ديوان «النازلون على الريح» نموذجًا المطابقة في شعر محمد علي شمس الدين

ديوان «النازلون على الريح» نموذجًا المطابقة في شعر محمد علي شمس الدين

تُعتبر المطابقة أو الطباقُ إحدى وسائل الشاعر الكبير د. محمد علي شمس الدين الأساسية في إنتاج قصائده، فهو يعوّل على هذا الأمر كثيرًا، معتبرًا المطابقة إحدى وسائل التعبير الموحية، وقلّما غفل عنها في أيٍ من قصائده، فهي إحدى الوسائل الحيّة التي تؤدي دورها في جمالية النص الشعري، إلى جانب الأدوات الأخرى.  
ومن ملاحظات علماء البلاغة واللغة اعتبارهم المقابلة أو المطابقة أن تأتي بكلمة أو أكثر، ثم تأتي بما يقابلُ ذلك في المعنى.

 

اصطلح‭ ‬النقادُ‭ ‬المعاصرون‭ ‬على‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬المطابقةَ‭ ‬الفنية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تقتضيها‭ ‬الفكرة‭ ‬ويتطلبها‭ ‬الموقف،‭ ‬فلا‭ ‬تُجتلب‭ ‬اجتلابًا‭ ‬لمجرد‭ ‬الصنعة‭ ‬اللفظية،‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬إسقاط‭ ‬هذا‭ ‬الشرط‭ ‬الأساسي‭ ‬يعني‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬عصر‭ ‬المحسّنات‭ ‬البديعية‭ ‬التي‭ ‬جنت‭ ‬على‭ ‬أدبنا‭ ‬العربي‭ ‬حين‭ ‬أُفرط‭ ‬الشعراء‭ ‬والكتّاب‭ ‬في‭ ‬اصطناع‭ ‬زخارف‭ ‬الصنعة‭ ‬كالسجع‭ ‬والجناس‭ ‬والتورية‭ ‬وغيرها‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬المضمون،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعبّر‭ ‬عنه‭ ‬ابن‭ ‬رشيق‭ ‬القيرواني‭ ‬بقوله‭ ‬‮«‬وأكثر‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬تفضيل‭ ‬اللفظ‭ ‬على‭ ‬المعنى‮»‬‭. ‬

لكن‭ ‬هؤلاء‭ ‬العلماء‭ ‬والنقاد‭ ‬يكتفون‭ ‬بذلكِ‭ ‬دون‭ ‬تعمّقٍ‭ ‬لغنى‭ ‬المطابقة،‭ ‬فهم‭ ‬يعيبون‭ ‬التلاعبَ‭ ‬بالألفاظ‭ ‬وإهدارَ‭ ‬المعاني‭ ‬تغليبًا‭ ‬للبهرج‭ ‬والزيف‭ ‬الشكليين‭ ‬على‭ ‬الجوهر‭ ‬الموضوعي،‭ ‬ولا‭ ‬ينطلقون‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬تحليل‭ ‬العملية‭ ‬الإبداعية‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬توظيف‭ ‬الطاقات‭ ‬الغنية‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬المطابقة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬التجربة‭ ‬الشعرية،‭ ‬وخلق‭ ‬جو‭ ‬إيجابي‭ ‬مركّب‭ ‬من‭ ‬أفكار‭ ‬وخيالات‭ ‬ومشاعر‭ ‬وإيقاعات‭ ‬وأبعاد‭ ‬لما‭ ‬يشكّل‭ ‬ما‭ ‬نسمّيه‭ ‬في‭ ‬مصطلحنا‭ ‬النقدي‭ ‬بالرؤية‭ ‬الفنية‭. ‬

إن‭ ‬قراءةً‭ ‬عميقةَ‭ ‬لأدبنا‭ ‬القديم‭ ‬والحديثِ‭ ‬في‭ ‬روائعه‭ ‬الشعرية‭ ‬التي‭ ‬وظّف‭ ‬مبدعوها‭ ‬فن‭ ‬المطابقة‭ ‬لبلوغ‭ ‬الذروة‭ ‬في‭ ‬التأثير‭ ‬تمكّننا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬أيديِنا‭ ‬على‭ ‬أسرار‭ ‬هذه‭ ‬الأداة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬حد‭ ‬لإمكاناتها‭ ‬إذا‭ ‬استخدمها‭ ‬من‭ ‬يعرف‭ ‬هذه‭ ‬الأسرار‭ ‬بالموهبة‭ ‬والخبرة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬نجده‭ ‬عند‭ ‬شاعرنا‭ ‬د‭. ‬محمد‭ ‬علي‭ ‬شمس‭ ‬الدين،‭ ‬الذي‭ ‬استطاعَ‭ ‬إجادةَ‭ ‬توظيف‭ ‬التضاد‭ ‬بين‭ ‬الألفاظ‭ ‬والتقابلِ‭ ‬بين‭ ‬المعاني‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬الطباق،‭ ‬لا‭ ‬بوصفه‭ ‬مجرد‭ ‬علاقة‭ ‬مفارقة‭ ‬أو‭ ‬مطابقة،‭ ‬بل‭ ‬كرمز‭ ‬للتناقض‭ ‬الماثل‭ ‬على‭ ‬ساحة‭ ‬الخليقة‭ ‬منذ‭ ‬الأزل‭. ‬

يستهلُّ‭ ‬الشاعرُ‭ ‬ديوانَهُ‭ ‬‮«‬النازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‮»‬‭ ‬بمقطوعة‭ ‬موسيقية‭ ‬عذبة‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬الحاضر‭ ‬والمستقبل‭ ‬في‭ ‬تساؤل‭ ‬وجداني‭:‬

‭ ‬هل‭ ‬يَومي‭ ‬بيدي‭ ‬وغدي؟

والنص‭ ‬في‭ ‬مجمله‭ ‬طقس‭ ‬وجداني‭ ‬عارم،‭ ‬حيث‭ ‬يعمر‭ ‬فيه‭ ‬التضّادُ‭ ‬أو‭ ‬التطابق،‭ ‬وجميعها‭ ‬يوحي‭ ‬بهذا‭ ‬الحزنِ‭ ‬أو‭ ‬الاشمئزاز‭ ‬بدليل‭ ‬قوله‭:‬

من‭ ‬خوَّلَني‭ ‬أن‭ ‬أفصلَ‭ ‬بين‭ ‬المعدومة‭ ‬واللامعدومة‭ ‬

ماذا‭ ‬سيكون‭ ‬بيدي‭ ‬

سيان‭ ‬أكنت‭ ‬النائم‭ ‬

أم‭ ‬كنت‭ ‬الصاحي

‭ ‬وإذا‭ ‬تأملنا‭ ‬الجزء‭ ‬التالي‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬الطباق‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬نجدها‭ ‬مركّبة‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الواقع‭ ‬والخيال‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭:‬

خذلتني‭ ‬الرؤيا‭ ‬وصباحي‭ ‬أفلت‭ ‬من‭ ‬كفّ‭ ‬الليل‭ ‬

فلأخرج‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬سيوف‭ ‬النوم‭ ‬وأحدّق‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الويل

أحدق‭ ‬بين‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬

فالشاعرُ‭ ‬يطابقُ‭ ‬بين‭ ‬النوم‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬السكوت‭ ‬والاستسلام،‭ ‬وبين‭ ‬الصحوة‭ ‬أو‭ ‬اليقظة،‭ ‬ويبدو‭ ‬تَلَبُّكُ‭ ‬الشاعر‭ ‬وحَيْرَتهُ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الطباق‭ ‬المعَبِّرْ،‭ ‬حازمًا‭ ‬أمره‭ ‬للخروج‭ ‬من‭ ‬السكوت‭ ‬على‭ ‬الضيم‭ ‬ومواجهة‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬اليقظة‭:‬

 

أُحَدِّقُ‭ ‬بين‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬

والويلُ‭ ‬كالليل‭ ‬في‭ ‬مقاربةٍ‭ ‬لغوية‭ ‬بين‭ ‬الظلم‭ ‬والاستبداد‭. ‬والقصيدةُ‭ ‬برمتها‭ ‬ميدانُ‭ ‬طباق،‭ ‬يتبارز‭ ‬فيه‭ ‬الحقُ‭ ‬والباطل‭ ‬والحريّة‭ ‬والعبودية،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬إمكانيةٌ‭ ‬في‭ ‬التغيير‭ ‬نحو‭ ‬الأفضل‭ ‬فليبق‭ ‬كلّ‭ ‬شيءٍ‭ ‬مكانه،‭ ‬كُل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬وقفة‭ ‬طباقية‭ ‬واضحة‭.‬

لن‭ ‬أخرج‭ ‬من‭ ‬بيتي،‭ ‬فليبقَ‭ ‬الخارجُ‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬والداخلُ‭ ‬في‭ ‬الداخل

والمطابقة‭ ‬الموحية‭ ‬واضحة‭ ‬في‭ ‬القصيدة،‭ ‬بين‭ ‬الشروق‭ ‬والغروب،‭ ‬أي‭ ‬بين‭ ‬التطور‭ ‬والتخلّف،‭ ‬بين‭ ‬الانبعاث‭ ‬والتراجع،‭ ‬والضباب‭ ‬هو‭ ‬الغشاوة‭ ‬على‭ ‬عيون‭ ‬العرب‭ ‬التي‭ ‬أفسدت‭ ‬عليهم‭ ‬رؤية‭ ‬الحقيقة‭. ‬وفي‭ ‬خطابه‭ ‬لأبي‭ ‬الطيب‭ ‬المتنبي‭ ‬سطران‭ ‬تعبقُ‭ ‬منهما‭ ‬نسائمُ‭ ‬المطابقة‭.‬

لقد‭ ‬وظَّفَ‭ ‬الشاعرُ‭ ‬فنَّ‭ ‬المطابقةِ‭ ‬في‭ ‬هذين‭ ‬البيتين‭ ‬من‭ ‬أجلِ‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الابتكار‭ ‬والاعتمادِ‭ ‬على‭ ‬الذات،‭ ‬وعدم‭ ‬تصديقِ‭ ‬الذليلِ،‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬صفاته‭ ‬الخنوعُ‭ ‬والانحناء‭:‬

لا‭ ‬تقلْ‭ ‬ما‭ ‬يقولُ‭ ‬الذليل‭ ‬

وابتكرْ‭ ‬أولَ‭ ‬الممكن‭ ‬المستحيلُ‭ ‬

والطباقُ‭ ‬هنا‭ ‬وقع‭ ‬بين‭ ‬الممكنِ‭ ‬والمستحيل،‭ ‬وهي‭ ‬مطابقةٌ‭ ‬معنوية‭. ‬

‭ ‬وقصيدةُ‭ ‬مريم‭ ‬إحدى‭ ‬القمم‭ ‬العملاقة‭ ‬للشاعر‭ ‬شمس‭ ‬الدين،‭ ‬فهي‭ ‬مستودعُ‭ ‬جماليات‭ ‬وواحة‭ ‬أفكار‭ ‬في‭ ‬براعة‭ ‬أداءٍ‭ ‬وجمالية‭ ‬معنى‭. ‬

 

يقظة‭ ‬شعرية

وما‭ ‬من‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬شمس‭ ‬الدين‭ ‬لم‭ ‬يكنْ‭ ‬ليصِلَ‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬العالي‭ ‬من‭ ‬اليقظةِ‭ ‬الشعرية‭ ‬لولا‭ ‬تمكُّنهُ‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الأساليب‭ ‬البلاغية،‭ ‬ومنها‭ ‬فن‭ ‬الطباق،‭ ‬الذي‭ ‬حققَ‭ ‬له‭ ‬هذه‭ ‬المكانةَ‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الشعر‭ ‬وملحقاته‭. ‬

يقول‭ ‬شمس‭ ‬الدين‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬مريم،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬أغنى‭ ‬قصائد‭ ‬الديوان‭ ‬بفنِّ‭ ‬المطابقة؛‭ ‬بالاستعاراتِ‭ ‬والتشابيهِ‭ ‬والكناياتِ‭ ‬والرموز‭ ‬وعلوم‭ ‬البلاغة،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬بلاغيــة‭ ‬متعددة‭:‬

كلما‭ ‬جَرَّحْتُ‭ ‬هذي‭ ‬البرتقالهْ‭ ‬

تتبسَّمْ

ربما‭ ‬علمَّها‭ ‬الحبَّ‭ ‬وأعطاها‭ ‬

جمالَهْ‭ ‬

ربُّها‭ ‬أو‭ ‬طفلُ‭ ‬مريم‭ ‬

كلما‭ ‬أوغلتُ‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬نأى‭ ‬

الشاطئ‭ ‬عني‭ ‬

ولكي‭ ‬أسترجعَ‭ ‬الشاطئ‭ ‬

في‭ ‬البحر‭ ‬أُغنّي‭ ‬

كلما‭ ‬امتدت‭ ‬إلى‭ ‬النجم‭ ‬يميني‭ ‬

كان‭ ‬برقٌ‭ ‬خاطفٌ‭ ‬أسرعَ‭ ‬

مني‭ ‬

كلما‭ ‬أوضحتُ‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تقولُ‭ ‬

الشجرهْ

خذلتني‭ ‬سوسةٌ‭ ‬نائمةٌ‭ ‬

في‭ ‬الثمرهْ‭ ‬

هكذا‭ ‬تبدأُ‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬انتهينا‭ ‬

لا‭ ‬لنا‭ ‬شيء‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬علينا‭ ‬

تتجلى‭ ‬المطابقة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬عناصره‭ ‬المختلفة،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬مطلعها‭ ‬وحتى‭ ‬ختامها‭ ‬حقل‭ ‬تضاد‭ ‬أو‭ ‬مطابقات،‭ ‬ومعظم‭ ‬هذا‭ ‬الطباق‭ ‬معنويّ،‭ ‬كما‭ ‬بين‭ ‬الجرح‭ ‬والابتسامة،‭ ‬وبين‭ ‬الإيغال‭ ‬والنأي،‭ ‬وبين‭ ‬الامتداد‭ ‬والبرق‭ ‬الخاطف،‭ ‬وبين‭ ‬إيضاح‭ ‬ما‭ ‬تقوله‭ ‬الشجرة‭ ‬والخذلان،‭ ‬وبين‭ ‬الابتداء‭ ‬والانتهاء،‭ ‬وفي‭ ‬الختام‭ ‬مطابقة‭ ‬صارخة‭ ‬‮«‬لا‭ ‬لنا‭ ‬شيء‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬علينا‮»‬‭. ‬

وقد‭ ‬تعاملتِ‭ ‬الاستعاراتُ‭ ‬والتشابيه‭ ‬مع‭ ‬المطابقة‭ ‬على‭ ‬رسم‭ ‬الصورة‭ ‬الفنية‭ ‬من‭ ‬القصيدة،‭ ‬فالبرتقالةُ‭ ‬تبتسم،‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬الاستعارات‭ ‬الجميلة‭ ‬الموحية،‭ ‬كذلك‭ ‬نأي‭ ‬الشاطئَ‭ ‬وحديثُ‭ ‬الشجرة‭ ‬وخذلان‭ ‬السوسة‭. ‬ويرمز‭ ‬بطفـــل‭ ‬مريم‭ ‬إلى‭ ‬المسيح،‭ ‬وقد‭ ‬جمع‭ ‬الشاعرُ‭ ‬في‭ ‬الفاعلية‭ ‬بين‭ ‬المسيح‭ ‬وطفل‭ ‬مريم،‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬اعتقاد‭ ‬إخواننا‭ ‬المسيحيين‭. ‬

ويعزز‭ ‬هذَا‭ ‬السيل‭ ‬من‭ ‬الاستعارات‭ ‬المتلاحقة،‭ ‬مثل‭ ‬قول‭ ‬الشجرة،‭ ‬والبرق‭ ‬المستريح‭ ‬ونوم‭ ‬السوسة،‭ ‬والبيتان‭ ‬الأخيران‭ ‬يختصران‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬الوجود،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬كما‭ ‬ولدته‭ ‬أمه،‭ ‬ومن‭ ‬صور‭ ‬المطابقة‭ ‬اللفظية،‭ ‬وهي‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬الصفحة‭ ‬108‭ ‬من‭ ‬المجموعة‭:‬

‭ ‬‮«‬لن‭ ‬أكون‭ ‬غير‭ ‬واحد،‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬غير‭ ‬ثاني‭ ‬اثنين،‭ ‬أنت‭ ‬صاحبي‭ ‬وأنت‭ ‬لا‭ ‬أحد‭...‬

والتناقض‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬بين‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬كان‭ ‬خَدُّها‭ ‬اليمينُ‭ ‬كرمةً‭ ‬وخدها‭ ‬الشمال‭ ‬ثعلبا‮»‬‭ (‬فزاعة‭ ‬القصب‭ - ‬ص‭ ‬109‭): ‬

‭ ‬رأيتُ‭ ‬وجَه‭ ‬طفلةٍ‭ ‬يدور‭ ‬مثل‭ ‬الشمس‭ ‬

مرة‭ ‬إلى‭ ‬الشروق‭ ‬ومرة‭ ‬إلى‭ ‬الغروب‭ ‬

وكان‭ ‬خَدُّها‭ ‬اليمينُ‭ ‬كَرْمَةً‭ ‬

وخدها‭ ‬الشمالُ‭ ‬ثعلبًا،‭ ‬

وحينما‭ ‬تراجعَ‭ ‬الضبابٌ‭ ‬وانجلتِ‭ ‬

عن‭ ‬الكروم‭ ‬غَيْمَةُ‭ ‬التعب‭ ‬

نظرت‭ ‬نحو‭ ‬الحقل

‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬سوى‭ ‬فزّاعة‭ ‬القصب

القصيدةُ‭ ‬وصفٌ‭ ‬ساحر‭ ‬لهذهِ‭ ‬الفزاعةِ‭ ‬التي‭ ‬يصنعها‭ ‬الفلاحون‭ ‬من‭ ‬القماش‭ ‬أو‭ ‬النايلون،‭ ‬ويثبتونها‭ ‬على‭ ‬قضبانٍ‭ ‬من‭ ‬القصب‭ ‬أو‭ ‬الخشب‭ ‬حتى‭ ‬تصبح‭ ‬كهيئةِ‭ ‬رجلٍ‭ ‬منتصبِ‭ ‬القامة‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الحقل،‭ ‬يخيفون‭ ‬به‭ ‬الذئابَ‭ ‬وضباعَ‭ ‬الليل،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تنال‭ ‬من‭ ‬المزروعات‭ ‬والأشجار‭ ‬المثمرة‭ ‬خلال‭ ‬الليل،‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬التقاليدُ‭ ‬معروفةً‭ ‬ومستعملةً‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬القرى‭ ‬والحقول‭.‬

 

لوحة‭ ‬فنية

‭ ‬وتسود‭ ‬المقابلةُ‭ ‬أو‭ ‬المطابقة‭ ‬معظمَ‭ ‬ألوان‭ ‬قصائدِ‭ ‬هذا‭ ‬الديوان،‭ ‬‮«‬النازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‮»‬،‭ ‬وغالبًا‭ ‬ما‭ ‬ترافقٌ‭ ‬هذا‭ ‬الطباقَ‭ ‬ألوانٌ‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬البلاغة،‭ ‬خاصة‭ ‬الاستعارة‭ ‬والتشبيه‭ ‬والكناية،‭ ‬وجميعُها‭ ‬دليلٌ‭ ‬على‭ ‬سعةِ‭ ‬فضاءِ‭ ‬الشاعر‭ ‬الدلالي‭ ‬والغني،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬فزاعة‭ ‬القصب‭. ‬

والقصيدة‭ ‬لوحة‭ ‬فنية‭ ‬رائعة‭ ‬تُصوّر‭ ‬مشهدًا‭ ‬ريفيًّا‭ ‬قديمًا،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬قائمًا‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الحقولِ‭ ‬والمزارع‭ ‬حماية‭ ‬للمحاصيل‭ ‬وخيراتِ‭ ‬الطبيعة‭ ‬من‭ ‬الوحوش‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُميزُ‭ ‬بين‭ ‬خيالِ‭ ‬الظل‭ ‬وبين‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه،‭ ‬وهي‭ ‬صورةٌ‭ ‬تحاكي‭ ‬الماضي‭ ‬تصويرًا‭ ‬للحاضر،‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يحسنون‭ ‬التمييزَ‭ ‬بين‭ ‬العدوِ‭ ‬والصديقِ،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬الأصيلِ‭ ‬والدخيل،‭ ‬ولعل‭ ‬ذروة‭ ‬قصائد‭ ‬الديوان،‭ ‬مقطوعته‭ ‬لأبيه‭ ‬وعنوانها‭ ‬القبلة،‭ ‬وهي‭ ‬غنية‭ ‬بمحاسن‭ ‬الشعر‭ ‬وجمالياته‭ ‬البديعة،‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭:‬

‭ ‬كان‭ ‬أبي‭ ‬يعبث‭ ‬أحيانًا‭ ‬بالكلماتِ

فيسألني‭ ‬مثلًا‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬القبلةِ‭ ‬أين‭ ‬تكون؟‭ ‬

فأقول‭ ‬له‭: ‬القبلةُ‭ ‬سِرٌ‭ ‬معقودٌ‭ ‬بين‭ ‬الشفتين‭ ‬

وَجِسْرٌ‭ ‬لا‭ ‬يعبرهُ‭ ‬إلا‭ ‬الغاوون‭ ‬

يضحك‭ ‬من‭ ‬نَزَقي‭ ‬ويُعَدّلُ‭ ‬من‭ ‬جلسته‭ ‬ويقول‭:‬

أنتَ‭ ‬نسيتَ‭ ‬الفكرةَ‭ ‬يا‭ ‬ولدي‭ ‬وأضعتْ‭ ‬العِبرة

فالقبلةُ‭ ‬حيثُ‭ ‬تُوَجِّهُ‭ ‬وَجْهَكَ‭ ‬نحو‭ ‬الله‭ ‬

كانتْ‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬البين‭ ‬يضمهما‭ ‬شغفُ‭ ‬الحب‭ ‬

وما‭ ‬زالت،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬ذهبت‭ ‬نحو‭ ‬جهاتٍ‭ ‬أخرى‭ ‬

وليس‭ ‬يخفى‭ ‬على‭ ‬أحدِ‭ ‬ما‭ ‬تحمل‭ ‬هذه‭ ‬القصيدةُ‭ ‬القصيرة،‭ ‬لكن‭ ‬الغنيةُ‭ ‬من‭ ‬صورِ‭ ‬وعناصر‭ ‬بلاغية‭ ‬متنوعة،‭ ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬الشاعرَ‭ ‬استثنى‭ ‬منها‭ ‬أيَّ‭ ‬عنصر‭ ‬بلاغي،‭ ‬حيث‭ ‬إنها‭ ‬جمعتْ‭ ‬معظم‭ ‬عناصرِ‭ ‬الفن‭ ‬والجماليات،‭ ‬فهي‭ ‬أقصوصةٌ‭ ‬تألقَ‭ ‬فيها‭ ‬النسيج‭ ‬الحواري‭ ‬في‭ ‬بُعْده‭ ‬الفني‭ ‬الجمالي،‭ ‬من‭ ‬نصٍ‭ ‬أدبي‭ ‬خلّاق،‭ ‬وقطعةٍ‭ ‬نثرية‭ ‬هادفة،‭ ‬وهي‭ ‬عدا‭ ‬عن‭ ‬غناها‭ ‬بالمطابقة‭ (‬القُبلة‭ ‬والقِبلَة‭) ‬والقاصد‭ ‬والمقصود،‭ ‬وبين‭ ‬المابين،‭ ‬واعلمْ‭ ‬وتعلَّم،‭ ‬تألقَ‭ ‬فيها‭ ‬التشبيهُ‭ (‬القبلة‭ ‬سر‭ ‬معقود‭ ‬وجسر‭ ‬لا‭ ‬يعبره‭ ‬إلا‭ ‬الغاوون‭)‬،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬الاستعارة‭ ‬والكناية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬نفسها،‭ ‬وأي‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬قصائد‭ ‬الديوان‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬هذا‭ ‬الفيض‭ ‬البلاغي‭ ‬الجمالي،‭ ‬فأنت‭ ‬لا‭ ‬تكلف‭ ‬نفسك‭ ‬التفتيش‭ ‬عن‭ ‬جمالياتها،‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬تشير‭ ‬بنفسها‭ ‬إلى‭ ‬نفسها‭. ‬

‮«‬النازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‮»‬،‭ ‬عمارةٌ‭ ‬جماليةٌ‭ ‬باذخةٌ،‭ ‬متعةٌ‭ ‬لكل‭ ‬عينْ،‭ ‬وَغِنى‭ ‬لكل‭ ‬قلبٍ،‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬لَذَّ‭ ‬وطاب‭ ‬من‭ ‬ثمارِ‭ ‬اللغة‭ ‬وصُوَرِ‭ ‬الجماليات،‭ ‬القُبلة‭ ‬والقِبلة،‭ ‬الفلك‭ ‬والملك،‭ ‬والمفتون‭ ‬والمرتبك،‭ ‬والسماء‭ ‬والفضاء،‭ ‬ويولد‭ ‬أو‭ ‬يموت،‭ ‬وحضور‭ ‬للأرض‭ ‬عاليها‭ ‬وسافلها،‭ ‬وبين‭ ‬مَدِّها‭ ‬وجَزْرِها،‭ ‬وأنتَ‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬وفوق‭ ‬الأرض‭ ‬والقبور،‭ ‬ومات‭ ‬ولم‭ ‬يمت،‭ ‬أنت‭ ‬صاحبي‭ ‬وأنت‭ ‬لا‭ ‬أحد،‭ ‬والحديثُ‭ ‬يطول،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أقولُ‭ ‬من‭ ‬المطلع‭ ‬إلى‭ ‬الخاتمة،‭ ‬والنازلون‭ ‬على‭ ‬الريح‭ ‬استراحوا‭ ‬على‭ ‬سرادق‭ ‬شاعر‭ ‬عملاق‭ ‬تأنس‭ ‬اللغة‭ ‬به‭ ‬وتقدّم‭ ‬له‭ ‬مفاتيحها‭ ‬إكبارًا‭ ‬لتاريخه‭ ‬المجيد‭ ‬