كازو إيشيجورو الياباني الذي غزا إنجلترا

كازو إيشيجورو الياباني الذي غزا إنجلترا

في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬بدت‭ ‬أكاديمية‭ ‬استكهولم،‭ ‬التي‭ ‬تمنح‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل،‭ ‬كأنها‭ ‬تلعب‭ ‬ضد‭ ‬نفسها،‭ ‬فصارت‭ ‬تمنحها‭ ‬إلى‭ ‬أشخاص‭ ‬يتمتعون‭ ‬بقيمة‭ ‬أدبية‭ ‬لا‭ ‬ترقى‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬الفطاحل‭ ‬الذين‭ ‬فازوا‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الثمانين‭ ‬عاماً‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الجائزة،‭ ‬وفي‭ ‬العام‭ ‬قبل‭ ‬الماضي‭ ‬كانت‭ ‬الطامة‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬حصول‭ ‬المطرب‭ ‬الأمريكي‭ ‬العجوز‭ ‬بوب‭ ‬دايلن،‭ ‬الذي‭ ‬اشتهر‭ ‬بأغنيات‭ ‬الروك‭ ‬الشعبية،‭ ‬بالجائزة‭ ‬في‭ ‬فرع‭ ‬الأدب،‭ ‬مما‭ ‬أعطانا‭ ‬الإحساس‭ - ‬نحن‭ ‬الذين‭ ‬نتابع‭ ‬الجائزة‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ - ‬بأن‭ ‬الأكاديمية‭ ‬فقدت‭ ‬رشدها،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬استردت‭ ‬بعضاً‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الرشد‭. ‬

تأتي‭ ‬أهمية‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬عند‭ ‬إعلان‭ ‬أسماء‭ ‬الفائزين‭ ‬بها،‭ ‬لتوضح‭ ‬مسألة‭ ‬الفارق‭ ‬بين‭ ‬الهوية‭ ‬والجذور،‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الفروع‭ ‬التي‭ ‬تعلن‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬استثناء،‭ ‬وفي‭ ‬الأدب،‭ ‬فإن‭ ‬الأمر‭ ‬يعكس‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬أن‭ ‬الثقافة‭ ‬التي‭ ‬هاجر‭ ‬إليها‭ ‬الكاتب‭ ‬تكون‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الجائزة،‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬أسماء‭ ‬مثل‭ ‬هيرتا‭ ‬موللر،‭ ‬وجان‭ ‬إكس‭ ‬حيان،‭ ‬وجون‭ ‬كوتسيا،‭ ‬وأخيراً‭ ‬كازو‭ ‬إيشوجورو‭ ‬الذي‭ ‬اقترنت‭ ‬الهوية‭ ‬الحالية‭ ‬له‭ ‬بالأصول‭.‬

فالكاتب‭ ‬الصيني‭ ‬جيان‭ ‬كتب‭ ‬كل‭ ‬رواياته‭ ‬عن‭ ‬الصين‭ ‬التي‭ ‬تركها‭ ‬ليعيش‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يكتب‭ ‬بالفرنسية،‭ ‬أما‭ ‬إيشيجورو‭ ‬فإن‭ ‬ملامحه‭ ‬الآسيوية‭ ‬تطارده‭ ‬بقوة‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬بريطانياً‭ ‬حتى‭ ‬النخاع‭ ‬في‭ ‬ثقافته،‭ ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬مثير‭ ‬للنقاش‭ ‬مع‭ ‬كثرة‭ ‬توافد‭ ‬الآسيويين‭ ‬والأفارقة‭ ‬إلى‭ ‬الغرب،‭ ‬والأمر‭ ‬يختلف‭ ‬بالطبع‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬الكتّاب‭ ‬السوفييت‭ ‬سابقاً،‭ ‬الذين‭ ‬انشقوا‭ ‬عن‭ ‬بلادهم‭ ‬وصار‭ ‬عليهم‭ ‬العودة‭ ‬بعد‭ ‬انهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭.‬

وكان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬إيشيجورو‭ ‬هو‭ ‬كاتب‭ ‬ياباني‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬بريطانيا،‭ ‬لولا‭ ‬هوية‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬بقايا‭ ‬النهار‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬أحداثها‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬البريطاني‭ ‬العتيق‭ ‬بنبلائه‭ ‬وخدمه،‭ ‬وهي‭ ‬رواية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكتبها‭ ‬إلا‭ ‬الكلاسيكيون‭ ‬من‭ ‬أدباء‭ ‬بريطانيا‭ ‬الذين‭ ‬عاشوا‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬بالغة‭ ‬الرقي‭.‬

 

دهشة‭ ‬يابانية‭ ‬

إيشيجورو‭ ‬المولود‭ ‬في‭ ‬نجازاكي‭ ‬عام‭ ‬1954،‭ ‬رحل‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬عام‭ ‬1960،‭ ‬والأمر‭ ‬هنا‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬أقرانه‭ ‬الكثيرين‭ ‬من‭ ‬الهنود،‭ ‬باعتبارهم‭ ‬أبناء‭ ‬مستعمرة‭ ‬بريطانية‭ ‬سابقة،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬اندمج‭ ‬ودرس‭ ‬في‭ ‬الجامعات‭ ‬البريطانية،‭ ‬وتضاءلت‭ ‬كثيراً‭ ‬ذكرياته‭ ‬اليابانية،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬قط‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬مدينته‭ ‬ناجازاكي،‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬فيها‭ ‬أحداث‭ ‬روايتيه‭ ‬الأوليين،‭ ‬اللتين‭ ‬سمع‭ ‬قصصهما‭ ‬من‭ ‬والديه‭ ‬‮«‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬اليابان‭ ‬قط،‭ ‬لقد‭ ‬عرفت‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أمي‭... ‬ولكنني‭ ‬لم‭ ‬أجرؤ‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أقترب‭ ‬منها،‭ ‬ومازلت‭ ‬أتعامل‭ ‬معها‭ ‬كطفل‮»‬‭.‬

‭ ‬وهذا‭ ‬السبب‭ ‬الذي‭ ‬أدهش‭ ‬اليابانيين‭ ‬عقب‭ ‬إعلان‭ ‬الجائزة‭ ‬وهم‭ ‬يبحثون‭ ‬في‭ ‬تراثهم‭ ‬الأدبي‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أديب‭ ‬ياباني‭ ‬اسمه‭ ‬إيشيجورو،‭ ‬هاتان‭ ‬الروايتان‭ ‬الأوليان‭ ‬هما‭ ‬‮«‬مشهد‭ ‬شاحب‭ ‬للتلال‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1984،‭ ‬و«فنان‭ ‬عالم‭ ‬الطوفان‮»‬‭ ‬1987‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1989‭ ‬فاز‭ ‬بجائزة‭ ‬بوكر‭ ‬عن‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬بقايا‭ ‬النهار‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬التقطها‭ ‬بذكاء‭ ‬المترجم‭ ‬الراحل‭ ‬طلعت‭ ‬الشايب‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬بقايا‭ ‬اليوم‮»‬،‭ ‬ضمن‭ ‬المشروع‭ ‬القومي‭ ‬للترجمة،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬الجائزة‭ ‬قد‭ ‬شفعت‭ ‬كثيرا‭ ‬للرواية،‭ ‬فهي‭ ‬عمل‭ ‬بريطاني‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول،‭ ‬وتتناسب‭ ‬مع‭ ‬القارئ‭ ‬خارج‭ ‬بريطانيا،‭ ‬لكنني‭ - ‬للحق‭ - ‬لم‭ ‬أقرأ‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نبّهني‭ ‬كاتب‭ ‬الأطفال‭ ‬يعقوب‭ ‬الشاروني‭ ‬إليها،‭ ‬ونحن‭ ‬نلتقي‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬المجلس،‭ ‬برغم‭ ‬أنني‭ ‬كتبت‭ ‬عن‭ ‬المؤلف‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬في‭ ‬موسوعة‭ ‬‮«‬أدباء‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‮»‬‭ ‬المنشورة‭ ‬لدى‭ ‬الدار‭ ‬المصرية‭ - ‬اللبنانية‭ ‬1997،‭ ‬وأنا‭ ‬أذكر‭ ‬هذا‭ ‬لكي‭ ‬أدلل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬البعض‭ ‬قد‭ ‬استعذب‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬قد‭ ‬أعلنوا‭ ‬استغرابهم‭ ‬للاسم‭ ‬وهم‭ ‬يتباكون‭ ‬أن‭ ‬الجائزة‭ ‬لم‭ ‬تذهب‭ ‬مجدداً‭ ‬إلى‭ ‬كاتب‭ ‬مصري‭ ‬أو‭ ‬عربي‭.‬

 

عودة‭ ‬إلى‭ ‬الرواية

رواية‭ ‬لكاتب‭ ‬بريطاني‭ ‬ذي‭ ‬ملامح‭ ‬آسيوية‭ ‬تدور‭ ‬أحداثها‭ ‬بأحد‭ ‬القصور‭ ‬العتيقة‭ ‬البريطانية‭ ‬في‭ ‬عشرينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خادم‭ ‬وزميلته‭ ‬في‭ ‬القصر،‭ ‬لكنه‭ ‬ليس‭ ‬الخادم‭ ‬التقليدي‭ ‬الذي‭ ‬نعرفه‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬الأخرى،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الطبقة‭ ‬بثقافته،‭ ‬وسلوكه‭ ‬وعاداته،‭ ‬ومفاهيمه،‭ ‬وقد‭ ‬ارتقى‭ ‬بالمسمى‭ ‬الوظيفي،‭ ‬ولعلنا‭ ‬نعرف‭ ‬أمثاله‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأفلام،‭ ‬من‭ ‬أبرزها‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬الخادم‮»‬‭ ‬إخراج‭ ‬جوزيف‭ ‬لوزي،‭ ‬وقام‭ ‬ببطولته‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬ذيرك‭ ‬بوجارد،‭ ‬وجيمس‭ ‬فوكس،‭ ‬وسارة‭ ‬مايلز‭ ‬عام‭ ‬1963،‭ ‬وترك‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬مَن‭ ‬شاهده‭ ‬انطباعات‭ ‬لا‭ ‬تنسى‭ ‬حول‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الخدم‭ ‬واللوردات‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات،‭ ‬أما‭ ‬الانطباع‭ ‬العام‭ ‬المتعلق‭ ‬برواية‭ ‬بقايا‭ ‬النهار،‭ ‬فهو‭ ‬أنه‭ ‬لماذا‭ ‬يكتب‭ ‬شاب‭ ‬ذو‭ ‬ملامح‭ ‬وأصول‭ ‬آسيوية‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الرواية؟‭ ‬وهو‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬سيظل‭ ‬بلا‭ ‬إجابة‭ ‬طوال‭ ‬التاريخ‭ ‬الأدبي‭ ‬لقرون‭ ‬قادمة،‭ ‬حيث‭ ‬تأتي‭ ‬العبقرية‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬كيف‭ ‬لكاتب‭ ‬مغترب‭ ‬أن‭ ‬يسبر‭ ‬أغوار‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والتاريخ‭ ‬السياسي‭ ‬لبريطانيا‭ ‬خلال‭ ‬الصراع‭ ‬مع‭ ‬العالم‭ ‬إبان‭ ‬سطوة‭ ‬الإنجليز‭ ‬بعد‭ ‬انتصار‭ ‬بلادهم‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭.‬

هذا‭ ‬الخادم‭ ‬الذي‭ ‬تجاوز‭ ‬سن‭ ‬الخمسين،‭ ‬أتاحت‭ ‬له‭ ‬وظيفته‭ ‬أن‭ ‬يتوغل‭ ‬في‭ ‬الطبقات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الراقية‭. ‬والرواية‭ ‬ليست‭ ‬عن‭ ‬طبقة‭ ‬اجتماعية‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عن‭ ‬القصر‭ ‬الذي‭ ‬يمتلكه‭ ‬لورد‭ ‬دارلنجتون‭ ‬الذي‭ ‬يدعو‭ ‬رجال‭ ‬الصفوة‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬إلى‭ ‬حضور‭ ‬حفلات‭ ‬العشاء،‭ ‬وحول‭ ‬المائدة‭ ‬الفخمة‭ ‬المليئة‭ ‬بالمراسم‭ ‬الراقية،‭ ‬تدور‭ ‬الحوارات‭ ‬المتنوعة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يخص‭ ‬هذه‭ ‬الطبقة،‭ ‬وأغلبهم‭ ‬من‭ ‬‮«‬العواجيز‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬العمر‭ ‬مثل‭ ‬اللورد،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬فإن‭ ‬الخادم‭ ‬ستيفنسن‭ ‬يقوم‭ ‬بواجبه‭ ‬على‭ ‬أحسن‭ ‬وجه،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬المنزل،‭ ‬وتحضير‭ ‬أنواع‭ ‬الطعام‭ ‬الملائمة‭ ‬وتقديمها،‭ ‬وعليه‭ ‬أن‭ ‬يتصرف‭ ‬كأنه‭ ‬لا‭ ‬يسمع‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬علاقته‭ ‬بوصيفة‭ ‬البيت،‭ ‬مس‭ ‬كينتون،‭ ‬يتصرف‭ ‬كشخص‭ ‬ثرثار‭ ‬لبق،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬يعرف‭ ‬كيف‭ ‬يتصرف‭.‬

 

عالم‭ ‬جاف

هذه‭ ‬الوظيفة‭ ‬أتاحت‭ ‬للخادم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬طبقات‭ ‬المجتمع،‭ ‬باعتباره‭ ‬من‭ ‬عامة‭ ‬الشعب،‭ ‬يقيم‭ ‬أحياناً‭ ‬خارج‭ ‬القصر،‭ ‬برغم‭ ‬وجوده‭ ‬الغالب‭ ‬داخل‭ ‬القصر،‭ ‬فمن‭ ‬أعلى‭ ‬هناك‭ ‬سادة‭ ‬البيت،‭ ‬ومن‭ ‬أسفل‭ ‬هناك‭ ‬الوصيفات‭ ‬والخدم‭ ‬الذين‭ ‬لن‭ ‬يكونوا‭ ‬أبداً‭ ‬من‭ ‬الطبقات‭ ‬الراقية،‭ ‬بينما‭ ‬يعيش‭ ‬الجميع‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬صلد،‭ ‬بالغ‭ ‬التحفظ،‭ ‬جاف‭ ‬وصارم‭.‬

لقد‭ ‬تولى‭ ‬خدمة‭ ‬هذه‭ ‬الأسرة‭ ‬لخمسة‭ ‬وثلاثين‭ ‬عاماً‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬متسع‭ ‬وجميل،‭ ‬كان‭ ‬يمتلكه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أمريكي‭ ‬ثري‭. ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬ستيفنسن‭ ‬لم‭ ‬يأخذ‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬أي‭ ‬إجازة،‭ ‬وعندما‭ ‬جاء‭ ‬سيده‭ ‬الجديد‭ ‬اقترح‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬العجوز‭ ‬فورد‭ ‬أثناء‭ ‬غيابه،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬القيام‭ ‬معها‭ ‬بنزهة‭ ‬لبضعة‭ ‬أيام،‭ ‬ويذهبان‭ ‬معاً‭ ‬إلى‭ ‬الغرب‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬لمدة‭ ‬ستة‭ ‬أيام‭ ‬يزوران‭ ‬فيها‭ ‬كلاً‭ ‬من‭ ‬سالزبورج‭ ‬ودورست،‭ ‬حيث‭ ‬يتردد‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬بيوت‭ ‬السيدة‭ ‬العجوز‭.‬

ويروي‭ ‬ستيفنسن‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬أنه‭ ‬ابن‭ ‬أسرة‭ ‬من‭ ‬الخدم،‭ ‬عملت‭ ‬طويلاً‭ ‬في‭ ‬منازل‭ ‬الأثرياء‭ ‬الإنجليز،‭ ‬ويؤكد‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المهنة‭ ‬العريقة‭ ‬غير‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭ ‬الآخر‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬المراسم،‭ ‬وهو‭ ‬يرى‭ ‬‮«‬أن‭ ‬سكان‭ ‬القارة‭ ‬الأوربية‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬الخدم‭ ‬الحقيقيين‮»‬‭ ‬ويرى‭ ‬كذلك‭ ‬أن‭ ‬البريطانيين‭ ‬هم‭ ‬الوحيدون‭ ‬الذين‭ ‬يمتلكون‭ ‬شرف‭ ‬المهنة‭ ‬على‭ ‬أصولها‭.‬

تدور‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬ستيفنسن،‭ ‬الذي‭ ‬يشعر‭ ‬بسعادة‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬مهنته‭ ‬مع‭ ‬أقربائه‭ ‬الآخرين‭. ‬ويدور‭ ‬الحديث‭ ‬طويلاً‭ ‬عن‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تعترضه،‭ ‬وأيضاً‭ ‬عن‭ ‬أسرار‭ ‬المهنة،‭ ‬ويقول‭ ‬الخادم‭ ‬إن‭ ‬سيده‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬الذين‭ ‬ولدوا‭ ‬كي‭ ‬يخدمهم‭ ‬الآخرون،‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬الحشم‭ ‬صنعوا‭ ‬ليؤدوا‭ ‬الخدمات‭ ‬على‭ ‬أحسن‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬الخدمة،‭ ‬وهم‭ ‬يتركون‭ ‬للسادة‭ ‬مهام‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالمسائل‭ ‬الكبرى،‭ ‬مثل‭ ‬قضايا‭ ‬الوطن،‭ ‬وكي‭ ‬يترك‭ ‬الإنسان‭ ‬أثراً‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العصر،‭ ‬فإن‭ ‬عليه‭ ‬الاهتمام‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬بكبار‭ ‬هذا‭ ‬العصر،‭ ‬فهم‭ ‬يصنعون‭ ‬الحضارة‭.‬

 

مساء‭ ‬الضيوف‭ ‬

وحسب‭ ‬الناقدة‭ ‬الفرنسية‭ ‬نيكول‭ ‬رند‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬لوموند‭ (‬23‭ ‬فبراير‭ ‬1990‭)‬،‭ ‬فإن‭ ‬براعة‭ ‬الكاتب‭ ‬تجلت‭ ‬في‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬اختيار‭ ‬مفردات‭ ‬الخدم‭ ‬البريطانيين‭ ‬في‭ ‬صوغ‭ ‬الرواية،‭ ‬وهي‭ ‬مفردات‭ ‬مليئة‭ ‬بالوقار‭ ‬والاحترام‭ ‬والسذاجة،‭ ‬وكأن‭ ‬الخادم‭ ‬يتحدث‭ ‬إلى‭ ‬أسياده‭ ‬القراء،‭ ‬مثلما‭ ‬يتحدث‭ ‬بالمفردات‭ ‬نفسها‭ ‬إلى‭ ‬أسياده‭ ‬في‭ ‬القصور،‭ ‬وهو‭ ‬يعترف‭ ‬بأن‭ ‬أفضل‭ ‬ساعات‭ ‬النهار‭ ‬هو‭ ‬المساء‭ ‬الذي‭ ‬يأتي‭ ‬فيه‭ ‬الضيوف‭.‬

ويتحدث‭ ‬الخدم‭ ‬عن‭ ‬الآنسة‭ ‬كينتون،‭ ‬وهي‭ ‬موظفة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬الجهاز‭ ‬الحكومي،‭ ‬صار‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تترك‭ ‬القصر‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الزواج،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الخادم‭ ‬حريص‭ ‬على‭ ‬اختيار‭ ‬الألفاظ‭ ‬الخاصة‭ ‬بكل‭ ‬شخص‭ ‬في‭ ‬القصر،‭ ‬فاللورد‭ ‬والنجتون‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الكرامة‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬العبودية،‭ ‬وستيفنسن‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬كفاءة‭ ‬الخادم‭ ‬ليست‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬يهجر‭ ‬الشخصية‭ ‬التي‭ ‬تسكنه،‭ ‬ولكن‭ ‬الخدم‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتخلوا‭ ‬عن‭ ‬هويتهم‭ ‬لمصلحة‭ ‬أسيادهم‭.‬

لذلك‭ ‬فإنه‭ ‬على‭ ‬الخادم‭ ‬أن‭ ‬يتحدث‭ ‬بتبجيل‭ ‬عن‭ ‬أسياده‭ ‬في‭ ‬حضورهم‭ ‬أو‭ ‬غيابهم،‭ ‬ولذا‭ ‬فهو‭ ‬يردد‭ ‬كلمة‭ ‬‮«‬سعادته‮»‬‭ ‬عن‭ ‬أحدهم‭ ‬حتى‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬غير‭ ‬موجود،‭ ‬وعليه،‭ ‬فنحن‭ ‬أمام‭ ‬رجل‭ ‬هدم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬ذاته‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬بناء‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الذات،‭ ‬ولا‭ ‬يميل‭ ‬الكاتب‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الخالي‭ ‬من‭ ‬الصراخ‭ ‬والزمجرة،‭ ‬ولذا‭ ‬فإن‭ ‬المشاكلات‭ ‬الحياتية‭ ‬التي‭ ‬يقابلها‭ ‬أبطال‭ ‬روايته‭ ‬تبدو‭ ‬تقليدية‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬يتم‭ ‬حلها‭.‬

 

تصوّر‭ ‬فيلمي

هذه‭ ‬رواية‭ ‬بالغة‭ ‬الخصوصية،‭ ‬لكنها‭ ‬مكتوبة‭ ‬بلغة‭ ‬جذابة،‭ ‬وكان‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تشد‭ ‬انتباه‭ ‬مخرج‭ ‬من‭ ‬طراز‭ ‬جيمس‭ ‬إيفوري‭. ‬أو‭ ‬كأنها‭ ‬كتبت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يخرجها،‭ ‬وموضوع‭ ‬تحويل‭ ‬الرواية‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬أمر‭ ‬بالغ‭ ‬الغرابة،‭ ‬ويحتاج‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬منفصلة،‭ ‬حيث‭ ‬يقف‭ ‬ثلاثة‭ ‬أطراف‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الحدث،‭ ‬الأول‭ ‬المخرج‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬تعاون‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أفلامه‭ ‬تقريباً‭ ‬مع‭ ‬المنتج‭ ‬البريطاني‭ ‬ذي‭ ‬الأصول‭ ‬الهندية‭ ‬إسماعيل‭ ‬ميرشنت،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مشغوفاً‭ ‬أيضاً‭ ‬بالروايات‭ ‬الكلاسيكية،‭ ‬وكانت‭ ‬الروائية‭ ‬روث‭ ‬برادر‭ ‬بفالا‭ ‬هي‭ ‬أبرز‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬التعاون،‭ ‬فهي‭ ‬روائية،‭ ‬وكاتبة‭ ‬سيناريو‭ ‬كونت‭ ‬الضلع‭ ‬الثالث‭ ‬في‭ ‬المثلث‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬ينفصل‭ ‬إلا‭ ‬بالرحيل‭ ‬الأدبي،‭ ‬وهو‭ ‬ثالوث‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬له‭ ‬بالمرة‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬العالمية،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬المخرج‭ ‬إيفوري‭ ‬يشاركها‭ ‬أحياناً‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬وفي‭ ‬أغلب‭ ‬الأحيان‭ ‬كان‭ ‬يتركها‭ ‬تكتب‭ ‬ما‭ ‬تختاره‭.‬

كما‭ ‬أن‭ ‬إيفوري‭ ‬استعان‭ ‬بالكاتب‭ ‬المسرحي‭ ‬هارولد‭ ‬بينتومن‭ ‬الواضح‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬أمام‭ ‬مشروع‭ ‬سينمائي‭ ‬محدد‭ ‬يقدم‭ ‬بريطانيا‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أفلامه،‭ ‬وقد‭ ‬وجدوا‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬بقايا‭ ‬النهار‮»‬‭ ‬الملامح‭ ‬نفسها‭ ‬التي‭ ‬تمتعت‭ ‬بها‭ ‬أعمال‭ ‬أدباء‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة،‭ ‬واللطيف‭ ‬أن‭ ‬إيشيجورو‭ ‬نفسه‭ ‬حلّ‭ ‬مكان‭ ‬روث‭ ‬وكتب‭ ‬سيناريو‭ ‬فيلم‭ ‬‮«‬الكونتس‭ ‬البيضاء‮»‬‭ ‬عام‭ ‬2005،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬أي‭ ‬فريق‭ ‬سينمائي‭ ‬متحمس‭ ‬لهذا‭ ‬الأدب‭ ‬إلا‭ ‬هذه‭ ‬الأسماء،‭ ‬وكلهم‭ ‬غارق‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الأدب،‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬روث‭ ‬أيضاً‭ ‬سبق‭ ‬لها‭ ‬الفوز‭ ‬بجائزة‭ ‬‮«‬بوكر‮»‬‭ ‬مثلما‭ ‬حدث‭ ‬لإيشيجورو‭.‬

استعان‭ ‬إيفوري‭ ‬دوماً‭ ‬في‭ ‬أفلامه‭ ‬بالممثل‭ ‬المسرحي‭ ‬البريطاني‭ ‬أنطوني‭ ‬هوبكنز،‭ ‬وأيضاً‭ ‬بالممثلة‭ ‬إيما‭ ‬طومبسون‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬تجربة،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬المخرج‭ ‬قد‭ ‬وضع‭ ‬نجوم‭ ‬المسرح‭ ‬البريطاني‭ ‬اللامعين‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬خطط‭ ‬عمله‭.‬

وهذا‭ ‬الفريق‭ ‬كان‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬النص‭ ‬الأدبي‭ ‬باهتمام‭ ‬شديد‭ ‬ووقار،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬أحد‭ ‬منهم‭ ‬يجرؤ‭ ‬على‭ ‬إضافة‭ ‬أحداث‭ ‬إلى‭ ‬الرواية،‭ ‬أو‭ ‬الحذف‭ ‬منها،‭ ‬وساعد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬حرفية‭ ‬إيفوري‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬الصورة‭ ‬الحلوة‭ ‬من‭ ‬روايات‭ ‬مليئة‭ ‬بالبلاغة،‭ ‬وحسب‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬موسوعة‭ ‬الويكيبيديا،‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬فإنه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬اختلافات‭ ‬تذكر‭ ‬بين‭ ‬الفيلم‭ ‬والرواية،‭ ‬عدا‭ ‬مشهد‭ ‬المقدمة،‭ ‬حيث‭ ‬تنزل‭ ‬العناوين‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬سيارة‭ ‬تتحرك‭ ‬في‭ ‬المزارع،‭ ‬باعتبار‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬تصوير‭ ‬خارجي‭ ‬لفيلم‭ ‬أغلب‭ ‬أحداثه‭ ‬كانت‭ ‬داخل‭ ‬قصر‭ ‬اللورد،‭ ‬وعليه‭ ‬فإننا‭ ‬أمام‭ ‬نص‭ ‬أدبي‭ ‬مأخوذ‭ ‬عن‭ ‬رواية،‭ ‬اعتنت‭ ‬به‭ ‬كاتبة‭ ‬السيناريو،‭ ‬وحرصت‭ ‬على‭ ‬نقل‭ ‬الحوارات‭ ‬باللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬لهذا‭ ‬العصر،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تضع‭ ‬في‭ ‬حسبانها‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬يثير‭ ‬الملل‭ ‬لدى‭ ‬المشاهد،‭ ‬وعليه‭ ‬فالرواية‭ ‬التي‭ ‬قرأناها‭ ‬في‭ ‬كتاب،‭ ‬تكاد‭ ‬تتطابق‭ ‬تماماً‭ ‬مع‭ ‬الفيلم‭ ‬الذي‭ ‬شاهدناه‭ ‬يجمع‭ ‬بين‭ ‬الكلمة‭ ‬والصورة‭.‬

 

7‭ ‬روايات

ليست‭ ‬هناك‭ ‬دهشة‭ ‬بالمرة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬كاتباً‭ ‬في‭ ‬الثالثة‭ ‬والستين‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬يحصل‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل،‭ ‬فهذا‭ ‬أمر‭ ‬مألوف،‭ ‬لكن‭ ‬الغريب‭ ‬أن‭ ‬عدد‭ ‬الروايات‭ ‬المنشورة‭ ‬للكاتب‭ ‬هي‭ ‬بالضبط‭ ‬سبع‭ ‬روايات،‭ ‬وهو‭ ‬عدد‭ ‬قليل‭ ‬جداً‭ ‬من‭ ‬الإبداع‭ ‬قياساً‭ ‬بمن‭ ‬حصلوا‭ ‬على‭ ‬الجائزة‭ ‬قبله،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مترجم‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬ومنها‭: ‬‮«‬من‭ ‬لا‭ ‬عزاء‭ ‬لهم‮»‬،‭ ‬و«عندما‭ ‬كنا‭ ‬يتامى‮»‬،‭ ‬و«فنان‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الطليق‮»‬،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬بقايا‭ ‬النهار‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬رواياته‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تترجم‭ ‬بعد‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تدعني‭ ‬أذهب‭ ‬أبداً‮»‬‭ ‬المنشورة‭ ‬عام‭ ‬2005،‭ ‬ثم‭ ‬‮«‬القماش‭ ‬العملاق‮»‬‭ ‬المنشورة‭ ‬منذ‭ ‬عامين‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬أثبت‭ ‬الكاتب‭ ‬أنه‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬إنتاجه‭ ‬القليل،‭ ‬فهو‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬التنوع‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬يذهب‭ ‬إليها،‭ ‬وأيضاً‭ ‬الأزمنة،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬كريستوفر‭ ‬بطل‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬عندما‭ ‬كنا‭ ‬يتامى‮»‬‭ ‬المنشورة‭ ‬عام‭ ‬2000‭ ‬هو‭ ‬بريطاني‭ ‬مولود‭ ‬بالصين‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬يعمل‭ ‬أبوه‭ ‬في‭ ‬تجارة‭ ‬الأفيون‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬منتشرة‭ ‬آنذاك‭ ‬بقوة،‭ ‬أما‭ ‬الأم‭ ‬فقد‭ ‬اختفت‭ ‬تماماً‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬غامضة‭. ‬

ثم‭ ‬يرجع‭ ‬كريستوفر‭ ‬ثانية‭ ‬إلى‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1937،‭ ‬حين‭ ‬اشتدت‭ ‬الحرب‭ ‬بين‭ ‬اليابان‭ ‬والصين‭. ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬السلامة،‭ ‬فإن‭ ‬الأب‭ ‬يأوي‭ ‬إلى‭ ‬هونج‭ ‬كونج‭ ‬مع‭ ‬حبيبته‭ ‬الشابة‭ ‬التي‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يتزوجها‭.‬

وفي‭ ‬عام‭ ‬1953‭ ‬يلتقي‭ ‬كريستوفر‭ ‬بأمه‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬عجوزاً‭. ‬فيقرر‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬أسرة‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ويكتشف‭ ‬أن‭ ‬أمه‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬الجو‭ ‬العائلي،‭ ‬وأنها‭ ‬في‭ ‬أمسّ‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬النسيان‭.‬

أما‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تدعني‭ ‬أذهب‭ ‬أبداً‮»‬،‭ ‬فهي‭ ‬تدور‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الفتاة‭ ‬كاتي‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التبرعات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وهي‭ ‬تمارس‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬النشاط‭ ‬منذ‭ ‬طفولتها،‭ ‬تعمل‭ ‬بحماس،‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المشاعر‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬عملها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فهي‭ ‬دائمة‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الأم،‭ ‬لا‭ ‬تهتم‭ ‬بما‭ ‬حققته،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬منشغلة‭ ‬بما‭ ‬ستحصده‭ ‬غداً‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الآخرين‭. ‬

إنها‭ ‬رواية‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬التطوع،‭ ‬ومن‭ ‬شخصيات‭ ‬الرواية‭ ‬المتبرع‭ ‬تومي،‭ ‬صديق‭ ‬كاتي‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬حياته‭ ‬كصبي‭ ‬غير‭ ‬موهوب،‭ ‬لذا‭ ‬فهو‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬عزلة‭ ‬نفسية،‭ ‬وهو‭ ‬شديد‭ ‬الاكتئاب،‭ ‬وعلى‭ ‬العكس،‭ ‬فإن‭ ‬روث‭ ‬تحاول‭ ‬الاستفادة‭ ‬دوماً‭ ‬مما‭ ‬تقدمه‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬التبرع،‭ ‬وهي‭ ‬تنضم‭ ‬إلى‭ ‬مؤسسات‭ ‬التبرع‭ ‬كي‭ ‬تعطي‭ ‬صورة‭ ‬طيبة‭ ‬عنها،‭ ‬وهي‭ ‬تعمل‭ ‬باجتهاد،‭ ‬ولديها‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬ولدت‭ ‬كي‭ ‬تكون‭ ‬مانحة،‭ ‬لكنها‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬تفشل‭ ‬وتبدأ‭ ‬أحلامها‭ ‬في‭ ‬التلاشي،‭ ‬فلا‭ ‬تجد‭ ‬سوى‭ ‬كاتي‭ ‬كي‭ ‬تنقذها‭. ‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬إيشيجورو‭ ‬الضيق،‭ ‬وطالما‭ ‬أننا‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬الفائز‭ ‬بجائزة‭ ‬نوبل‭ ‬العام‭ ‬الماضي،‭ ‬فإن‭ ‬أكاديمية‭ ‬استكهولم‭ ‬لاتزال‭ ‬تقدم‭ ‬لنا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مدهش،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬فاز‭ ‬مطرب‭ ‬الروك‭ ‬المشهور‭ ‬بوب‭ ‬دايلن‭ ‬بالجائزة‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬قبل‭ ‬الماضي،‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬رواية‭ ‬واحدة‭ ‬زكّت‭ ‬كاتبها‭ ‬لكي‭ ‬يحصل‭ ‬عليها‭ ‬هذا‭ ‬العام■