قراءة نقدية في ديوان

قراءة نقدية في ديوان "من أسفار الذات"

للشاعرة: د. زكية مال الله
أصدرت الشاعرة القطرية الدكتورة زكية مال الله عدة دواوين شعرية هي: "في معبد الأشواق " 985 1، و"ألوان من الحب" 1987، و"من أجلك أغني" 1989، و"في عينيك يورق البنفسج" 1990، و"من أسفار الذات" 1991م.

وهذه الدراسة تتناول ديوانها الأخير باعتباره أحدث إنتاجها وأكثره تعبيرا عن مرحلة نضجها الفني.

يشتمل الديوان على سبع وستين قصيدة كتبت في مائة وثلاث وعشرين صفحة من القطع الصغير، مما يدل على إيجازها واكتنازها واعتمادها على الإيحاء والرمز، فهي مقطوعات تعبر عن نفثات وجدانية امتلأت بها أسفار الذات، ومن ثم فالتجربة مغرقة في الذاتية، حيث يشعر المتلقي أن الشاعرة تتقوقع داخل شرنقة ذاتها تجتر همومها الخاصة وتشكل لنفسها عالما فريدا تعبر فيه عن رهافة الأنثى وتجلياتها الروحية والنفسية وأشواقها العارمة لتحقيق ذاتها في عالم قلق حافل بالمفارقات المروعة بين الأنا والآخر، الواقع والمثال، القيد والحرية، ولذلك تجفل من صلابة هذا الواقع المتجهم وتلوذ بواقع آخر صنعته بخيالها المجنح وأحلامها الرقيقة وقلبها المشبوب. إنه واقع نفسي امتزجت فيه الفانتازيا باليوتوبيا بأشواق الأنثى وإبحارها نحو العالم المجهول.

ينابيع الحزن الشفيف

وتستمد التجربة روافدها من ينابيع رومانسية خالصة هي الحزن الشفيف، والأشواق الحارة، والتوحـد بين الذات والموضوع، والارتحال في المجردات، واستشراف آفاق المجهول، والرغبة العارمة في الإفضاء بمكنون الذات، وانتظار ما لا يجيء.

ورغم أن هذه الروافد امتزجت بمشاعر الأنثى وتلونت بالوهج الوجداني الفردي فإنها بقيت متجاوزة لمفردات الواقع الحسي لا تقارب الأشياء ولا تلامس دنيا الناس، وإنما تشعر شعورا قويا على امتداد قصائد الديوان أن الشاعرة تعيش في عالم صنعته لنفسها بنفسها، ولذلك يمكن أن يطلق على ديوانها "من أسفار الذات إلى الذات".

إن قصائد الديوان نظمت في عامي 90/ 91 بين القاهرة وقطر وهما عامان كانت منطقة الخليج كلها ومصر معها في شغل شاغل بالفتنة الكبرى التي هزت مشاعر كل عربي وعربية. ومع ذلك لا نجد ظلا لهذه المأساة في ديوان الشاعرة الخليجية، وليس هذا فقط بل إنه لا يوجد في الديوان كله سمات محددة لشخصيات محددة أو مكان معين، أو زمان معين، وإنما تنطلق القصائد في المطلق وفي إطار تجريدي بحت بحيث يخيل لنا أن الشاعرة انكفأت على ذاتها لا تبكي على أخويها صخر ومعاوية كما فعلت جدتها الخنساء، وإنما تبكي على ذاتها لذاتها بعيداً عن الواقع بحرارته وتدفقه ونبضه. إن الشعر الصادق مرآة النفس ولكنه مرآة الحياة أيضا، شأنه في ذلك شأن كل فن عظيم، ولكننا مع زكية مال الله لا نرى تأثيرا للواقع المحلي أو الخليجي أو القومي فهل معنى ذلك أن المرأة الشاعرة تعيش داخل همومها الخاصة وتستغرقها لواعجها النفسية وتستأثر بها أشواق الذات؟

إن الخطاب الشعري في ديوان "من أسفار الذات" يجيب بالإيجاب، ولا نظرة متأملة في الفضاء الشعري عند شواعر العصر الحديث يؤكد عكس ذلك، فملك عبد العزيز في مصر وفدوي طوقان في الأردن، ونازك الملائكة في العراق وغيرهن كثير في مختلف الأقطار العربية عشن هموم الوطن ورثين أحلام الأمة وبكين مأساة الشعب الشريد.

المفردات بطاقات إيحائية

إن الإنجاز الحقيقي للشاعرة زكية مال الله يتمثل في طاقتها اللغوية؟ حيث لا تعتمد في خطابها الشعري على التقريرية الساذجة والبث المباشر، وإنما تستخدم بناء لغويا متميزا يقوم على الإيحاء والرمز والتكثيف وتراسل الحواس وتجاوز الدلالات الوضعية على مستوى التركيب والصورة، فالمفردات عندها ذات دلالات ثرية تعبر عن الامتداد الوجداني والنمو الشعوري والمنحنى النفسي، وتتنامي هذه المفردات داخل السياق لتفصح عن الوعي الذهني والتأمل التجريدي البعيد عن الخبرة المباشرة بالحياة، والمدلولات المحددة ذات الأبعاد الحسية المشكلة من أرض الواقع.

إن المفردات بطاقتها الإيحائية تتفاعل داخل النسق اللغوي وتكتسب حيوية مدهشة تكون فيها أشبه بنفسات وجدانية حرى تهيم في المطلق دون أن تدل على قسمات نفسية محددة بتضاريس محددة، وبذلك تتجاوز الواقع وتوغل في التجريد وتقطع جسور التواصل بين المبدع والمتلقي.

وعلى مستوى التركيب نجد المفردات تتجاوز التركيب النحوي بعلاقاته المنطقية الثابتة، إلى العلاقات المجازية التي لا تلتزم هي الأخرى بدلالاتها الوضعية، فلا نجد فيها التجاور المكاني أو التتابع الزماني أو الروابط المنطقية أو التواصل بين الذات والموضوع، وإنما تتجاوز هذا كله إلى العلاقات المفارقة حيث يتلاقى فيها ما لا يلتقي، وتضحى المفردات النفسية والتهاويل المصاحبة لها هي المسيطرة على الرؤية الشعرية فيض الذات إلى الذات.

ومعنى هذا أن للتشكيل الشعري عند زكية مال الله مدلولات تتخذ منحى جدليا في العلاقة بين التراكيب بأصولها الصوتية والدلالية والنحوية والصرفية، ويتجاوز ما هو مألوف وثابت، ومن ثم يتحول بالضرورة إلى دوال ذاتية تعبر عن وعي الشاعرة بذاتها وارتحالها المشبوب في عالم المطلق والمجهول معا.

تقول الشاعرة في أولى قصائد الديوان "غيم في جدران الليل"

أتشبث بالجدران المخبوءة بين عروق الصمت
أتلمس وقع الخطوات المنسربة
هذا خطوي
تلك خطاه
من يفصل بين ملامحنا

دلالات جديدة

إن زكية مال الله تستخدم في العنوان كلمات: الغيم - في- جدران- الليل. وهذه الكلمات لها دلالاتها الوضعية ولكنها داخل السياق تتجاوز المواضعة وتكتسب دلالات جديدة تفتقد الروابط المنطقية أو حتى المجازية بأطرها الثابتة، فالغيمة مكانها فوق الأرض ولكنها هنا نزلت إلى الأرض بل دخلت الجدران، والجدران ليست مكانية بل هي جدران الليل، وهكذا اختلط الفوقي بالتحتي، الزمان بالمكان وتغيرت دلالاتها لتولد دلالة جديدة هي تكريس الإحساس بالحزن الذي هبط بظله الثقيل الموحش على ذات الشاعرة. ونجد هذا التوظيف اللغوي ذاته في البيت الأول فالجدران رمز المكان الحسي المرئي مخبوءة لا ترى. والصمت له عروق والجدران مخبأة داخل هذه العروق ولو بحثنا عن روابط منطقية أو علاقات مجازية أو وجوه شبه تقليدية فلن نجدها، لكن المتلقي يستشعر هذه الشحنة النفسية التي يحملها البيت ويتفاعل معها.

وقد يتجاور التصوير البياني- على ندرة- مع الصورة المركبة المتجاوزة كقولها في القصيدة نفسها:

يا غيم الليل، كم أمطرت على فيئي الممدود بعرض القلب
كم أورقت
ولم أجتث جذورك بعد
تغسلني بنقائك
تعريني كالأغصان وكالأوثان
لا أملك من أردية الشمس
سوى وهجي
ونسيج من زبد الأحزان

مجاز يستشرف آفاق المجهول

إن الصورة الشعرية عند زكية مال الله لا تقوم على التصوير البياني وحده، لأن العلاقة عندها لا تقوم على التشابه الحسي الخارجي، ولا المجاز بعلاقاته المنطقية، ولا الكتابة من حيث هي انتقال من الملزوم إلى اللازم، وإنما تنهض على العلاقات البعيدة الموغلة وتكشف بروحها المتوهجة عن الصلات بينها، وبذلك تعقد آصرة حميمة بين ما يبدو لنا متنافرا من عناصر الكون فتتوحد في رؤيتها الشعورية الكائنات، ويتحقق الانسجام الكوني الكلي بين عناصر الوجود وتتوحد الذات والموضوع رغم ما يبدو لنا في الواقع من تناقض وتنافر.

إن استخدام اللغة المجازية على هذا النحو هو من قبيل استشراف آفاق المجهول وإطلاق لقوى الذات المبدعة في الإفصاح عن مكنوناتها وارتياد مناطق غامضة في النفس الإنسانية، وارتحال نحو المطلق الذي لا تستطيع اللغة الوصفية بأطرها الثابتة المحددة أن تمسك به وتحتويه.

تقول زكية مال الله في قصيدة "المرأة المرآه ":

من بدء التكوين وخلق الموجودات
اشتعلت نار في طيني
جللني عبق
انسابت في جلد تصاويري أشباه
الشق الأول لامرأة
تتضفر من أسياف العشق
تنغرس بحلم الطرقات

لقد لجأت الشاعرة إلى الصورة المكثفة التي يستعصي شرحها وفقا لقواعد المنطق التقليدي، ولكن يمكن فض مغاليقها في إطار الرمز، حيث يضحى الغموض الكثيف وسيلة فنية مقصودة لإثراء الدلالة الشعرية وتعميقها، وبذلك تتحقق للذات المبدعة لذة الكشف والارتياد.

انتحرت كل خيوط الوقت بعينيها
تعرت من أثواب الذات
عشب يجتث ملامحها
غابات من سنط تنمو
تتفيأ مبتدأ آلات

إن الصورة الشعرية في ديوان "من أسفار الذات" ليس مصدرها الحس الخارجي الذي يدرك بالبصر، وإنما مصدرها الوعي الذهني والاستبطان الذاتي والامتياح من النبع الذاتي الثر، ومن ثم تتجاوز الواقع- أحيانا- إلى عالم الفانتازيا في إبداع الصورة وتشكيلها، وهو أمر جائز في تكوين الصورة الشعرية. فالخيال الشعري كما يقول رولاند بارت "غير احتمالي، والقصيدة غير قابلة في أي حالة لأن تحدث إلا على التخوم الجانبية أو الملتهبة من عالم الفانتازيا، ومن ثم فإن الرواية تتشكل من التنسيق واقعية صدفوية، لكن القصيدة تتشكل من استكشاف الكمون في العلاقات بين العناصر".

ما بين الكيمياء والشعر

لقد تأثرت الدكتورة زكية مال الله- بوعي أو بدون وعي- بدراستها العلمية في الكيمياء (تحمل دكتوراه في الصيدلة من جامعة القاهرة) فطبقت مفهوم الكيمياء من حيث إنه مزج عنصرين بينهما تنافر في الظاهر لكنهما في جوهريهما يتقبلان المزج لتوليد عنصر ثالث جديد على الصورة الشعرية، فوظفت عناصر لغوية تبدو لنا متناقضة من حيث الأصل اللغوي الوضعي، ولكنها داخل النسيج اللغوي تتفاعل فيما بينها لتوليد صورة شعرية طريفة تعبر عن عالمها النفسي وتكشف عن رؤية جديدة تزيد وعينا بالحياة وتعمق إحساسنا نحوها وتضيف لنا خبرة متولدة عن الإثارة والدهشة.

تقول زكية مال الله في التعبير عن أشواق الأنثى مستخدمة صورها الكيميائية التي تقوم على التوليد الرمزي، وهو المعادل الفني للمضمون النفسي:

تذوب عناقيد الملح
تصير الأشرعة ركاما
أتضفر ضوء الشمس
أفتش عن لؤلؤة تكمن بين عروق الموج
يغازلها الصيادون
أتحين وقع الخطوات
الأبواب الموصدة
أقفال ومزاليج
عينان مؤرقتان
اختطب الأسر والمأسور ظلال الغفوة وتصاوير الأصحاب
أتلمس دربي، أنسل
يلمحني العسس
غيم يحجبه الأفق
أفض الأقفال
أتبعثر بين قشور القوقعة
وأوتاد الأعماق

إن هذه القصيدة بما تحمل من لغة مجازية وصور توليدية تجسد إحساس الأنثى بذاتها ورغبتها العارمة في تحطيم القيد، كما أنها تعبر عن الحزن الشفيف المغلف بالإحباط، وهو ما يميز التجربة الشعرية في الديوان.

غير أن التشكيل الشعري على هذا النحو من استخدام المفردات والتراكيب والصور على قدر ما يعبر عن الخيال المجنح وإفضاء الذات بأسفارها واستشراف الآفاق المجهولة، يعبر في الوقت نفسه عن هروب الذات الحقيقية الواعية بتضاريسها النفسية المحددة من واقعها المادي وانعدام تواصلها مع الآخر بقسماته المحددة، فقد تحول الآخر أيضا إلى رمز تجريدي ذهني يهيم في المطلق، ومن ثم ابتعدت الشاعرة عن مقاربة الأشياء وبقيت أسيرة القوقعة تجتر همومها الذاتية.

لقد كان بإمكان الشاعرة وهي تمتلك هذا الرصيد اللغوي وذلك الخيال الجامح أن تعيش واقعها وتنفعل بما فيه ومن فيه، أو تترك نفسها لفطرتها الطبيعية حيث البراءة والطفولة والانطلاق ومقاربة المكان والزمان، أي تعيش بشعورها لا بفكرها، بقلبها لا بعقلها. وتبدو هذه المشاعر الطفولية البهيجة في قصيدتها "تصور":

أتصور أني طفلة
أمصمص أعواد القصب
أتبسم للقرش الفضي
أداعب دميتي العجفاء
أصمت
أتحدث
أسرد أخباري
أتصور أني لم اشتعل
بثقاب زماني بعد

كما تبدو مشاعر الأنثى بضعفها وحنانها وعطائها في قولها:.

سأعطيك لوني
اغتسل ما شئت بي
اقتسمني
قارورة عطر ليديك
محيطات لذراعيك

لكنها سرعان ما تعود إلى النغمة الشاحبة الحزينة في قصيدة "ذبول":

كبرنا
وشاخت بأعقابنا الأمسيات
ذبلنا على ارتطام المرايا
شحوب التفاصيل
سوس الكلام
ومن وردة في الجين انبعثنا
وفي مبعث الروح صرنا كفن

وهكذا استطاعت الدكتورة زكية مال الله أن تعبر عن عالم الأنثى وأشواقها الذاتية بلغة مجازية مكثفة وصور كميائية توليدية وضعتها في قمة سامقة مع شواعرنا العربيات لأنها صوت شعري مميز في رؤيته وأداته.

 

عبدالفتاح عثمان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات