الإنسان في عصر التحولات الشرسة

الإنسان في عصر  التحولات الشرسة

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬المذهل‭ ‬منذ‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬ولدوا‭ ‬في‭ ‬الستينيات‭ ‬مثلي،‭ ‬شهد‭ ‬تغيرات‭ ‬سريعة‭ ‬مذهلة‭ ‬وصادمة،‭ ‬ومن‭ ‬سيمتد‭ ‬به‭ ‬العمر‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬سيرى‭ ‬عالماً‭ ‬آخر‭.‬

إن‭ ‬‮«‬النانو‭ ‬تكنولوجي‮»‬‭ ‬وتكنولوجيا‭ ‬المعلومات‭ ‬يغيران‭ ‬العالم‭ ‬بشدة،‭ ‬وقد‭ ‬أدى‭ ‬المعدل‭ ‬السريع‭ ‬للتطور‭ ‬التكنولوجي‭ ‬إلى‭ ‬حدوث‭ ‬خلل‭ ‬اجتماعي،‭ ‬فالتكنولوجيا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتغير‭ ‬بسرعة،‭ ‬حيث‭ ‬تنتقل‭ ‬من‭ ‬الدراجات‭ ‬إلى‭ ‬سفن‭ ‬الفضاء‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬العمر،‭ ‬من‭ ‬الهاتف‭ ‬المحمول‭ ‬بين‭ ‬جدران‭ ‬المنزل‭ ‬إلى‭ ‬الهاتف‭ ‬المحمول‭ ‬بين‭ ‬يديك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬إلى‭ ‬الهاتف‭ ‬الذي‭ ‬يقوم‭ ‬بعدة‭ ‬وظائف،‭ ‬ومنها‭ ‬تحويل‭ ‬الأموال‭ ‬والدفع‭ ‬الفوري‭ ‬والتقاط‭ ‬وإرسال‭ ‬الصور‭ ‬والأخبار‭.‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬وهذا‭ ‬يطرح‭ ‬لدى‭ ‬علماء‭ ‬الأنثروبولوجيا‭ ‬وعلماء‭ ‬النفس‭ ‬والاجتماع‭ ‬سؤالاً‭ ‬ملحاً‭ ‬هو‭: ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتغير‭ ‬أشكال‭ ‬المجتمعات‭ ‬المؤسسية‭ ‬والقيم‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬القصير؟‭.‬

الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬قيم‭ ‬الإنسان‭ ‬وسلوكه‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬تتشكل‭ ‬بسهولة‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الماضية،‭ ‬وبحلول‭ ‬الوقت‭ ‬يصبح‭ ‬الناس‭ ‬مراهقين،‭ ‬ثم‭ ‬تترسخ‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬تشكّل‭ ‬جوهر‭ ‬شخصياتهم‭ ‬وهوياتهم،‭ ‬ويبني‭ ‬الإنسان‭ ‬حياته‭ ‬حول‭ ‬هذه‭ ‬القيم،‭ ‬وبذلك‭ ‬تصبح‭ ‬القيم‭ ‬ثابتة‭ ‬يتأقلم‭ ‬الإنسان‭ ‬عليها‭ ‬وتتوافق‭ ‬معها‭ ‬كيمياء‭ ‬المخ؛‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬عقل‭ ‬الإنسان‭ ‬تخيل‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭.‬

معظم‭ ‬الناس‭ ‬يتكيفون‭ ‬مع‭ ‬البيئة‭ ‬التي‭ ‬تربوا‭ ‬فيها،‭ ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬يحدث‭ ‬عندما‭ ‬يتغير‭ ‬العالم‭ ‬بشكل‭ ‬كبير،‭ ‬والقيم‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬شعوراً‭ ‬بالذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬يعفو‭ ‬عليها‭ ‬الزمن؟

كثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬تقبّل‭ ‬تغيّر‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬تعتمد‭ ‬عليها‭ ‬حياتهم،‭ ‬والتي‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬تثبت‭ ‬نجاحاً‭ ‬كبيراً،‭ ‬فأغلب‭ ‬الناس‭ ‬يتمسكون‭ ‬بالقيم‭ ‬التي‭ ‬شربوها‭ ‬وامتصوها‭ ‬مثل‭ ‬الأطفال‭. ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬تمكنّهم‭ ‬من‭ ‬مواجهة‭ ‬الكوارث‭ ‬والصدمات‭ ‬وتجعل‭ ‬المجتمعات‭ ‬متماسكة‭ ‬والأسر‭ ‬متضامنة‭ ‬والأفراد‭ ‬متعاونين،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬إقامة‭ ‬شبكة‭ ‬تضامن‭ ‬مالي،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬الجمعيات‮»‬‭ ‬في‭ ‬مصر؛‭ ‬وهي‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬شراكات‭ ‬مالية‭ ‬تضمن‭ ‬للأفراد‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تعاونهم‭ ‬مبالغ‭ ‬مالية‭ ‬كبيرة،‭ ‬ويكون‭ ‬ذلك‭ ‬بالاشتراك‭ ‬الشهري‭ ‬بين‭ ‬عشرة‭ ‬أو‭ ‬عشرين‭ ‬شخصاً‭ ‬مثلاً،‭ ‬ويحصل‭ ‬الشخص‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬الشهر‭ ‬على‭ ‬مجمل‭ ‬ما‭ ‬يتم‭ ‬جمعه‭ ‬من‭ ‬الباقين‭. ‬ويعد‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬من‭ ‬الادخار‭ ‬التشاركي‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬قيم‭ ‬التضامن‭ ‬المجتمعي،‭ ‬مكّن‭ ‬عديدين‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المصري‭ ‬من‭ ‬البناء‭ ‬الاقتصادي‭ ‬ومواجهة‭ ‬متطلبات‭ ‬الحياة‭.‬

فمَن‭ ‬الذي‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬يتمسك‭ ‬بها‭ ‬هؤلاء‭ ‬الناس‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬صالحة؟‭ ‬فقيمهم‭ ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬مكنتهم‭ ‬من‭ ‬الصمود‭ ‬والاستمرار‭.‬

هنا‭ ‬تواجه‭ ‬المجتمعات‭ ‬تساؤلات‭ ‬صعبة‭: ‬هل‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬الأجيال‭ ‬السابقة‭ ‬ناجحة‭ ‬ليست‭ ‬بالضرورة‭ ‬هي‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬سوف‭ ‬تكون‭ ‬ملائمة‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬لتحقيق‭ ‬نجاحات؟

وهنا‭ ‬يحضر‭ ‬معيار‭ ‬القيم،‭ ‬فهذا‭ ‬المعيار‭ ‬مهم،‭ ‬لأن‭ ‬المجتمعات‭ ‬تكرر‭ ‬الأمور‭ ‬نفسها‭ ‬والإيمان‭ ‬نفسه،‭ ‬فتخيُّل‭ ‬أن‭ ‬الشاب‭ ‬يتزوج‭ ‬خارج‭ ‬منزل‭ ‬الأسرة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬خلال‭ ‬القرنين‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬والتاسع‭ ‬عشر‭ ‬أمر‭ ‬مستحيل‭. ‬

لكن‭ ‬مع‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬بدا‭ ‬كأنه‭ ‬أمرٌ‭ ‬مسلّم‭ ‬به،‭ ‬ومع‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬صار‭ ‬أمراً‭ ‬بديهياً،‭ ‬ترتب‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬انتهاء‭ ‬فكرة‭ ‬الأسرة‭ ‬الممتدة‭ ‬بالتدريج،‭ ‬ومنزل‭ ‬الأسرة،‭ ‬والحي‭ ‬الذي‭ ‬يعرف‭ ‬الناس‭ ‬سكانه‭ ‬أباً‭ ‬عن‭ ‬جد؛‭ ‬وقد‭ ‬ارتبط‭ ‬هذا‭ ‬بتغيرات‭ ‬في‭ ‬الأشكال‭ ‬المعمارية‭ ‬للعمارة‭ ‬السكنية،‭ ‬فأصبحنا‭ ‬نتعامل‭ ‬مع‭ ‬وحدات‭ ‬في‭ ‬بنايات‭ ‬سكنية،‭ ‬كل‭ ‬وحدة‭ ‬مغلقة‭ ‬على‭ ‬ذاتها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تلاشي‭ ‬قيمة‭ ‬الجوار‭ ‬والقيم‭ ‬المصاحبة‭ ‬لها‭.‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬وُلد‭ ‬من‭ ‬رحِم‭ ‬توسع‭ ‬المدن‭ ‬وظهور‭ ‬الطاقة‭ ‬المحركة‭ ‬للسيارات‭ ‬ووسائل‭ ‬النقل،‭ ‬ثم‭ ‬الصحافة‭ ‬والتعليم‭ ‬وصعود‭ ‬الفردانية‭ ‬أو‭ ‬الفرد‭ ‬عبر‭ ‬استقلاليته‭ ‬المالية،‭ ‬خاصةً‭ ‬مع‭ ‬تعليم‭ ‬الفتيات‭ ‬وعملهن،‭ ‬بل‭ ‬ومشاركتهن‭ ‬في‭ ‬الصرف‭ ‬المنزلي،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المستحيل‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭. ‬

وإذ‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬شيم‭ ‬الرجال‭ ‬في‭ ‬المدن،‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬الريف‭ ‬المصري‭ ‬كانت‭ ‬المرأة‭ ‬تساعد‭ ‬زوجها‭ ‬في‭ ‬الحقل،‭ ‬ترعى‭ ‬الحيوانات‭ ‬التي‭ ‬تربيها‭ ‬في‭ ‬المنزل،‭ ‬كانت‭ ‬امرأة‭ ‬مساهمة‭ ‬ومشاركة‭ ‬اقتصادياً‭ ‬في‭ ‬بيتها‭. ‬والآن‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬امرأة‭ ‬مستهلكة‭ ‬لمنتج‭ ‬المدينة،‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬الخبز‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬خارج‭ ‬المنزل‭ ‬إلى‭ ‬المصنوعات‭ ‬الغذائية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنتجها‭ ‬منزلياً‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬فإن‭ ‬المرأة‭ ‬المساهمة‭ ‬بالفعل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬في‭ ‬الريف‭ ‬لا‭ ‬تعترف‭ ‬بها‭ ‬الدولة‭ ‬كمنتج‭ ‬ومساهم‭ ‬اقتصادي،‭ ‬بل‭ ‬تضيّق‭ ‬عليها‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬تهميشها،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬إنتاج‭ ‬الألبان‭ ‬ومشتقاتها‭ ‬لهذه‭ ‬المرأة‭ ‬مساهم‭ ‬في‭ ‬انتشال‭ ‬أسر‭ ‬من‭ ‬الفقر‭ ‬المدقع،‭ ‬بل‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬المرأة‭ ‬المعيلة‭.‬

وهنا‭ ‬نستحضر‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نسميه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬القيم‭ ‬المهجورة‮»‬‭ ‬وهذه‭ ‬القيم‭ ‬يرى‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬غيابها‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬انزلاق‭ ‬المجتمعات‭ ‬للمجهول،‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬يزداد‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬تعقيداً‭ ‬وتتسارع‭ ‬وتيرة‭ ‬التقدم‭ ‬التقني،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬وسائط‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وهي‭ ‬مجتمعات‭ ‬افتراضية‭ ‬غير‭ ‬حقيقية،‭ ‬تشكّل‭ ‬أحياناً‭ ‬شبكات‭ ‬تكون‭ ‬خاصة‭ ‬بقضايا‭ ‬النوع‭ ‬والمرأة‭ ‬واهتماماتها،‭ ‬أو‭ ‬شبكات‭ ‬تربط‭ ‬متخصصين‭ ‬كالمؤرخين‭ ‬أو‭ ‬الصحفيين،‭ ‬مع‭ ‬تحولات‭ ‬في‭ ‬أنماط‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والاستهلاك‭ ‬تستحق‭ ‬التأمل‭.‬

وأصبحت‭ ‬العزلة‭ ‬الفردية‭ ‬أزمة‭ ‬تعانيها‭ ‬المجتمعات،‭ ‬لدرجة‭ ‬توحد‭ ‬الفرد‭ ‬مع‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي،‭ ‬حتى‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬وكبار‭ ‬السن‭ ‬يشعرون‭ ‬بالعزلة،‭ ‬وحتى‭ ‬دور‭ ‬العبادة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحتشد‭ ‬بالمصلين‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الصلاة‭ ‬أصبحت‭ ‬شبه‭ ‬فارغة،‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الجمعة‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬صلاة‭ ‬التراويح‭ ‬خلال‭ ‬شهر‭ ‬رمضان،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الأبناء‭ ‬يولون‭ ‬الآباء‭ ‬والأمهات‭ ‬نفس‭ ‬رعاية‭ ‬هؤلاء‭ ‬لآبائهم‭ ‬وأمهاتهم،‭ ‬وأصبحت‭ ‬صلة‭ ‬الرحم‭ ‬تتم‭ ‬عن‭ ‬بُعد‭ ‬وفي‭ ‬المناسبات،‭ ‬فإلامَ‭ ‬يؤدي‭ ‬هذا‭ ‬كله؟

هذا‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬موت‭ ‬العاطفة‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬ويشكل،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬وعي،‭ ‬إحباطاً‭ ‬يتم‭ ‬التعبير‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬سلوك‭ ‬عدواني‭ ‬غير‭ ‬طبيعي،‭ ‬وإلى‭ ‬تطرف‭ ‬بعض‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬وانخراطهم‭ ‬في‭ ‬ردة‭ ‬فعل‭ ‬سلبية‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬التدين‭ ‬الصارم‭ ‬واستدعاء‭ ‬مقولات‭ ‬تراثية‭ ‬وتحميلها‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تتحمله‭ ‬من‭ ‬المعاني،‭ ‬كذاك‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬اللايقين‭ ‬بالوطن‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬الهجرة‭ ‬من‭ ‬مجتمعات‭ ‬محبطة،‭ ‬أو‭ ‬الانتحار‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬كالسويد‭ ‬التي‭ ‬توفر‭ ‬الرفاهية‭ ‬المحبطة‭ ‬للإنسان‭.‬

وهنا‭ ‬تبدو‭ ‬إشكالية‭: ‬هل‭ ‬تتغير‭ ‬العلاقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬استجابة‭ ‬للتغيرات‭ ‬التي‭ ‬تحدثها‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬بأشكالها‭ ‬كافة؟‭ ‬وهل‭ ‬يتغير‭ ‬معيار‭ ‬القيم‭ ‬لكي‭ ‬يتكيف‭ ‬مع‭ ‬التغيرات‭ ‬الحادثة؟

هنا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬اليد‭ ‬امتدت‭ ‬للتشكيك‭ ‬في‭ ‬دور‭ ‬الدولة‭ ‬وأهميتها،‭ ‬بل‭ ‬ناقش‭ ‬البعض‭ ‬مستقبل‭ ‬الحكومات‭ ‬إلى‭ ‬حكومات‭ ‬افتراضية‭ ‬تدير‭ ‬وتنظم‭ ‬وتتدخل‭ ‬في‭ ‬الشأن‭ ‬الخاص‭ ‬وتعظم‭ ‬الفردانية،‭ ‬هذه‭ ‬اليد‭ ‬تمثّل‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المتوحشة،‭ ‬التي‭ ‬تتاجر‭ ‬في‭ ‬المبيدات‭ ‬المميتة‭ ‬أو‭ ‬الأسماك‭ ‬المسممة‭ ‬وتسرّب‭ ‬الغاز‭ ‬ونفايات‭ ‬النشاط‭ ‬الإشعاعي‭ ‬والمواد‭ ‬الصناعية‭ ‬المسببة‭ ‬للسرطان‭ ‬وأنواع‭ ‬البكتيريا‭ ‬المخلقة‭ ‬بواسطة‭ ‬البحوث‭ ‬العلمية،‭ ‬هذه‭ ‬الأنشطة‭ ‬المضرة‭ ‬بالإنسان‭ ‬تمنعها‭ ‬الحكومات،‭ ‬ولو‭ ‬تركتها‭ ‬لأفنت‭ ‬البشرية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬مكاسب‭ ‬البعض،‭ ‬وهنا‭ ‬تظل‭ ‬للدولة‭ ‬أدوار‭ ‬في‭ ‬كبح‭ ‬جماح‭ ‬البعض‭ ‬وممارسة‭ ‬دور‭ ‬رقابي‭ ‬وتنظيمي‭ ‬قوي،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬نجاح‭ ‬الصين‭ ‬هز‭ ‬فكرة‭ ‬انسحاب‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المجالات‭.‬

 

الفردانية

لم‭ ‬تكن‭ ‬المرأة‭ ‬عبر‭ ‬عصور‭ ‬التاريخ‭ ‬خارج‭ ‬سوق‭ ‬العمل،‭ ‬لكن‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬جعلت‭ ‬الناس‭ ‬يتنافسون‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬فردية،‭ ‬بغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الجنس،‭ ‬وترقت‭ ‬سيدات‭ ‬إلى‭ ‬وظائف‭ ‬عليا‭ ‬وتنافسن‭ ‬مع‭ ‬الرجال‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الربح‭ ‬الشخصي‭ ‬والترقي‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وترتب‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬عزوف‭ ‬النساء‭ ‬عن‭ ‬إنجاب‭ ‬الأطفال،‭ ‬وتأخر‭ ‬سن‭ ‬الزواج‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬متزايد،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬تزايدت‭ ‬حالات‭ ‬الطلاق،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬أيديولوجية‭ ‬الزواج‭ ‬والأسرة‭ ‬تتراجع‭ ‬بسبب‭ ‬هذا‭. ‬

هنا‭ ‬تبدو‭ ‬الأسرة‭ ‬مهددة،‭ ‬سواء‭ ‬بسبب‭ ‬الشابات‭ ‬أو‭ ‬الشباب‭ ‬في‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة،‭ ‬وقد‭ ‬بدا‭ ‬هذا‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الصناعية‭ ‬كالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وكندا‭ ‬وإيطاليا‭ ‬وألمانيا،‭ ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬ينعكس‭ ‬أيضاً‭ ‬بصورة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬كمصر‭ ‬وفي‭ ‬تونس؛‭ ‬حيث‭ ‬ارتفع‭ ‬سن‭ ‬الزواج‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬الكبيرة‭ ‬الصناعية‭ ‬أو‭ ‬التجارية‭ ‬وتزايدت‭ ‬حالات‭ ‬الطلاق،‭ ‬فهل‭ ‬الحياة‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬ونماذجها‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وتونس‭ ‬هما‭ ‬السبب؟‭ ‬أم‭ ‬التقدم‭ ‬الصناعي‭ ‬والتكنولوجي؟‭ ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬أسباب‭ ‬معقدة‭ ‬تختلف‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬إلى‭ ‬تونس؟

لكننا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬التنافسية‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬قوية‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الصناعية،‭ ‬خاصة‭ ‬أن‭ ‬الآلات‭ ‬تحل‭ ‬محل‭ ‬البشر‭ ‬يوماً‭ ‬بعد‭ ‬يوم،‭ ‬ولاسيما‭ ‬في‭ ‬النموذج‭ ‬الياباني‭ ‬الذي‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬الروبوت‭ ‬بصورة‭ ‬أساسية،‭ ‬فصار‭ ‬نموذجاً‭ ‬يدفع‭ ‬أصحاب‭ ‬الأعمال‭ ‬إلى‭ ‬الاستغناء‭ ‬عن‭ ‬العمال،‭ ‬لتعتني‭ ‬هذه‭ ‬الصناعات‭ ‬بالمهارات‭ ‬الفنية‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬عناية‭ ‬فائقة،‭ ‬هنا‭ ‬هي‭ ‬تستثمر‭ ‬في‭ ‬الفرد‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬أسرته‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬محيطه‭ ‬الاجتماعي‭ ‬العمالي،‭ ‬والخبراء‭ ‬والعلماء‭ ‬منهم‭ ‬يتفانون‭ ‬في‭ ‬عملهم‭ ‬بحماسة‭ ‬تنافسية‭ ‬خارقة،‭ ‬والشركات‭ ‬والمخابر‭ ‬البحثية‭ ‬والمصانع‭ ‬والجامعات‭ ‬تتمتع‭ ‬بهم‭ ‬وبأي‭ ‬قدرة‭ ‬إبداعية‭ ‬لهم،‭ ‬ليدمن‭ ‬هؤلاء‭ ‬العمل،‭ ‬ولتدفع‭ ‬لهم‭ ‬أجوراً‭ ‬تفوق‭ ‬أجور‭ ‬الوزراء‭ ‬في‭ ‬حكومات‭ ‬بلدانهم،‭ ‬فهل‭ ‬الفرد‭ ‬المدمن‭ ‬للعمل‭ ‬والمبدع‭ ‬هنا‭ ‬متوحد‭ ‬بشخصه‭ ‬مع‭ ‬عمله؟

في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التوحد‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬إلى‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬المدمنة‭ ‬لأشكال‭ ‬التقنيات‭ ‬الجديدة‭ ‬على‭ ‬الأجهزة‭ ‬اللوحية‭ ‬أو‭ ‬الهاتف‭ ‬المحمول،‭ ‬ليتوحدوا‭ ‬معها،‭ ‬فتحل‭ ‬هذه‭ ‬الأجهزة‭ ‬محل‭ ‬الأسرة‭ ‬والأصدقاء‭ ‬والمجتمع‭ ‬بدرجة‭ ‬تهدد‭ ‬قدراتهم‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭ ‬أياً‭ ‬كان،‭ ‬بل‭ ‬يبني‭ ‬هؤلاء‭ ‬عالمهم‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬الشبكات،‭ ‬ويصبحون‭ ‬منغمسين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم،‭ ‬باحثين‭ ‬عن‭ ‬مجتمع‭ ‬افتراضي‭. ‬هنا‭ ‬يكونون‭ ‬فريسة‭ ‬سهلة‭ ‬لجماعات‭ ‬التطرف‭ ‬الجاذبة‭ ‬لهم،‭ ‬أو‭ ‬لعنصرية‭ ‬حمقاء‭.‬

وهنا‭ ‬تبدو‭ ‬ثقافة‭ ‬المجتمع‭ ‬وكأنها‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬والمقاومة،‭ ‬فالثقافة‭ ‬هي‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬السلوكيات‭ ‬والمعرفة‭ ‬التي‭ ‬مررت‭ ‬من‭ ‬فرد‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬عبر‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع،‭ ‬والنظم‭ ‬الثقافية‭ ‬هي‭ ‬شبكات‭ ‬معقدة‭ ‬من‭ ‬السلوكيات‭ ‬المترابطة‭ ‬المتكيفة،‭ ‬والمعرفة‭ ‬هنا‭ ‬بمنزلة‭ ‬أدوات‭ ‬يستخدمها‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬أهداف‭ ‬أو‭ ‬حل‭ ‬مشكلات،‭ ‬لتبرز‭ ‬هنا‭ ‬الأفكار‭ ‬الثقافية‭ ‬التي‭ ‬تتاح‭ ‬للناس،‭ ‬وهم‭ ‬يدركون‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬مصلحتهم‭ ‬استخدامها،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬نجد‭ ‬عبر‭ ‬الزمن‭ ‬سلوكيات‭ ‬تتلاشى‭ ‬ليتم‭ ‬تجاهلها‭ ‬أو‭ ‬نسيانها،‭ ‬وأكثر‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬عادة‭ ‬الأربعين‭ ‬بعد‭ ‬الوفاة؛‭ ‬حيث‭ ‬يقام‭ ‬عزاء‭ ‬بعد‭ ‬أربعين‭ ‬يوماً‭ ‬من‭ ‬وفاة‭ ‬أحد‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة،‭ ‬هذا‭ ‬سلوك‭ ‬عرفه‭ ‬المصريون‭ ‬منذ‭ ‬قديم‭ ‬الأزل،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬تلاشى‭ ‬تدريجياً‭ ‬ويكاد‭ ‬يختفي‭.‬

 

الإنسان‭ ‬وأهدافه

كل‭ ‬إنسان‭ ‬لديه‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأدوات‭ ‬السلوكية‭ ‬والأيديولوجية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬للاختيار‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لتحقيق‭ ‬غايته‭ ‬مثل‭ ‬الغذاء‭ ‬ووسائل‭ ‬الراحة‭ ‬والترفيه‭ ‬والصعود‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاستحواذ‭ ‬الاقتصادي‭.‬

لكل‭ ‬إنسان‭ ‬تجربته‭ ‬الذاتية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اختياراته‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الأدوات،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يستسلم‭ ‬للأنماط‭ ‬السائدة‭ ‬فيختار‭ ‬كما‭ ‬يختار‭ ‬الآخرون،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬ينوّع‭ ‬خياراته،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬هناك‭ ‬أنماط‭ ‬محددة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجتمع‭ ‬يفرضها‭ ‬الذين‭ ‬يديرونه‭ ‬أو‭ ‬أوجدوه،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬عاتقهم‭ ‬مسؤولية‭ ‬بقاء‭ ‬هذه‭ ‬الأنماط،‭ ‬بينما‭ ‬قبول‭ ‬خرقها‭ ‬إما‭ ‬لإحداث‭ ‬تغيير‭ ‬سلبي‭ ‬أو‭ ‬إيجابي‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع‭ ‬الذي‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬يقبل‭ ‬أو‭ ‬يرفض‭ ‬هذا‭ ‬الخرق،‭ ‬فماذا‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬المجتمع،‭ ‬الفردانية‭ ‬هي‭ ‬قوامة،‭ ‬وأفراده‭ ‬متوحدون‭ ‬أمام‭ ‬آلة‭ ‬تخلق‭ ‬مجتمعاً‭ ‬افتراضياً‭ ‬آخر‭ ‬يتصاعد‭ ‬دوره؟

إن‭ ‬السلطة،‭ ‬سواء‭ ‬سلطة‭ ‬المجتمع‭ ‬أو‭ ‬الدولة‭ ‬أو‭ ‬الأسرة،‭ ‬تلتقي‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬التسلسل‭ ‬الهرمي‭ ‬الذي‭ ‬يفرض‭ ‬سطوته‭ ‬ويتخذ‭ ‬القرارات،‭ ‬ويسعى‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬مصالح‭ ‬الآخرين‭ ‬على‭ ‬حسابنا،‭ ‬مما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬قيود‭ ‬على‭ ‬سلوكنا‭ ‬وعلى‭ ‬فرصنا،‭ ‬والمهم‭ ‬هو‭ ‬الممارسة‭ ‬العملية‭ ‬للسلطة‭ ‬مع‭ ‬مصالح‭ ‬من‭ ‬تمارس‭ ‬عليه‭ ‬سطوتها،‭ ‬فتقيد‭ ‬تصرفاته‭ ‬لمصلحة‭ ‬هذه‭ ‬الممارسة‭.‬

هنا‭ ‬نستعيد‭ ‬التجديد‭ ‬في‭ ‬قيم‭ ‬المجتمع،‭ ‬فلو‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أداة‭ ‬سلوكية‭ ‬لم‭ ‬تنجح،‭ ‬فإن‭ ‬معظم‭ ‬الناس‭ ‬يتخلصون‭ ‬منها‭ ‬تلقائياً‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬بغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الأساس‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬لها،‭ ‬لكننا‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬تسيطر‭ ‬فيه‭ ‬الآلة‭ ‬بصورة‭ ‬متعاظمة‭ ‬ومتغلغلة‭ ‬على‭ ‬الإنسان،‭ ‬فالذين‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬ذكاء‭ ‬الآلة‭ ‬وإدراكها،‭ ‬ينسون‭ ‬أن‭ ‬مبتكر‭ ‬الآلة‭ ‬هو‭ ‬إنسان،‭ ‬أتاح‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تحدد‭ ‬مشاعره‭ ‬ورغباته‭ ‬وهوياته،‭ ‬بل‭ ‬تسلبه‭ ‬وقته‭ ‬لكي‭ ‬تسيطر‭ ‬عليه‭ ‬عبر‭ ‬عملية‭ ‬إلهائية‭ ‬لا‭ ‬تتوقف،‭ ‬فهل‭ ‬يستطيع‭ ‬الإنسان‭ ‬وقف‭ ‬هذه‭ ‬الأداة‭ ‬السلوكية،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬تحجيم‭ ‬تأثيرها‭ ‬فيه؟

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬العواطف‭ ‬تزود‭ ‬الإنسان‭ ‬بالطاقة‭ ‬الإيجابية،‭ ‬تلك‭ ‬العواطف‭ ‬المستمدة‭ ‬من‭ ‬الروح‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تفتقر‭ ‬إليه‭ ‬الآلة،‭ ‬فالمشاعر‭ ‬الإنسانية‭ ‬هي‭ ‬الصمغ‭ ‬الذي‭ ‬يحفظ‭ ‬النظم‭ ‬الثقافية،‭ ‬فميلنا‭ ‬إلى‭ ‬الحب‭ ‬والكراهية‭ ‬والإهداء‭ ‬والعطاء‭ ‬وممارسة‭ ‬الشعائر‭ ‬الدينية‭ ‬وموروثاتنا‭ ‬الجينية‭ ‬العاطفية‭ ‬نحو‭ ‬الأقرباء،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬للآلة‭ ‬دور‭ ‬فيه،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬أدركت‭ ‬الآلة‭ ‬أحاسيسنا‭ ‬نتيجة‭ ‬تطويرها‭ ‬برامجياً،‭ ‬فهي‭ ‬ستظل‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬إدراك‭ ‬المشاعر‭ ‬على‭ ‬طبيعتها،‭ ‬فالحياة‭ ‬الإنسانية‭ ‬فعل‭ ‬به‭ ‬روح‭ ‬وحركة‭ ‬ديناميكية،‭ ‬غير‭ ‬فعل‭ ‬الآلة‭ ‬الخاضع‭ ‬للحساب‭ ‬الرقمي‭ ‬الدقيق‭.‬

إن‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الأفراد‭ ‬يحلمون‭ ‬بتحرير‭ ‬أنفسهم‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬الثقافي‭ ‬المعقد،‭ ‬بينما‭ ‬نحن‭ ‬قادرون‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬تشكيل‭ ‬نظام‭ ‬ثقافي‭ ‬ليتناسب‭ ‬مع‭ ‬تطلعاتنا‭ ‬نحو‭ ‬الأفضل،‭ ‬إننا‭ ‬لا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نعيش‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬نظام‭ ‬ثقافي‭ ‬يحدد‭ ‬طبيعة‭ ‬تفاعلنا،‭ ‬ولا‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نختار‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كنا‭ ‬نشارك‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الثقافي‭ ‬أم‭ ‬لا،‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كنا‭ ‬لا‭ ‬نريد‭ ‬أن‭ ‬نبقى‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭.‬

فمن‭ ‬دون‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬ثقافي‭ ‬وتعلّم‭ ‬قواعد‭ ‬مناسبة‭ ‬للمشاركة‭ ‬والتفاعل‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬بنا‭ ‬الحياة‭ ‬أو‭ ‬يتحقق‭ ‬نمو‭ ‬في‭ ‬حياتنا،‭ ‬وكما‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬سيموتون‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الأدوات‭ ‬التكنولوجية‭ ‬فإنهم‭ ‬غير‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬البقاء‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الأدوات‭ ‬الثقافية‭ ‬المعرفية‭ ‬التي‭ ‬تمكنهم‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬معقد‭.‬

الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬نتغافل‭ ‬عنها‭ ‬أننا‭ ‬كبشر‭ ‬مقيدون،‭ ‬حتى‭ ‬الملوك‭ ‬والوزراء‭ ‬والنخبة‭ ‬مقيدون‭. ‬هذه‭ ‬القيود‭ ‬هي‭ ‬نتاج‭ ‬النظام‭ ‬الثقافي،‭ ‬لذلك‭ ‬علينا‭ ‬دعم‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬وخصائصه،‭ ‬وهو‭ ‬يكون‭ ‬عادة‭ ‬معقداً‭ ‬وأحياناً‭ ‬غير‭ ‬مفهوم‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلينا‭. ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬شعرنا‭ ‬بأنه‭ ‬يعمل‭ ‬ضد‭ ‬مصالحنا‭ ‬الشخصية‭ ‬بقيوده،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬القيود‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تحد‭ ‬من‭ ‬قدرة‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬أعلى‭ ‬التسلسل‭ ‬الهرمي‭ ‬لمصلحة‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬أدناه‭. ‬

من‭ ‬هنا‭ ‬تأتي‭ ‬أهمية‭ ‬الثقافات‭ ‬المعقدة‭ ‬والمركبة،‭ ‬فمن‭ ‬خصائصها‭ ‬أنها‭ ‬تعيد‭ ‬بناء‭ ‬نفسها‭ ‬بنفسها‭ ‬وفق‭ ‬مقتضيات‭ ‬السياق‭ ‬الزمني،‭ ‬بل‭ ‬تتيح‭ ‬للمجتمع‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التعايش‭ ‬حتى‭ ‬بمتناقضاته،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬حادث‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الهندية‭ ‬بكل‭ ‬تناقضاتها،‭ ‬بل‭ ‬نرى‭ ‬قدرة‭ ‬مصر‭ ‬على‭ ‬التعايش‭ ‬بصورة‭ ‬مذهلة‭ ‬منذ‭ ‬غزو‭ ‬الإسكندر‭ ‬إلى‭ ‬الفتح‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬فكم‭ ‬مرة‭ ‬أعادت‭ ‬الثقافة‭ ‬المصرية‭ ‬إنتاج‭ ‬نفسها‭ ‬عبر‭ ‬العصور؟

إن‭ ‬معظم‭ ‬الناس‭ ‬لديهم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬القيم‭ ‬الأساسية‭ ‬لمجتمعاتهم،‭ ‬مدركين‭ ‬أن‭ ‬عدم‭ ‬التفاعل‭ ‬معها‭ ‬سلوكياً‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تفكيك‭ ‬نظام‭ ‬آلي،‭ ‬وتهديد‭ ‬فرص‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬البقاء‭ ‬أو‭ ‬النجاح،‭ ‬وشيوع‭ ‬جرائم‭ ‬تهدد‭ ‬النسيج‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ومصالح‭ ‬الأغلبية،‭ ‬ولذا‭ ‬فإنه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجتمعات‭ ‬من‭ ‬يشكل‭ ‬تهديداً‭ ‬لمصالح‭ ‬الأغلبية‭ ‬ويخرج‭ ‬عن‭ ‬قيمها‭ ‬يتم‭ ‬تهذيبه‭ ‬وإصلاحه،‭ ‬لذلك‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬وثيقة‭ ‬ترابط‭ ‬اجتماعي‭ ‬تمثلها‭ ‬منظومة‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬الآن‭ ‬محل‭ ‬تساؤلات،‭ ‬فالسؤال‭ ‬المطروح‭: ‬ما‭ ‬هي‭ ‬التغيرات‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحدثها‭ ‬الثورات‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬القيم،‭ ‬وماذا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭ ‬عن‭ ‬المستقبل؟■