مي منسّى روائيّة الوجع الإنساني

مي منسّى روائيّة الوجع الإنساني

في العشرين من يوليو عام 1939 أبصرَتْ النور الروائية اللبنانية مي منسّى في بيروت، وفي التاسع عشر من يناير 2019 أغمضَتْ عينيها عن ثمانين عامًا، هي حياتها الحافلة بالوجع والإبداع، على ما بين الاثنين من علاقة شبه عضوية، مارسَتْ فيها حضورها الإبداعي في عدد من الحقول المعرفية، وكانت لها بصمتها المتفرّدة في كلّ حقل، بدءًا من الإعلام، مرورًا بالنقد الأدبي والفني، وصولاً إلى الرواية، على أن حضورها في هذا الحقل الأخير  هو الأكثر سطوعاً والأبقى.

‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1959،‭ ‬تعاطَتْ‭ ‬مي‭ ‬منسّى‭ ‬العمل‭ ‬الإعلامي‭ ‬التلفزيوني‭ ‬بانضمامها‭ ‬إلى‭ ‬تلفزيون‭ ‬لبنان‭ ‬مذيعةً‭ ‬ومعــــدّة‭ ‬برامج،‭ ‬حتـــــى‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تــــــاقَتْ‭ ‬إلى‭ ‬مدى‭ ‬أرحب‭ ‬لجناحيها،‭ ‬لبّت‭ ‬دعوة‭ ‬غسان‭ ‬تويني‭ ‬لها،‭ ‬وانتقلت‭ ‬إلى‭ ‬جريدة‭ ‬‮«‬النهار‮»‬‭ ‬اللبنانية‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1969،‭ ‬لتكتب‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الأدبي‭ ‬والفني‭ ‬حتى‭ ‬رحيلها‭ ‬المفاجئ،‭ ‬ولتكرّس‭ ‬مدرسة‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬الإيجابي‭ ‬بلغة‭ ‬مهذّبة‭ ‬راقية،‭ ‬ترى‭ ‬النصف‭ ‬الملآن‭ ‬من‭ ‬الكوب‭ ‬الفني‭ ‬وتُغْضي‭ ‬عن‭ ‬النصف‭ ‬الفارغ،‭ ‬ما‭ ‬أكسبَها‭ ‬سمــعةً‭ ‬محترمة،‭ ‬وجعل‭ ‬شهادتها‭ ‬النقدية‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬المصداقية‭.‬

غير‭ ‬أنّ‭ ‬أهمّ‭ ‬ما‭ ‬تمخّضت‭ ‬عنه‭ ‬مسيرة‭ ‬مي‭ ‬منسّى‭ ‬الإبداعية‭ ‬هو‭ ‬رواياتها‭ ‬التـــسع‭ ‬التي‭ ‬أصدرَتْها‭ ‬في‭ ‬العقدين‭ ‬الأخيرين‭ ‬من‭ ‬حياتها،‭ ‬بوتيرة‭ ‬رواية‭ ‬واحدة‭ ‬كلّ‭ ‬عامين‭ ‬تقريبًا،‭ ‬وهي‭ ‬مغمّسة‭ ‬في‭ ‬حبر‭ ‬الوجع‭ ‬الإنساني،‭ ‬وفي‭ ‬وجعها‭ ‬الخاص،‭ ‬فسيرتها‭ ‬الذاتية‭ ‬تتوزّع‭ ‬على‭ ‬رواياتها‭ ‬بمقدار‭ ‬أو‭ ‬بآخر،‭ ‬وهي‭ ‬سيرة‭ ‬الآلاف‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬المترامي‭ ‬الأطراف‭. ‬لذلك،‭ ‬يتواشج‭ ‬في‭ ‬نصّها‭ ‬الروائي‭ ‬العام‭ ‬والخاص،‭ ‬الفردي‭ ‬والجماعي،‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر،‭ ‬الـ‭ ‬‮«‬هنا‮»‬‭ ‬والـ«هناك‮»‬،‭ ‬النثر‭ ‬والشعر،‭ ‬السرد‭ ‬والحوار،‭ ‬الواقعي‭ ‬والخيالي،‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هنالك‭ ‬من‭ ‬ثنائيات‭ ‬يتحرّك‭ ‬بينها‭ ‬مكّوك‭ ‬السرد‭.‬

  ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬فن‭ ‬الشعر‮»‬،‭ ‬يعرّف‭ ‬الفيلسوف‭ ‬اليوناني‭ ‬أرسطو‭ (‬384‭ ‬ـ‭ ‬322‭ ‬ق‭.‬م‭.) ‬التراجيديا‭ ‬بالقول‭ ‬إنّها‭ ‬‮«‬تثير‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬المتفرّجين‭ ‬الرّعب‭ ‬والرّأفة،‭ ‬وبهذا‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬التطهير‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسمّى‭ (‬Cathersis‭) ‬أي‭ ‬تطهير‭ ‬النفوس‭ ‬من‭ ‬أدران‭ ‬انفعالاتها‮»‬‭. ‬

هذه‭ ‬الوظيفة‭ ‬التطهيــــرية‭ ‬للمــــسرح‭ ‬ستعتمدها‭ ‬مي‭ ‬منسّى‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬فتحشد‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬الموجعة‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تطهّر‭ ‬المتلقّي‭ ‬بما‭ ‬تثيره‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬الخوف‭ ‬والرأفة‭ ‬والتعاطف،‭ ‬وهي،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬تتطهّر‭ ‬من‭ ‬أوجاعها،‭ ‬وتُفرغ‭ ‬مكبوتـــاتها‭ ‬على‭ ‬الورق،‭ ‬فتتــــخفّف‭ ‬ممّا‭ ‬يثقــــل‭ ‬كاهلها‭ ‬من‭ ‬الأعباء‭. ‬

وبذلك،‭ ‬يصبح‭ ‬التطهير‭ ‬مزدوجًا‭ ‬باتجاه‭ ‬الذات‭ ‬والآخر،‭ ‬في‭ ‬آن‭. ‬ولــــعلّ‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬رمت‭ ‬إليه‭ ‬الكاتبة،‭ ‬ذات‭ ‬مقابلة،‭ ‬بقـــــولها‭: ‬‮«‬حين‭ ‬امتلأَتْ‭ ‬محبرتي‭ ‬بدم‭ ‬الأبرياء‭ ‬أمسكْتُ‭ ‬ريشتي‭ ‬وغمسْتُها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القاني،‭ ‬لتــــشي‭ ‬بتراجيدية‭ ‬الإنسان‭ (...) ‬فضيلة‭ ‬الرواية‭ ‬الحرية‭ ‬التي‭ ‬منحتــــــني‭ ‬إيّاها‭ ‬لأروي‭ ‬ورقتي‭ ‬بأوجاع‭ ‬الإنسانية‮»‬‭ (‬أ

 

العنوان‭ ‬والمتن

من‭ ‬هذه‭ ‬الشرفة،‭ ‬نطلّ‭ ‬على‭ ‬روايات‭ ‬منسّى‭ ‬التسع‭ ‬لنرصد‭ ‬مصادر‭ ‬الوجع،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وفئات‭ ‬الموجوعين،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭. ‬وقبل‭ ‬هذه‭ ‬الإطلالة،‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬نظرة‭ ‬على‭ ‬عناوين‭ ‬الروايات‭ ‬لنقف‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬العنوان‭ ‬والمتن،‭ ‬فنلاحظ‭ ‬اشتمال‭ ‬ستة‭ ‬من‭ ‬عناوينها‭ ‬التسعة‭ ‬على‭ ‬كلمات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭: ‬سجين،‭ ‬الأخير،‭ ‬أمشي،‭ ‬يشقّ،‭ ‬مصدّعة،‭ ‬وقتلْتُ‭. ‬وهذه‭ ‬الكلمات‭ ‬التي‭ ‬تحتمل‭ ‬معاني‭ ‬الأسر‭ ‬والنهاية‭ ‬والرحيل‭ ‬والقوّة‭ ‬والتصدّع‭ ‬والقتل‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬الحقل‭ ‬المعجمي‭ ‬للحرب،‭ ‬وتشي‭ ‬بمصادر‭ ‬الوجع‭ ‬الإنساني‭ ‬التي‭ ‬تمتح‭ ‬منها‭ ‬الكاتبة‭ ‬حكاياتها‭ ‬وتُشكّل‭ ‬بها‭ ‬رواياتها‭. ‬وغنيٌّ‭ ‬عن‭ ‬التعبير‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬العناوين‭ ‬والمتون‭ ‬من‭ ‬تصادٍ،‭ ‬فكلُّ‭ ‬عنوان‭ ‬هو‭ ‬اسمٌ‭ ‬على‭ ‬مسمّى‭.‬

  ‬تُشكّل‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬اللبنانية‭ ‬المصدر‭ ‬الرئيس‭ ‬الذي‭ ‬تُصدّرُ‭ ‬عنه‭ ‬منسّى‭ ‬في‭ ‬رواياتها،‭ ‬فترصد‭ ‬نتائج‭ ‬الحرب‭ ‬وآثارها‭ ‬على‭ ‬الشخصيات‭ ‬الروائية‭. ‬وهي‭ ‬كثيرة‭ ‬وموجعة‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬القتل،‭ ‬والأسر،‭ ‬والمرض،‭ ‬والتهجيــــر،‭ ‬والهــجرة،‭ ‬والانقسام‭ ‬وغيرها‭. ‬وبالعودة‭ ‬إلى‭ ‬الروايات‭ ‬وتلمّس‭ ‬مصادر‭ ‬الوجع‭ ‬وضحاياه‭ ‬يمكن‭ ‬إبداء‭ ‬الملاحظات‭ ‬الآتية‭:‬

‭- ‬في‭ ‬‮«‬أوراق‭ ‬من‭ ‬دفاتر‭ ‬شجرة‭ ‬رمّان‮»‬،‭ ‬روايتها‭ ‬الأولى‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1998‭ ‬عن‭ ‬‮«‬دار‭ ‬النهار‮»‬،‭ ‬ترصد‭ ‬منسّى‭ ‬آثار‭ ‬الحرب،‭ ‬في‭ ‬بعدها‭ ‬الداخلي،‭ ‬على‭ ‬أسرتها‭ ‬وعاصمتها،‭ ‬فتقرن‭ ‬بين‭ ‬قَدَرِ‭ ‬الأسرة‭ ‬التي‭ ‬يُصاب‭ ‬ابنها‭ ‬بالانفصام‭ ‬النفسي‭ ‬وقَدَرِ‭ ‬العاصمة‭ ‬التي‭ ‬تُصاب‭ ‬بالانفصام‭ ‬الجيوسياسي،‭ ‬وتنقسم‭ ‬بين‭ ‬شرقية‭ ‬وغربية‭. ‬وبذلك،‭ ‬يتصادى‭ ‬الخاص‭ ‬والعام‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬ويتجادلان‭.‬

‭- ‬في‭ ‬‮«‬أوراق‭ ‬من‭ ‬دفاتر‭ ‬سجين‮»‬،‭ ‬روايتها‭ ‬الثانية‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2000‭ ‬عن‭ ‬‮«‬دار‭ ‬النهار‮»‬،‭ ‬ترصد‭ ‬آثار‭ ‬الحرب،‭ ‬في‭ ‬بعدها‭ ‬الخارجي،‭ ‬على‭ ‬الأب‭ ‬الموسيقي‭ ‬ألبير‭ ‬شرفان‭ ‬الذي‭ ‬يختطفه‭ ‬جهاز‭ ‬مخابرات‭ ‬‮«‬شقيق‮»‬‭ ‬ويزجّ‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬رجعة،‭ ‬وتقتفي‭ ‬عذابات‭ ‬السجين‭ ‬في‭ ‬سجنه‭. ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬مي،‭ ‬في‭ ‬روايتها،‭ ‬تمنح‭ ‬السجن‭ ‬هوية‭ ‬إسرائيلية‭ ‬كرهًا‭ ‬منها‭ ‬للعدو،‭ ‬كما‭ ‬تصرّح،‭ ‬ذات‭ ‬مقابلة‭. ‬لكنّني‭ ‬أعتقد‭ ‬أنّها‭ ‬فعلَتْ‭ ‬ذلك،‭ ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬التقيّة‭ ‬الروائية،‭ ‬خشية‭ ‬التعرّض‭ ‬لما‭ ‬لا‭ ‬تُحمَد‭ ‬عُقْباه‭.‬

 

آثار‭ ‬الحرب

في‭ ‬‮«‬المشهد‭ ‬الأخير،‭ ‬روايتها‭ ‬الثالثة‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2002‭ ‬عن‭ ‬‮«‬دار‭ ‬النهار‮»‬،‭ ‬تتناول‭ ‬الكاتبة‭ ‬آثار‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬الثقافية‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تأثيرها‭ ‬في‭ ‬مسارات‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الممثّلين‭ ‬المسرحيّين‭ ‬ومصائرهم،‭ ‬ممّن‭ ‬أصابتهم‭ ‬‮«‬لعنة‮»‬‭ ‬الحياة‭ ‬أو‭ ‬‮«‬لعنة‮»‬‭ ‬المسرح‭ ‬أو‭ ‬اللعنتين‭ ‬معًا‭. ‬وهنا،‭ ‬تتّخذ‭ ‬من‭ ‬الفن‭ ‬المسرحي‭ ‬موضوعًا‭ ‬للفن‭ ‬الروائي،‭ ‬وتصطنع‭ ‬لروايتها‭ ‬خمسة‭ ‬مسارات‭ ‬سردية‭ ‬‮«‬متوازية‮»‬،‭ ‬فلكلّ‭ ‬شخصية‭ ‬مسارها‭ ‬ومصيرها؛‭ ‬شريف‭ ‬يؤول‭ ‬إلى‭ ‬مصحٍّ‭ ‬عقلي،‭ ‬ومنذر‭ ‬يُوضَع‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الخطأ‭ ‬وما‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يُطلَق‭ ‬سراحه،‭ ‬ونديم‭ ‬يقوم‭ ‬بقتل‭ ‬الأم‭ ‬جسديًّا‭ ‬وليس‭ ‬مجازيًّا،‭ ‬ومريام‭ ‬تسافر‭ ‬إلى‭ ‬الهند،‭ ‬وسارة‭ ‬تُصاب‭ ‬بالخَرَفِ‭ ‬المبكّر‭. ‬وهكذا‭ ‬تهرب‭ ‬الشخصيات‭ ‬من‭ ‬‮«‬دلفة‮»‬‭ ‬الحرب‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬مزراب‮»‬‭ ‬المسرح‭ ‬والمصائر‭ ‬القاتمة‭. ‬ويأتي‭ ‬قَدَرُ‭ ‬كلّ‭ ‬منها‭ ‬ليزيد‭ ‬طين‭ ‬الحرب‭ ‬بِلّة‭.‬

‭- ‬في‭ ‬‮«‬أنتعل‭ ‬الغبار‭ ‬وأمشي‮»‬،‭ ‬روايتها‭ ‬الرابعة‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2006‭ ‬عن‭ ‬‮«‬رياض‭ ‬الريّس‭ ‬للنشر‮»‬،‭ ‬تتمظهر‭ ‬الحرب،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬انعكاسها‭ ‬على‭ ‬ماريا‭ ‬نور‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية،‭ ‬في‭ ‬القتل،‭ ‬والتهجير،‭ ‬والنفي،‭ ‬والهجرة،‭ ‬والغربة،‭ ‬والبكم،‭ ‬والوحدة،‭ ‬والموت‭. ‬تعاني‭ ‬مصرع‭ ‬الأم‭ ‬وتخلّي‭ ‬الأب‭ ‬عن‭ ‬أسرته‭ ‬وضياع‭ ‬الأخ،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قيّض‭ ‬لها‭ ‬القدر‭ ‬أن‭ ‬تقع‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬مؤسّسة‭ ‬فرنسية‭ ‬تُعْنى‭ ‬بضحايا‭ ‬الحرب‭ ‬من‭ ‬شتّى‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬تتّخذ‭ ‬من‭ ‬الأسرة‭ ‬البديلة‭ ‬والقراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬والعمل‭ ‬الصحافي‭ ‬سبلاً‭ ‬تواجه‭ ‬بها‭ ‬قدرها‭ ‬الظالم‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬تتناول‭ ‬مي‭ ‬منسّى‭ ‬بشاعة‭ ‬الحروب‭ ‬وعماها،‭ ‬وتشابه‭ ‬المآسي‭ ‬وعالميتها‭ ‬وعدم‭ ‬دوامها،‭ ‬وتخطّي‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬الأطر‭ ‬الضيقة،‭ ‬وانبثاق‭ ‬الخلاص‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬المحن‭.‬

‭- ‬في‭ ‬‮«‬الساعة‭ ‬الرملية‮»‬،‭ ‬روايتها‭ ‬الخامسة‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2008‭ ‬عن‭ ‬‮«‬رياض‭ ‬الريّس‭ ‬للنشر‮»‬،‭ ‬تتناول‭ ‬الحرب،‭ ‬في‭ ‬بعدها‭ ‬الخارجي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رصد‭ ‬آثارها‭ ‬على‭ ‬أسرة‭ ‬أرمنية،‭ ‬في‭ ‬هجرتها‭ ‬القسرية‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬التطهير‭ ‬العرقي،‭ ‬من‭ ‬حقول‭ ‬القصب‭ ‬في‭ ‬كيليكيا‭ ‬إلى‭ ‬الساحل‭ ‬اللبناني‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬تطرح‭ ‬مي‭ ‬سؤال‭ ‬الهوية‭ ‬والجذور‭ ‬في‭ ‬حركتين‭ ‬متعاكستين‭ ‬تنتهي‭ ‬كلٌّ‭ ‬منهما‭ ‬نهاية‭ ‬قاتمة؛‭ ‬حركة‭ ‬الأب‭ ‬الهارب‭ ‬من‭ ‬موطنه‭ ‬الأصلي،‭ ‬المنقطع‭ ‬عن‭ ‬جذوره،‭ ‬ما‭ ‬يودي‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الاكتئاب‭ ‬والانطواء‭ ‬على‭ ‬النفس‭. ‬وحركة‭ ‬الابنة‭ ‬المعاكسة‭ ‬في‭ ‬بحثها‭ ‬عن‭ ‬الجذور‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬حقّقت‭ ‬غايتها‭ ‬تموت‭ ‬في‭ ‬نوبة‭ ‬صَرَعٍ‭ ‬على‭ ‬ضريح‭ ‬العائلة‭. ‬

‭- ‬في‭ ‬‮«‬حين‭ ‬يشقّ‭ ‬الفجر‭ ‬قميصه‮»‬،‭ ‬روايتها‭ ‬السادسة‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2010‭ ‬عن‭ ‬‮«‬رياض‭ ‬الريّس‭ ‬للنشر‮»‬،‭ ‬تروي‭ ‬حكاية‭ ‬امرأة‭ ‬صحافية،‭ ‬مثقّفة،‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬عمرية‭ ‬مختلفة،‭ ‬وفي‭ ‬حالاتها‭ ‬المتعدّدة،‭ ‬الموزّعة‭ ‬بين‭ ‬طفولة‭ ‬تعيسة،‭ ‬ووطن‭ ‬مدمّر،‭ ‬وهجرات‭ ‬متتالية،‭ ‬وحب‭ ‬مستحيل‭. ‬ومع‭ ‬هذا،‭ ‬تبقى‭ ‬متمسّكة‭ ‬بقيمها‭ ‬ومبادئها‭. ‬وتقول‭ ‬الرواية،‭ ‬من‭ ‬خلالها،‭ ‬أهمّية‭ ‬المحبّة‭ ‬ونبذ‭ ‬الفرقة‭ ‬وحبّ‭ ‬الوطن‭.‬

 

مصدر‭ ‬الوجع

‭- ‬في‭ ‬‮«‬ماكنة‭ ‬الخياطة‮»‬،‭ ‬روايتها‭ ‬السابعة‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2012‭ ‬عن‭ ‬‮«‬رياض‭ ‬الريّس‭ ‬للنشر‮»‬،‭ ‬تعود‭ ‬مي‭ ‬إلى‭ ‬أسرتها،‭ ‬فترصد‭ ‬تأثير‭ ‬الحرب‭ ‬عليها‭ ‬وَتَوَزُّع‭ ‬أفرادها‭ ‬بين‭ ‬الهجرة‭ ‬والتهجير‭ ‬والمرض‭ ‬والمصح‭. ‬وهذه‭ ‬الرواية‭ ‬أرادتها‭ ‬تحيّةً‭ ‬لأمّها‭ ‬على‭ ‬سرير‭ ‬المرض،‭ ‬وماكنة‭ ‬الخياطة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تستخدمها‭ ‬الأمّ‭ ‬ترمز‭ ‬إلى‭ ‬استقرار‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الحرب،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬فشلت‭ ‬الكاتبة‭ ‬في‭ ‬استعادتها‭ ‬ممّن‭ ‬حصلوا‭ ‬عليها،‭ ‬بالفعل،‭ ‬تفعل‭ ‬ذلك‭ ‬بالرواية،‭ ‬فما‭ ‬مضى‭ ‬لا‭ ‬يُمكن‭ ‬أن‭ ‬يعود‭.‬

‭- ‬في‭ ‬‮«‬تماثيل‭ ‬مصدّعة‮»‬،‭ ‬روايتها‭ ‬الثامنة‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2014‭ ‬عن‭ ‬‮«‬دار‭ ‬الساقي‮»‬،‭ ‬مصدر‭ ‬الوجع‭ ‬هو‭ ‬التحرّش‭ ‬الجنسي‭ ‬والضحية‭ ‬هي‭ ‬الابن‭ ‬الأصغر‭ ‬هاني‭. ‬فقيام‭ ‬الأب‭ ‬بالاعتداء‭ ‬جنسيًّا‭ ‬على‭ ‬ابنه،‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬صمت‭ ‬الزوجة‭ ‬وتهميش‭ ‬الأخت،‭ ‬يترك‭ ‬تأثيره‭ ‬المدمّر‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الابن،‭ ‬الفنان‭ ‬والنحات،‭ ‬فيروح‭ ‬يصنع‭ ‬تماثيل‭ ‬الأطفال‭ ‬المصدّعة‭ ‬ويحطّمها‭ ‬رغبةً‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬التحرّر‭ ‬من‭ ‬ماضٍ‭ ‬يطارده،‭ ‬وينتهي‭ ‬به‭ ‬المطاف‭ ‬في‭ ‬دير‭ ‬للرهبان‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أقام‭ ‬فيه‭ ‬لدى‭ ‬دراسته‭ ‬النحت‭ ‬والتصوير‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬جامعاتها‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬الابن‭ ‬ليس‭ ‬الموجوع‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬فهناك‭ ‬ابنته‭ ‬تينا‭ ‬ضحية‭ ‬الحرب‭ ‬والميليشيات،‭ ‬وهناك‭ ‬الأخت‭ ‬التي‭ ‬انتحرت،‭ ‬والابن‭ ‬الذي‭ ‬طَردَتْهُ‭ ‬أمّه‭ ‬من‭ ‬البيت‭.‬

‭- ‬في‭ ‬‮«‬قتلت‭ ‬أمي‭ ‬لأحيا‮»‬،‭ ‬روايتها‭ ‬التاسعة‭ ‬والأخيرة‭ ‬الصادرة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2017،‭ ‬مصادر‭ ‬الوجع‭ ‬هي‭ ‬اليتم،‭ ‬والتوحّد،‭ ‬والوحدة،‭ ‬والغربة،‭ ‬والاغتراب‭. ‬والضحايا‭ ‬شخصيات‭ ‬معطوبة‭ ‬تروح‭ ‬كلٌّ‭ ‬منها‭ ‬تجترح‭ ‬سبيل‭ ‬الخلاص‭ ‬متوسّلةً‭ ‬الطبيعة‭ ‬أو‭ ‬الكتابة‭ ‬أو‭ ‬التمثيل،‭ ‬غير‭ ‬أنّها‭ ‬لا‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬برّ‭ ‬أمان،‭ ‬بل‭ ‬تؤول‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬أو‭ ‬القتل‭ ‬أو‭ ‬الانتحار‭ ‬أو‭ ‬الاغتراب‭ ‬أو‭ ‬السجن‭ ‬أو‭ ‬المصادرة‭.‬

  ‬وهكذا،‭ ‬يبدو‭ ‬لنا‭ ‬أنّ‭ ‬مي‭ ‬منسّى‭ ‬كتبت‭ ‬روايةً‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬الوجع‭ ‬الإنساني‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬الحرب‭ ‬وتداعياتها‭. ‬والموجوعون‭ ‬هم‭ ‬الكاتبة‭ ‬نفسها،‭ ‬وأسرتها،‭ ‬ومواطنوها،‭ ‬والناس‭ ‬العاديون،‭ ‬والمثقفون،‭ ‬وغيرهم‭. ‬وبهذا،‭ ‬تعيد‭ ‬مي‭ ‬للأدب‭ ‬وظيفته‭ ‬التطهيرية‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬أهملها‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭. ‬على‭ ‬أنّه،‭ ‬في‭ ‬خاتمة‭ ‬هذه‭ ‬العجالة،‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬الروايات‭ ‬الجميلة،‭ ‬الأدبية،‭ ‬الأنيقة،‭ ‬التي‭ ‬ترقى‭ ‬إلى‭ ‬مصاف‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المطارح‭. ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الكاتبة‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬روائيّة‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الأحداث‭ ‬وتقنيات‭ ‬السرد،‭ ‬فهي‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬أدبيتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اللغة،‭ ‬فجمعت‭ ‬بين‭ ‬الروائية‭ ‬والأدبية‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬وهذا‭ ‬نادرًا‭ ‬ما‭ ‬يتحقّق‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬واحدة‭. ‬لذلك،‭ ‬برحيلها‭ ‬المفاجئ،‭ ‬تترك‭ ‬مي‭ ‬فراغًا‭ ‬روائيًّا‭ ‬وأدبيًّا‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬الرواية‭ ‬العربية‭ ‬لا‭ ‬يملأه‭ ‬سواها‭. ‬مي‭ ‬منسّى‭ ‬وداعًا‭! ‬