‬الكلام‭ ‬المسكون‭ ‬بالشعر‭. ‬وتحديدًا‭ ‬الشعر‭. ‬فلماذا‭ ‬الشعر؟‭ ‬والجواب‭ ‬لأن‭ ‬الشعر‭ ‬غناء،‭ ‬والغناء‭ ‬إيقاع،‭ ‬وقد‭ ‬عرف‭ ‬العرب‭ ‬الإيقاع‭ ‬من‭ ‬طبيعتهم،‭ ‬ومن‭ ‬حداء‭ ‬الإبل‭. ‬وكان‭ ‬العرب‭ ‬لا‭ ‬يفرقون‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والغناء،‭ ‬وكانوا‭ ‬يرون‭ ‬أن‭ ‬الإيقاع‭ ‬هو‭ ‬الجامع‭ ‬بين‭ ‬الشعر‭ ‬والغناء‭. ‬يقول‭ ‬حسان‭ ‬بن‭ ‬ثابت‭:‬

تَغَنّ‭ ‬بالشعرِ‭ ‬إمّا‭ ‬كنتَ‭ ‬قائلَهُ

إنّ‭ ‬الغناءَ‭ ‬لهذا‭ ‬الشعر‭ ‬مضمارُ

سُئِلَ‭ ‬أعرابيٌّ‭: ‬لِمَ‭ ‬مراثيكم‭ ‬أجمل‭ ‬شعرِكمْ؟‭ ‬فأجاب‭: ‬‮«‬لأننا‭ ‬نقولها‭ ‬وقلوبنا‭ ‬محترقة‮»‬‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬نقل‭ ‬الشعور‭ ‬إلى‭ ‬الكلمات‭ ‬يغدو‭ ‬عملية‭ ‬تفريغ‭ ‬ما‭ ‬يصطخب‭ ‬في‭ ‬الذات،‭ ‬ويتفاعل‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يحتكُّ‭ ‬به‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬موجودات‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي‭.‬

وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬يغدو‭ ‬الشعر‭ ‬دواء‭ ‬للمصابين‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تحمّله،‭ ‬نعم‭ ‬الشعر‭ ‬دواء،‭ ‬وبخاصة‭ ‬حين‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬ذات‭ ‬قائله،‭ ‬وليس‭ ‬ما‭ ‬يُستَجْلَبُ‭ ‬به‭ ‬الشهرة‭ ‬والمال‭ ‬والتزلف‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬الحكام‭. ‬إنّ‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬شعر‭ ‬حقيقي‭ ‬محاولة‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬حرائق‭ ‬الداخل،‭ ‬تلك‭ ‬الحرائق‭ ‬التي‭ ‬تندلع‭ ‬نتيجة‭ ‬حدث‭ ‬وتجربة‭. ‬يقول‭ ‬قيس‭ ‬بن‭ ‬الملوّح‭:‬

فلم‭ ‬أُشْرِفِ‭ ‬الأيْفاعَ‭ ‬إلاّ‭ ‬صبابةً‭  

ولم‭ ‬أُنشِدِ‭ ‬الأشعارَ‭ ‬إلاّ‭ ‬تداويا

لم‭ ‬يكن‭ ‬قيس‭ ‬بن‭ ‬الملوَّح‭ ‬فيلسوفًا،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬أدركَ‭ ‬أنه‭ ‬ينشد‭ ‬الأشعار‭ ‬تداويًا‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬حب‭ ‬ليلى،‭ ‬وعرف‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬سامره‭ ‬ونجيُّه،‭ ‬فلجأ‭ ‬إليه‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬للشعر‭ ‬وظيفة،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬أعلى‭ ‬هذه‭ ‬الوظائف‭ ‬هو‭ ‬تفريغ‭ ‬الأسى،‭ ‬إنه‭ ‬ولادة‭ ‬المولود‭ ‬الشعري‭ ‬الذي‭ ‬يريح‭ ‬من‭ ‬المعاناة‭. ‬

 

لغة‭ ‬الداخل‭ ‬المشترك

دائمًا‭ ‬كنت‭ ‬أسأل‭ ‬نفسي‭: ‬ماذا‭ ‬يجدي‭ ‬النواح؟‭ ‬وأنا‭ ‬أسمع‭ ‬بكاء‭ ‬الثاكلات،‭ ‬وتردادهنّ‭ ‬الغناء‭ ‬المشحون‭ ‬بلهب‭ ‬داخلي‭ ‬عميق‭. ‬وكان‭ ‬النواح‭ ‬والبكاء‭ ‬يمتزجان‭ ‬بالدمع،‭ ‬وكانا‭ ‬معًا‭ ‬يجعلانني‭ ‬أفهم‭ ‬قول‭ ‬ابن‭ ‬الرومي،‭ ‬وهو‭ ‬يرثي‭ ‬ابنه‭ ‬الأوسط‭ ‬مخاطبًا‭ ‬عينيه‭:‬

بكاؤكما‭ ‬يشفي،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يُجدي‭ 

فجودا،‭ ‬فقد‭ ‬أودى‭ ‬نظيركما‭ ‬عندي

البكاء‭ ‬يشفي،‭ ‬وهو‭ ‬لغة‭ ‬يفهمها‭ ‬البشر‭ ‬جميعًا‭ ‬بلا‭ ‬ترجمان‭. ‬لأنها‭ ‬لغة‭ ‬الداخل‭ ‬المشترك‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬البشر،‭ ‬حين‭ ‬ترى‭ ‬الدموع‭ ‬تدرك‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يبكي‭ ‬عنده‭ ‬قضية،‭ ‬وتدرك‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬الدمع‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬البكاء‭ ‬والتباكي‭.‬

لقد‭ ‬ركَّزَ‭ ‬النقد‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬شعر‭ ‬المأساة‭ (‬التراجيديا‭) ‬اليونانية‭ ‬في‭ ‬تعاملها‭ ‬مع‭ ‬أهمية‭ ‬وظيفتها،‭ ‬وفضّلها‭ ‬النقد‭ ‬على‭ ‬الملهاة‭ (‬الكوميديا‭). ‬والسبب‭ ‬أنها‭ ‬تتعاطف‭ ‬بعمق‭ ‬مع‭ ‬الإنسان،‭ ‬وتثير‭ ‬رائي‭ ‬المسرحية،‭ ‬وتريه‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬مظلوم‭ ‬أمام‭ ‬قدر‭ ‬آلهة‭ ‬الأولمب،‭ ‬وسيزيف‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬أمثلتها‭.‬

كان‭ ‬الذين‭ ‬يحضرون‭ ‬المسرح‭ ‬ينحازون‭ ‬لحضور‭ ‬التراجيديا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حضور‭ ‬الملهاة،‭ ‬لأن‭ ‬التراجيديا‭ ‬تفرّغ‭ ‬الذات‭ ‬من‭ ‬حزنها‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬المهزوم‭ ‬والخاضع‭ ‬لأقدار‭ ‬آلهة‭ ‬الأولمب‭ ‬باستمرار‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المناسبات‭ ‬التي‭ ‬يحضرها‭ ‬الناس‭ ‬لتجاوبهم‭ ‬مع‭ ‬مأساوية‭ ‬حدثها‭. ‬إن‭ ‬الشعر‭ ‬يبقى‭ ‬المتعاطف‭ ‬مع‭ ‬مظلومية‭ ‬الإنسان‭ ‬ومآسيه‭ ‬الناتجة‭ ‬من‭ ‬احتكاكه‭ ‬الخشن‭ ‬بأحداث‭ ‬الحياة‭. ‬

 

رسالة‭ ‬الشعر

هذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬الحقيقي‭ ‬ليس‭ ‬ترفًا‭ ‬ووسائل‭ ‬طرب‭ ‬للآخرين،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬حامل‭ ‬رسالة‭ ‬وقضية‭ ‬تتعلق‭ ‬بأشياء‭ ‬الإنسان‭ ‬الغالية‭. ‬وبهذا‭ ‬المعنى‭ ‬يغدو‭ ‬الشعر‭ ‬الصادق‭ ‬هو‭ ‬الحب‭ ‬نفسه،‭ ‬فهما‭ ‬يتجاوران‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬الالتصاق‭ ‬وذوبان‭ ‬أحدهما‭ ‬في‭ ‬الآخر‭.‬

فحين‭ ‬تبكي‭ ‬مثلًا،‭ ‬فذلك‭ ‬يعني‭ ‬أنك‭ ‬فقدتَ‭ ‬أشياء‭ ‬تحبّها،‭ ‬والشعر‭ ‬هو‭ ‬بكاء‭ ‬الذات‭ ‬بالكلمات‭. ‬الشعر‭ ‬إذن‭ ‬مواسٍ‭ ‬وطبيب‭ ‬ومنقذ‭. ‬أنا‭ ‬قلت‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬قصائدي‭ ‬مستعينًا‭ ‬بالحب‭ ‬والشعر،‭ ‬وكنت‭ ‬مغمورًا‭ ‬بأحزان‭ ‬ومعاناة‭ ‬لا‭ ‬طاقة‭ ‬لي‭ ‬بحملهما‭: ‬‮«‬أحبّيني‭/ ‬فإنّ‭ ‬الحبَّ‭ ‬في‭ ‬المنفى‭ ‬يساعدني‭/ ‬وينقذني‭ ‬من‭ ‬الحجرِ‭/ ‬فقد‭ ‬تُلغي‭ ‬بنفسجةٌ‭/ ‬بنفح‭ ‬عبيرها‭ ‬صحراءْ‭/ ‬ويملأ‭ ‬غابةً‭ ‬عصفورْ‮»‬‭,‬‭ ‬وكان‭ ‬الشعر‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬سفينة‭ ‬أُبحر‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬أهلي،‭ ‬وكان‭ ‬الشعر‭ ‬يحوّل‭ ‬الواقع‭ ‬إلى‭ ‬حلم‭. ‬إنه‭ ‬المنقذ‭ ‬من‭ ‬الهلاك‭. ‬والشعر‭ ‬محامٍ‭ ‬ومدافع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬النفس‭ ‬البشرية،‭ ‬فقد‭ ‬سجن‭ ‬الخليفة‭ ‬عمرُ‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬الشاعرَ‭ ‬الحطيئة‭ ‬بسبب‭ ‬هجائه‭ ‬المقذع‭ ‬للزبرقان‭ ‬بن‭ ‬بدر،‭ ‬أمير‭ ‬تميم،‭ ‬وفي‭ ‬السجن‭ ‬بعث‭ ‬الحطيئة‭ ‬بقصيدة‭ ‬للخليفة‭ ‬عمر،‭ ‬يذكِّره‭ ‬فيها‭ ‬بأنه‭ ‬ترك‭ ‬خلفه‭ ‬أطفاله‭ ‬الجياع،‭ ‬ولا‭ ‬معيل‭ ‬لهم‭ ‬غيره،‭ ‬وكانت‭ ‬القصيدة‭ ‬مؤثرة،‭ ‬وقد‭ ‬جعلت‭ ‬الخليفة‭ ‬يبكي‭ ‬لتأثره‭ ‬بعواطف‭ ‬الشاعر‭ ‬الملتهبة،‭ ‬وحنينه‭ ‬لأطفاله‭ ‬الذين‭ ‬يشبههم‭ ‬بزغب‭ ‬القطا،‭ ‬يقول‭ ‬الحطيئة‭ ‬مخاطبًا‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭:‬

ماذا‭ ‬تقول‭ ‬لأفراخٍ‭ ‬بذي‭ ‬مَرَخٍ‭ ‬

زُغْبِ‭ ‬الحواصلِ‭ ‬لا‭ ‬ماءٌ‭ ‬ولا‭ ‬شجرُ؟‭ ‬

ألقيتَ‭ ‬كاسبَهمْ‭ ‬في‭ ‬قعرِ‭ ‬مظلمةٍ‭ 

فاغفرْ،‭ ‬عليكَ‭ ‬سلام‭ ‬اللهِ‭ ‬يا‭ ‬عمرُ

كانت‭ ‬القصيدة‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬محامٍ‭ ‬في‭ ‬جلسة‭ ‬القضاء‭ ‬الإنساني،‭ ‬فقد‭ ‬أخرجت‭ ‬الشاعر‭ ‬من‭ ‬السجن‭ ‬بقوة‭ ‬الشعر‭ ‬المشحون‭ ‬بلهب‭ ‬الوجدان‭. ‬

 

الإسلام‭ ‬والشعر

وقف‭ ‬الإسلام‭ ‬موقفًا‭ ‬نافيًا‭ ‬الشعر‭ ‬ودوره،‭ ‬وفي‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬آيات‭ ‬تهاجم‭ ‬الشعر‭ ‬والشعراء،‭ ‬وهو‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬الذين‭ ‬يستجيبون‭ ‬للشعر‭ ‬ويتَّبعون‭ ‬الشعراء‭ ‬هم‭ ‬غاوون‭. ‬وربط‭ ‬الإسلام‭ ‬رفضه‭ ‬الشعر‭ ‬بأن‭ ‬الشعراء‭ ‬يقولون‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يفعلون‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الموقف،‭ ‬فقد‭ ‬قَبِل‭ ‬الإسلام‭ ‬رسالةً‭ ‬وعقيدةً‭ ‬الشعرَ،‭ ‬وحاول‭ ‬أن‭ ‬يجعله‭ ‬منخرطًا‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬العقيدة‭ ‬الجديدة‭.‬

لم‭ ‬يستطع‭ ‬الإسلام‭ ‬بكل‭ ‬حضوره‭ ‬أن‭ ‬يلغي‭ ‬الشعر،‭ ‬لأن‭ ‬الشعر‭ ‬ليس‭ ‬مفصولًا‭ ‬عن‭ ‬الذات‭ ‬العربية‭. ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يثير‭ ‬حربًا‭ ‬ويعقد‭ ‬صلحًا‭. ‬حاول‭ ‬الإسلام‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬ضوابط‭ ‬للشعر‭ ‬فلم‭ ‬يستطع،‭ ‬والشاعر‭ ‬الذي‭ ‬التزم‭ ‬بهذه‭ ‬الضوابط‭ ‬سقط‭ ‬شعره‭. ‬فهذا‭ ‬حسان‭ ‬بن‭ ‬ثابت‭ ‬الأنصاري،‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬مئة‭ ‬وعشرين‭ ‬سنة،‭ ‬نصفها‭ ‬في‭ ‬الجاهلية،‭ ‬ونصفها‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬الأصمعي‭ ‬في‭ ‬حسان‭ ‬وشعره‭: ‬‮«‬حسان‭ ‬بن‭ ‬ثابت‭ ‬فحلٌ‭ ‬من‭ ‬فحول‭ ‬الجاهلية،‭ ‬فلما‭ ‬جاء‭ ‬الإسلام‭ ‬سقط‭ ‬شعره‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬صحيح،‭ ‬ولكن،‭ ‬لماذا‭ ‬سقط‭ ‬شعره؟‭ ‬والجواب‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينضبط‭ ‬في‭ ‬قوالب،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬نوعيةُ‭ ‬هذه‭ ‬القوالب‭. ‬

سِمةُ‭ ‬الشعر‭ ‬التمرد،‭ ‬وإثارة‭ ‬الأسئلة،‭ ‬وعدم‭ ‬الوقوف‭ ‬عند‭ ‬الأجوبة‭ ‬الجاهزة‭. ‬الشعر‭ ‬يتسم‭ ‬دائمًا‭ ‬بنقد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ثابت،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تأتي‭ ‬حداثته‭. ‬يقول‭ ‬أوكتافيو‭ ‬باث‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬أطفال‭ ‬الطين‮»‬‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الزمن‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬حديثًا‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬نقديًّا‮»‬‭. ‬النقد‭ ‬هو‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬بناء،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬هدم‭ ‬وبناء‭ ‬مستمران‭. ‬إن‭ ‬الثبوت‭ ‬مناقض‭ ‬لمفهوم‭ ‬الزمن،‭ ‬فالزمن‭ ‬هو‭ ‬نهر‭ ‬الحياة،‭ ‬‮«‬وأنت‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬ماء‭ ‬النهر‭ ‬مرتين‮»‬‭. ‬يتسم‭ ‬الشعر‭ ‬دائمًا‭ ‬بعملية‭ ‬الولادة‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تأتي‭ ‬حداثته‭.‬

 

الدين‭ ‬والحداثة‭ 

الحداثة‭ ‬لا‭ ‬تناقض‭ ‬الدين،‭ ‬والدين‭ ‬بمفهومه‭ ‬الكوني‭ ‬الصحيح‭ ‬هو‭ ‬الاستجابة‭ ‬للحياة‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬أفضل‭. ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬التجاوز،‭ ‬ويعني‭ ‬الحداثة‭ ‬أيضًا‭. ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬فقيه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬شاعرًا‭ ‬من‭ ‬الطراز‭ ‬الأول،‭ ‬لأن‭ ‬الشريعة‭ ‬تحدد‭ ‬له‭ ‬مساره،‭ ‬بينما‭ ‬أبدع‭ ‬شعراء‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬الحسن‭ ‬بن‭ ‬هانئ،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬روحه‭ ‬في‭ ‬جوف‭ ‬دنّ‭ ‬الخمر،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬مؤمنًا،‭ ‬وكان‭ ‬يقول‭ ‬بتضرع‭:‬

يا‭ ‬ربِّ‭ ‬إنْ‭ ‬عَظُمتْ‭ ‬ذنوبي‭ ‬كثرةً‭ 

فلقد‭ ‬علمتُ‭ ‬بأنّ‭ ‬عفْوَكَ‭ ‬أعظمُ

إنْ‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يرجوكَ‭ ‬إلا‭ ‬مُحسنٌ‭ ‬

فبمن‭ ‬يلوذُ‭ ‬ويستجيرُ‭ ‬المجرمُ؟

لقد‭ ‬خرج‭ ‬مولانا‭ ‬جلال‭ ‬الدين‭ ‬الرومي‭ ‬من‭ ‬الفقيه‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر،‭ ‬فكتب‭ ‬أروع‭ ‬تجلياتهِ،‭ ‬وحكى‭ ‬مع‭ ‬الناي‭ ‬المقصوف‭ ‬من‭ ‬غابته،‭ ‬ودعا‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬عبادته‭: ‬‮«‬لا‭ ‬تعبدوا‭ ‬حتى‭ ‬تروا‮»‬‭. ‬وحين‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬الفقيه‭ ‬رأى‭ ‬الله‭ ‬ببصيرته‭ ‬أبعد،‭ ‬وصار‭ ‬خارج‭ ‬الفقه‭ ‬بمعناه‭ ‬التحديدي،‭ ‬ودخل‭ ‬فيما‭ ‬يشبه‭ ‬السريالية‭ ‬بعلاقته‭ ‬مع‭ ‬الرائي‭ ‬‮«‬شمس‭ ‬تبريزي‮»‬‭. ‬وبدأ‭ ‬يؤمن‭ ‬بوحدانية‭ ‬لا‭ ‬تستثني‭ ‬أحدًا‭ ‬من‭ ‬كليّة‭ ‬الخالق،‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬ذات‭ ‬مفصولة‭ ‬عن‭ ‬الكلية‭ ‬الجامعة‭ ‬في‭ ‬وحدانية‭ ‬‮«‬العالم‭ ‬الأكبر‮»‬‭. ‬

آمن‭ ‬بالموسيقى‭ ‬امتدادًا‭ ‬لأنين‭ ‬الناي‭ ‬الذي‭ ‬قصف‭ ‬من‭ ‬غابته،‭ ‬وما‭ ‬أنينه‭ ‬إلا‭ ‬حنين‭ ‬للعودة‭ ‬إلى‭ ‬الغابة‭ ‬التي‭ ‬قصف‭ ‬منها‭. ‬وكان‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬آلة‭ ‬العزف‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬الفقيه‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬شاعرًا،‭ ‬يقول‭ ‬جلال‭ ‬الدين‭ ‬الرومي‭:‬

بشنو‭ ‬أز‭ ‬نيْ‭ ‬جون‭ ‬حكاية‭ ‬ميكند‭ ‬

واز‭ ‬جدائيها‭ ‬شكايت‭ ‬ميكند

كز‭ ‬نيستان‭ ‬تا‭ ‬مرا‭ ‬ببريده‭ ‬اند‭  

أز‭ ‬نفيرم‭ ‬مرد‭ ‬وزن‭ ‬ناليده‭ ‬اند

ومعناه‭: ‬استمعْ‭ ‬إلى‭ ‬الناي‭ ‬وهو‭ ‬يروي‭ ‬حكايته،‭ ‬ويقول‭: ‬من‭ ‬يوم‭ ‬أن‭ ‬قطعوني‭ ‬من‭ ‬الغابة‭ ‬أنا‭ ‬أصرخ،‭ ‬وإلى‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬صراخي‭ ‬صار‭ ‬الجميع‭ ‬رجلًا‭ ‬وامرأة‭ ‬يصرخون‭.‬

 

حالة‭ ‬ارتقاء

الشعر‭ ‬تغلّب‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬الفقه‭. ‬فالشعر‭ ‬حالة‭ ‬ارتقاء،‭ ‬لأنه‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬الداخل‭ ‬بلا‭ ‬موانع،‭ ‬وكما‭ ‬أسلفنا،‭ ‬فالدين‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬إزاحة‭ ‬الدين،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬المشركين،‭ ‬ولشدة‭ ‬تأثّرهم‭ ‬ببلاغة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬نسبوه‭ ‬إلى‭ ‬الشعر،‭ ‬ونفى‭ ‬القرآن‭ ‬التهمة‭ ‬عن‭ ‬الرسول‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬بشاعر‭ ‬‮«‬وما‭ ‬ينبغي‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يكون‮»‬‭.‬

لقد‭ ‬ظلّ‭ ‬الشعر‭ ‬يقتحم‭ ‬النفس‭ ‬العربية‭. ‬فقد‭ ‬شكت‭ ‬فاطمة‭ ‬بنت‭ ‬الخليفة‭ ‬الأموي‭ ‬عبدالملك‭ ‬بن‭ ‬مروان‭ ‬لرفيقتها‭ ‬أنها‭ ‬جاءت‭ ‬إلى‭ ‬الحج،‭ ‬لكنها‭ ‬غاضبة،‭ ‬لأن‭ ‬عمــــر‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬ربيعة‭ ‬لم‭ ‬يتغزل‭ ‬بمفاتنها،‭ ‬لكن‭ ‬عمر‭ ‬كان‭ ‬يذكر‭ ‬أن‭ ‬الفتيات‭ ‬كنّ‭ ‬يتحرشنَ‭ ‬به،‭ ‬وهنّ‭ ‬طائفات،‭ ‬ليتغزل‭ ‬بهنّ،‭ ‬وفي‭ ‬ديوانه‭:‬

قالت‭ ‬لتِرْبٍ‭ ‬لها‭ ‬ملاطفةً‭: ‬

لَنُفْسِدَنَّ‭ ‬الطوافَ‭ ‬في‭ ‬عمرِ

قومي،‭ ‬تصدَّيْ‭ ‬له‭ ‬ليبصرنا‭ ‬

ثم‭ ‬اغمزيهِ‭ ‬يا‭ ‬أختُ‭ ‬في‭ ‬خفرِ

لكن‭ ‬ما‭ ‬مصيرُ‭ ‬الشعرِ؟‭ ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬طفولة‭ ‬الأمم،‭ ‬ومراحلها‭ ‬الرعوية،‭ ‬ومراحل‭ ‬بداوتها‭ ‬المتأججة‭ ‬العواطف،‭ ‬وصحيح‭ ‬أن‭ ‬بداوة‭ ‬الحضارات‭ ‬انتهت،‭ ‬وبدأ‭ ‬عصر‭ ‬العقل‭ ‬المعتمد‭ ‬على‭ ‬الرؤية‭ ‬لا‭ ‬على‭ ‬الرؤيا‭. ‬لكن‭ ‬بداوة‭ ‬الشعور‭ ‬ظلت‭ ‬تجبر‭ ‬الإنسان‭ ‬الحضاري‭ ‬على‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬طفولته‭. ‬وليس‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬سوى‭ ‬حنين‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬إلى‭ ‬طفولته‭.‬

 

سفير‭ ‬الإحساس

إن‭ ‬المجتمعات‭ ‬المادية‭ ‬القاسية‭ ‬جعلت‭ ‬شاعرًا‭ ‬متمردًا،‭ ‬مثل‭ ‬آرثر‭ ‬رامبو،‭ ‬يهجر‭ ‬مادية‭ ‬باريس‭ ‬وأناقة‭ ‬فنونها،‭ ‬ليعود‭ ‬إلى‭ ‬بداوة‭ ‬شعوره،‭ ‬وكاد‭ ‬النظام‭ ‬المادي‭ ‬يخنقه،‭ ‬فصرخ‭: ‬‮«‬وجدتُ‭ ‬فوضى‭ ‬روحي‭ ‬شيئًا‭ ‬مقدّسًا‮»‬،‭ ‬وجاء‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬الشرق،‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬عدن‮»‬‭ ‬ليرى‭ ‬عدنًا‭ ‬خرافية‭ ‬تنقذ‭ ‬روحه‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬بالانتحار‭.‬

وأشّرَ‭ ‬إلى‭ ‬وجوب‭ ‬انفجار‭ ‬‮«‬سُرّةِ‭ ‬أوربا‮»‬،‭ ‬لأنها‭ ‬خلعت‭ ‬ثياب‭ ‬كينونتها‭ ‬الأولى،‭ ‬وأوغلت‭ ‬في‭ ‬ضبابتها‭ ‬الروحية،‭ ‬ورأى‭ ‬أن‭ ‬روح‭ ‬أوربا‭ ‬قد‭ ‬غطّاها‭ ‬الضباب،‭ ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الشمس،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬وأدرك‭ ‬صديقه‭ ‬فيرلين‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬حقيقة‭ ‬الحضارة‭ ‬حين‭ ‬رثاه‭ ‬بقولهِ‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬كان‭ ‬وحشيًّا‭ ‬رائع‭ ‬التمدن‮»‬‭. ‬ولعل‭ ‬عنوان‭ ‬كتاب‭ ‬رامبو‭ ‬‮«‬الإشراقات‮»‬‭ ‬يؤشر‭ ‬بهذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬الصوفي‭ ‬السريالي‭ ‬مشتبكًا‭ ‬مع‭ ‬مادية‭ ‬تهيمن‭ ‬على‭ ‬عصره،‭ ‬وضبابية‭ ‬تحجب‭ ‬شمسًا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تشرق‭ ‬من‭ ‬الإنسان‭ ‬أولًا‭. ‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬بودلير‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الجمال‭ ‬مرتبط‭ ‬بالحواس،‭ ‬وكان‭ ‬الحب‭ ‬في‭ ‬رأيه‭ ‬روحًا‭ ‬لا‭ ‬جسدًا،‭ ‬هو‭ ‬سفير‭ ‬الإحساس‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬كان‭ ‬يتمنى‭ ‬لأوربا‭ ‬أن‭ ‬تنمو‭ ‬روحها‭ ‬مع‭ ‬ماديتها،‭ ‬ولذا‭ ‬قال‭ ‬مخاطبًا‭ ‬الجسد‭ ‬بلغة‭ ‬الغائب‭ ‬ليدخل‭ ‬إلى‭ ‬الروح‭: ‬‮«‬أودُّ‭ ‬لو‭ ‬تنمو‭ ‬روحها‭ ‬مع‭ ‬جسدها‮»‬‭. ‬نمو‭ ‬الروح‭ ‬هو‭ ‬وحده‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬إنسانٍ‭ ‬سوِيٍّ،‭ ‬وخارج‭ ‬الروح‭ ‬ينهار‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬عالي‭ ‬الحضور‭.‬

ولا‭ ‬يمكن‭ ‬فهم‭ ‬لفظة‭ ‬البداوة‭ ‬ولفظة‭ ‬الرعوية‭ ‬بمعناهما‭ ‬المباشر،‭ ‬وإنما‭ ‬بمعنى‭ ‬التصاق‭ ‬الروح‭ ‬بالحدث‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الذوبان‭ ‬فيه،‭ ‬إن‭ ‬توافر‭ ‬الشعور‭ ‬العالي‭ ‬عند‭ ‬جلجامش‭ ‬نحو‭ ‬صديقه‭ ‬أنكيدو‭ ‬كان‭ ‬مقدمة‭ ‬لبناء‭ ‬سور‭ ‬أورك‭ ‬الخالد‭. ‬فالفنون‭ ‬هي‭ ‬إيقاظ‭ ‬الروح‭ ‬في‭ ‬الموجودات‭ ‬لتصبح‭ ‬أجمل،‭ ‬وليعصمها‭ ‬جمالها‭ ‬من‭ ‬الزوال‭.‬

 

الفنون‭ ‬والحضارة

‭ ‬لقد‭ ‬ظلت‭ ‬الخنساء‭ ‬تبكي‭ ‬أخاها‭ ‬صخرًا‭ ‬طوال‭ ‬عمرها،‭ ‬وليس‭ ‬البكاء‭ ‬هو‭ ‬المقصود‭ ‬هنا،‭ ‬وإنما‭ ‬ما‭ ‬خلّفه‭ ‬الحزن‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬شجىً‭ ‬وأسى‭ ‬وشعر‭ ‬جميل،‭ ‬وظل‭ ‬شعرها‭ ‬يؤكد‭ ‬على‭ ‬الوفاء‭ ‬وروابط‭ ‬الأسرة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬تُغزى‭ ‬بالتفكك‭ ‬‮«‬الموبايلي‮»‬‭. ‬وحين‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬يلومون‭ ‬متمم‭ ‬بن‭ ‬نويرة‭ ‬على‭ ‬الإكثار‭ ‬من‭ ‬البكاء‭ ‬على‭ ‬قبر‭ ‬أخيه‭ ‬مالك‭ ‬الذي‭ ‬قُتل‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬الردة،‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬لهم‭ ‬شعرًا‭ ‬يملأ‭ ‬النفس‭ ‬شجىً‭ ‬وأسى،‭ ‬بل‭ ‬ويفرغ‭ ‬أحزان‭ ‬الآخرين‭ ‬بتحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬دموعٍ‭ ‬تنسكب‭ ‬من‭ ‬المآقي‭:‬

وقالوا‭ ‬أتبكي‭ ‬كلّ‭ ‬قبرٍ‭ ‬رأيتهُ‭ ‬

لقبرٍ‭ ‬ثوى‭ ‬بين‭ ‬اللوى‭ ‬فالدكادكِ

فقلتُ‭ ‬لهم‭: ‬إنّ‭ ‬الأسى‭ ‬يبعث‭ ‬الأسى‭ ‬

دعوني،‭ ‬فهذا‭ ‬كله‭ ‬قبرُ‭ ‬مالك

لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬لاستمرار‭ ‬الحضارة،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬حضارة‭ ‬مرّت‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬إلا‭ ‬بخلود‭ ‬فنونها‭ ‬التي‭ ‬عبّرت‭ ‬عن‭ ‬روحها‭. 

يرى‭ ‬بعض‭ ‬النقاد‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬بدأت‭ ‬تمحو‭ ‬الشعر،‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬غير‭ ‬صحيح،‭ ‬فما‭ ‬زال‭ ‬هناك‭ ‬شعراء‭ ‬مبدعون،‭ ‬وما‭ ‬زلنا‭ ‬نقرأ‭ ‬الشعر‭. ‬وفي‭ ‬رأيي‭ ‬الذي‭ ‬ثمّرْتُه‭ ‬من‭ ‬مطالعاتي‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬والعالمية‭ ‬وجدت‭ ‬أن‭ ‬أخلدَ‭ ‬الروايات‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬روحها‭ ‬مأخوذة‭ ‬ومستقاة‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لرواية‭ ‬لا‭ ‬تخاطب‭ ‬روح‭ ‬الإنسان،‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أقصد‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تُصاغَ‭ ‬شعريًا،‭ ‬وإنما‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬الروايات‭ ‬الخالدة‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬في‭ ‬وجودي‭ ‬ووجود‭ ‬ملايين‭ ‬البشر‭ ‬هي‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬تحوّل‭ ‬الحدث‭ ‬إلى‭ ‬شعور‭.‬

مهمة‭ ‬الرواية‭ ‬أن‭ ‬تبني‭ ‬وأن‭ ‬تهدم‭ ‬تمامًا‭ ‬كالشعر،‭ ‬لكن‭ ‬البناء‭ ‬والهدم‭ ‬هما‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬فعلٌ‭ ‬إنساني‭. ‬والإنسان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬ينفعل‭ ‬ويجد‭ ‬رغبة‭ ‬عميقة‭ ‬فيه‭ ‬إذا‭ ‬أراد‭ ‬الهدم‭ ‬أو‭ ‬أراد‭ ‬البناء‭. ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬أثرت‭ ‬بي‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬الجريمة‭ ‬والعقاب‮»‬‭ ‬للكاتب‭ ‬الروسي‭ ‬العظيم‭ ‬دستويفسكي‭. ‬أنت‭ ‬حين‭ ‬تقرأه‭ ‬ستنفعل‭ ‬وسترى‭ ‬أن‭ ‬الشعر‭ ‬هو‭ ‬روح‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬الخالدة‭. ‬إن‭ ‬تحولات‭ ‬البشر،‭ ‬وتحولات‭ ‬رغابهم‭ ‬كانت‭ ‬نابعة‭ ‬من‭ ‬شعور‭ ‬عميق‭ ‬لا‭ ‬يختلف‭ ‬أبدًا‭ ‬عن‭ ‬أثر‭ ‬الشعر‭ ‬الخالد‭. ‬وقرأت‭ ‬رواية‭ ‬دكتور‭ ‬زيفاكو‭ ‬للكاتب‭ ‬الروسي‭ ‬موريس‭ ‬باسترناك‭. ‬وقد‭ ‬هزّني‭ ‬فيها‭ ‬تقلبات‭ ‬الداخل‭ ‬الإنساني،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬الشعر‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬غموض‭ ‬نهاية‭ ‬البطل‭ ‬الإيحائية‭ ‬