الدخول الأدبي الفرنسي 2017 على صفيح ساخن

بعد تتويج الروائية المغربية الشابة ليلى سليماني بجائزة الغونكور، وهي واحدة من أرقى وأعرق الجوائز الأدبية بفرنسا، عن روايتها «أغنية هادئة»، وحصول الروائية ياسمينا رضا (روائية فرنسية من أصول إيرانية - روسية) على جائزة رينودو عن روايتها «بابيلون» خلال الدخول الأدبي لسنة 2016، وردود الأفعال المتباينة التي أعقبت ذلك بين النقاد كما العموم، يبدو أن «جنس الرواية» بفرنسا يعيش أبهى عصوره الذهبية من جديد - أمام غزو الأدب الأنجلوساكسوني للأسواق الأدبية العالمية - متفوقاً في ذلك على حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية.
أسهم عديد من الكتاب العرب الناطقين بالفرنسية (الطاهر بن جلون، أمين معلوف، آسيا جبار، ياسمينة خضرا، ليلى سليماني)، في تعزيز القدرة التنافسية للأدب والرواية الفرنسية في «سوق استهلاكية» لا ترضى إلا بالراقي والمتميز، وتأكيد الدور الكبير للعرب والمسلمين في صناعة التاريخ الحاضر والراهن لـ «فرنسا التعدد والاختلاف».
ويظل هذا الوضع محط قبول واعتراف، بل وافتخار، على نطاق واسع بين الأقلام والمثقفين الملتزمين بالمشهد الثقافي الفرنسي؛ على اعتبار أن الغنى الثقافي والإثني و«تشبيب» الحقل العلمي والأدبي هما سندا أساس لتحقيق الرقي والازدهار.
وعلى الرغم من ردود الفعل المتباينة داخل المجتمع الفرنسي بشأن تتويج سليماني بجائزة الغونكور، والتي مازالت آثارها إلى اليوم، نظراً لكونها عربية ومغربية؛ أي ليست فرنسية «أصيلة»، كما يقال من جهة، ونظراً إلى حداثة سنها (35 سنة) ومشوارها الأدبي (ليس في رصيدها الأدبي سوى روايتين اثنتين) من جهة أخرى، فإنه لا يمكن إنكار النفَس الجديد الذي أضفته الروائية الشابة على عالَم الرواية الفرنسية وردّ الاعتبار للأدباء الشباب في عالم مُهَيمَن عليه بشكل كبير من «زعماء الأكاديمية الفرنسية».
فورة إنتاج
وبالاستناد إلى ذلك، يعرف الدخول الأدبي بفرنسا لخريف العام الماضي فورة في حجم الإنتاج، وتطوراً ملحوظاً في الثيمات وجودة المواد المطروحة، فضلاً عن اختراق الشباب لعالم النشر الأدبي بقوة.
وتبعاً لذلك، ووفقاً لمجلة ليكسبريس، يبلغ عدد الروايات التي صدرت حتى شهر أكتوبر من العام الماضي حوالي 390 رواية، مقارنة بـ 363 خلال عام 2016، بزيادة تبلغ 6 في المائة.
وبلغ عدد الروايات الأجنبية 191 رواية لكتّاب من مختلف القارات (ودوماً على رأس القائمة الكتّاب العرب والأفارقة واللاتينيون). كما أن دور النشر أضحت أكثر مرونة في انفتاحها على الشباب والأقلام الجديدة، ولم تعد تربط بين ارتفاع مبيعاتها وقيمة الكتّاب والروائيين ووزنهم، وإنما بقيمة المادة نفسها، لهذا تم خلال العام الماضي نشر 81 رواية لأقلام شابة وجديدة، مقارنة بـ 66 خلال عام 2016.
يذكر أنه من شأن الثورة التكنولوجية وانتشار ثقافة الصورة أن يسهما في تنامي الطلب على المؤلفات والروايات الصغيرة والمتوسطة الحجم (من 100 إلى 400 صفحة)، ونحن نعلم أن خصوصيات اللغة الفرنسية (كوريثة للاتينية) تقف عائقاً أمام إقبال القراء غير الفرنسيين على الروايات والمؤلفات كبيرة الحجم.
لكن الملاحظ في العام الماضي، وهي النقطة التي انتبه إليها عديد من النقاد، هو انفتاح دور النشر الفرنسية العريقة (غراسيت، فلاماريون...) على الروايات كبيرة الحجم.
إحياء الرواية الفرنسية
ويمكن أن يكون الأمر دعوة إلى إحياء الرواية الفرنسية وتعزيز منافستها في السوق الدولية من خلال مؤشر الحجم والكم، كما هو الشأن مع الرواية الروسية التي عرفت تاريخياً بحجمها وتعدد شخوصها وتفاصيلها الوجدانية و«الزمكانية».
لكن مع ذلك، قد ينعكس ذلك سلباً على انتشار وقبول الرواية الفرنسية نفسها؛ بسبب ارتفاع ثمن الروايات بشكل كبير (خاصة في الدول العربية)، وتزايد إقبال القراء على الروايات الصغيرة والمتوسطة، التي غالباً ما يكتبها الشباب والهواة (على الأقل جزء كبير منها)، مع إمكان العودة القوية لمؤلفات العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تتبنى شعار «القرب إلى العموم» أساساً لسياسة الحجمين المتوسط والقصير.
ولعلنا نجد في مقدمة الروايات التي تتصدر الدخول الأدبي لعام 2017 رواية «كونغ» لـميشيل لو بريس، (منشورات غراسيت)، بعدد صفحات يجاوز 942 من الحجم الكبير، و«الملف م» لـغريغوار بويلير (منشورات فلاماريون) 878 صفحة، و«انتصار توماس زينز» لـماتيو جونغ، (منشورات سوريي) 752 صفحة، و«صعود» لـفنسنت ديليكروا، 638 صفحة.
وبالنسبة إلى دور النشر، وبعد الأرباح الطائلة التي صار يكسبها الناشرون من وراء حقوق نشر وترجمة الروايات والكتب الفائزة بالجوائز الأدبية الراقية خلال السنوات الأخيرة، أصبح كل ناشر يقدم في كل دخول أدبي وثقافي مؤلفات وكتباً عديدة للمنافسة على مختلف الصعد؛ صنف الرواية، القصة، النقد، العلوم الاجتماعية، الفلسفة، العلوم الإنسانية.
روايات متميزة
وهكذا نجد أن «غاليمار» تطمح للمنافسة على «الغونكور» من خلال تقديم روايات متميزة تعتبرها الدار تنافسية ومن المستوى العالي، وعلى رأسها «سوف يقتلون روبرت كينيدي» لـمارك دوغين، و«غرفة الزوجين» لإريك راينهارت، اللتان صدرتا في السابع عشر من أغسطس الماضي.
في حين أن «فلامارون» تقدّم «فن الفقدان» لأليس زينيتر، و«ذئب للرجل» لـبريجيت جيرود.
وتطرح «لوسوي» «طابا طابا» لباتريك ديفيل، و«علوم الحياة» لجوي سورمان. كما تقترح «مينوي»، «صنع في الصين» لجان فيليب توسان، و«سيغما» لجوليا ديك.
وللكتاّب ذوي الخلفيات العربية نصيبهم من هذه الحركة الأدبية بفرنسا، حيث تقدم صوفيا عزالدين رواية «أمه» (عن منشورات ستوك)، بينما يكتب كمال داود «زابور» (عن دار أكت سيود)، ويقترح صابر منصوري «امرأة دون كتابة» (عن منشورات لوسوي)، وعمر العقاد «الحرب الأمريكية» (عن فلاماريون).
واتسم الدخول الأدبي الفرنسي خلال العام الماضي كذلك بتنوع المواضيع والثيمات المعالجة، حيث يظهر التأثير الواضح للأحداث التي عرفتها فرنسا والمنطقة خلال السنوات الأخيرة على الخط التحريري والأدبي للروائيين ودور النشر.
ارتباط قوي
ووفقاً لجريدة ليبراسيون الفرنسية، فإن ثيمات من قبيل الجزائر والماضي الكولونيالي لفرنسا، العنصرية ومسائل الهوية، التدهور البيئي، تعكس الارتباط القوي لجنس الرواية بالمسائل الاجتماعية والسياسية للبلد من جهة، وتلاقح مختلف أجيال الأدباء والروائيين من جهة أخرى.
صحيح أن فرنسا وبقية الدول الغربية أضحت تولي أهمية كبرى للأدب ضمن الأجندات الثقافية والفكرية المحلية، بل أضحى محط اهتمام أكثر من العلوم الاجتماعية نفسها (في فرنسا عدد مبيعات الروايات يفوق بكثير مؤلفات العلوم الاجتماعية مجتمعة)، فإنه يجب ألا ننسى جهود عديد من الدول العربية لمواكبة هذه الطفرة العالمية في صناعة الأدب.
فمع انتقال المركزيات الثقافية من محور القاهرة - دمشق - بيروت نحو دول الخليج، (كما يصرح بذلك المستشرق والأنثربولوجي الفرنسي فرانك ميرميه)، أضحى مختلف الأجناس الأدبية في العالم العربي يعرف انتعاشة كمية ونوعية حقيقية، انعكست إيجاباً على وضع اللغة والأدب العربي في المنطقة بالنسبة إلى العموم وعلى موقع الأدب العربي في المشهد الأدبي العالمي.
وأضحت حركة الترجمة من العربية نحو الفرنسية والإنجليزية في تطور ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، بفعل جودة وتميز الأعمال المنتجة في المنطقة العربية، وتزايد انفتاح القارئ الغربي على الإبداعات العربية. وهذا الأمر ستكون لنا عودة إليه، بمشيئة الله■