شعريَّة السرد وأنواعه

شعريَّة السرد وأنواعه

فيمَ‭ ‬تتمثَّل‭ ‬شعريَّة‭ ‬السَّرد،‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬أنواعه؟‭ ‬سؤالان‭ ‬نحاول‭ ‬الإجابة‭ ‬عنهما‭ ‬فيما‭ ‬يأتي‭. ‬السرد‭ ‬قديم‭ ‬قدم‭ ‬الاجتماع‭ ‬الإنساني،‭ ‬بدأ‭ ‬شفوياً،‭ ‬فكانت‭ ‬تُحكى‭ ‬حكايات‭ ‬الأحداث‭ ‬اليومية،‭ ‬ثمّ‭ ‬حكايات‭ ‬الأساطير،‭ ‬والتراتيل،‭ ‬والملاحم،‭ ‬ومختلف‭ ‬أنواع‭ ‬القصِّ‭.‬

وإن‭ ‬اعتمدنا‭ ‬معيار‭ ‬المكوِّن‭ ‬المهيمن‭ ‬في‭ ‬النَّص،‭ ‬معياراً‭ ‬لتحديد‭ ‬النوع‭ ‬السردي،‭ ‬يمكن‭ ‬تصنيف‭ ‬أنواع‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬ستة‭ ‬أنواع‭ ‬كما‭ ‬يأتي‭:‬

1 ‭- ‬السّرد‭ ‬مكوّن‭ ‬من‭ ‬مكوّنات‭ ‬النصّ‭ ‬الشعري‭:‬

يكون‭ ‬السرد،‭ ‬في‭ ‬كثيرٍ‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬الشعرية،‭ ‬مكوّناً‭ ‬من‭ ‬مكوّنات‭ ‬بنية‭ ‬هذه‭ ‬النصوص،‭ ‬ولا‭ ‬يكون‭ ‬المكوّن‭ ‬المهيمن‭. ‬ومن‭ ‬نماذج‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬‮«‬المعلقات‮»‬،‭ ‬فهي‭ ‬تبدأ‭ ‬بطللية‭ ‬سردية‭ ‬في‭ ‬الغالب،‭ ‬وتتضمّن‭ ‬في‭ ‬متنها‭ ‬مقاطع‭ ‬سردية،‭ ‬فالحارث‭ ‬بن‭ ‬حلِّزَة،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬يسرد‭ ‬في‭ ‬معلقته‭ ‬وقائع‭ ‬‮«‬بكر‮»‬‭ ‬و«تغلب‮»‬،‭ ‬ويتغنّى‭ ‬بفوز‭ ‬قومه‭ ‬على‭ ‬أعدائهم،‭ ‬ويصنع‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬كلثوم‭ ‬الصَّنيع‭ ‬نفسه‭. ‬أمّا‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬فروى‭ ‬حكاية‭ ‬عشقه‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معروف،‭ ‬ويقول‭ ‬سليمان‭ ‬البستاني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد‭: ‬‮«‬فالمعلقات‭ ‬إذاً‭ ‬رأس‭ ‬الملاحم‭ ‬العربية،‭ ‬وأقربها‭ ‬إلى‭ ‬منظومات‭ ‬الشعر‭ ‬القصصي،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يراد‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬العرف‮»‬‭.‬

ويضيف‭ ‬البستاني‭ ‬إلى‭ ‬المعلقات‭ ‬المجمهرات‭ ‬ونصوصاً‭ ‬أخرى‭ ‬كثيرة،‭ ‬ويرى‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬النصوص‭ ‬الشعرية‭ ‬تجمع‭ ‬‮«‬بين‭ ‬محاسن‭ ‬الطريقتين‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬جمعت‭ ‬‮«‬إلياذة‭ ‬هوميروس‮»‬‭ ‬بين‭ ‬أطراف‭ ‬المحاسن‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬اليوناني‭.‬

لم‭ ‬يقتصر‭ ‬توظيف‭ ‬السرد‭ ‬في‭ ‬النصِّ‭ ‬الشعري‭ ‬على‭ ‬نماذج‭ ‬محدودة‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬كالمعلقات‭ ‬والمجمهرات،‭ ‬وإنّما‭ ‬شمل‭ ‬معظم‭ ‬نصوص‭ ‬هذا‭ ‬الشعر،‭ ‬فنقرأ‭ ‬مثلاً‭ ‬لابن‭ ‬زيدون‭:‬

أضحى‭ ‬التنائي‭ ‬بديلاً‭ ‬من‭ ‬تدانِينا

ونابَ‭ ‬عن‭ ‬طيبِ‭ ‬لقيانا‭ ‬تجافِينا

وللبحتري‭:‬

صُنْتُ‭ ‬نفسي‭ ‬عمّا‭ ‬يُدَنِّسُ‭ ‬نفسي‭ ‬

وترفَّعْتُ‭ ‬عن‭ ‬جَدا‭ ‬كُلّ‭ ‬جِبْسِ


ولا‭ ‬يخفى‭ ‬انفتاح‭ ‬القصيدة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬على‭ ‬السرد‭.‬

 

الإيقاع‭ ‬النغمي‭ ‬والعروضي

وفي‭ ‬كثيرٍ‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬الشعرية‭ ‬تبلغ‭ ‬درجة‭ ‬توظيف‭ ‬السرد‭ ‬مستوى‭ ‬يجعل‭ ‬المتلقي‭ ‬يلمس‭ ‬تداخل‭ ‬الأنواع‭ ‬الأدبية،‭ ‬ويلحظ‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الأنواع،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬معيار‭ ‬دقيق‭ ‬لتحديد‭ ‬نوع‭ ‬هذه‭ ‬النصوص،‭ ‬فهو‭ ‬العنصر‭ ‬المهيمن‭ ‬‮«‬الإيقاع‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬والحدث‭ ‬والراوي‭ ‬في‭ ‬السرد‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬ابن‭ ‬زيدون‭ ‬للاحظنا‭ ‬أنّ‭ ‬المكوّن‭ ‬المهيمن‭ ‬هو‭ ‬الإيقاع‭ ‬ليس‭ ‬العروضيَّ‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنّما‭ ‬النغمي‭ ‬أيضاً،‭ ‬فنلحظ‭ ‬تكرار‭ ‬أصوات‭ ‬المد‭ ‬عشر‭ ‬مرّات،‭ ‬والنون‭ ‬ثماني‭ ‬مرّات‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬الياء‭ ‬والتاء‭ ‬ثلاث‭ ‬مرّات،‭ ‬ونلحظ‭ ‬كذلك‭ ‬إيقاع‭ ‬القافية‭ ‬الذي‭ ‬يطّرد‭ ‬بانتظام‭ ‬كأنّه‭ ‬صرخة‭ ‬المعاني‭ ‬من‭ ‬التنائي‭ ‬البديل‭ ‬من‭ ‬التداني،‭ ‬وهو‭ ‬الفضاء‭ ‬الكلّي‭ ‬للقصيدة‭. ‬

2 ‭- ‬تقاسم‭ ‬النّص‭... ‬سرد‭ ‬منثور‭ ‬وشعر‭ ‬موزون‭:‬

وصل‭ ‬تطوّر‭ ‬الشكل‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬تشكيل‭ ‬نص‭ ‬أدبي‭ ‬يتقاسم‭ ‬فيه‭ ‬السرد،‭ ‬المولّد‭ ‬للأثر‭ ‬الكلِّي‭ ‬المنثور‭ ‬والشعر‭ ‬والموزون‭ ‬الأبيات،‭ ‬فيكون‭ ‬صدر‭ ‬البيت‭ ‬سرداً‭ ‬منثوراً،‭ ‬وعجزه‭ ‬شعراً‭ ‬موزوناً،‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬ابتدعه‭ ‬القاضي‭ ‬الفاضل‭. ‬عنوان‭ ‬النص‭ ‬هو‭: ‬‮«‬الكتاب‮»‬‭. ‬يروي‭ ‬السرد‭ ‬حكاية‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬وتتتالى‭ ‬وحدات‭ ‬الحكاية‭ ‬كما‭ ‬يأتي‭: ‬وصول‭ ‬كتاب‭ ‬الأمير‭ ‬واستقراره‭ ‬لديه،‭ ‬وقراءته‭ ‬له،‭ ‬وسؤاله‭ ‬إياه،‭ ‬وسؤاله،‭ ‬وعدم‭ ‬ردّه‭ ‬وترديده،‭ ‬وحفظه،‭ ‬وتكراره،‭ ‬وتقبيله،‭ ‬والقيام‭ ‬له،‭ ‬والإخلاص‭ ‬لكاتبه،‭ ‬وعدم‭ ‬تصديقه،‭ ‬وتأريخ‭ ‬وصوله،‭ ‬وشفائه‭ ‬الغليل،‭ ‬ومداواته‭ ‬العليل،‭ ‬وتذكر‭ ‬الأيام‭ ‬والليالي‭ ‬العذاب،‭ ‬وإرسال‭ ‬الزفرة‭ ‬وإسالة‭ ‬العبرة،‭ ‬وحصب‭ ‬السلوة،‭ ‬وتقديم‭ ‬واجب‭ ‬الشكر‭. ‬

 

إيقاع‭ ‬القافية

الحكاية‭ ‬بسيطة،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬لغتها‭ ‬أي‭ ‬انزياح،‭ ‬لكن‭ ‬الانزياح‭ ‬يتوافر‭ ‬بكثرة‭ ‬في‭ ‬الأعجاز‭ ‬الموزونة‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬المستويات‭: ‬الإيقاعي‭ ‬والمعجمي‭ ‬والتركيبي‭ ‬والبلاغي‭ ‬والدلالي،‭ ‬فلو‭ ‬قرأنا‭ ‬البيت‭ ‬الأوّل،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭:‬

وصل‭ ‬كتاب‭ ‬مولايا‭ ‬بعدما

أصات‭ ‬المنادي‭ ‬للصلاة‭ ‬فأعتما

للاحظنا،‭ ‬أوّلاً،‭ ‬أنّ‭ ‬الصدر‭ ‬يحدّد‭ ‬زمن‭ ‬وصول‭ ‬الكتاب،‭ ‬وهو‭ ‬تحديد‭ ‬يكوِّن‭ ‬فضاءً‭ ‬دلالياً‭: ‬صوت‭ ‬المؤذن،‭ ‬قدوم‭ ‬المصلين،‭ ‬التهيؤ‭ ‬للصلاة،‭ ‬بدء‭ ‬حلول‭ ‬العتمة‭... ‬مفاده‭ ‬أنّ‭ ‬متلِّقي‭ ‬الكتاب‭ ‬يعنى‭ ‬به،‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬النداء‭ ‬للصلاة،‭ ‬وعتمة‭ ‬الليل،‭ ‬وثانياً،‭ ‬وجود‭ ‬الانزياحين‭ ‬العروضي‭ ‬والنغمي‭ ‬في‭ ‬العجز،‭ ‬فصوت‭ ‬المدِّ‭ ‬يتكرر‭ ‬خمس‭ ‬مرّات،‭ ‬كأنّه‭ ‬تلبية‭ ‬نداء،‭ ‬يؤكد‭ ‬ذلك‭ ‬إيقاع‭ ‬القافية‭ ‬‮«‬ما‮»‬‭. ‬يبدو‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬التجربة،‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬علمي،‭ ‬لم‭ ‬تتكرَّر‭ ‬ولم‭ ‬تشكِل‭ ‬ظاهرة‭ ‬أدبيّة‭.‬

3 ‭- ‬السرد‭ ‬الشعري‭:‬

يكون‭ ‬السرد،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬الأدبي،‭ ‬هو‭ ‬المكوّن‭ ‬المهيمن‭ ‬من‭ ‬نحو‭ ‬أوّل،‭ ‬ويتَّصف‭ ‬بخصائص‭ ‬شعرية‭ ‬من‭ ‬نحو‭ ‬ثان،‭ ‬أي‭ ‬بانزياحات‭ ‬لغوية‭ ‬جمالية‭ ‬دلالية‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬مستوى‭. ‬

ويكتسب‭ ‬السرد‭ ‬المنثور‭ ‬شعريةً،‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬سرداً‭ ‬ذاتياً‭ ‬انفعالياً‭ ‬يحوّل‭ ‬القصة‭ ‬إلى‭ ‬نصٍّ‭ ‬غنائي؛‭ ‬حيث‭ ‬يتغنّى‭ ‬الشاعر‭ ‬بحالته‭ ‬الوجدانية،‭ ‬ويترك‭ ‬للذات‭ ‬أن‭ ‬تنشد،‭ ‬مصوِّرة‭ ‬علاقتها‭ ‬بـ«الأنا‮»‬‭ ‬والآخر‭ ‬والعالم‭. ‬نصوص‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬كثيرة،‭ ‬منها‭ ‬‮«‬رواية‭ ‬الفارس‭ ‬القتيل‭ ‬يترجل‮»‬،‭ ‬لإلياس‭ ‬الدَّيري‭.‬

ومن‭ ‬النّصوص‭ ‬التي‭ ‬أثارت‭ ‬جدلاً‭ ‬في‭ ‬تصنيفها‭ ‬ما‭ ‬كتبه‭ ‬محمد‭ ‬الماغوط،‭ ‬فقد‭ ‬سمَّى‭ ‬بعضهم‭ ‬هذه‭ ‬النُّصوص،‭ ‬قصيدة‭ ‬نثر،‭ ‬ورأى‭ ‬بعض‭ ‬آخر‭ ‬أنّ‭ ‬عناصر‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة،‭ ‬كما‭ ‬نُظّر‭ ‬لها،‭ ‬لا‭ ‬تتوافر‭ ‬فيها،‭ ‬كما‭ ‬رأى‭ ‬بعض‭ ‬ثالث‭ ‬أنّ‭ ‬المكوِّن‭ ‬المهيمن،‭ ‬وهو‭ ‬الإيقاع‭ ‬بنوعيه،‭ ‬غير‭ ‬متوافر‭ ‬فيها،‭ ‬ولهذا‭ ‬عدَّه‭ ‬شعراً‭ ‬منثوراً،‭ ‬وإن‭ ‬تكن‭ ‬لغته‭ ‬سردية‭ ‬يكن‭ ‬شعراً‭ ‬سردياً،‭ ‬وفيما‭ ‬يأتي‭ ‬أنموذج‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬السرد‭.‬

‮«‬إنَّني‭ ‬مع‭ ‬أوّل‭ ‬عاصفةٍ‭ ‬تهب‭ ‬على‭ ‬الوطن‭/ ‬سأصعد‭ ‬إحدى‭ ‬التلال‭/ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭/‬وأقذف‭ ‬سيفي‭ ‬إلى‭ ‬قبضة‭ ‬طارق‭/ ‬ورأسي‭ ‬إلى‭ ‬صدر‭ ‬الخنساء‭/ ‬وقلمي‭ ‬إلى‭ ‬أصابع‭ ‬المتنبي‭/ ‬وأجلس‭ ‬عارياً‭ ‬كالشجرة‭ ‬في‭ ‬الشتاء‭/ ‬حتّى‭ ‬أعرف‭ ‬متى‭ ‬تنبت‭ ‬لنا‭/ ‬أهداب‭ ‬جديدة،‭ ‬ودموع‭ ‬جديدة‭/ ‬في‭ ‬الربيع‮»‬‭.‬

الواضح،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النَّص،‭ ‬الانزياح‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬واستحضار‭ ‬شخصيات‭ ‬منه‭ ‬تمثّل‭ ‬رموزاً،‭ ‬وتوظيفها‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬الدَّلالة‭.‬

4 ‭- ‬السَّرد‭ ‬المنظوم‭:‬

يقتصر‭ ‬الانزياح،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النّوع‭ ‬السّردي،‭ ‬على‭ ‬عنصري‭ ‬الوزن‭ ‬والقافية،‭ ‬والوزن‭ ‬المعني‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬الوزن‭ ‬الخليلي،‭ ‬والمعتمد‭ ‬هو‭ ‬بحر‭ ‬الرَّجز،‭ ‬وتشكيل‭ ‬المثنوي،‭ ‬أو‭ ‬الرباعي،‭ ‬والنَّظم‭ ‬يؤدي‭ ‬وظيفة‭ ‬تسهيل‭ ‬حفظ‭ ‬القصص،‭ ‬وقد‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬فقد‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬خصائص‭ ‬الشعرية‭ ‬السردية‭. ‬ومن‭ ‬نماذج‭ ‬ذلك‭ ‬منظومة‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬‭ ‬لأبان‭ ‬بن‭ ‬عبدالحميد‭ ‬اللاحقي،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الموالي،‭ ‬فكتُبُ‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬تذكر‭ ‬أنّه‭ ‬نقل‭ ‬للبرامكة‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬،‭ ‬فجعله‭ ‬شعراً‭ ‬في‭ ‬أربعة‭ ‬عشر‭ ‬ألف‭ ‬بيت،‭ ‬ليسهل‭ ‬عليهم‭ ‬حفظه،‭ ‬وهو‭ ‬معروف،‭ ‬أوَّله‭:‬

هذا‭ ‬كتابُ‭ ‬أدبٍ‭ ‬ومحنه

وهو‭ ‬الذي‭ ‬يُدعى‭ ‬كليلَه‭ ‬دِمنه

فيهِ‭ ‬احتيالاتٌ‭ ‬وفيه‭ ‬رشدُ

وهوَ‭ ‬كتابٌ‭ ‬وَضَعتْه‭ ‬الهندُ

فوصفوا‭ ‬آداب‭ ‬كلِّ‭ ‬عالم

حكاية‭ ‬عن‭ ‬ألسن‭ ‬البهائم

يبدو‭ ‬واضحاً‭ ‬أنّه‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬النماذج‭ ‬من‭ ‬الشعرية‭ ‬سوى‭ ‬النظم،‭ ‬أو‭ ‬الإيقاع‭ ‬العروضي،‭ ‬ويمكن‭ ‬القول‭ ‬إنّ‭ ‬في‭ ‬أصل‭ ‬الحكاية‭ ‬النثري،‭ ‬من‭ ‬الشعرية‭ ‬أكثر‭ ‬ممّا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النظم،‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬السرد‭ ‬النثري‭ ‬الحكائي،‭ ‬في‭ ‬‮«‬كليلة‭ ‬ودمنة‮»‬،‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحاً‭ ‬وسهولة‭ ‬وإبلاغاً‭ ‬وجمالاً‭.‬

وعمل‭ ‬أيضاً‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬ذكر‭ ‬فيها‭ ‬مبدأ‭ ‬الخلق‭ ‬وأمر‭ ‬الدنيا‭ ‬وشيئاً‭ ‬من‭ ‬المنطق،‭ ‬وسمّاها‭ ‬‮«‬ذات‭ ‬الحلل‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬ينسبها‭ ‬إلى‭ ‬أبي‭ ‬العتاهية،‭ ‬والصحيح‭ ‬أنّها‭ ‬لأبان‭.‬

واللافت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬السرد‭ ‬أنّ‭ ‬شاعراً‭ ‬كبيراً‭ ‬مثل‭ ‬الخليفة‭ ‬العبّاسي‭ ‬ابن‭ ‬المعتز،‭ ‬المعروف‭ ‬بولعه‭ ‬بالانزياحات‭ ‬الشعرية،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬الصّور‭ ‬الشعرية‭ ‬المبتكرة،‭ ‬اكتفى‭ ‬في‭ ‬منظوماته‭ ‬السّردية‭ ‬بالسّرد‭ ‬المنظوم‭.‬

ومن‭ ‬نماذج‭ ‬ذلك‭: ‬أرجوزة‭ ‬بالغة‭ ‬الطول‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬أربعمائة‭ ‬وثمانية‭ ‬عشر‭ ‬بيتاً،‭ ‬سرد‭ ‬فيها‭ ‬تاريخ‭ ‬بني‭ ‬العباس،‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬الرسول‭ [ ‬حتّى‭ ‬الخليفة‭ ‬المعتضد،‭ ‬وسجَّل‭ ‬فيها‭ ‬التاريخ‭ ‬السياسي‭ ‬الاجتماعي‭ ‬للعصر‭ ‬العباسي،‭ ‬نقتطف‭ ‬منها‭ ‬هذه‭ ‬الأبيات‭ ‬التي‭ ‬وصف‭ ‬فيها‭ ‬حادثة‭ ‬ظلم،‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬شخص‭ ‬اعتُقِل‭ ‬وعُذِّب،‭ ‬قال‭:‬

قالَ‭ ‬ائذنوا‭ ‬لي‭ ‬أسأل‭ ‬التجارا

قرضاً،‭ ‬وإلاّ‭ ‬بعتُهم‭ ‬عقارا

وأجِّلوني‭ ‬خمسةً‭ ‬أياماً

وطوَّقوني‭ ‬منكم‭ ‬إنعاماً

فضايقوا‭ ‬وجعلوها‭ ‬أربعه

ولم‭ ‬يؤمل‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬منفعه

5 ‭- ‬السرد‭ ‬الشعري‭:‬

يشمل‭ ‬الانزياح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬السردي‭ ‬البنية‭ ‬السردية‭ ‬الشعرية‭ ‬وعناصرها‭ ‬المكوّنة‭ ‬لها‭: ‬إيقاع،‭ ‬معجم،‭ ‬تركيب،‭ ‬بلاغة،‭ ‬دلالة،‭ ‬أو‭ ‬معظم‭ ‬هذه‭ ‬العناصر،‭ ‬شريطة‭ ‬توافر‭ ‬الإيقاعين‭: ‬الوزني‭ - ‬وليس‭ ‬العروضي‭ ‬حكماً‭ - ‬والنغمي‭. ‬وتختلف‭ ‬درجة‭ ‬شعرية‭ ‬النص‭ ‬السردي‭ ‬هذا‭ ‬باختلاف‭ ‬درجة‭ ‬الانزياح،‭ ‬وفاعلية‭ ‬توظيفه‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬البنية‭ ‬اللغوية‭ ‬الجمالية‭ ‬الدلالية‭.‬

ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نتبين‭ ‬الاختلاف‭ ‬بين‭ ‬السرد‭ ‬المنظوم‭ ‬والسرد‭ ‬الشعري،‭ ‬إن‭ ‬قرأنا‭ ‬نصّاً‭ ‬من‭ ‬السرد‭ ‬الشعري‭ ‬لابن‭ ‬المعتز،‭ ‬وقارنّاه‭ ‬بالنص‭ ‬الذي‭ ‬قرأناه‭ ‬لدى‭ ‬حديثنا‭ ‬عن‭ ‬السرد‭ ‬المنظوم‭ ‬للشَّاعر‭ ‬نفسه‭. ‬يقول‭ ‬ابن‭ ‬المعتز‭:‬

لمّا‭ ‬تعرَّى‭ ‬الأفقُ‭ ‬بالضِّياء

مثل‭ ‬ابتسام‭ ‬الشَّفة‭ ‬اللمياء

وشمطت‭ ‬ذوائب‭ ‬الظَّلماء

وهمَّ‭ ‬نجم‭ ‬الليل‭ ‬بالإغفاء

قدنا‭ ‬بعين‭ ‬الوحش‭ ‬والظِّباء

داهية‭ ‬محذورة‭ ‬اللقـــــاء

 

فضاء‭ ‬زمني‭ ‬ومكاني

ولا‭ ‬يخفى‭ ‬ما‭ ‬يتميز‭ ‬به‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬من‭ ‬انزياحات‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الصورة‭ ‬الشعرية،‭ ‬فتعري‭ ‬الأفق‭ ‬بالضياء،‭ ‬خلق‭ ‬الفضاء‭ ‬الزمني‭ ‬المكاني‭ ‬ودلالته‭ ‬وتشبيهه‭ ‬بالشفة‭ ‬اللمياء،‭ ‬وشموط‭ ‬بقايا‭ ‬الظلام‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬الفضاء‭ ‬الزمني‭ ‬المكاني‭ ‬ودلالته‭. ‬وإغفاءة‭ ‬النجم‭ ‬التي‭ ‬هم‭ ‬بها‭ ‬والتي‭ ‬توحي‭ ‬بمسكوت‭ ‬عنه‭ ‬هو‭ ‬يقظة‭ ‬الصياد،‭ ‬ما‭ ‬يركِّب‭ ‬ثنائية‭ ‬إغفاءة‭ ‬نجم‭/ ‬يقظة‭ ‬نجم،‭ ‬وتفضي‭ ‬هذه‭ ‬اليقظة‭ ‬إلى‭ ‬الخروج‭ ‬إلى‭ ‬تحقيق‭ ‬الهدف،‭ ‬وهو‭ ‬خروج‭ ‬قائد‭ ‬يقود‭ ‬العامل‭ ‬المساعد‭ ‬وهو‭ ‬الداهية‭ ‬محذورة‭ ‬اللقاء‭. ‬فإن‭ ‬يكن‭ ‬المساعد‭ ‬هكذا،‭ ‬فكيف‭ ‬بقائده؟‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬تعظيم‭ ‬للذات‭ ‬الخارجة‭ ‬إلى‭ ‬صيد‭ ‬العين‭ ‬والظباء،‭ ‬وهنا‭ ‬قد‭ ‬نحتمل‭ ‬وجود‭ ‬الرَّمز‭ ‬الدال‭ ‬على‭ ‬عين‭ ‬وظباء‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬البال‭.‬

ونماذج‭ ‬السرد‭ ‬الشعري‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬كثيرة،‭ ‬وقد‭ ‬اكتفينا‭ ‬بتقديم‭ ‬أنموذج‭ ‬منها،‭ ‬ومن‭ ‬الأدلة‭ ‬التي‭ ‬تفيد‭ ‬باحتفاء‭ ‬النقد‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬بهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬قبولهم‭ ‬خروجه‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭ ‬من‭ ‬مبادئ‭ ‬الشعرية‭ ‬العربية‭ ‬القديمة،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬من‭ ‬أبيات‭ ‬القصيدة‭ ‬قائماً‭ ‬بنفسه‭. ‬يقول‭ ‬ابن‭ ‬رشيق‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭:‬

‮«‬يستحسن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬قائماً‭ ‬بنفسه‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبله،‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بعده،‭ ‬وما‭ ‬سوى‭ ‬ذلك‭ ‬فهو‭ ‬تقصير‭ ‬إلاّ‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬معروفة‭ ‬كالحكايات‭ ‬وما‭ ‬شاكلها،‭ ‬فإنّ‭ ‬اللفظ‭ ‬على‭ ‬اللفظ‭ ‬أجود‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬السرد‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث‭ ‬غدا‭ ‬السرد‭ ‬الشعري‭ ‬ظاهرة،‭ ‬من‭ ‬نماذجها‭ ‬الجيِّدة‭ ‬قصيدة‭ ‬صلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬المعروفة‭: ‬‮«‬شنق‭ ‬زهران‮»‬،‭ ‬نذكر‭ ‬منها‭:‬

كان‭ ‬زهران‭ ‬غلاماً

أمّه‭ ‬سمراء،‭ ‬والأب‭ ‬مولّد

مرّ‭ ‬زهران‭ ‬بظهر‭ ‬السوق‭ ‬يوماً

واشترى‭ ‬شالاً‭ ‬منمنمْ

ومشى‭ ‬يختال‭ ‬عجباً،‭ ‬مثل‭ ‬تركي‭ ‬معمّمْ

6 ‭- ‬السّرد‭ ‬النّثري‭ - ‬القصصي‭:‬

يكاد‭ ‬أسلوب‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬السّرد‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الانزياحات‭ ‬الأسلوبية‭: ‬الصوتية‭ ‬والمعجميّة‭ ‬والتركيبيّة‭ ‬والبلاغية،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬فلا‭ ‬يكون‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬يتحوّل‭ ‬بالسرد‭ ‬النثري‭ ‬إلى‭ ‬السرد‭ ‬الشعري‭.‬

وتتشكّل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬السَّرد‭ ‬بنية‭ ‬سردية‭ ‬قصصيّة‭ ‬تتمثل‭ ‬الشـعرية‭ ‬فيــها‭ ‬في‭ ‬انــزياح‭ ‬بنيتها‭ ‬الكليّة‭ ‬لتؤدّي‭ ‬دلالة‭ ‬كليّة‭ ‬احتمالية،‭ ‬وينتج‭ ‬هذا‭ ‬الانزياح‭ ‬الكلّي‭ ‬عن‭ ‬تعاضد‭ ‬انزياحات‭ ‬مكوّناتها‭ ‬القصصية‭: ‬نظام‭ ‬ظهور‭ ‬الوحدات‭ ‬السردية،‭ ‬والشخصيات‭ ‬والفضاء‭: ‬النصّي‭ ‬والزماني‭ ‬والمكاني،‭ ‬والمنظور‭ ‬القصصي،‭ ‬وتشكيلها‭ ‬تلك‭ ‬البنية‭ ‬الكلية‭ ‬ذات‭ ‬الأثر‭ ‬الكليّ‭ ‬الجمالي‭ ‬الدلالي‭■