أضواء على أرومة الأدب العربي القديم في الجزائر

أضواء على أرومة الأدب العربي  القديم في الجزائر

   مع بداية اندياح الإسلام خارج أرجاء الجزيرة العربية، وانسياب حركته شرقًا وغربًا، تحوّل الكثير من المفاهيم وتغيّر العديد من الأفكار والمصطلحات؛ فقد اقترن الحديث عن تاريخ الأدب العربي، بأرض الجزيرة العربية، وبالعرب المستعربة تحديدًا، الذين وصلنا كلامُهم وأدبُهم، أما العرب العاربة، فلم يذكر لنا التاريخ شيئًا عن أدبهم، ولو لا الشّذَرَات القليلة التي وردتْ عنهم في القرآن الكريم، ربما لم نكن لنعلم عنهم شيئًا إذا استثنينا الآثار المادية بطبيعة الحال. 

 

مما‭ ‬طاله‭ ‬التغيير‭ ‬مصطلح‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬محصورًا‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬أرض‭ ‬الجزيرة‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬بات‭ ‬له‭ ‬وجود‭ ‬وتاريخ‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬البلاد‭ ‬المفتوحة،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬الأرجاء‭ ‬والأقاليم‭ ‬التي‭ ‬تعرّبت‭ ‬بصفة‭ ‬عميقة،‭ ‬مثل‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬وبلاد‭ ‬الأندلس،‭ ‬وتبعًا‭ ‬لذلك‭ ‬أصبحنا‭ ‬نقول‭: ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الأندلس،‭ ‬وتاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬الجزائر،‭ ‬وتاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬وتاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬المغرب،‭ ‬وتاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬موريتانيا،‭ ‬وتاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬ليبيا،‭ ‬وتاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وتاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬وقس‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الأقاليم‭ ‬والمناطق‭ ‬الجغرافية‭ ‬الواقعة‭ ‬شمال‭ ‬شرق‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية،‭ ‬مثل‭ ‬بلاد‭ ‬فارس‭ ‬وخُراسان‭ ‬وما‭ ‬وراء‭ ‬النهرين‭... ‬إلخ‭.‬

تسجّل‭ ‬لنا‭ ‬صفحاتُ‭ ‬التاريخ‭ ‬أن‭ ‬الأمازيغ‭ ‬استقبلوا‭ ‬الإسلام‭ ‬والعرب‭ ‬الفاتحين‭ ‬استقبال‭ ‬المظلوم‭ ‬للعدل،‭ ‬أو‭ ‬استقبال‭ ‬المقرور‭ ‬للدفء،‭ ‬وذلك‭ ‬لبشاعة‭ ‬ما‭ ‬عانوه‭ ‬من‭ ‬قهر‭ ‬واضطهاد‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬حكم‭ ‬الاستعمار‭ ‬الروماني‭ ‬لشمال‭ ‬إفريقيا،‭ ‬وقد‭ ‬انتشرت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بينهم‭ ‬بسرعة‭ ‬مذهلة،‭ ‬لارتباطها‭ ‬بالقرآن‭ ‬الكريم‭ ‬وعقيدة‭ ‬التوحيد،‭ ‬وأخلاق‭ ‬الفاتحين،‭ ‬وسماحتهم‭ ‬المستمدة‭ ‬أصلاً‭ ‬من‭ ‬طبيعة‭ ‬الإسلام‭ ‬وعقائده‭ ‬ومقاصد‭ ‬شريعته‭. ‬وأيضًا‭ ‬نتيجة‭ ‬الأسلوب‭ ‬النبوي‭ ‬الذي‭ ‬ربط‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بالمفهوم‭ ‬الحضاري‭ ‬والإنساني،‭ ‬وجرّدها‭ ‬من‭ ‬الإطار‭ ‬العرقي‭ ‬أو‭ ‬القومي‭ ‬أو‭ ‬السُّلالي،‭ ‬كما‭ ‬نجد‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الأثر‭ ‬النبوي‭ ‬الكريم‭: ‬‮«‬ليست‭ ‬العربية‭ ‬بأحدكم‭ ‬من‭ ‬أب‭ ‬ولا‭ ‬أم،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬اللسان،‭ ‬فمن‭ ‬تكلم‭ ‬العربية‭ ‬فهو‭ ‬عربي‮»‬‭ (‬رواه‭ ‬ابن‭ ‬عساكر‭.

وكان‭ ‬طبيعيًا‭ ‬أن‭ ‬يظهر‭ ‬أدبٌ‭ ‬عربيٌّ‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المناطق،‭ ‬مع‭ ‬بدايات‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬الهجري،‭ ‬إذا‭ ‬اعتبرنا‭ ‬أنّ‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الأول‭ ‬الهجري‭ ‬تمّ‭ ‬تكريسه‭ ‬للتمكين‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬وغرس‭ ‬عرى‭ ‬الإيمان‭ ‬في‭ ‬الأفئدة؛‭ ‬ودليل‭ ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬هؤلاء‭ ‬القوم‭ ‬انخرطوا‭ ‬سريعًا‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬الفتح‭ ‬التي‭ ‬تمكّنت‭ ‬سنة‭ ‬92‭ ‬هجرية‭ ‬من‭ ‬المرور‭ ‬إلى‭ ‬الضفة‭ ‬الأخرى‭ ‬وفتح‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭ ‬إيبيريا‭ (‬إسبانيا‭ ‬والبرتغال‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬عُرفت‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬بلاد‭ ‬الأندلس‮»‬‭. ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬أهمّ‭ ‬علامات‭ ‬وأمارات‭ ‬سرعة‭ ‬تمكّن‭ ‬سكان‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬قوة‭ ‬بلاغة‭ ‬الفاتح‭ ‬طارق‭ ‬بن‭ ‬زياد‭ ‬التي‭ ‬تجلّت‭ ‬في‭ ‬خطبته‭ ‬إبّان‭ ‬فتح‭ ‬الأندلس،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬أمازيغية،‭ ‬كما‭ ‬يذهب‭ ‬المؤرخ‭ ‬ابن‭ ‬عذاري‭ ‬المراكشي‭ ‬في‭ ‬تاريخه‭ ‬المشهور‭ ‬‮«‬البيان‭ ‬المغرب‭ ‬في‭ ‬اختصار‭ ‬أخبار‭ ‬الأندلس‭ ‬والمغرب‮»‬‭.‬

 

مراحل‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬الجزائري‭ ‬القديم‭ ‬

يرى‭ ‬بعض‭ ‬الباحثين‭ ‬أنّ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬الجزائر،‭ ‬لم‭ ‬يظهر‭ ‬بصورة‭ ‬فعلية‭ ‬إلا‭ ‬مع‭ ‬بدايات‭ ‬دخول‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬الهجري‭ (‬التاسع‭ ‬الميلادي‭)‬،‭ ‬لكن‭ ‬الاستقراء‭ ‬التاريخي‭ ‬يثبت‭ ‬وجود‭ ‬بعض‭ ‬نماذج‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الجزائري،‭ ‬قبل‭ ‬دخول‭ ‬القرن‭ ‬الثالث،‭ ‬وتحديدًا‭ ‬عندما‭ ‬تمكّن‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بن‭ ‬رستم‭ ‬من‭ ‬تأسيس‭ ‬أول‭ ‬دولة‭ ‬مستقلة‭ ‬عن‭ ‬مركز‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬سنة‭ ‬160‭ ‬هـ،‭ ‬خلال‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬الهجري،‭ ‬وجعل‭ ‬‮«‬تيهرت‮»‬‭ ‬عاصمة‭ ‬لها،‭ ‬وهي‭ ‬الدولة‭ ‬الرستمية‭ (‬160‭ - ‬296‭ ‬هـ‭ / ‬777‭ ‬ــ‭ ‬909‭ ‬م‭).‬

ومن‭ ‬أدباء‭ ‬الجزائر‭ ‬إبّان‭ ‬فترة‭ ‬الدولة‭ ‬الرستمية‭ ‬الشيخ‭ ‬الأديب‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬أفلح،‭ ‬حيث‭ ‬ترك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬الأدبية‭ ‬والنصوص‭ ‬النثرية‭. ‬لكن‭ ‬عندما‭ ‬استولى‭ ‬الفاطميون‭ ‬على‭ ‬تيهرت‭ ‬أحرقوا‭ ‬مكتبتها‭ ‬المسماة‭ ‬مكتبة‭ ‬‮«‬المعصومة‮»‬،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬أدباء‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬اندثر‭ ‬نتيجة‭ ‬هذا‭ ‬الحريق‭ ‬المُتلِف‭. ‬

وبعد‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬جاءت‭ ‬مرحلة‭ ‬أخرى‭ ‬هي‭ ‬مرحلة‭ ‬الدولة‭ ‬الفاطمية‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬أبوعبيدالله‭ ‬المهدي،‭ ‬برز‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬أعلام‭ ‬كثيرون‭ ‬نذكر‭ ‬منهم‭: ‬الفضل‭ ‬بن‭ ‬سلمة‭ ‬بن‭ ‬جرير‭ ‬البجائي‭ (‬ت‭ ‬319‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬الشعر‭ ‬نذكر‭ ‬الأديب‭ ‬الشاعر‭: ‬ابن‭ ‬هانئ‭ ‬المسيلي،‭ ‬الذي‭ ‬اشتهر‭ ‬بلقب‭ ‬ابن‭ ‬هانئ‭ ‬الأندلسي‭ (‬ت‭ ‬362هـ‭)‬،‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬بإشبيلية،‭ ‬بعد‭ ‬هجرة‭ ‬والده‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬المهدية‭ ‬بتونس‭ ‬إلى‭ ‬الأندلس،‭ ‬وهو‭ ‬شاعر‭ ‬مبدع‭ ‬مجيد‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬لُقّب‭ ‬بمتنبي‭ ‬الغرب‭ ‬الإسلامي‭. ‬وقد‭ ‬اجتذبته‭ ‬مدينة‭ ‬المسيلة‭ ‬الجزائرية،‭ ‬وطاب‭ ‬له‭ ‬المقام‭ ‬فيها،‭ ‬وقال‭ ‬فيها‭ ‬شعرًا‭ ‬ينمّ‭ ‬عن‭ ‬عظيم‭ ‬تعلّقه‭ ‬بها‭ ‬وبأهلها،‭ ‬خاصة‭ ‬مدحه‭ ‬لأميرها‭ ‬‮«‬علي‭ ‬بن‭ ‬حمدون‮»‬‭ ‬وابنه‭ ‬‮«‬جعفر‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬خلفه‭ ‬في‭ ‬إمارتها؛‭ ‬وقد‭ ‬حاول‭ ‬الشاعر‭ ‬عبدالله‭ ‬جدي‭ ‬أن‭ ‬يستفزّ‭ ‬الذاكرة‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تنسى‭ ‬علاقة‭ ‬الشاعر‭ ‬ابن‭ ‬هانئ‭ ‬بحاضرة‭ ‬المسيلة‭ ‬فقال‭: ‬

أرض‭ ‬المسيلة‭ ‬لو‭ ‬عاد‭ ‬الزمانُ‭ ‬بها

إلى‭ ‬القديـم‭ ‬فإنَّ‭ ‬المـجد‭ ‬بانيها

من‭ ‬أرضها‭ ‬تصنع‭ ‬الأجيال‭ ‬منهلها

حضارة‭ ‬الأمس‭ ‬قاصيها‭ ‬ودانيها

روضٌ‭ ‬ومملكةٌ‭ ‬في‭ ‬الأمس‭ ‬خالدة

إمارة‭ ‬لـ‭ (‬بني‭ ‬حمدون‭) ‬راعيها

هنا‭ (‬ابن‭ ‬هاني‭) ‬يقول‭ ‬الشعر‭ ‬ممتدحًا

‭(‬علي‭) ‬و‭(‬جعفر‭) ‬والأشعار‭ ‬يحكيها

والعالم‭ (‬ابن‭ ‬رشيق‭) ‬نحن‭ ‬نعرفه

‭ ‬كذا‭ (‬أبوالفضل‭) ‬نحويها‭ ‬وداعيها

 

  ‬كما‭ ‬نذكر‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬أدباء‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭: ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬فتح‭ ‬التاهرتي،‭ ‬وأبا‭ ‬الفضل‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬القاسم‭ ‬البزّار،‭ ‬والشاعر‭ ‬بكر‭ ‬بن‭ ‬حماد‭ ‬الذي‭ ‬اشتهر‭ ‬بالزهد،‭ ‬وله‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ديوان‭ ‬شعري‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الدرّ‭ ‬الوقاد‮»‬،‭ ‬والأديب‭ ‬الناقد‭ ‬ابن‭ ‬رشيق‭ ‬المولود‭ ‬في‭ ‬المسيلة‭ ‬سنة‭ ‬390‭ ‬هـ؛‭ ‬لكنه‭ ‬هاجر‭ ‬وأقام‭ ‬في‭ ‬القيروان‭ ‬بتونس‭ ‬فأصبح‭ ‬يُلقّب‭ ‬بابن‭ ‬رشيق‭ ‬القيرواني‭.‬

 

مرحلة‭ ‬الدولة‭ ‬الصنهاجية

  ‬وبعد‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬أقبلت‭ ‬مرحلة‭ ‬أخرى‭ ‬هي‭ ‬مرحلة‭ ‬الدولة‭ ‬الصنهاجية،‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬قبيلة‭ ‬صنهاجة،‭ ‬وبعض‭ ‬المؤرخين‭ ‬يعتبرون‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬ملحقة‭ ‬بمرحلة‭ ‬الدولة‭ ‬الفاطمية؛‭ ‬لأن‭ ‬المعز‭ ‬لدين‭ ‬الله‭ ‬الفاطمي‭ ‬عندما‭ ‬حان‭ ‬وقت‭ ‬خروجه‭ ‬النهائي‭ ‬من‭ ‬الجزائر‭ ‬وتونس‭ ‬وارتحاله‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬استخلف‭ ‬بلكين‭ ‬بن‭ ‬زيري‭ ‬بن‭ ‬مناد‭ ‬الصنهاجي‭ ‬على‭ ‬المغرب‭ ‬الأوسط‭ (‬الجزائر‭ ‬حاليًا‭)‬،‭ ‬وذلك‭ ‬سنة‭ ‬361‭ ‬هـ؛‭ ‬وقد‭ ‬استمرت‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬التاريخية‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬تمكّن‭ ‬الموحّدون‭ ‬من‭ ‬إخضاع‭ ‬كل‭ ‬أرجاء‭ ‬بلاد‭ ‬المغرب‭ ‬سنة‭ ‬555‭ ‬هـ‭ ‬لحكم‭ ‬الدولة‭ ‬الموحّدية‭.‬

ومما‭ ‬يُلاحظ‭ ‬أنّ‭ ‬الأدب‭ ‬والكتابة‭ ‬ازدهرا‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الحقبة،‭ ‬وأصبح‭ ‬الأدباء‭ ‬الجزائريون‭ ‬يكتبون‭ ‬بلغة‭ ‬تشبه‭ ‬لغة‭ ‬أهل‭ ‬المشرق،‭ ‬لاسيما‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الزخرفة‭ ‬اللفظية‭ ‬وتوظيف‭ ‬الصور‭ ‬البلاغية؛‭ ‬ومن‭ ‬أشهر‭ ‬أعلام‭ ‬الأدب‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭: ‬الأديب‭ ‬أبو‭ ‬محمد‭ ‬عبدالله‭ ‬التنوخي‭ ‬المشهور‭ ‬بابن‭ ‬ميلة،‭ ‬وأيضًا‭ ‬الشاعر‭ ‬الأديب‭ ‬أبو‭ ‬حسن‭ ‬علي‭ ‬الخزاعي‭ ‬التلمساني‭.‬

وفي‭ ‬العهد‭ ‬الموحدي‭ ‬ظهر‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬البلغاء‭ ‬برعوا‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬فن‭ ‬الرسائل‭ ‬وفن‭ ‬الخطابة‭ ‬وفن‭ ‬المقامات،‭ ‬منهم‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬محرز‭ ‬الوهراني،‭ ‬الذي‭ ‬ترجم‭ ‬له‭ ‬خير‭ ‬الدين‭ ‬الزّركلي‭ ‬في‭ ‬معجم‭ (‬الأعلام‭)‬،‭ ‬وقال‭ ‬عنه‭: ‬‮«‬كاتب‭ ‬منشئ‭ ‬من‭ ‬أكابر‭ ‬الظرفاء،‭ ‬قَدِمَ‭ ‬مصر‭ ‬أيام‭ ‬السلطان‭ ‬صلاح‭ ‬الدين،‭ ‬واجتمع‭ ‬بالقاضي‭ ‬الفاضل‭ ‬والعماد‭ ‬الأصبهاني،‭ ‬له‭ ‬طريقة‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الهزلية،‭ ‬وقد‭ ‬أقبل‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬أقواله‭ ‬ورسائله،‭ ‬وكانت‭ ‬موهبته‭ ‬في‭ ‬النثر‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬موهبته‭ ‬في‭ ‬الشعر‮»‬‭ ‬ومن‭ ‬آثار‭ ‬هذا‭ ‬الأديب‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬المنامات‭ ‬والمقامات‭ ‬والرسائل‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬كتاب‭ ‬مطبوع‭ ‬بتحقيق‭ ‬الدكتور‭ ‬منذر‭ ‬الحايك‭.‬

أما‭ ‬أدب‭ ‬التصوّف‭ ‬أو‭ ‬الأدب‭ ‬الديني،‭ ‬في‭ ‬صفحات‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الجزائري‭ ‬القديم،‭ ‬فيُعدّ‭ ‬من‭ ‬أنصع‭ ‬أنواع‭ ‬وأغراض‭ ‬هذا‭ ‬الأدب،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تخلُ‭ ‬منه‭ ‬أي‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬مراحله،‭ ‬منذ‭ ‬مرحلة‭ ‬العهد‭ ‬الرستمي‭ ‬إلى‭ ‬العهد‭ ‬الحالي‭. ‬ومن‭ ‬أعلام‭ ‬أدب‭ ‬التصوّف‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬القاسم‭ ‬الخلوف‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬قسنطينة‭ ‬سنة‭ ‬829‭ ‬هـ‭ ‬أيام‭ ‬الحفصيين،‭ ‬ومن‭ ‬آثاره‭ ‬الباقية‭ ‬المطبوعة‭ ‬‮«‬ديوان‭ ‬جنى‭ ‬الجنتين‭ ‬في‭ ‬مدح‭ ‬خير‭ ‬الفرقتين‭ ‬المعروف‭ ‬بديوان‭ ‬الإسلام‮»‬،‭ ‬وكذلك‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬الحسن‭ ‬القلعي‭ ‬المتوفى‭ ‬ببجاية‭ ‬سنة‭ ‬673‭ ‬هـ،‭ ‬وهو‭ ‬أديب‭ ‬ولغوي‭ ‬صوفي‭ ‬كرّس‭ ‬حياته‭ ‬لخدمة‭ ‬طلبة‭ ‬العلم‭ ‬وإعارة‭ ‬الكتب‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬حين،‭ ‬عُرف‭ ‬بحسن‭ ‬الخط‭ ‬وإجادة‭ ‬الشعر،‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬المتعلق‭ ‬منه‭ ‬بمدح‭ ‬النبي‭ ‬المصطفى‭ (‬‭[‬‭).‬

حتى‭ ‬فن‭ ‬الرحلة‭ ‬سجّل‭ ‬حضورًا‭ ‬قويًا‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الجزائري‭ ‬القديم،‭ ‬ومثال‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬سجله‭ ‬الرّحالة‭ ‬عبدالرزاق‭ ‬بن‭ ‬حمادوش‭ ‬المولود‭ ‬بمدينة‭ ‬الجزائر‭ ‬سنة‭ ‬1107‭ ‬هـ،‭ ‬صاحب‭ ‬الرحلة‭ ‬المسماة‭ ‬‮«‬لسان‭ ‬المقال‭ ‬في‭ ‬النبأ‭ ‬عن‭ ‬النسب‭ ‬والحسب‭ ‬والحال‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬مطبوعة‭ ‬بهذا‭ ‬العنوان‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬عنوان‭ ‬آخر‭ ‬مختصر‭ ‬هو‭ ‬‮«‬رحلة‭ ‬ابن‭ ‬حمادوش‭ ‬الجزائري‮»‬‭.‬

 

بداية‭ ‬الفن‭ ‬القصصي

أما‭ ‬فن‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة،‭ ‬فقد‭ ‬ظهر‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الجزائري،‭ ‬ويذهب‭ ‬الدكتور‭ ‬أبوالقاسم‭ ‬سعد‭ ‬الله،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أول‭ ‬أنموذج‭ ‬لهذا‭ ‬الفن‭ ‬أبدعه‭ ‬يراع‭ ‬الأديب‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬الديسي،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬بوسعادة‭ ‬قرب‭ ‬المسيلة؛‭ ‬لكن‭ ‬مراجعة‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬القصصي‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬بين‭ ‬العلم‭ ‬والجهل‮»‬‭ ‬يبيّن‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬فن‭ ‬المقامات‭ ‬الذي‭ ‬برع‭ ‬في‭ ‬تطريسه‭ ‬الجزائريون‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬تدبيج‭ ‬أدبهم‭ ‬باللغة‭ ‬العربية،‭ ‬هذه‭ ‬اللغة‭ ‬الساحرة‭ ‬التي‭ ‬سكنت‭ ‬الأفئدة‭ ‬وهيمنت‭ ‬على‭ ‬الأرواح‭ ‬منذ‭ ‬لحظة‭ ‬اصطفائها‭ ‬لحمل‭ ‬الوحي‭ ‬الذي‭ ‬ختم‭ ‬الله‭ ‬به‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية‭. ‬أما‭ ‬الدكتور‭ ‬عبدالمالك‭ ‬مرتاض‭ ‬فيميل‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬فن‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الجزائري‭ ‬بدأ‭ ‬مع‭ ‬الشيخ‭ ‬المصلح‭ ‬الأديب‭ ‬محمد‭ ‬السعيد‭ ‬الزاهري،‭ ‬ثمّ‭ ‬تطوّر‭ ‬مع‭ ‬محمد‭ ‬العابد‭ ‬الجلّالي‭ ‬وأحمد‭ ‬بن‭ ‬عاشور،‭ ‬ثم‭ ‬أحمد‭ ‬رضا‭ ‬حوحو،‭ ‬وأبوالقاسم‭ ‬سعدالله‭ .‬

ولعلّ‭ ‬الملاحظة‭ ‬الأهم‭ ‬بالنسبة‭ ‬للأدب‭ ‬الجزائري‭ ‬تتعلّق‭ ‬بمدى‭ ‬ارتباطه‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬ومنافحته‭ ‬البصيرة‭ ‬عن‭ ‬عمقها‭ ‬الحضاري‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬ذكر‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬طمار‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬القيّم‭ ‬‮«‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬الجزائري‭ ‬القديم‮»‬،‭ ‬إذْ‭ ‬قال‭: ‬‮«‬منذ‭ ‬أن‭ ‬وطئت‭ ‬أرجل‭ ‬العرب‭ ‬أرض‭ ‬الجزائر،‭ ‬أخذ‭ ‬أهلها‭ ‬بتلابيب‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬فأصبحت‭ ‬الثقافة‭ ‬الجزائرية‭ ‬عربية،‭ ‬ومستقبل‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬إلاّ‭ ‬عربيًا‮»‬‭ (‬محمد‭ ‬طمار‭: ‬تاريخ‭ ‬الأدب‭ ‬الجزائري،‭ ‬ديوان‭ ‬المطبوعات‭ ‬الجامعية،‭ ‬الجزائر،‭ ‬2006م‭)

هذه‭ ‬إطلالة‭ ‬عامة‭ ‬على‭ ‬أرومة‭ ‬وجذور‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬الجزائري،‭ ‬أعددتها‭ ‬للقارئ‭ ‬العربي‭ ‬الكريم؛‭ ‬كي‭ ‬تتكوّن‭ ‬لديه‭ ‬صورة‭ ‬عامة‭ ‬عن‭ ‬الأثر‭ ‬الذي‭ ‬أحدثته‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬بعد‭ ‬تشريفها‭ ‬بالقرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وانسيابها‭ ‬المواكب‭ ‬أبدًا‭ ‬لانسيابه‭ ‬المتحرّك‭ ‬السيّال؛‭ ‬مع‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬نحظى‭ ‬بالاطلاع‭ ‬على‭ ‬الإرهاصات‭ ‬الأولى‭ ‬للأدب‭ ‬العربي‭ ‬وصوره‭ ‬الإبداعية،‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬الأقطار‭ ‬والأمصار،‭ ‬خاصة‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تمّ‭ ‬تعريب‭ ‬ألسنة‭ ‬شعوبها‭ ‬بصورة‭ ‬عميقة؛‭ ‬علمًا‭ ‬بأنّ‭ ‬هناك‭ ‬وجودًا‭ ‬للأدب‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬الأقطار‭ ‬التي‭ ‬انتشرت‭ ‬فيها‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وإنْ‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬تعريب‭ ‬شعوبها‭ ‬بمستوى‭ ‬عميق‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قيست‭ ‬بشعوب‭ ‬شمال‭ ‬إفريقيا،‭ ‬مثل‭ ‬تشاد‭ ‬وإريتريا‭ ‬والنيجر‭ ‬ونيجيريا‭ ‬والسنغال‭ ‬ومالي‭ ‬وإفريقيا‭ ‬الوسطى‭ ‬والكاميرون‭ ‬وغيرها؛‭ ‬وقد‭ ‬ذُهلتُ‭ - ‬أثناء‭ ‬زيارة‭ ‬خاصة‭ - ‬بمستوى‭ ‬سكان‭ ‬انجامينا‭ ‬في‭ ‬تشاد‭ ‬وشمال‭ ‬الكاميرون،‭ ‬في‭ ‬خطابهم‭ ‬باللغة‭ ‬العربية،‭ ‬واعتزازهم‭ ‬العجيب‭ ‬بها،‭ ‬وإصرارهم‭ ‬على‭ ‬الحديث‭ ‬والتواصل‭ ‬اليومي‭ ‬بها؛‭ ‬وهذا‭ ‬يلقي‭ ‬بثقل‭ ‬إضافي‭ ‬من‭ ‬المسؤولية‭ ‬على‭ ‬عواتقنا‭ ‬نحن‭ ‬العرب،‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬تعقُّب‭ ‬وجمع‭ ‬الإبداع‭ ‬الأدبي‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأقطار‭ ‬