كازو إيشيجورو الياباني الذي غزا إنجلترا
في السنوات الأخيرة بدت أكاديمية استكهولم، التي تمنح جائزة نوبل، كأنها تلعب ضد نفسها، فصارت تمنحها إلى أشخاص يتمتعون بقيمة أدبية لا ترقى إلى مستوى الفطاحل الذين فازوا بها في الثمانين عاماً الأولى من تاريخ الجائزة، وفي العام قبل الماضي كانت الطامة الكبرى في حصول المطرب الأمريكي العجوز بوب دايلن، الذي اشتهر بأغنيات الروك الشعبية، بالجائزة في فرع الأدب، مما أعطانا الإحساس - نحن الذين نتابع الجائزة منذ سنوات طويلة - بأن الأكاديمية فقدت رشدها، لكنها في نهاية العام الماضي يبدو أنها استردت بعضاً من هذا الرشد.
تأتي أهمية جائزة نوبل عند إعلان أسماء الفائزين بها، لتوضح مسألة الفارق بين الهوية والجذور، في جميع الفروع التي تعلن بها من دون استثناء، وفي الأدب، فإن الأمر يعكس إلى أي حد أن الثقافة التي هاجر إليها الكاتب تكون ممثلة في الحصول على الجائزة، خاصة مع أسماء مثل هيرتا موللر، وجان إكس حيان، وجون كوتسيا، وأخيراً كازو إيشوجورو الذي اقترنت الهوية الحالية له بالأصول.
فالكاتب الصيني جيان كتب كل رواياته عن الصين التي تركها ليعيش في فرنسا، حتى وإن كان يكتب بالفرنسية، أما إيشيجورو فإن ملامحه الآسيوية تطارده بقوة حتى وإن كان بريطانياً حتى النخاع في ثقافته، وهذا الأمر مثير للنقاش مع كثرة توافد الآسيويين والأفارقة إلى الغرب، والأمر يختلف بالطبع بالنسبة إلى الكتّاب السوفييت سابقاً، الذين انشقوا عن بلادهم وصار عليهم العودة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
وكان من الممكن أن نقول إن إيشيجورو هو كاتب ياباني يعيش في بريطانيا، لولا هوية روايته «بقايا النهار» التي تدور أحداثها في داخل المجتمع البريطاني العتيق بنبلائه وخدمه، وهي رواية لا يمكن أن يكتبها إلا الكلاسيكيون من أدباء بريطانيا الذين عاشوا في مجتمعات بالغة الرقي.
دهشة يابانية
إيشيجورو المولود في نجازاكي عام 1954، رحل إلى بريطانيا عام 1960، والأمر هنا يختلف عن أقرانه الكثيرين من الهنود، باعتبارهم أبناء مستعمرة بريطانية سابقة، إلا أنه سرعان ما اندمج ودرس في الجامعات البريطانية، وتضاءلت كثيراً ذكرياته اليابانية، ولم يعد قط إلى الشرق أو إلى مدينته ناجازاكي، التي تدور فيها أحداث روايتيه الأوليين، اللتين سمع قصصهما من والديه «لم أعرف اليابان قط، لقد عرفت عنها من خلال أمي... ولكنني لم أجرؤ على أن أقترب منها، ومازلت أتعامل معها كطفل».
وهذا السبب الذي أدهش اليابانيين عقب إعلان الجائزة وهم يبحثون في تراثهم الأدبي الحديث عن أديب ياباني اسمه إيشيجورو، هاتان الروايتان الأوليان هما «مشهد شاحب للتلال» عام 1984، و«فنان عالم الطوفان» 1987.
وفي عام 1989 فاز بجائزة بوكر عن روايته «بقايا النهار»، وهي الرواية التي التقطها بذكاء المترجم الراحل طلعت الشايب باسم «بقايا اليوم»، ضمن المشروع القومي للترجمة، وأعتقد أن الجائزة قد شفعت كثيرا للرواية، فهي عمل بريطاني في المقام الأول، وتتناسب مع القارئ خارج بريطانيا، لكنني - للحق - لم أقرأ هذه الرواية إلا بعد أن نبّهني كاتب الأطفال يعقوب الشاروني إليها، ونحن نلتقي في مكتبة المجلس، برغم أنني كتبت عن المؤلف بشكل عام في موسوعة «أدباء نهاية القرن العشرين» المنشورة لدى الدار المصرية - اللبنانية 1997، وأنا أذكر هذا لكي أدلل على أن البعض قد استعذب هذه الرواية، باعتبار أن كثيراً من المثقفين قد أعلنوا استغرابهم للاسم وهم يتباكون أن الجائزة لم تذهب مجدداً إلى كاتب مصري أو عربي.
عودة إلى الرواية
رواية لكاتب بريطاني ذي ملامح آسيوية تدور أحداثها بأحد القصور العتيقة البريطانية في عشرينيات القرن الماضي، من خلال خادم وزميلته في القصر، لكنه ليس الخادم التقليدي الذي نعرفه في الثقافة الأخرى، بل إنه يكاد يكون واحداً من هذه الطبقة بثقافته، وسلوكه وعاداته، ومفاهيمه، وقد ارتقى بالمسمى الوظيفي، ولعلنا نعرف أمثاله من خلال العديد من الأفلام، من أبرزها فيلم «الخادم» إخراج جوزيف لوزي، وقام ببطولته كل من ذيرك بوجارد، وجيمس فوكس، وسارة مايلز عام 1963، وترك لدى كل مَن شاهده انطباعات لا تنسى حول العلاقات بين الخدم واللوردات في مثل هذه المجتمعات، أما الانطباع العام المتعلق برواية بقايا النهار، فهو أنه لماذا يكتب شاب ذو ملامح وأصول آسيوية مثل هذه الرواية؟ وهو السؤال الذي سيظل بلا إجابة طوال التاريخ الأدبي لقرون قادمة، حيث تأتي العبقرية في أنه كيف لكاتب مغترب أن يسبر أغوار الحياة الاجتماعية والتاريخ السياسي لبريطانيا خلال الصراع مع العالم إبان سطوة الإنجليز بعد انتصار بلادهم في الحرب العالمية الأولى.
هذا الخادم الذي تجاوز سن الخمسين، أتاحت له وظيفته أن يتوغل في الطبقات الاجتماعية الراقية. والرواية ليست عن طبقة اجتماعية بقدر ما هي عن القصر الذي يمتلكه لورد دارلنجتون الذي يدعو رجال الصفوة من المجتمع إلى حضور حفلات العشاء، وحول المائدة الفخمة المليئة بالمراسم الراقية، تدور الحوارات المتنوعة عن كل ما يخص هذه الطبقة، وأغلبهم من «العواجيز»، أو من هم في وسط العمر مثل اللورد، وفي هذا العالم فإن الخادم ستيفنسن يقوم بواجبه على أحسن وجه، سواء في إدارة المنزل، وتحضير أنواع الطعام الملائمة وتقديمها، وعليه أن يتصرف كأنه لا يسمع أي شيء، بالرغم من أنه في علاقته بوصيفة البيت، مس كينتون، يتصرف كشخص ثرثار لبق، لكنه في النهاية يعرف كيف يتصرف.
عالم جاف
هذه الوظيفة أتاحت للخادم أن يكون على مقربة من جميع طبقات المجتمع، باعتباره من عامة الشعب، يقيم أحياناً خارج القصر، برغم وجوده الغالب داخل القصر، فمن أعلى هناك سادة البيت، ومن أسفل هناك الوصيفات والخدم الذين لن يكونوا أبداً من الطبقات الراقية، بينما يعيش الجميع في عالم صلد، بالغ التحفظ، جاف وصارم.
لقد تولى خدمة هذه الأسرة لخمسة وثلاثين عاماً في قصر متسع وجميل، كان يمتلكه من قبل أمريكي ثري. لذا فإن ستيفنسن لم يأخذ في حياته أي إجازة، وعندما جاء سيده الجديد اقترح عليه أن يأخذ العجوز فورد أثناء غيابه، من أجل القيام معها بنزهة لبضعة أيام، ويذهبان معاً إلى الغرب في رحلة لمدة ستة أيام يزوران فيها كلاً من سالزبورج ودورست، حيث يتردد على جميع بيوت السيدة العجوز.
ويروي ستيفنسن عن نفسه أنه ابن أسرة من الخدم، عملت طويلاً في منازل الأثرياء الإنجليز، ويؤكد أن هذه المهنة العريقة غير موجودة في بلدان العالم الآخر بمثل هذه المراسم، وهو يرى «أن سكان القارة الأوربية لا يعرفون الخدم الحقيقيين» ويرى كذلك أن البريطانيين هم الوحيدون الذين يمتلكون شرف المهنة على أصولها.
تدور الرواية على لسان ستيفنسن، الذي يشعر بسعادة في الحديث عن مهنته مع أقربائه الآخرين. ويدور الحديث طويلاً عن المشكلات التي قد تعترضه، وأيضاً عن أسرار المهنة، ويقول الخادم إن سيده من البشر الذين ولدوا كي يخدمهم الآخرون، ويرى أن الحشم صنعوا ليؤدوا الخدمات على أحسن ما تكون الخدمة، وهم يتركون للسادة مهام الاهتمام بالمسائل الكبرى، مثل قضايا الوطن، وكي يترك الإنسان أثراً في ذلك العصر، فإن عليه الاهتمام قدر الإمكان بكبار هذا العصر، فهم يصنعون الحضارة.
مساء الضيوف
وحسب الناقدة الفرنسية نيكول رند في جريدة لوموند (23 فبراير 1990)، فإن براعة الكاتب تجلت في قدرته على اختيار مفردات الخدم البريطانيين في صوغ الرواية، وهي مفردات مليئة بالوقار والاحترام والسذاجة، وكأن الخادم يتحدث إلى أسياده القراء، مثلما يتحدث بالمفردات نفسها إلى أسياده في القصور، وهو يعترف بأن أفضل ساعات النهار هو المساء الذي يأتي فيه الضيوف.
ويتحدث الخدم عن الآنسة كينتون، وهي موظفة كبيرة في الجهاز الحكومي، صار عليها أن تترك القصر من أجل الزواج، كما أن الخادم حريص على اختيار الألفاظ الخاصة بكل شخص في القصر، فاللورد والنجتون يرى أن الكرامة نوع من العبودية، وستيفنسن يرى أن كفاءة الخادم ليست في أنه يهجر الشخصية التي تسكنه، ولكن الخدم يجب أن يتخلوا عن هويتهم لمصلحة أسيادهم.
لذلك فإنه على الخادم أن يتحدث بتبجيل عن أسياده في حضورهم أو غيابهم، ولذا فهو يردد كلمة «سعادته» عن أحدهم حتى عندما يكون غير موجود، وعليه، فنحن أمام رجل هدم كل ما في ذاته من أجل بناء جانب آخر من هذه الذات، ولا يميل الكاتب الحديث عن هذا العالم الخالي من الصراخ والزمجرة، ولذا فإن المشاكلات الحياتية التي يقابلها أبطال روايته تبدو تقليدية. وسرعان ما يتم حلها.
تصوّر فيلمي
هذه رواية بالغة الخصوصية، لكنها مكتوبة بلغة جذابة، وكان لابد أن تشد انتباه مخرج من طراز جيمس إيفوري. أو كأنها كتبت من أجل أن يخرجها، وموضوع تحويل الرواية إلى فيلم أمر بالغ الغرابة، ويحتاج إلى كتابة منفصلة، حيث يقف ثلاثة أطراف مع هذا الحدث، الأول المخرج نفسه الذي تعاون في كل أفلامه تقريباً مع المنتج البريطاني ذي الأصول الهندية إسماعيل ميرشنت، الذي كان مشغوفاً أيضاً بالروايات الكلاسيكية، وكانت الروائية روث برادر بفالا هي أبرز ما في التعاون، فهي روائية، وكاتبة سيناريو كونت الضلع الثالث في المثلث الذي لم ينفصل إلا بالرحيل الأدبي، وهو ثالوث لا مثيل له بالمرة في السينما العالمية، حيث كان المخرج إيفوري يشاركها أحياناً في الكتابة، وفي أغلب الأحيان كان يتركها تكتب ما تختاره.
كما أن إيفوري استعان بالكاتب المسرحي هارولد بينتومن الواضح أنه كان أمام مشروع سينمائي محدد يقدم بريطانيا في أحد أفلامه، وقد وجدوا في رواية «بقايا النهار» الملامح نفسها التي تمتعت بها أعمال أدباء هذه الحقبة، واللطيف أن إيشيجورو نفسه حلّ مكان روث وكتب سيناريو فيلم «الكونتس البيضاء» عام 2005، ولم يكن هناك أي فريق سينمائي متحمس لهذا الأدب إلا هذه الأسماء، وكلهم غارق في عالم الأدب، باعتبار أن روث أيضاً سبق لها الفوز بجائزة «بوكر» مثلما حدث لإيشيجورو.
استعان إيفوري دوماً في أفلامه بالممثل المسرحي البريطاني أنطوني هوبكنز، وأيضاً بالممثلة إيما طومبسون في أكثر من تجربة، مما يعني أن المخرج قد وضع نجوم المسرح البريطاني اللامعين في إطار خطط عمله.
وهذا الفريق كان يتعامل مع النص الأدبي باهتمام شديد ووقار، ولم يكن أحد منهم يجرؤ على إضافة أحداث إلى الرواية، أو الحذف منها، وساعد على ذلك حرفية إيفوري في عمل الصورة الحلوة من روايات مليئة بالبلاغة، وحسب ما جاء في موسوعة الويكيبيديا، باللغة الفرنسية، فإنه لم تكن هناك اختلافات تذكر بين الفيلم والرواية، عدا مشهد المقدمة، حيث تنزل العناوين على خلفية سيارة تتحرك في المزارع، باعتبار أن ذلك تصوير خارجي لفيلم أغلب أحداثه كانت داخل قصر اللورد، وعليه فإننا أمام نص أدبي مأخوذ عن رواية، اعتنت به كاتبة السيناريو، وحرصت على نقل الحوارات باللغة الإنجليزية الكلاسيكية لهذا العصر، من دون أن تضع في حسبانها أن ذلك قد يثير الملل لدى المشاهد، وعليه فالرواية التي قرأناها في كتاب، تكاد تتطابق تماماً مع الفيلم الذي شاهدناه يجمع بين الكلمة والصورة.
7 روايات
ليست هناك دهشة بالمرة من أن كاتباً في الثالثة والستين من العمر يحصل على جائزة نوبل، فهذا أمر مألوف، لكن الغريب أن عدد الروايات المنشورة للكاتب هي بالضبط سبع روايات، وهو عدد قليل جداً من الإبداع قياساً بمن حصلوا على الجائزة قبله، ومن هذه الروايات ما هو مترجم إلى اللغة العربية، ومنها: «من لا عزاء لهم»، و«عندما كنا يتامى»، و«فنان من العالم الطليق»، إضافة إلى «بقايا النهار»، ومن رواياته الأخرى التي لم تترجم بعد «لا تدعني أذهب أبداً» المنشورة عام 2005، ثم «القماش العملاق» المنشورة منذ عامين.
في هذه الروايات أثبت الكاتب أنه بالرغم من إنتاجه القليل، فهو قادر على التنوع في الأماكن التي يذهب إليها، وأيضاً الأزمنة، حيث إن كريستوفر بطل روايته «عندما كنا يتامى» المنشورة عام 2000 هو بريطاني مولود بالصين في أوائل القرن العشرين، يعمل أبوه في تجارة الأفيون التي كانت منتشرة آنذاك بقوة، أما الأم فقد اختفت تماماً في ظروف غامضة.
ثم يرجع كريستوفر ثانية إلى الصين في عام 1937، حين اشتدت الحرب بين اليابان والصين. ومن أجل السلامة، فإن الأب يأوي إلى هونج كونج مع حبيبته الشابة التي قرر أن يتزوجها.
وفي عام 1953 يلتقي كريستوفر بأمه التي صارت عجوزاً. فيقرر أن يصنع أسرة من جديد، ويكتشف أن أمه بعد كل هذه السنوات لم تعد في حاجة إلى أن تعيش في الجو العائلي، وأنها في أمسّ الحاجة إلى النسيان.
أما روايته «لا تدعني أذهب أبداً»، فهي تدور على لسان الفتاة كاتي التي تعمل في مجال التبرعات الاجتماعية، وهي تمارس هذا النوع من النشاط منذ طفولتها، تعمل بحماس، ولا تعرف أي نوع من المشاعر سوى أن تنجح في عملها، وبالتالي فهي دائمة النظر إلى الأم، لا تهتم بما حققته، بقدر ما هي منشغلة بما ستحصده غداً من أجل الآخرين.
إنها رواية عن عالم التطوع، ومن شخصيات الرواية المتبرع تومي، صديق كاتي الذي عاش حياته كصبي غير موهوب، لذا فهو يعيش في عزلة نفسية، وهو شديد الاكتئاب، وعلى العكس، فإن روث تحاول الاستفادة دوماً مما تقدمه في عالم التبرع، وهي تنضم إلى مؤسسات التبرع كي تعطي صورة طيبة عنها، وهي تعمل باجتهاد، ولديها أمل في المستقبل، ولدت كي تكون مانحة، لكنها كثيراً ما تفشل وتبدأ أحلامها في التلاشي، فلا تجد سوى كاتي كي تنقذها.
هذا هو بعض من عالم إيشيجورو الضيق، وطالما أننا نتحدث عن الفائز بجائزة نوبل العام الماضي، فإن أكاديمية استكهولم لاتزال تقدم لنا كل ما هو مدهش، فبعد أن فاز مطرب الروك المشهور بوب دايلن بالجائزة في العام قبل الماضي، يبدو أن رواية واحدة زكّت كاتبها لكي يحصل عليها هذا العام■