شعريَّة السرد وأنواعه

فيمَ تتمثَّل شعريَّة السَّرد، وما هي أنواعه؟ سؤالان نحاول الإجابة عنهما فيما يأتي. السرد قديم قدم الاجتماع الإنساني، بدأ شفوياً، فكانت تُحكى حكايات الأحداث اليومية، ثمّ حكايات الأساطير، والتراتيل، والملاحم، ومختلف أنواع القصِّ.
وإن اعتمدنا معيار المكوِّن المهيمن في النَّص، معياراً لتحديد النوع السردي، يمكن تصنيف أنواع السرد في ستة أنواع كما يأتي:
1 - السّرد مكوّن من مكوّنات النصّ الشعري:
يكون السرد، في كثيرٍ من النصوص الشعرية، مكوّناً من مكوّنات بنية هذه النصوص، ولا يكون المكوّن المهيمن. ومن نماذج هذه النصوص «المعلقات»، فهي تبدأ بطللية سردية في الغالب، وتتضمّن في متنها مقاطع سردية، فالحارث بن حلِّزَة، على سبيل المثال، يسرد في معلقته وقائع «بكر» و«تغلب»، ويتغنّى بفوز قومه على أعدائهم، ويصنع عمرو بن كلثوم الصَّنيع نفسه. أمّا امرؤ القيس فروى حكاية عشقه كما هو معروف، ويقول سليمان البستاني في هذا الصدد: «فالمعلقات إذاً رأس الملاحم العربية، وأقربها إلى منظومات الشعر القصصي، على ما يراد به في العرف».
ويضيف البستاني إلى المعلقات المجمهرات ونصوصاً أخرى كثيرة، ويرى أنّ هذه النصوص الشعرية تجمع «بين محاسن الطريقتين في الشعر العربي»، كما جمعت «إلياذة هوميروس» بين أطراف المحاسن في الشعر اليوناني.
لم يقتصر توظيف السرد في النصِّ الشعري على نماذج محدودة من الشعر العربي كالمعلقات والمجمهرات، وإنّما شمل معظم نصوص هذا الشعر، فنقرأ مثلاً لابن زيدون:
أضحى التنائي بديلاً من تدانِينا
ونابَ عن طيبِ لقيانا تجافِينا
وللبحتري:
صُنْتُ نفسي عمّا يُدَنِّسُ نفسي
وترفَّعْتُ عن جَدا كُلّ جِبْسِ
ولا يخفى انفتاح القصيدة العربية الحديثة على السرد.
الإيقاع النغمي والعروضي
وفي كثيرٍ من النصوص الشعرية تبلغ درجة توظيف السرد مستوى يجعل المتلقي يلمس تداخل الأنواع الأدبية، ويلحظ التفاعل بين هذه الأنواع، وإن كان من معيار دقيق لتحديد نوع هذه النصوص، فهو العنصر المهيمن «الإيقاع في الشعر، والحدث والراوي في السرد»، فإن نظرنا إلى بيت ابن زيدون للاحظنا أنّ المكوّن المهيمن هو الإيقاع ليس العروضيَّ فحسب، وإنّما النغمي أيضاً، فنلحظ تكرار أصوات المد عشر مرّات، والنون ثماني مرّات وكل من الياء والتاء ثلاث مرّات، ونلحظ كذلك إيقاع القافية الذي يطّرد بانتظام كأنّه صرخة المعاني من التنائي البديل من التداني، وهو الفضاء الكلّي للقصيدة.
2 - تقاسم النّص... سرد منثور وشعر موزون:
وصل تطوّر الشكل الشعري في تاريخ الشعر العربي إلى تشكيل نص أدبي يتقاسم فيه السرد، المولّد للأثر الكلِّي المنثور والشعر والموزون الأبيات، فيكون صدر البيت سرداً منثوراً، وعجزه شعراً موزوناً، هذا الشكل ابتدعه القاضي الفاضل. عنوان النص هو: «الكتاب». يروي السرد حكاية هذا الكتاب، وتتتالى وحدات الحكاية كما يأتي: وصول كتاب الأمير واستقراره لديه، وقراءته له، وسؤاله إياه، وسؤاله، وعدم ردّه وترديده، وحفظه، وتكراره، وتقبيله، والقيام له، والإخلاص لكاتبه، وعدم تصديقه، وتأريخ وصوله، وشفائه الغليل، ومداواته العليل، وتذكر الأيام والليالي العذاب، وإرسال الزفرة وإسالة العبرة، وحصب السلوة، وتقديم واجب الشكر.
إيقاع القافية
الحكاية بسيطة، وليس في لغتها أي انزياح، لكن الانزياح يتوافر بكثرة في الأعجاز الموزونة على مختلف المستويات: الإيقاعي والمعجمي والتركيبي والبلاغي والدلالي، فلو قرأنا البيت الأوّل، على سبيل المثال:
وصل كتاب مولايا بعدما
أصات المنادي للصلاة فأعتما
للاحظنا، أوّلاً، أنّ الصدر يحدّد زمن وصول الكتاب، وهو تحديد يكوِّن فضاءً دلالياً: صوت المؤذن، قدوم المصلين، التهيؤ للصلاة، بدء حلول العتمة... مفاده أنّ متلِّقي الكتاب يعنى به، في وقت النداء للصلاة، وعتمة الليل، وثانياً، وجود الانزياحين العروضي والنغمي في العجز، فصوت المدِّ يتكرر خمس مرّات، كأنّه تلبية نداء، يؤكد ذلك إيقاع القافية «ما». يبدو أنّ هذه التجربة، في حدود علمي، لم تتكرَّر ولم تشكِل ظاهرة أدبيّة.
3 - السرد الشعري:
يكون السرد، في هذا النوع الأدبي، هو المكوّن المهيمن من نحو أوّل، ويتَّصف بخصائص شعرية من نحو ثان، أي بانزياحات لغوية جمالية دلالية على غير مستوى.
ويكتسب السرد المنثور شعريةً، إن كان سرداً ذاتياً انفعالياً يحوّل القصة إلى نصٍّ غنائي؛ حيث يتغنّى الشاعر بحالته الوجدانية، ويترك للذات أن تنشد، مصوِّرة علاقتها بـ«الأنا» والآخر والعالم. نصوص هذا النوع كثيرة، منها «رواية الفارس القتيل يترجل»، لإلياس الدَّيري.
ومن النّصوص التي أثارت جدلاً في تصنيفها ما كتبه محمد الماغوط، فقد سمَّى بعضهم هذه النُّصوص، قصيدة نثر، ورأى بعض آخر أنّ عناصر هذه القصيدة، كما نُظّر لها، لا تتوافر فيها، كما رأى بعض ثالث أنّ المكوِّن المهيمن، وهو الإيقاع بنوعيه، غير متوافر فيها، ولهذا عدَّه شعراً منثوراً، وإن تكن لغته سردية يكن شعراً سردياً، وفيما يأتي أنموذج من هذا السرد.
«إنَّني مع أوّل عاصفةٍ تهب على الوطن/ سأصعد إحدى التلال/ القريبة من التاريخ/وأقذف سيفي إلى قبضة طارق/ ورأسي إلى صدر الخنساء/ وقلمي إلى أصابع المتنبي/ وأجلس عارياً كالشجرة في الشتاء/ حتّى أعرف متى تنبت لنا/ أهداب جديدة، ودموع جديدة/ في الربيع».
الواضح، في هذا النَّص، الانزياح إلى التاريخ واستحضار شخصيات منه تمثّل رموزاً، وتوظيفها في أداء الدَّلالة.
4 - السَّرد المنظوم:
يقتصر الانزياح، في هذا النّوع السّردي، على عنصري الوزن والقافية، والوزن المعني هنا هو الوزن الخليلي، والمعتمد هو بحر الرَّجز، وتشكيل المثنوي، أو الرباعي، والنَّظم يؤدي وظيفة تسهيل حفظ القصص، وقد يفضي إلى فقد كثير من خصائص الشعرية السردية. ومن نماذج ذلك منظومة «كليلة ودمنة» لأبان بن عبدالحميد اللاحقي، وهو من الشعراء الموالي، فكتُبُ تاريخ الأدب تذكر أنّه نقل للبرامكة كتاب «كليلة ودمنة»، فجعله شعراً في أربعة عشر ألف بيت، ليسهل عليهم حفظه، وهو معروف، أوَّله:
هذا كتابُ أدبٍ ومحنه
وهو الذي يُدعى كليلَه دِمنه
فيهِ احتيالاتٌ وفيه رشدُ
وهوَ كتابٌ وَضَعتْه الهندُ
فوصفوا آداب كلِّ عالم
حكاية عن ألسن البهائم
يبدو واضحاً أنّه ليس في هذه النماذج من الشعرية سوى النظم، أو الإيقاع العروضي، ويمكن القول إنّ في أصل الحكاية النثري، من الشعرية أكثر ممّا في هذا النظم، علاوة على أنّ السرد النثري الحكائي، في «كليلة ودمنة»، كان أكثر وضوحاً وسهولة وإبلاغاً وجمالاً.
وعمل أيضاً القصيدة التي ذكر فيها مبدأ الخلق وأمر الدنيا وشيئاً من المنطق، وسمّاها «ذات الحلل»، ومن الناس من ينسبها إلى أبي العتاهية، والصحيح أنّها لأبان.
واللافت في هذا النوع من السرد أنّ شاعراً كبيراً مثل الخليفة العبّاسي ابن المعتز، المعروف بولعه بالانزياحات الشعرية، وخصوصاً الصّور الشعرية المبتكرة، اكتفى في منظوماته السّردية بالسّرد المنظوم.
ومن نماذج ذلك: أرجوزة بالغة الطول تصل إلى أربعمائة وثمانية عشر بيتاً، سرد فيها تاريخ بني العباس، منذ عهد الرسول [ حتّى الخليفة المعتضد، وسجَّل فيها التاريخ السياسي الاجتماعي للعصر العباسي، نقتطف منها هذه الأبيات التي وصف فيها حادثة ظلم، على لسان شخص اعتُقِل وعُذِّب، قال:
قالَ ائذنوا لي أسأل التجارا
قرضاً، وإلاّ بعتُهم عقارا
وأجِّلوني خمسةً أياماً
وطوَّقوني منكم إنعاماً
فضايقوا وجعلوها أربعه
ولم يؤمل في الكلام منفعه
5 - السرد الشعري:
يشمل الانزياح في هذا النوع السردي البنية السردية الشعرية وعناصرها المكوّنة لها: إيقاع، معجم، تركيب، بلاغة، دلالة، أو معظم هذه العناصر، شريطة توافر الإيقاعين: الوزني - وليس العروضي حكماً - والنغمي. وتختلف درجة شعرية النص السردي هذا باختلاف درجة الانزياح، وفاعلية توظيفه في تشكيل البنية اللغوية الجمالية الدلالية.
ويمكن أن نتبين الاختلاف بين السرد المنظوم والسرد الشعري، إن قرأنا نصّاً من السرد الشعري لابن المعتز، وقارنّاه بالنص الذي قرأناه لدى حديثنا عن السرد المنظوم للشَّاعر نفسه. يقول ابن المعتز:
لمّا تعرَّى الأفقُ بالضِّياء
مثل ابتسام الشَّفة اللمياء
وشمطت ذوائب الظَّلماء
وهمَّ نجم الليل بالإغفاء
قدنا بعين الوحش والظِّباء
داهية محذورة اللقـــــاء
فضاء زمني ومكاني
ولا يخفى ما يتميز به هذا النص من انزياحات على مستوى الصورة الشعرية، فتعري الأفق بالضياء، خلق الفضاء الزمني المكاني ودلالته وتشبيهه بالشفة اللمياء، وشموط بقايا الظلام أسهم في تشكيل الفضاء الزمني المكاني ودلالته. وإغفاءة النجم التي هم بها والتي توحي بمسكوت عنه هو يقظة الصياد، ما يركِّب ثنائية إغفاءة نجم/ يقظة نجم، وتفضي هذه اليقظة إلى الخروج إلى تحقيق الهدف، وهو خروج قائد يقود العامل المساعد وهو الداهية محذورة اللقاء. فإن يكن المساعد هكذا، فكيف بقائده؟ وفي هذا تعظيم للذات الخارجة إلى صيد العين والظباء، وهنا قد نحتمل وجود الرَّمز الدال على عين وظباء أخرى في البال.
ونماذج السرد الشعري في الشعر العربي القديم كثيرة، وقد اكتفينا بتقديم أنموذج منها، ومن الأدلة التي تفيد باحتفاء النقد العربي القديم بهذا النوع من الشعر، قبولهم خروجه على مبدأ من مبادئ الشعرية العربية القديمة، وهو أن يكون كل بيت من أبيات القصيدة قائماً بنفسه. يقول ابن رشيق في هذا الشأن:
«يستحسن أن يكون كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله، ولا إلى ما بعده، وما سوى ذلك فهو تقصير إلاّ في مواضع معروفة كالحكايات وما شاكلها، فإنّ اللفظ على اللفظ أجود هناك من جهة السرد».
وفي الشعر الحديث غدا السرد الشعري ظاهرة، من نماذجها الجيِّدة قصيدة صلاح عبدالصبور المعروفة: «شنق زهران»، نذكر منها:
كان زهران غلاماً
أمّه سمراء، والأب مولّد
مرّ زهران بظهر السوق يوماً
واشترى شالاً منمنمْ
ومشى يختال عجباً، مثل تركي معمّمْ
6 - السّرد النّثري - القصصي:
يكاد أسلوب هذا النوع من السّرد يخلو من الانزياحات الأسلوبية: الصوتية والمعجميّة والتركيبيّة والبلاغية، وإن كان فلا يكون بالقدر الذي يتحوّل بالسرد النثري إلى السرد الشعري.
وتتشكّل في هذا النوع من السَّرد بنية سردية قصصيّة تتمثل الشـعرية فيــها في انــزياح بنيتها الكليّة لتؤدّي دلالة كليّة احتمالية، وينتج هذا الانزياح الكلّي عن تعاضد انزياحات مكوّناتها القصصية: نظام ظهور الوحدات السردية، والشخصيات والفضاء: النصّي والزماني والمكاني، والمنظور القصصي، وتشكيلها تلك البنية الكلية ذات الأثر الكليّ الجمالي الدلالي■