القوة الناعمة وأمن الدول

عاشت الكويت، منذ استقلالها، تجربتين تحملان شيئاً من الثراء في دروس الحياة المستخلصة من تلك المشاهد المثيرة التي صارت جزءاً من تاريخ، وشكلت عنصراً مهماً في تكوين الشخصية الكويتية.
ولدت التجربة الأولى من حضن الاستقلال وما رافقه من متاعب أفرزت الكفاح الدبلوماسي المكثف من أجل اعتراف المجتمع العالمي بالكويت كدولة مستقلة بسيادة كاملة وعضو محترم في الأسرة العالمية.
وقد سجلت شخصياً تلك المتاعب في كتاب أطلقت عليه «حروب الكويت الدبلوماسية» فيه تفاصيل وافية عن الدهاليز الدبلوماسية التي مرت بها معركة الاستقلال، وكان غرضي من الكتاب أن يقرأه جميع الكويتيين ليقفوا على حجم الآلام التي تحملها المؤسسون لدولة الكويت الحديثة.
والحق أن قيادة الكويت ممثلة في المرحوم الشيخ عبدالله السالم، أمير الكويت، لم تضعف أمام ادّعاءات عبدالكريم قاسم حاكم العراق بأنها جزء اقتطعته بريطانيا من الأراضي العراقية، فقد أدار الشيخ عبدالله السالم تلك الأزمة بثقة وبحكمة وبصبر لا يكل وبعزم صخري، إلى أن نجح الشيخ الجليل في الوصول إلى ترتيبات مع الجامعة العربية مكنت الكويت من الانضمام إلى الجامعة العربية كدولة ذات سيادة، ومن ذلك الممر العربي ومنها انطلقت إلى الفضاء العالمي كدولة مستقلة، بعد أن صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في مايو 1963 على انضمام الكويت كعضو رقم 111، مرحباً به المجتمع العالمي.
كانت رجاحة العقل المحرك الأكبر لمجرى تلك المعارك، يرافقها التأكيد على نظافة النوايا وحسن السلوك والارتفاع بقيم التواصل العربي، مع عزم قيادي لانطلاق الكويت إلى مختلف بقاع العالم، انطلاقاً من الحضن العربي، حاملةً السلوك المثالي مع الجميع، وبروح الانفتاح المتحضر، مع رغبة جامحة لتعظيم المسار الثقافي كجدار لهذه الدبلوماسية الناعمة، فكان الترحيب الكويتي بالخبرات العربية لإدارة حديثة للدولة يرافقه بناء الأسس لمجتمع كويتي مستقبلاً الثقافات المتنوعة، ومستفيداً من تجارب الآخرين، لاسيما في المجالات التي لم يتعرف عليها المجتمع الكويتي مثل المسرح والتمثيل وفنون الموسيقى، والتوسع في المجالات الرياضية.
تأكيد الحس الكويتي
وعندما تحتفل مجلة العربي بمرور ستين عاماً منذ ولادتها، فلا مفر من الاعتراف بأنها ساهمت كثيراً في تأكيد الحس الكويتي نحو الثقافة وتنوعاتها، كما أعطت صورة تعريفية للهوية الكويتية نقلتها إلى الرأي العام العربي، أينما كان، متجاوزة المسافات، وسابحة في فضاء عربي فوق جباله وصحاريه ورماله، منطلقة من قاعدتها في الكويت بمادة خصبة متنوعة المنافع، صاغها الكبار من المختصين في مجالات الفكر والمعرفة والتاريخ، يقودهم أول رئيس تحرير لمجلة العربي الدكتور أحمد زكي، العالم المصري المبدع الذي كان رئيساً لجامعة القاهرة في عهود الانفتاح المصرية.
كما تبنت مجلة العربي – تقليداً في تقديم المعرفة – في تحقيقاتها المصورة، التي قدمت عبرها تعريفاً كاملاً للمناطق التي تزورها، يلقي الضوء على مختلف المدن وتاريخها، وعلى عادات الشعوب التي تنقلها في صور تعكس تراثها، وتشرح الأدوات التي تستعمل في صناعاتها التقليدية، مع موجز عن تطور هذه البلدان, وتظهر لمحات عن شعوبها.
دخلت «العربي» كل منزل، في كل مدينة، وفي كل دولة، وأضحت مرجعا في مختلف المراكز والبحوث، لا يمكن الاستغناء عنها، لأن مجلة العربي تنقل علماً لا يموت مع الوقت، يظل نافعاً لكل الأوقات وفي كل محفل، ففيها الشعر والفلسفة، وفيها محطات عن علماء الطب والطبيعة والهندسة والفلك من عرب وغيرهم، وفيها حيز كبير يطل على الثقافة الغربية، بالإضافة إلى ملفات عن كبار المفكرين شرقاً وغرباً، حيث يمتد نشاطها من الصين إلى الهند إلى أمريكا اللاتينية إلى جزر المحيطات، مع فتح دروب التعرف على نهضة المسلمين وتاريخهم في الأندلس، وملفات واسعة عن إفريقيا بثرواتها وحيواناتها وغاباتها ومشكلاتها أيضاً.
كانت الكويت محطة للمؤتمرات الفكرية، ومقراً للشراكة العربية التنموية، تمثلت في صندوق التنمية الكويتي وصندوق التنمية العربي، مع انطلاقات في ترسيخ التآخي بين الدول العربية، ومساع لربطها في منظور موحد ومواقف متقاربة من الأحداث العالمية المؤثرة في مصير العرب.
تعميق الترابط العربي
ميّزت دبلوماسية الكويت التي وضع أساسها الشيخ عبدالله السالم، تعميق الترابط العربي، مع الاستفادة من إمكانات الكويت للمساهمة في التنمية الاقتصادية العربية، وانطلاق دبلوماسية السلام لحل الخلافات العربية، والتواصل العالمي خدمة للقضايا العربية خاصة قضية فلسطين، والالتزام بسياسة عدم الانحياز، والابتعاد عن الترابط مع الدول الكبرى، والتميز في التبرعات والعطاءات لمختلف التجمعات والمنتديات العربية والإسلامية والعالمية، مع النأي بالنفس عن الانشقاقات العربية التي ميزت فترة الستينيات من القرن الماضي.
كانت الكلمة سلاح الكويت، وكان التفاهم مقصدها، وكان العطاء نهجها، وكانت الثقافة آلياتها، وكان حسن السلوك عنوانها، وكان الانفتاح فلسفتها، وكان الترحيب مسلكها.
وعندما طغت الراديكالية البعثية على شؤون العراق منذ عام 1968، لم تتبدل الكويت في أولوياتها، وحافظت على وقار تجاربها برغم التهديدات، وعندما زاد الضغط الإيراني على العراق، وجد من الكويت الدعم والمؤازرة، الأمر الذي وسع من شهية النظام العراقي، فمارس الابتزاز وليّ الذراع، ومع ذلك، التزمت الكويت بهدوئها ولم يتبدل أسلوبها، وعندما فجر نظام صدام حسين الأزمة في يوليو 1990، لم تخرج الكويت عن الحضن العربي وآمنت بأن الضمير العربي لن يتخلى عنها، فلم تتصل بالدول الكبرى وظلت وفية لإيمانها بفوائد القوة الناعمة، ودورها في الخروج من تلك المحنة من دون جروح، وحتى الدقائق الأخيرة، وقبيل الغزو، لم تظهر الكويت رغبة في الاستنجاد بقوة أجنبية، وعندما حدث الغزو هب العالم كله لنجدة الكويت من ذلك الغزو المشؤوم.
وداعة الكويت وجمال سلوكها أفرزا غضباً عالمياً ضد جريمة الغزو، ثم جاء التحرير عبر الائتلاف العالمي الذي تشكل، وبإصرار غير مسبوق، في تحد صارخ لجريمة الغزو.
صار الدرس الذي توفره تجربة الكويت لجميع شعوب العالم، أن الحفاظ على أمن الأوطان له قاعدتان، الدبلوماسية الناعمة، والقوة الخشنة، فلا ترتفع الدول من دون قوة ناعمة فكرية ثقافية إنسانية تمثل عطاءها للأسرة العالمية، ووجد عبر هذا العطاء المسار الإنساني المتواصل نحو التطور بكل أشكاله، لكن العالم أيضاً لا ينجو من النواقص البشرية بالثقافة وحدها، وإنما يعيش مرتاحاً ومطمئناً بالشراكة بين القوتين الناعمة والخشنة، في صيغة قادرة على صد الغرائز البشرية للتوسع والأطماع، وبين القوة الناعمة الرافعة للكرامة البشرية الطامعة بالتوسع والباحثة عن النفوذ، هذه الخلطة تشكل الرافعة للكرامة البشرية، والمؤهلة لتغذية الإنسانية بالقيم السماوية العالية التي تجلب السعادة والسكينة.
دبلوماسية متوازنة
ويمكن أن ننظر إلى أبعد من حدود الكويت نحو الخليج الذي يسعى على المسارين، الناعم والخشن، ليجمع بينهما في منظومة رادعة تحافظ على سلامة دوله وصون سيادتها، فالمتحف الذي شيدته حكومة أبوظبي بالتعاون مع المتحف العالمي الفرنسي – اللوفر – تحفة فنية ثقافية تطل على الخليج لأول مرة في تاريخه، حاملة تراثاً عالمياً إنسانياً، تغذي المشاهد بمعرفة أبعاد الترابط بين البشرية مهما تباعدت جغرافيتها.
ويرافق مسعى الإمارات في تخزين الثقافة والمعرفة توسع سياحي كبير يسهم في خلق مزارات فيها الكثير من المنقول من بيئات عالمية مختلفة، ويرافق ذلك اتساع في بناء صالات التسلية والترفيه مع التنوع المناسب للذوق الوطني والملتزم بالإبداع الإنساني.
كما اتسعت إسهامات دول مجلس التعاون في مراكز البحث والتحليل وإنشاء الكراسي الأكاديمية المتخصصة، مثل كرسي الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد، الذي مولته الكويت مع دعم لمراكز البحث والتحليل في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بالإضافة إلى المكاتب التعليمية والثقافية الخليجية التي توجد في عدد كبير من عواصم العالم.
الدبلوماسية الناعمة بطبيعتها تحمل الرقة، وبسبب محتوياتها المرسومة للمعرفة والعلم والتنمية والتسلية تحتاج إلى بيئة متحضرة لكي تزدهر وتعلو في أهدافها وتعطي من ثمارها، فالمجتمعات المتقدمة والمتحضرة لا يعطلها غياب القوة الخشنة من ترسانتها، لأنها في جوار مسكون بالتعايش، قانع بما يملك، تتعاون فرقه المختلفة من أجل تحقيق هدف الاستقرار والتطور التنموي.
عالمنا المضطرب يستوجب التزاوج بين الناعم والخشن، فالقوة الناعمة بمفردها لا تضمن الاستقرار والهدوء، والقوة الخشنة لا تلتفت إلى تحسين حياة الفرد وإنما وظيفتها حماية هذه الحياة.
لهذا فمنطق العالم اليوم هو هذا المزيج الذي يغذي الروح وفي الوقت نفسه يعطي الطمأنينة.
وتبقى حقيقة ثابتة تعلمناها في الخليج، واستخلصناها من محنة الغزو الصدامي لدولة الكويت، وما تركه من دمار، فقد وسعت الكويت ترابطها مع الحلفاء الاستراتيجيين بالتوقيع على تعهدات أمنية توفر لها الرادع الذي كان غائباً، وبهذه الخطوة تنعم الكويت بما تريده، يلتقي فيها الرقيق والخشن.
لم تتجاهل دول الخليج هذا الدرس، فتمكنت من خلق ائتلاف بين الناعم والخشن في دبلوماسية متوازنة لا تسبب قلقاً وفي الوقت نفسه تقدم المباهج التي تستأنس بها البشرية■