ثقافة رقمية

ثقافة رقمية

ما يزال الرقمي يلقي بظلاله على حياتنا ويفرض نفسه على عصرنا, بما لا يترك مجالاً للتغاضي عنه أو تجاوزه. وهو ما يغري الكتاب المعاصرين المتخصصين بالتأليف في مداراته ومناقشة قضاياه ومحاولة بسط إشكالاته. وفي هذا الصدد, يقدم دومينيك كاردن آخر مؤلفاته الموسوم بـ "ثقافة رقمية" بوصفه توليفة مركزة لما أحدثته الثورة الرقمية في حياتنا, وموجزاً شاملاً يبلور تصوراً نسبياً يأخذ على عاتقه توضيح كيف أثر سياق متصحفي الإنترنت واختياراتهم في ولادة المعلومة وتحديد قيمتها, وكيف تتحدد أحياناً الطرائق الراهنة لاشغال كل من الإنترنت وشبكات الاتصالات.

يُقيم الكاتب هنا مقارنة بين ظهور الرقمي واختراع الطباعة، وذلك بتوسيع أفق دراسته بشكل أكثر عمقًا وتحديدًا، يجاوز مصطلح الثقافة إلى «مجموع الآثار التي يمارسها على مجتمعاتنا الانتشار الواسع لتكنولوجيا المعلومات».
واستجابة لما سبق، استجلب الكاتب العديد من المعارف المرتبطة بالرقمي وبأدواته، وبخدمات تكنولوجيا المعلومات. وبخصوص هذا الموضوع الذي لم يحظَ بدراسة شاملة إلا نادرًا، يقدّم كاردون تحليلًا خصبًا وعميقًا يمزج بين مباحث علم الاجتماع والعلوم السياسية والاقتصاد وعلوم المعلومات والاتصالات. 
وعند ملاقي هذه العلوم، يُعنى الكاتب بوصف الاختلالات والتصدعات التي أفضت إليها تكنولوجيا المعلومات من حيث الممارسات المتعلقة بالتواصل والاستهلاك. 
ويركّز كاردون في حالات عديدة على الأطراف الفاعلة الرئيسة المتسببة في هذه الاختلالات والتصدعات؛ مهندسون، ومديرون، وعلماء، وسياسيون، وذلك لتعزيز وجهة نظره وإعادة النظر في الأدوار المنوطة بأطراف أخرى فاعلة مغمورة غالبًا ما يُغفَل عنها. 
ومن الأشياء التي يتناولها بالدراسة كتاب «ثقافة رقمية»، سلسلة نسب الإنترنت، والويب بوصفه رفاهًا عامًا، وثقافة التشارك وشبكات التواصل الاجتماعي، والفضاء العام الرّقمي واقتصاد المنصات الرقمية والمعطيات الكبيرة (أو ما يصطلح عليه بـ Big Datta) والخوارزميات.
يتتبع الفصل التمهيدي المواجهة القائمة بين مختلف الثقافات حول التصور المعلوماتي. فتاريخيًّا، تطوّرَ الويب بالجمع بين معارف المهندسين (المصممين) وبين مجتمعات الهيبيز (المستخدمين) والعسكريين (المطالبين بإيجاد الحلول).

فلسفة تحرّرية
هذا ما يفسّر - وفق كاردون - بدرجة كبيرة الفلسفة التحررية المرتبطة بالإنترنت، والمدّ والجَزر مع السلطات التي تسعى إلى مراقبة الويب (حكومات - محاكم - شركات... إلخ). وعمومًا، تُستخدم الشبكات المعلوماتية من طرف مجموعات موصولة بالإنترنت، تتقاسم ميولًا مشتركة ومراكز اهتمام، وأحيانًا - وبكلّ بساطة - مصالح مشتركة: فالهدف الرئيس لعدد من الفاعلين هو خلق عالم افتراضي يتيح إمكان تغيير المجتمع دون تولّي مقاليد السلطة، على نحو إقليم يتمتع بالحكم الذاتي بإزاء الدول والمؤسسات السياسية، في حين تتطلع مجموعات أخرى إلى تحسين وضعيّة الإنسان من خلال الآلات، أو عن طريق بناء هويّات جديدة تقوم على تغيير السنّ والجنسية افتراضيًّا. 
ومما يذكّر به الكِتاب - في مرحلة ثانية - ضمن اهتماماته الرئيسة، طبيعةُ الأجوبة التقنية التي تلبّي غاياته وقيمه التحررية. وفي الواقع، كثيرًا ما تنتج الابتكارات التكنولوجية عن عمليات فريدة، يصير فيها المستخدمون مبدعين. وهذه الابتكارات التصاعدية التي تنتشر انتشار النار في الهشيم ترتبط بثقافة قائمة على التقاسم والانفتاح المتجسديْن بصفة خاصة في التطبيقات المجانية، إذ يمكن لهذه الأخيرة أن تُستخدَم وتُعدّل وتُوزَّع من قِبَل المستخدمين دون قيود أو فوائد.
كما تؤثر التعديلات الجذرية لاستخدامات تكنولوجيا المعلومات في المنتجات والعمليات على حد سواء. وهنا يضرب كاردون مثلًا بموسوعة ويكيبيديا على الإنترنت التي «تعدّ مثالًا نموذجيًّا لإعادة تشكيل تقاسُم المعارف عند نقطة تلاقٍ بين منطق السوق ومؤسسات الرفاه العام». 

مسرحة المعلومات
يعالج الفصلان التاليان المشاركة الرقمية في المناقشات المفتوحة والتقنيات الجديدة في التواصل، والتي ترتبط كلّها بالرقمي. ويتعلّق الأمر خاصة بتوصيف الشبكات الاجتماعية وتصنيفها تصنيفًا يأخذ بعين الاعتبار ظهور المتصفحين، وطرائق محادثاتهم. 
وفي هذا الإطار، يميّز كاردون بين الهوية الحقيقية على الإنترنت والهويّة المتوقّعة، وهذه الأخيرة يناقش الكاتب مدى وفائها للواقع. 
من جهة ثانية، فما ينشده الكاتب في تحليله للهوية المكتسبة أو النشطة هو تبيّن ميول مستخدمي الإنترنت إلى إظهار أنفسهم والتصريح بما يفعلون. ويترتب عن ذلك العديد من التصنيفات من قبيل الهوية المدنية التي تحيل مثلًا على «تذييت» الأفراد، (أي تحوّلهم نحو مزيد من الذاتية)، حيث يكشفون عن خصائصهم الحقيقية على الشبكات الاجتماعية، بينما تنشأ الهويّة السردية نتيجة لعملية مسرحة المعلومات المتاحة على الإنترنت. وهكذا تحدّد هذه الأنواع من الهويات أشكالًا متنوعة من ظهور المتصفحين على منصات التواصل الاجتماعي تنوس بين: إظهار بعض الأشياء مع البقاء في الظل، أو إظهار كل شيء ومشاهدة كل شيء... إلخ.
وفي الواقع، تنطوي الشبكات الاجتماعية على نُظم علائقية محددة تتماهى مع انتشار الهويّات الرقمية أحيانًا بشكل حصري، وتتيح هذه الشبكات لجميع الأفراد إمكان اختيار ما يعرضونه، كما تضفي صبغة ديمقراطية على الممارسات الإبداعية، مثل الموسيقى والكتابة، على الرغم من أنها تكرّس ضربًا من الانسياق وراء النظير (نموذج السيلفي مثلًا، حيث تميل الفتيات إلى الابتسام أكثر من الفتيان)، وتطرح تحديات تنظيمية في غاية الوضوح (خصوصًا في مجال الحقوق: الملكية الفكرية، حقوق الكاتب، حرية التعبير...).

ديمقراطية تمثيلية
يؤكّد كاردون تأثير الفضاء العام الرقمي الجديد في الممارسات الديمقراطية، دون التوصل إلى شكل سياسي مستقر وعملي. وباختصار: قد تتيح الديمقراطية الإلكترونية حشد طاقاتها باتجاه ديمقراطية تمثيلية، من دون اللجوء إلى السياسات ولا إلى وسائط الإعلام، بل من دون الانتهاء إلى بديل معيّن. وثمة مخاوف من أن يواجِه الصحافيون ودوائر المعلومات تحديّات هذه الأشكال الجديدة من النقاش والتعبير.
وحتى عندما ينخفض أحيانًا جمهورهم ودخلهم، فإن وسائط الإعلام التقليدية تحتفظ لهم بنفوذهم، وبقدرتهم على الوصول إلى الحقائق الواقعية بصورة أساسية. يسلّط الفصلان الأخيران الضوء على المستجدات الرقمية. وأول ما يتناوله الكاتب بهذا الصدد الدور الاقتصادي للشركات الكبرى في تكنولوجيا المعلومات، ومن بينها: محركات البحث والتجارة الإلكترونية والشبكات الاجتماعية وصانعو المعدّات الإلكترونية... إلخ. أدركت هذه الشركات الناشئة كيف تحوّل العناصر الرئيسة في الثقافة الرقمية إلى قيمتها النقدية. وفي هذا المقام يشير كاردون إلى التعارض التقليدي بين اقتصاد التشارك واقتصاد المنصات.
ومن المفارقات العجيبة أن المنصات الرقمية تتأسس على حلول تقنية تضمن الثقة بين أصحاب العرض والطلب، لكنها في الوقت نفسه تؤسس نجاحها على الممارسات المرتبطة بالإعلانات على الإنترنت. وهذه الأخيرة أحدثت ثورة في مجال التسويق وفي المجال الرقمي بإتاحتها إمكان الوصول إلى معلومات دقيقة جدًا بخصوص سلوكيات المستهلكين المحتملين في المستقبل.

تحدٍّ رئيس
يتطرق الكتاب في فصله الأخير لدراسة المعطيات الكبيرة والخوارزميات، التي عالجها الكاتب في مؤلفات سابقة (من بينها مثلًا: بماذا تحلم الخوارزميات؟ حياتنا في عصر المعطيات الكبيرة، باريس، سوي، 2015).
فداخل المتاهة الكليّة للفضاء الرقمي، يشكّل تقييم المعلومات تحديًّا رئيسًا، وتبعًا لكاردون، هناك أربعة معايير من شأنها أن تحدّد على الإنترنت قيمة المعلومات: شعبيتها وسلطتها وسمعتها وقدرتها على التنبؤ بسلوكيات الأفراد. 
وبعيدًا عن هذه المعايير، ينبّه الكاتب إلى أن استغلالها رهين بما ستسفر عنه الآلات. وإذ يتعلّق الأمر بالأدوات والتقنيات، فمن المناسب أن نتساءل عن معنى استغلال هذه المعطيات والنتائج المترتبة عنه.  فعلى سبيل المثال، قد يسمح بناء تنبؤات خوارزمية انطلاقًا من محفوظات التصفح بإدامة وتنظيم جوانب خاصة.
وإضافة إلى ذلك، تحمل تحديات المراقبة الرقمية كاردون على أن يختم تحليله بتأكيد أن كتابه الذي يَعِدُ بالانفتاح على عالم أفضل يتخيله روّاد تكنولوجيا المعلومات سيتعرض لتهديد قد يغلق أمامه جميع الأبواب: إنه التهديد المرتبط بالتحكّم في الحياة الخاصة بسبب استخدام التكنولوجيات الحديثة. وهو ما ينطوي في عمقه على بُعد رمزي يلامس جوهر كتاب: «ثقافة رقمية»، ويتغيّا تنوير القارئ بالإمكانات والمخاطر المتصلة بسطوة الرقمي على الحياة الاجتماعية.

محصّلة لامعة
متنكبًا الإغراق في التفاصيل، ومنفقًا جهده في تزويد القارئ بعدد من مفاتيح القراءة، ثمة عوامل عديدة تفسّر السمة الإبداعية والخاصية الانجذابية اللتين يرتكز عليهما كاردون في حثّ القارئ على قراءة كتابه «ثقافة رقمية» أكثر من مرة.  فمن ناحية، صِيغَ الكتاب بأسلوب ممتع جعل المواضيع المعقّدة والمباحث التكنولوجية متاحة للجميع؛ خصوصًا أن الكاتب قد ركّز في فصول كتابه على تفكيك شفرات الخوارزميات والذكاء الاصطناعي باستخدام عبارات بسيطة، دون الانتقاص من قيمة تحدياتها الأساسية. 
وإذا استحضرنا تجربة كاردون في ميدان التدريس، أمكننا أن نعتبر الكتاب محصّلة لامعة لسنوات من إلقاء الدروس والمحاضرات، في ضوئها يقترح الكاتب إيقاعًا وبنية بيداغوجيين كفيلين بدفع القارئ إلى ارتشاف محتوى الكتاب.
ومن ناحية أخرى، يترافق هذا اللمعان بدقّة علمية كبرى، ويتكشّف في التوجيهات البيبليوغرافية التي آلى كاردون على نفسه أن يختم بها كل فصل من فصول كتابه، إغناء للمتن، وحملًا للقارئ على مزيد من الإلمام بتعقيدات الرقمي ومساراته المتشعبة ■