الثقافة حرية وتنمية

يُخْتَزَل مفهوم الثقافة في المتداول والشائع في جملة من التعريفات، التي تُغفل في أغلبها أنماط التحوُّل والتنوُّع الذي عرفته الثقافة وتجلياتها، في سياق التحولات التي تعرفها المجتمعات البشرية في التاريخ.
فقد أصبح يصعب علينا أن نقبل في زمن الطفرات المعرفية والتقنية التي تسود في العالم اليوم، أن نواصل الحديث عن مفهوم الثقافة بالمنطق الذي يختزله في الموروث الرمزي والسلوكي، دون أن يعني هذا أننا نقلِّل من قيمة الموروث، أو يترتَّب عنه عدم اهتمامنا بالفنون الشعبية. إن ما نرومه أساساً هو وضع اليد على صور التنوع والغنى، الذي أصبح يستوعبه المفهوم في عالم تتطور معطياته، كما أشرنا آنفاً، بإيقاع سريع، ويتطور ويتسع في قلبها البعد الثقافي في صوره وتجلياته المتعددة.
نَتَبَيَّن أن هذا النّزوع إلى اختزال مفهوم الثقافة، ساهم ويساهم بصورة مباشرة في التقليل من الأدوار الكبرى، التي تقوم بها الثقافة داخل المجتمع. إنه يمارس نوعاً من التغييب لمختلف المكاسب الجديدة، التي تمنح للثقافة وتمظهراتها اليوم حضوراً أوسعَ وأكبرَ مما نتصور. لم تعد الثقافة اليوم مجرد تجليات مرتبطة بالذاكرة أو بالفنون، بل تجاوزت ذلك وصنعت لمنتوجها آفاقاً ووسائط جديدة، تكشف عن نوعيات من الحضور لم يكن من الممكن تصورها في أزمنة سابقة، ذلك أن الفتوحات التي ترتَّبت عن تبلور مجتمعات المعرفة وتطور تقنيات المعلومات، مَكَّنَت الأفراد والمجتمعات من الإبحار في عوالم لا حدود لها، كما أن تطور وسائل الاتصال وتقنيات التواصل، ساهم بدوره في ابتكار فضاءات أخرى للثقافة، تفوق ما أَلِفْنَاه في عقود القرن العشرين.
يمكن أن نتحدث اليوم أيضاً، عن تبلور نظريات في الاقتصاد والسياسة وفي دراسة المجتمع، تُعطي للبعد الثقافي ولتطور أنماط الوعي داخل المجتمع، أهمية قصوى في بناء التطلعات السياسية والاستراتيجيات الاقتصادية وبناء تنمية المجتمع. فقد أصبحت العناية بالبُعد الثقافي داخل بعض حقول المعرفة تُعَدُّ مسألة مُلِحَّة، حيث لا تنمية في الوعي السياسي الديمقراطي مثلاً من دون ثقافة سياسية جديدة، ولا إمكان لتحقيق النمو الاقتصادي من دون حَدٍّ أدنى من القيم الثقافية المرتبطة بالتصورات والمبادئ المستمدة من التاريخ ومن المجتمع.
لم يعد من الممكن، في ضوء ما وضحنا، أن نَرْكَن إلى جملٍ ومحفوظات تُعيّن للثقافة حدوداً مغلقة، بل إن من المفيد في هذا الباب أن نعمل على بناء إقرارات إجرائية تُسعفنا من الاقتراب من الثقافة وتجلياتها من زاوية محدَّدة، لنتمكن من بناء الأسئلة والمحاور التي تتيح لنا رسم حدود معينة لما نحن بصدده، وضمن هذا الإطار نقترب من سؤال الثقافة في الواقع العربي.
الثقافة حرية
نُسَلِّم في هذه المقالة بمبدأ يعتبر أن الثقافة حرية وتَحَرُّر، إنها ليست مجرد نشاط تابع، بل إنها فعلٌ مُؤَسّس نتبين ملامحه في المبادئ العامة المُعْتَمَدَة في السياسات وبرامج الاقتصاد والتربية والتعليم، وهي مُقَوِّمٌ مركزي في الأعمال والمبادرات المبدعة في مختلف مظاهر الحياة داخل المجتمع.
لقد انتهى الزمن الذي كان يُنْظر فيه إلى الثقافة كنشاط فرعي مُكَمِّل للفكر ومغذٍّ للوجدان، إنها تندرج اليوم ضمن الخطوط الكبرى للتوافق في السياسة والاقتصاد داخل المجتمع.
وإذا كان من المؤكد اليوم، أن الثقافة
تتميز - إضافة إلى ما أشرنا إليه - بأنها عبارة عن منتوج متعولم تتبارى في إنتاجه شركات عابرة للقارات، حيث تجرى عمليات تنميط تروم قولبة الأذواق وتوحيدها، خدمة لخيارات معينة في الفكر والسياسة، وانحيازاً لأنماط من الإنتاج تتوخى أسواقاً أكبر، الأمر الذي يُفضي بالضرورة إلى تنميط التعليم والثقافة، فقد ترتَّب عن كل ما سبق، بروز نزعات ثقافية مناهضة لآليات التنميط الثقافي، فانتشرت وتنتشر دعاوَى تروم الانتصار للهويات الثقافية المحلية المتعددة، وهو ما أعاد إلى واجهة الصراع الثقافي مفاهيم الخصوصية والاستثناء، مقابل الوحدة والتماثل.
ولا شك في أن المساهمة في تطوير الثقافة ومؤسساتها، تقتضي إنجاز ثورة مطلوبة في مجالي التربية والتعليم، ثورة تقوم على الحرية والتحرُّر، ويكون بإمكانها تكسير قيود الموروث التي تقف حائلاً دون انخراط الناشئة في مجتمعنا، في تمثّل قيم العصر الذي يؤطر وجودنا ويصنع شروط حياتنا.
الثقافة والتعليم والتنمية
لم يعد أحد يجادل اليوم في أهمية الثقافة في المجتمع، وقد ساهمت أدبيات المجتمع الدولي وتقاريره عن التنمية والمعرفة الصادرة في العقدين الماضيين، في إبراز الأدوار التي تمارسها الثقافة في تعزيز وإسناد مجالات التنمية الإنسانية.
وقد لعب توسيع مجالات الاهتمام بالشأن الثقافي، دوراً كبيراً في تعميق درجات الحرية والتحرر. صحيح أن بعض مظاهر الثقافة السائدة اليوم في المجتمعات العربية، يتوخى تسويغ بعض القيم المحافظة، الأمر الذي يساهم في مزيد من تعطيل حركة التاريخ، إلا أن اتساع الاهتمام بالثقافة بأوجهها التاريخية والعقلانية، يتجه إلى مزيد من خَلْخَلَة جيوب التقليد والتقاليد، ليفسح المجال أمام قيم الحرية ومكاسبها.
ويلاحظ المهتم بالمشهد الثقافي العربي في مطلع الألفية الثالثة، وفي سياق المتغيرات السياسية والاجتماعية الجارية بعد انفجارات 2011 وتداعياتها، أن المجال الثقافي عرف ويعرف اتساعاً كمياً وكيفياً، وذلك بفضل اتساع آفاق التعليم وانتشار الجامعات، ومن دون إغفال التطور الذي عرفه مجال الاتصال والتواصل، حيث ساهمت الروافع التكنولوجية، بدورها، في إنعاش ثقافة الصورة وثقافة الوسائط الاجتماعية الجديدة، التي أصبحت تشكّل اليوم رافداً من روافد التنوع الثقافي في مختلف تجلياته.
تطوير المشهد الثقافي
يواكب التعدد والتنوع الثقافي الانفتاح المتطور على مكاسب العلوم الإنسانية ومآثرها الكبرى. ونحن نعتقد أن دعم المكتسبات الثقافية الحاصلة في مجتمعنا منذ عقود، والعمل في الوقت نفسه على إسناد الأدوار المنوطة بها في مستوى تطوير وتعزيز سبل التنمية الشاملة، يتطلبان العمل في اتجاه مزيد من مأسسة الظواهر الثقافية ودعمها.
وإذا كان تطوير المشهد الثقافي العربي يتطلب مزيداً من المأسسة، فإنه يقتضي أيضاً مزيداً من توسيع الحريات، وتحصين المكاسب والمنجزات، كما يستدعي في الآن نفسه، إيجاد الوسائل التي تسعف بمزيد من خلق الفضاءات المناسبة لإنتاج وإرسال وتعميم الثقافة والمنتوج الثقافي بين مختلف الفئات الاجتماعية.
إن تعميق معركة الإصلاح الثقافي، يتطلب مزيداً من تقوية دعائم الفكر التاريخي والتاريخ المقارن، تاريخ العقائد والثقافات، حيث تساعد معطيات هذا التاريخ حين حصولها في عملية تعويد أذهاننا على ملكة تنسيب الأحكام والتصورات الإطلاقية المهيمنة على ثقافتنا وآليات تفكيرنا.
وتتطلَّب عملية إنجاز تحول ثقافي جذري في فكرنا، جهوداً متواصلة في باب استيعاب نتائج الثورات المعرفية التي تبلورت في الفكر المعاصر، إلا أن هذا الأمر الذي نتصور إمكان تحققه في المدى الزمني المتوسط، ينبغي ألا يجعلنا نتوقف عن استكمال مهام الحاضر المستعجلة، والمتمثلة في مشاريع الترجمة، ومشاريع تطوير منظوماتنا في التربية والتعليم، إضافة إلى تشجيع البحث العلمي، وتوسيع مجالات ودوائر الاستفادة من نتائجه وآفاقه في المعرفة والمجتمع والاقتصاد، فنحن نعتقد أن هذه المهام في تقاطعها وتكاملها تُعَبِّد الطريق الموصل إلى باب تحرير الأذهان.
لا تنفصل إذن - في نظرنا - معارك المجال الثقافي عن مشروع ترسيخ قيم الحداثة في فكرنا. وفي هذا السياق، نحن نعتبر أن انتشار دعاوى تيارات التكفير والعنف في ثقافتنا ومجتمعنا، يمنحنا مناسبة تاريخية جديدة لإطلاق مجابهةٍ نقدية أكثر حسماً وصرامة، مواجهة يكون بإمكانها أن تكشف فقر ومحدودية وغربة التصورات المرتبطة بهذه التيارات، وهو الأمر الذي يتيح لنا بناء الثقافة المبدعة، والمساهمة في إنشاء خيارات مطابقة لتطلعاتنا في النهضة والتقدم.
اكتساح تراثي
ويمكن اعتبار أن استمرار نظرتنا المحافظة إلى موروثنا الثقافي تَحَوَّل في العقود الأخيرة من القرن الماضي، إلى عملية اكتساح تراثية شاملة (انتشار قنوات تلفزية وشبكات في التواصل الاجتماعي تغذِّي الثقافة المحافظة)، أعادنا إلى لغة عتيقة في الثقافة والمجتمع، لغة كنا نعتقد أن الزمن عفا عليها، فإذا بها تعود لترسم لذاتنا التاريخية ولثقافتنا صوراً لا علاقة لها بالتاريخ. وإذا كنا نعرف أن المخزون التراثي الرمزي أصبح يوظف بشكل مخيف في معارك حاضرنا، داخل مجتمعاتنا وخارجها وفي أثناء مواجهتنا للآخرين، حيث انتعشت في السنوات الأخيرة محاولات لاستخدامه في معاركنا السياسية، وداخل أغلب الساحات العربية. ولا سبيل للتخلص مما أشرنا إليه، إلا بالعمل في الجبهة الثقافية بالذات، وذلك بتوسيع دوائر إنجاز قراءات عصرية جديدة لموروثنا الثقافي، الذي نفترض أنه يتحول بفعل متغيرات الزمان.
إن ثقافتنا العربية مثلها في ذلك مثل مختلف منتوجات البشر في التاريخ، حمَّالةُ أوجه لا حصر لها. وهي خزَّان قابل لأكثر من صيغة من صيغ الاستثمار الخلاق والمبدع. أما أن يواصل فَهمٌ محافظ مُغْلَقٌ للثقافة التراثية حضوره وهيمنته على العقول والضمائر في مجتمعنا، فإن في ذلك ما يبرز جوانب من الصور التي نصنعها لأنفسنا بأنفسنا، ويرسمها الآخرون لنا في زمن لاحق استناداً إلى منتوج الفكر المنتشر بيننا.
اتجهنا في هذه المحاولة لفحص الشائع والمُتَدَاوَل عن مفهوم الثقافة، لنتبين صور التغييب التي تُمارس فيه ضد الأشكال الثقافية الجديدة، وضد المبادئ التي تحملها في سياق تطور المنتوج الثقافي الإنساني في التاريخ.
كان همنا منذ البداية إبراز التحوُّلات الكبرى، التي عرفها مفهوم الثقافة واستنبطتها الثقافات الجديدة وهي تنشر ألويتها في عالم متغيِّر. وقد اخترنا منذ البداية أن نفكر في الموضوع من زاوية خاصة، ترى أن الثقافة في الأصل عملية تحرُّر وتحرير، ذلك أن ارتفاع منسوب المعرفة والفكر في التاريخ، ساهم ويساهم في تعزيز مكانة الإنسان ومكانة العقل والمخيّلة في التاريخ. ويتجه المنتوج الثقافي اليوم إلى ركوب دروب غير معهودة، وهو يمتلك آليات وتقنيات جديدة تَهَبُه مزيداً من التوسع والانتشار، ولهذا انتقلنا من التفكير في الثقافة كحرية إلى التفكير فيها كرافعة للتحرُّر والتقدُّم.
وضمن هذا السياق، واجهنا الثقافة المحافِظة التي تهيمن على حاضرنا، وحاولنا بلورة جوانب من المواجهات المطلوبة اليوم في مجتمعنا، لنتمكن من الانخراط في عملية بناء ثقافة جديدة ومجتمع جديد■