الثقافة حرية وتنمية

الثقافة حرية وتنمية

يُخْتَزَل‭ ‬مفهوم‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬المتداول‭ ‬والشائع‭ ‬في‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬التعريفات،‭ ‬التي‭ ‬تُغفل‭ ‬في‭ ‬أغلبها‭ ‬أنماط‭ ‬التحوُّل‭ ‬والتنوُّع‭ ‬الذي‭ ‬عرفته‭ ‬الثقافة‭ ‬وتجلياتها،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬التحولات‭ ‬التي‭ ‬تعرفها‭ ‬المجتمعات‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭.‬

فقد‭ ‬أصبح‭ ‬يصعب‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نقبل‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الطفرات‭ ‬المعرفية‭ ‬والتقنية‭ ‬التي‭ ‬تسود‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬اليوم،‭ ‬أن‭ ‬نواصل‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الثقافة‭ ‬بالمنطق‭ ‬الذي‭ ‬يختزله‭ ‬في‭ ‬الموروث‭ ‬الرمزي‭ ‬والسلوكي،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعني‭ ‬هذا‭ ‬أننا‭ ‬نقلِّل‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬الموروث،‭ ‬أو‭ ‬يترتَّب‭ ‬عنه‭ ‬عدم‭ ‬اهتمامنا‭ ‬بالفنون‭ ‬الشعبية‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬نرومه‭ ‬أساساً‭ ‬هو‭ ‬وضع‭ ‬اليد‭ ‬على‭ ‬صور‭ ‬التنوع‭ ‬والغنى،‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬يستوعبه‭ ‬المفهوم‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬تتطور‭ ‬معطياته،‭ ‬كما‭ ‬أشرنا‭ ‬آنفاً،‭ ‬بإيقاع‭ ‬سريع،‭ ‬ويتطور‭ ‬ويتسع‭ ‬في‭ ‬قلبها‭ ‬البعد‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬صوره‭ ‬وتجلياته‭ ‬المتعددة‭.‬

نَتَبَيَّن‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النّزوع‭ ‬إلى‭ ‬اختزال‭ ‬مفهوم‭ ‬الثقافة،‭ ‬ساهم‭ ‬ويساهم‭ ‬بصورة‭ ‬مباشرة‭ ‬في‭ ‬التقليل‭ ‬من‭ ‬الأدوار‭ ‬الكبرى،‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بها‭ ‬الثقافة‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭. ‬إنه‭ ‬يمارس‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬التغييب‭ ‬لمختلف‭ ‬المكاسب‭ ‬الجديدة،‭ ‬التي‭ ‬تمنح‭ ‬للثقافة‭ ‬وتمظهراتها‭ ‬اليوم‭ ‬حضوراً‭ ‬أوسعَ‭ ‬وأكبرَ‭ ‬مما‭ ‬نتصور‭.  ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الثقافة‭ ‬اليوم‭ ‬مجرد‭ ‬تجليات‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالذاكرة‭ ‬أو‭ ‬بالفنون،‭ ‬بل‭ ‬تجاوزت‭ ‬ذلك‭ ‬وصنعت‭ ‬لمنتوجها‭ ‬آفاقاً‭ ‬ووسائط‭ ‬جديدة،‭ ‬تكشف‭ ‬عن‭ ‬نوعيات‭ ‬من‭ ‬الحضور‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬تصورها‭ ‬في‭ ‬أزمنة‭ ‬سابقة،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الفتوحات‭ ‬التي‭ ‬ترتَّبت‭ ‬عن‭ ‬تبلور‭ ‬مجتمعات‭ ‬المعرفة‭ ‬وتطور‭ ‬تقنيات‭ ‬المعلومات،‭ ‬مَكَّنَت‭ ‬الأفراد‭ ‬والمجتمعات‭ ‬من‭ ‬الإبحار‭ ‬في‭ ‬عوالم‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬لها،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬تطور‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬وتقنيات‭ ‬التواصل،‭ ‬ساهم‭ ‬بدوره‭ ‬في‭ ‬ابتكار‭ ‬فضاءات‭ ‬أخرى‭ ‬للثقافة،‭ ‬تفوق‭ ‬ما‭ ‬أَلِفْنَاه‭ ‬في‭ ‬عقود‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭.‬

يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬اليوم‭ ‬أيضاً،‭ ‬عن‭ ‬تبلور‭ ‬نظريات‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والسياسة‭ ‬وفي‭ ‬دراسة‭ ‬المجتمع،‭ ‬تُعطي‭ ‬للبعد‭ ‬الثقافي‭ ‬ولتطور‭ ‬أنماط‭ ‬الوعي‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع،‭ ‬أهمية‭ ‬قصوى‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬التطلعات‭ ‬السياسية‭ ‬والاستراتيجيات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬وبناء‭ ‬تنمية‭ ‬المجتمع‭. ‬فقد‭ ‬أصبحت‭ ‬العناية‭ ‬بالبُعد‭ ‬الثقافي‭ ‬داخل‭ ‬بعض‭ ‬حقول‭ ‬المعرفة‭ ‬تُعَدُّ‭ ‬مسألة‭ ‬مُلِحَّة،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تنمية‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬السياسي‭ ‬الديمقراطي‭ ‬مثلاً‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ثقافة‭ ‬سياسية‭ ‬جديدة،‭ ‬ولا‭ ‬إمكان‭ ‬لتحقيق‭ ‬النمو‭ ‬الاقتصادي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حَدٍّ‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الثقافية‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالتصورات‭ ‬والمبادئ‭ ‬المستمدة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬ومن‭ ‬المجتمع‭.‬

لم‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬الممكن،‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬ما‭ ‬وضحنا،‭ ‬أن‭ ‬نَرْكَن‭ ‬إلى‭ ‬جملٍ‭ ‬ومحفوظات‭ ‬تُعيّن‭ ‬للثقافة‭ ‬حدوداً‭ ‬مغلقة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬المفيد‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الباب‭ ‬أن‭ ‬نعمل‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬إقرارات‭ ‬إجرائية‭ ‬تُسعفنا‭ ‬من‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬الثقافة‭ ‬وتجلياتها‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬محدَّدة،‭ ‬لنتمكن‭ ‬من‭ ‬بناء‭ ‬الأسئلة‭ ‬والمحاور‭ ‬التي‭ ‬تتيح‭ ‬لنا‭ ‬رسم‭ ‬حدود‭ ‬معينة‭ ‬لما‭ ‬نحن‭ ‬بصدده،‭ ‬وضمن‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬نقترب‭ ‬من‭ ‬سؤال‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬العربي‭.‬

 

الثقافة‭ ‬حرية

نُسَلِّم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المقالة‭ ‬بمبدأ‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬حرية‭ ‬وتَحَرُّر،‭ ‬إنها‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬نشاط‭ ‬تابع،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬فعلٌ‭ ‬مُؤَسّس‭ ‬نتبين‭ ‬ملامحه‭ ‬في‭ ‬المبادئ‭ ‬العامة‭ ‬المُعْتَمَدَة‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬وبرامج‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والتربية‭ ‬والتعليم،‭ ‬وهي‭ ‬مُقَوِّمٌ‭ ‬مركزي‭ ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬والمبادرات‭ ‬المبدعة‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬مظاهر‭ ‬الحياة‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭.‬

لقد‭ ‬انتهى‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُنْظر‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬الثقافة‭ ‬كنشاط‭ ‬فرعي‭ ‬مُكَمِّل‭ ‬للفكر‭ ‬ومغذٍّ‭ ‬للوجدان،‭ ‬إنها‭ ‬تندرج‭ ‬اليوم‭ ‬ضمن‭ ‬الخطوط‭ ‬الكبرى‭ ‬للتوافق‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬والاقتصاد‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬اليوم،‭ ‬أن‭ ‬الثقافة
تتميز‭ - ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬أشرنا‭ ‬إليه‭ - ‬بأنها‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬منتوج‭ ‬متعولم‭ ‬تتبارى‭ ‬في‭ ‬إنتاجه‭ ‬شركات‭ ‬عابرة‭ ‬للقارات،‭ ‬حيث‭ ‬تجرى‭ ‬عمليات‭ ‬تنميط‭ ‬تروم‭ ‬قولبة‭ ‬الأذواق‭ ‬وتوحيدها،‭ ‬خدمة‭ ‬لخيارات‭ ‬معينة‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والسياسة،‭ ‬وانحيازاً‭ ‬لأنماط‭ ‬من‭ ‬الإنتاج‭ ‬تتوخى‭ ‬أسواقاً‭ ‬أكبر،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يُفضي‭ ‬بالضرورة‭ ‬إلى‭ ‬تنميط‭ ‬التعليم‭ ‬والثقافة،‭ ‬فقد‭ ‬ترتَّب‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق،‭ ‬بروز‭ ‬نزعات‭ ‬ثقافية‭ ‬مناهضة‭ ‬لآليات‭ ‬التنميط‭ ‬الثقافي،‭ ‬فانتشرت‭ ‬وتنتشر‭ ‬دعاوَى‭ ‬تروم‭ ‬الانتصار‭ ‬للهويات‭ ‬الثقافية‭ ‬المحلية‭ ‬المتعددة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أعاد‭ ‬إلى‭ ‬واجهة‭ ‬الصراع‭ ‬الثقافي‭ ‬مفاهيم‭ ‬الخصوصية‭ ‬والاستثناء،‭ ‬مقابل‭ ‬الوحدة‭ ‬والتماثل‭. ‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬الثقافة‭ ‬ومؤسساتها،‭ ‬تقتضي‭ ‬إنجاز‭ ‬ثورة‭ ‬مطلوبة‭ ‬في‭ ‬مجالي‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم،‭ ‬ثورة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الحرية‭ ‬والتحرُّر،‭ ‬ويكون‭ ‬بإمكانها‭ ‬تكسير‭ ‬قيود‭ ‬الموروث‭ ‬التي‭ ‬تقف‭ ‬حائلاً‭ ‬دون‭ ‬انخراط‭ ‬الناشئة‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا،‭ ‬في‭ ‬تمثّل‭ ‬قيم‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬يؤطر‭ ‬وجودنا‭ ‬ويصنع‭ ‬شروط‭ ‬حياتنا‭.‬

 

الثقافة‭ ‬والتعليم‭ ‬والتنمية

لم‭ ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬يجادل‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬أهمية‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وقد‭ ‬ساهمت‭ ‬أدبيات‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬وتقاريره‭ ‬عن‭ ‬التنمية‭ ‬والمعرفة‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬العقدين‭ ‬الماضيين،‭ ‬في‭ ‬إبراز‭ ‬الأدوار‭ ‬التي‭ ‬تمارسها‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬وإسناد‭ ‬مجالات‭ ‬التنمية‭ ‬الإنسانية‭.‬

وقد‭ ‬لعب‭ ‬توسيع‭ ‬مجالات‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالشأن‭ ‬الثقافي،‭ ‬دوراً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬تعميق‭ ‬درجات‭ ‬الحرية‭ ‬والتحرر‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬مظاهر‭ ‬الثقافة‭ ‬السائدة‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية،‭ ‬يتوخى‭ ‬تسويغ‭ ‬بعض‭ ‬القيم‭ ‬المحافظة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يساهم‭ ‬في‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬تعطيل‭ ‬حركة‭ ‬التاريخ،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬اتساع‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالثقافة‭ ‬بأوجهها‭ ‬التاريخية‭ ‬والعقلانية،‭ ‬يتجه‭ ‬إلى‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬خَلْخَلَة‭ ‬جيوب‭ ‬التقليد‭ ‬والتقاليد،‭ ‬ليفسح‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬قيم‭ ‬الحرية‭ ‬ومكاسبها‭.‬

ويلاحظ‭ ‬المهتم‭ ‬بالمشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة،‭ ‬وفي‭ ‬سياق‭ ‬المتغيرات‭ ‬السياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬الجارية‭ ‬بعد‭ ‬انفجارات‭ ‬2011‭ ‬وتداعياتها،‭ ‬أن‭ ‬المجال‭ ‬الثقافي‭ ‬عرف‭ ‬ويعرف‭ ‬اتساعاً‭ ‬كمياً‭ ‬وكيفياً،‭ ‬وذلك‭ ‬بفضل‭ ‬اتساع‭ ‬آفاق‭ ‬التعليم‭ ‬وانتشار‭ ‬الجامعات،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬إغفال‭ ‬التطور‭ ‬الذي‭ ‬عرفه‭ ‬مجال‭ ‬الاتصال‭ ‬والتواصل،‭ ‬حيث‭ ‬ساهمت‭ ‬الروافع‭ ‬التكنولوجية،‭ ‬بدورها،‭ ‬في‭ ‬إنعاش‭ ‬ثقافة‭ ‬الصورة‭ ‬وثقافة‭ ‬الوسائط‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الجديدة،‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تشكّل‭ ‬اليوم‭ ‬رافداً‭ ‬من‭ ‬روافد‭ ‬التنوع‭ ‬الثقافي‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬تجلياته‭.‬

 

تطوير‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي

يواكب‭ ‬التعدد‭ ‬والتنوع‭ ‬الثقافي‭ ‬الانفتاح‭ ‬المتطور‭ ‬على‭ ‬مكاسب‭ ‬العلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬ومآثرها‭ ‬الكبرى‭. ‬ونحن‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬دعم‭ ‬المكتسبات‭ ‬الثقافية‭ ‬الحاصلة‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا‭ ‬منذ‭ ‬عقود،‭ ‬والعمل‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬إسناد‭ ‬الأدوار‭ ‬المنوطة‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬تطوير‭ ‬وتعزيز‭ ‬سبل‭ ‬التنمية‭ ‬الشاملة،‭ ‬يتطلبان‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬مأسسة‭ ‬الظواهر‭ ‬الثقافية‭ ‬ودعمها‭. ‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬تطوير‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬العربي‭ ‬يتطلب‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬المأسسة،‭ ‬فإنه‭ ‬يقتضي‭ ‬أيضاً‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬توسيع‭ ‬الحريات،‭ ‬وتحصين‭ ‬المكاسب‭ ‬والمنجزات،‭ ‬كما‭ ‬يستدعي‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬نفسه،‭ ‬إيجاد‭ ‬الوسائل‭ ‬التي‭ ‬تسعف‭ ‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬خلق‭ ‬الفضاءات‭ ‬المناسبة‭ ‬لإنتاج‭ ‬وإرسال‭ ‬وتعميم‭ ‬الثقافة‭ ‬والمنتوج‭ ‬الثقافي‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬الفئات‭ ‬الاجتماعية‭.‬

إن‭ ‬تعميق‭ ‬معركة‭ ‬الإصلاح‭ ‬الثقافي،‭ ‬يتطلب‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬تقوية‭ ‬دعائم‭ ‬الفكر‭ ‬التاريخي‭ ‬والتاريخ‭ ‬المقارن،‭ ‬تاريخ‭ ‬العقائد‭ ‬والثقافات،‭ ‬حيث‭ ‬تساعد‭ ‬معطيات‭ ‬هذا‭ ‬التاريخ‭ ‬حين‭ ‬حصولها‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬تعويد‭ ‬أذهاننا‭ ‬على‭ ‬ملكة‭ ‬تنسيب‭ ‬الأحكام‭ ‬والتصورات‭ ‬الإطلاقية‭ ‬المهيمنة‭ ‬على‭ ‬ثقافتنا‭ ‬وآليات‭ ‬تفكيرنا‭. ‬

وتتطلَّب‭ ‬عملية‭ ‬إنجاز‭ ‬تحول‭ ‬ثقافي‭ ‬جذري‭ ‬في‭ ‬فكرنا،‭ ‬جهوداً‭ ‬متواصلة‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬استيعاب‭ ‬نتائج‭ ‬الثورات‭ ‬المعرفية‭ ‬التي‭ ‬تبلورت‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬المعاصر،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬نتصور‭ ‬إمكان‭ ‬تحققه‭ ‬في‭ ‬المدى‭ ‬الزمني‭ ‬المتوسط،‭ ‬ينبغي‭ ‬ألا‭ ‬يجعلنا‭ ‬نتوقف‭ ‬عن‭ ‬استكمال‭ ‬مهام‭ ‬الحاضر‭ ‬المستعجلة،‭ ‬والمتمثلة‭ ‬في‭ ‬مشاريع‭ ‬الترجمة،‭ ‬ومشاريع‭ ‬تطوير‭ ‬منظوماتنا‭ ‬في‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬تشجيع‭ ‬البحث‭ ‬العلمي،‭ ‬وتوسيع‭ ‬مجالات‭ ‬ودوائر‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬نتائجه‭ ‬وآفاقه‭ ‬في‭ ‬المعرفة‭ ‬والمجتمع‭ ‬والاقتصاد،‭ ‬فنحن‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المهام‭ ‬في‭ ‬تقاطعها‭ ‬وتكاملها‭ ‬تُعَبِّد‭ ‬الطريق‭ ‬الموصل‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬تحرير‭ ‬الأذهان‭.‬

لا‭ ‬تنفصل‭ ‬إذن‭ - ‬في‭ ‬نظرنا‭ - ‬معارك‭ ‬المجال‭ ‬الثقافي‭ ‬عن‭ ‬مشروع‭ ‬ترسيخ‭ ‬قيم‭ ‬الحداثة‭ ‬في‭ ‬فكرنا‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬نحن‭ ‬نعتبر‭ ‬أن‭ ‬انتشار‭ ‬دعاوى‭ ‬تيارات‭ ‬التكفير‭ ‬والعنف‭ ‬في‭ ‬ثقافتنا‭ ‬ومجتمعنا،‭ ‬يمنحنا‭ ‬مناسبة‭ ‬تاريخية‭ ‬جديدة‭ ‬لإطلاق‭ ‬مجابهةٍ‭ ‬نقدية‭ ‬أكثر‭ ‬حسماً‭ ‬وصرامة،‭ ‬مواجهة‭ ‬يكون‭ ‬بإمكانها‭ ‬أن‭ ‬تكشف‭ ‬فقر‭ ‬ومحدودية‭ ‬وغربة‭ ‬التصورات‭ ‬المرتبطة‭ ‬بهذه‭ ‬التيارات،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يتيح‭ ‬لنا‭ ‬بناء‭ ‬الثقافة‭ ‬المبدعة،‭ ‬والمساهمة‭ ‬في‭ ‬إنشاء‭ ‬خيارات‭ ‬مطابقة‭ ‬لتطلعاتنا‭ ‬في‭ ‬النهضة‭ ‬والتقدم‭.‬

 

اكتساح‭ ‬تراثي

ويمكن‭ ‬اعتبار‭ ‬أن‭ ‬استمرار‭ ‬نظرتنا‭ ‬المحافظة‭ ‬إلى‭ ‬موروثنا‭ ‬الثقافي‭ ‬تَحَوَّل‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬إلى‭ ‬عملية‭ ‬اكتساح‭ ‬تراثية‭ ‬شاملة‭ (‬انتشار‭ ‬قنوات‭ ‬تلفزية‭ ‬وشبكات‭ ‬في‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬تغذِّي‭ ‬الثقافة‭ ‬المحافظة‭)‬،‭ ‬أعادنا‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬عتيقة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬والمجتمع،‭ ‬لغة‭ ‬كنا‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬الزمن‭ ‬عفا‭ ‬عليها،‭ ‬فإذا‭ ‬بها‭ ‬تعود‭ ‬لترسم‭ ‬لذاتنا‭ ‬التاريخية‭ ‬ولثقافتنا‭ ‬صوراً‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالتاريخ‭.  ‬وإذا‭ ‬كنا‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬المخزون‭ ‬التراثي‭ ‬الرمزي‭ ‬أصبح‭ ‬يوظف‭ ‬بشكل‭ ‬مخيف‭ ‬في‭ ‬معارك‭ ‬حاضرنا،‭ ‬داخل‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬وخارجها‭ ‬وفي‭ ‬أثناء‭ ‬مواجهتنا‭ ‬للآخرين،‭ ‬حيث‭ ‬انتعشت‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬محاولات‭ ‬لاستخدامه‭ ‬في‭ ‬معاركنا‭ ‬السياسية،‭ ‬وداخل‭ ‬أغلب‭ ‬الساحات‭ ‬العربية‭. ‬ولا‭ ‬سبيل‭ ‬للتخلص‭ ‬مما‭ ‬أشرنا‭ ‬إليه،‭ ‬إلا‭ ‬بالعمل‭ ‬في‭ ‬الجبهة‭ ‬الثقافية‭ ‬بالذات،‭ ‬وذلك‭ ‬بتوسيع‭ ‬دوائر‭ ‬إنجاز‭ ‬قراءات‭ ‬عصرية‭ ‬جديدة‭ ‬لموروثنا‭ ‬الثقافي،‭ ‬الذي‭ ‬نفترض‭ ‬أنه‭ ‬يتحول‭ ‬بفعل‭ ‬متغيرات‭ ‬الزمان‭.‬

إن‭ ‬ثقافتنا‭ ‬العربية‭ ‬مثلها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مثل‭ ‬مختلف‭ ‬منتوجات‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬حمَّالةُ‭ ‬أوجه‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها‭. ‬وهي‭ ‬خزَّان‭ ‬قابل‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬صيغة‭ ‬من‭ ‬صيغ‭ ‬الاستثمار‭ ‬الخلاق‭ ‬والمبدع‭. ‬أما‭ ‬أن‭ ‬يواصل‭ ‬فَهمٌ‭ ‬محافظ‭ ‬مُغْلَقٌ‭ ‬للثقافة‭ ‬التراثية‭ ‬حضوره‭ ‬وهيمنته‭ ‬على‭ ‬العقول‭ ‬والضمائر‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا،‭ ‬فإن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬يبرز‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬نصنعها‭ ‬لأنفسنا‭ ‬بأنفسنا،‭ ‬ويرسمها‭ ‬الآخرون‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬لاحق‭ ‬استناداً‭ ‬إلى‭ ‬منتوج‭ ‬الفكر‭ ‬المنتشر‭ ‬بيننا‭.‬

اتجهنا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المحاولة‭ ‬لفحص‭ ‬الشائع‭ ‬والمُتَدَاوَل‭ ‬عن‭ ‬مفهوم‭ ‬الثقافة،‭ ‬لنتبين‭ ‬صور‭ ‬التغييب‭ ‬التي‭ ‬تُمارس‭ ‬فيه‭ ‬ضد‭ ‬الأشكال‭ ‬الثقافية‭ ‬الجديدة،‭ ‬وضد‭ ‬المبادئ‭ ‬التي‭ ‬تحملها‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تطور‭ ‬المنتوج‭ ‬الثقافي‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭. ‬

كان‭ ‬همنا‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬إبراز‭ ‬التحوُّلات‭ ‬الكبرى،‭ ‬التي‭ ‬عرفها‭ ‬مفهوم‭ ‬الثقافة‭ ‬واستنبطتها‭ ‬الثقافات‭ ‬الجديدة‭ ‬وهي‭ ‬تنشر‭ ‬ألويتها‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬متغيِّر‭. ‬وقد‭ ‬اخترنا‭ ‬منذ‭ ‬البداية‭ ‬أن‭ ‬نفكر‭ ‬في‭ ‬الموضوع‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬خاصة،‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬عملية‭ ‬تحرُّر‭ ‬وتحرير،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬ارتفاع‭ ‬منسوب‭ ‬المعرفة‭ ‬والفكر‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬ساهم‭ ‬ويساهم‭ ‬في‭ ‬تعزيز‭ ‬مكانة‭ ‬الإنسان‭ ‬ومكانة‭ ‬العقل‭ ‬والمخيّلة‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭. ‬ويتجه‭ ‬المنتوج‭ ‬الثقافي‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬ركوب‭ ‬دروب‭ ‬غير‭ ‬معهودة،‭ ‬وهو‭ ‬يمتلك‭ ‬آليات‭ ‬وتقنيات‭ ‬جديدة‭ ‬تَهَبُه‭ ‬مزيداً‭ ‬من‭ ‬التوسع‭ ‬والانتشار،‭ ‬ولهذا‭ ‬انتقلنا‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬كحرية‭ ‬إلى‭ ‬التفكير‭ ‬فيها‭ ‬كرافعة‭ ‬للتحرُّر‭ ‬والتقدُّم‭.‬

وضمن‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬واجهنا‭ ‬الثقافة‭ ‬المحافِظة‭ ‬التي‭ ‬تهيمن‭ ‬على‭ ‬حاضرنا،‭ ‬وحاولنا‭ ‬بلورة‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬المواجهات‭ ‬المطلوبة‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬مجتمعنا،‭ ‬لنتمكن‭ ‬من‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬بناء‭ ‬ثقافة‭ ‬جديدة‭ ‬ومجتمع‭ ‬جديد■