بين السرقة الأدبية وتفاعُل النصوص
إن مشكلة النصوص الأدبية والفكرية من حيث نسبتها إلى أصحابها أو ادّعاء غير أصحابها لها مشكلة قديمة، كانت جزءاً من موضوع الشك في الأدب الجاهلي، ودخلت تحت مصطلح الانتحال، ثم دخلت من بعدُ، ولاسيما في العصر العباسي، تحت مصطلح السرَق أو السرِقة، ودخلت اليوم تحت مصطلح أجنبي جديد هو l,intertextualité الذي ترجمه بعضهم إلى التناصّ، وأنا أترجمه إلى «تفاعل النصوص»، فهو أوضح وأدق، ويعني مجموعة العلاقات التي تقوم بين نصين أو أكثر، والتي توحي نوعاً من التماثل أو القربى، ولاسيما في الميدان الأدبي.
الحقيقة أن هذا التفاعل مدروس في النقد العربي القديم تحت عنوان السرَق نفسه، وبخاصة في كتاب محمد بن الحسن الحاتميّ (ت 388 هـ): حلية المحاضرة، وكتاب ابن رشيق القيروانيّ
(ت 456 هـ): العُمدة، وكتاب ضياء الدين بن الأثير (ت 637 هـ): المثل السائر. وكذلك تحت بعض العناوين البلاغية كالتضمين والاقتباس والاستشهاد.
تفاعُل لا سرقة في الجاهلية والإسلام
ولم يُعنَ النقاد القدماء كثيراً بموضوع الانتحال، وهو ادعاء أحدهم لنفسه ما ليس له، حتى التبس الأمر على بعض الباحثين المعاصرين، ومنهم مؤلفون كبار كشوقي ضيف، فخلطوا بينه وبين النحل، أي نسبة الرواة أشعاراً إلى غير قائليها؛ وخلطوا كذلك بين الانتحال والوضع، أي تأليف الرواة أنفسهم أشعاراً ونسبتها إلى شعراء قدماء أو معاصرين، تكسّباً بروايتها؛ وقد يشمل ذلك وضع بعض الشعراء شعراً على لسان معاصرين لهم إما للإضرار بهم، أو لمساعدتهم على الشهرة والكسب.
وأما أسباب عزوفهم عن التوسع في موضوع الانتحال في الجاهلية، مع رؤيتهم تماثلاً نَصيّاً أحياناً بين أبيات شاعرين أو أكثر، فهي في أغلب الظن:
أولاً: تهيّبهم الإزراء على القدماء.
ثانياً: عدم استطاعتهم، في الغالب، التأريخ الدقيق للقصائد الجاهلية، وعجزهم عن الجزم بأسبقية هذا الشاعر على ذاك في قول النص نفسه أو النص الشبيه به.
ثالثاً: خلطهم الواضح بين أشعار الجاهليين ونسبتهم النص نفسه، أحياناً، إلى أكثر من شاعر، وكل ذلك لاعتمادهم على الرواية الشفهية وغياب التدوين.
رابعاً: كون الرواة العباسيين، وهذا هو الأهم، هم الذين يرْوون الشعر وينسبونه إلى الجاهليين، وليس الجاهليون هم الذين ينسبون الأشعار إلى أنفسهم؛ فالمسؤولية في النسبة، صحيحة كانت أم مغلوطة، تقع على الرواة.
والحقيقة أن السرقة الأدبية في الجاهلية مستبعدة الحصول، لقلة الكتابة والتعويل على الرواية الشفهية. والذي كان يحدث أن الشاعر كان يقول القصيدة فيرويها عنه آخرون، وكلٌّ يحفظها بطريقته، بحيث ينتج كل منهم نصاً مختلفاً، أي جديداً نسبياً، وقد يخلط قصائد الشعراء بعضها ببعض، بحيث ينسب البيت الواحد أو المقطع الواحد إلى غير شاعر، لتصبح القصيدة الواحدة نتاج شعراء متعددين، فضلاً عما يدخله الراوية نفسه عليها من تعديل أو زيادة، غالباً عن حُسن قصد.
وقد تصل القصيدة إلى أشخاص لا يعرفون أصحابها، فلا يحفظون منها إلا نتفاً أو مقاطع. وهكذا تصبح القصائد ذاكرة شعبية، وضرباً من المشاع، ومن النتاج الشعبي المشترك الذي يصعب أحياناً نسبته إلى شاعر بعينه. وقد يرسخ بيت في لاوعي أحد الشعراء، فيحضُره عند تأليفه قصيدة جديدة، ويتوهم أنه ابن خياله ونتاج ساعته، فيكون مماثلاً أو مشابهاً لذلك البيت المحفوظ الصادر عن غيره.
ولهذا تكاد تكون مسألة الانتحال المتصلة بالشعر الجاهلي غير قابلة للطرح، وتكاد القضية تقتصر على النحل والوضع. واللافت أنهم لم يكادوا يذكرون الانتحال في الجاهلية إلا على لسان الشعراء أنفسهم، وبصيغة النفي، فنسبوا إلى الأعشى أنه قال:
فما أنا أَمْ ما انتحالي القوافِي
بَعْدَ المشيبِ، كفى ذاكَ عارا
دع إنهم نسبوا إلى شاعر مخضرم بين العهدين الأموي والعباسي، هو إبراهيم بن هَرْمة، أنه قال:
ولم أتنحَّلِ الأشعارَ فيها
ولم تُعْجزنيَ المِدَحُ الجيادُ
وقد تجنّبوا نسبة السرقة صراحة إلى الجاهليين، وما كادوا يفعلون ذلك إلا بعبارات ضمنية، على حين أنهم نسبوا إلى هؤلاء نفيهم السرقة عن أنفسهم، كالذي أضافوه إلى طرفة بن العبد، وهو قوله:
ولا أُغيرُ على الأشعارِ أسرِقُها
عنها غَنيتُ، وشرُّ الناسِ مَنْ سَرَقا
وإلى حسّان بن ثابت، وهو:
لا أَسرِقُ الشعراءَ ما نَطقوا
بل لا يوافقُ شِعرَهم شِعري
نعم، قد يُشك بهذه الأبيات لما فيها من هلهلة ولين، لكنها تعبّر بلا ريب عن محاولة الرواة تنزيه القدماء عن السرقة. وحين وجد النقاد تماثلاً بين كلام بعض الشعراء وبعض، استعملوا لذلك صيغاً مهذبة مثل فعل «أَخَذَ»، وهو فعل عام يدل على جميع أنواع التأثر والنقل، ومن ذلك ملحوظة القاضي عليّ الجرجانيّ (ت 392 هـ) في تشابه قول النابغة الذبياني:
لوْ أنّها عرضتْ لأَشمطَ راهبٍ
عبَدَ الإلهَ صَرورةٍ متعبّدِ
وقول ربيعة بن مقروم:
لو أنّها عرضتْ لأَشمطَ راهبٍ
عبَدَ الإلهَ صَرورةٍ مُتَبَتِّلِ
إذ اعتبر أن أحدهما أخذ من الآخر، موحياً أن النابغة هو المأخوذ منه.
إلا أن عبدالكريم النهشليّ (ت 403 هـ) عدَّ مثل ذلك سرقة، واستشهد له ببيت امرئ القيس:
وقوفاً بها صَحْبي عَلَيّ مَطيَّهمْ
يقولونَ لا تهلِكْ أَسىً وتَجَمَّلِ
وبيت طرفة بن العبد:
وقوفاً بها صَحْبي عَلَيّ مَطيَّهمْ
يقولونَ لا تهلِكْ أَسىً وتَجَلَّدِ
وقد نوافق النهشليّ في ذلك إذا نظرنا إلى الموضوع نظرة شكلية، لكن إذا تدبرنا ما سبق قوله من كون الشعر في الجاهلية ذاكرة شعبية وتراثاً مشتركاً، قدّرنا صعوبة القول بالسرقة في هذين البيتين، وإن كان يحتمل عندنا أن الأمر ليس أخذاً ولا اقتباساً، بل هو عمل رواة نحلوا شعراً لغير صاحبه، وبدلوا في القافية، ليس إلاّ، إن لم يكونوا قد وضعوا الشعرين معاً.
وقد أدخل ابن وكيع التنيسيّ (ت 393 هـ) صاحب كتاب المنصف في سرقات المتنبي ذلك في ما سماه «مواردة»، يعني توارد أفكار، وإن شكّ في الرواية المتصلة بامرئ القيس وطرفة لأسباب تاريخية. ورأيه ينسجم مع ما قدمناه، لأن الذاكرة الشعبية تؤدي إلى التوارد.
بل إن من الرواة من أشار مع ذلك إلى سرقات أوسع، ومن ذلك زعمُ أبي عبيدة إغارة زهير بن أبي سلمى على شعر شاعر مغمور من قبيلته، قبيلة غطفان، هو قُراد بن حَنَش، إذ ادعى لنفسه أربعة من أبيات ذلك الشاعر، أولها:
إنَّ الرَّزِيّةَ لا رَزِيّةَ مِثلُها
ما تبتغي غَطَفانُ يومَ أَضلَّتِ
كما أشار الأصمعي إلى أنه «يقال إن كثيراً من شعر امرئ القيس لصعاليك كانوا معه»، من غير أن يبين إن كان امرؤ القيس نفسه هو الذي انتحلها، أو أن الرواة هم الذين نحلوه إياها؛ وأشار كذلك إلى أن النابغة الجعديّ قال شعراً جيداً في بداية أمره، ثم أُفحم ثلاثين سنة وبعدها نبغ، لكنّ شعره بعد نبوغه «كله مسروق، وليس بجيد». على أننا لا نكاد نظفر إلا بهاتين الإشارتين الصريحتين، وتلك الإشارة الملتبسة، في هذا الصدد، أما سائر الإشارات فيُستعمل فيها نحو فعل أخذ، كما بيّنا آنفاً.
في السرقة الفنية الحميدة
ولقد يجد النقاد تسويغاً للسرقات، ويفضلون النصوص الناشئة عنها على النصوص الأصيلة، وإن كان في كثير من ذلك تجوّزٌ لاعتماده على أدنى ملابسة. وهم يرون في السرقة الرائقة ما يشبه الفن والبراعة:
إن ما قدمناه عن الذاكرة الشعبية قد يفسر قول الجاحظ (ت 255 هـ) في أن المعاني مطروحة في الطريق، وأن الشأن للصناعة والتصوير، وكذلك في أن الشعراء يتنازعون المعنى وتختلف ألفاظهم وأعاريض شعرهم فيه، ولا يكون أي منهم أحق به من سواه، وقد ينسبونه إلى توارد الخواطر بين القدماء وبينهم. فالمعاني المطروحة في الطريق هي النتاج المشترك الناشئ عن الرواية الشفهية. ويبدو أن عليّاً الجرجاني ذهب مذهب الجاحظ، مؤكداً وجود معانٍ مشتركة مبتذلة لا أحد أولى بها من غيره، وأن بعضهم ينفرد بعذوبة اللفظ أو رشاقته أو ترتيب الكلام أو زيادة في المعنى، وإذا «المشترك المبتذل في صورة المبتدع المخترع». أي أنه يبني المفاضلة بين الشاعرين المشتركين في المعنى الواحد على الزيادة في المعنى أو على الجودة في الصناعة. لكنه لا يلبث أن يعدّ ذلك الأخذ سرقة ممدوحة. بل من السرقة ما عدّه حذقاً، كأن يختلس الشاعر معنى قيل في غرض ما، فينقله إلى غرض آخر، والمثال على ذلك نقل المعنى الغزلي إلى المدح، أو المعنى الهجائي إلى الفخر.
ويستلطف الجرجاني السرقة إذا قلب الشاعر المعنى المسروق أو ناقضه. وقد أوشك أن يجعل السرقة مجرد توارد، أو محاولةً لإخفاء المعنى بالنقل والقلب والترتيب والزيادة ... إلخ. يعني بالأسلوب.
فالأسلوب - وإن لم يستعمل علي الجرجاني هذا المصطلح - هو مناط التمييز بين الشعراء. فصاحبنا تتنازعه فكرتان، فكرة اشتراك الأفكار وشيوعها، بحيث تنتفي تهمة السرقة، وفكرة السرقة الحميدة، وهي تجميل شعر الآخرين، فيبدو كالمفكر الحر الذي لاتزال تسيطر عليه بعض الرواسم الفكرية التقليدية، ويحاول أن يوائم بينها وبين جديد تفكيره.
وفي السياقة نفسها يذكر ابن رشيق، نقلاً عمن وصفه ببعض الحذاق، وبما يكاد يؤكد أن ذلك الحاذق هو علي الجرجاني نفسه، أن الشاعر الذي يغيّر «بعض المعنى ليخفيه»، أو الذي يقلب المعنى «عن وجهه» فـإنما يدلّ على حِذقه. كما نقل ابن رشيق نفسه عن ابن وكيع التنيسيّ المعاصر لعليّ الجرجاني «أن المتّبِع إذا تناول معنى فأجاد بأن يختصره إن كان طويلاً، أو يبسطه إن كان كزاً (أي يابساً)، أو يبيّنه إن كان غامضاً، أو يختار له حسن الكلام إن كان سفسافاً، أو رشيق الوزن إن كان جافياً، فهو أولى به من مبتدعه؛ وكذلك إنْ قلَبه أو صرفه عن وجهه إلى وجه آخر»، وهذا الرأي قريب أيضاً من رأي علي الجرجاني، لكن فيه ما يعني نزع ملكية الشعر من صاحبه بقوة التحسين. فثمة فن للسرقة، يشبه ما يسمى الحيل الشرعية أو القانونية. وهذا الأمر يذكرنا بتلك المدرسة التي نشأت بفرنسا في القرن السابع عشر، وأدارها أستاذ مزعوم اسمه ريشَسُورْس، راح يعلّم تلاميذه فن السرقة الأدبية وإخفاءَ الاختلاس فيها ببراعة، ولكن هذه المدرسة أو هذا الميل ما كان ليتحقق في زمن الرواية الشفهية.
وأخرجوا من باب السرقة ما سموه الاستزادة، وهي ضرب من التضمين، يقوم على أن يدخل الشاعر في قصيدته بيتاً مشهوراً لشاعر آخر، كالذي فعله الزبرقان بن بدر، وهو مخضرم، إذ أدرج في إحدى قصائده هذا البيت المشهور:
تعدو الذئابُ على مَنْ لا كلابَ لهُ
وتحتمي مَرْبِضَ المستنْفِرِ الحامي
وهو في ديوان النابغة برواية ابن السكيت
(ت 244 هـ)، من قصيدة ميمية أيضاً، لكن بلفظي تتّقي والمستثفر؛ ولذلك أكد يونس بن حبيب
(ت 182 هـ) لمحمد بن سلاّم أن البيت للنابغة، وأنه يظن أن الزبرقان استزاده في شعره بمثابة المثل، وليس ذلك اجتلاباً، بل أمر تفعله العرب من غير إرادة السرقة. على أن قصيدة الزبرقان تبدو قطعة من خمسة أبيات، ليس فيها هذا البيت وحده من قصيدة النابغة، بل فيها بيت آخر يكاد يكون مطابقاً لأحد أبيات قصيدة النابغة المشار إليها، وذلك أدنى إلى المفهوم السائد للسرقة، لأن البيت ليس مثلاً ولا مشهوراً.
وهذا يعني أن خُمسي قطعة الزبرقان مأخوذان من شعر النابغة، ويبعث أمرهما على تصور احتمالين، هما أن يكونا نتاج لاوعي الزبرقان، وهو لا يدري أنهما للنابغة، أو أن تكون القطعة من صنع الرواة، إلا إذا كان الزبرقان من الجرأة بحيث ينتحل بيتين وهو يعرف أنهما للنابغة، وذلك مستبعد.
هذا ولا يمكننا اتباع طريقة يونس في التسمّح هنا، ولو على سبيل الجدل، فنرى في ما أخذه ابن مقروم من النابغة، وطرفة بن العبد من امرئ القيس، على ما قدمنا، ضرباً من الاستزادة، لأن ما أخذه هذان لا يشبه المثل؛ هذا إذا صدق الرواة ولم يكن تماثُل الأبيات من صنعهم.
ضروب السرقة
وقد جعل النقاد العرب السرقة ضروباً، وتوسع بعضهم في تفريعها بما لا طائل تحته، وبما لا يعد، أحياناً، سرقة، بل يجوز اعتباره عملاً شبيها بها، وربما كان خارجاً كلية عنها.
فمن ضروبها ما سبق ذكره من انتحال، ومن إغارة، تشبيهاً بإغارة بعض القبائل على بعض، وقد أشرنا إلى ذلك في إغارة زهير على شعر لأحد أبناء قبيلته؛ ويكون المغير، عادة، مشهوراً والمغار عليه مغموراً أو أقل شهرة.
وممن نسبوا إليه الإغارة الفرزدق الذي يزعمون أنه سلب جميلاً بيتاً يقول فيه:
ترى الناسَ ما سِرْنا يسيرونَ خَلْفَنا
وإنْ نحنُ أَوْمأنا إلى الناسِ وَقَّفوا
وأدخله في شعره، لاعتقاده أن الـمُلك في مضر وهو شاعرها، وليس في بني عُذْرة. ومثل ذلك زعْم الشاعر دِعْبِل الخُزاعي أن أبا تمّام أخذ معظم القصيدة التي رثى بها أبو مَكْنف الـمُزنيّ ذُفافةَ العبسيّ، ونسبها إلى نفسه، متصرفاً ببعض الأسماء التي فيها.
ومنه الغَصْب، وهو الاستيلاء على شعر الآخرين بالقوة أو بالتهديد، وينتهي بخضوع المستولَى على شعره لأنه الأضعف. وقد نسبوا شيئاً منه إلى الفرزدق نفسه، إذ سمع الشاعرَ الأمويّ الشَّمَرْدَلَ بن شريك اليربوعيّ ينشد بعض الشعر، فأعجبه ما سمع، وخيّر الشمردلَ بين النزول عنه له والتعرض للهجاء، ففضل الشمردل النزول.
ويزعمون كذلك أن الفرزدق فعل الأمر نفسه مع ذي الرُّمة. ونحن نستبعد مثل هذه الأخبار، ونراها من القصص التي ربما أريد بها تشويه صورة الشاعر المنسوب إليه الغصب، ولاسيما أن ذا الرمة لم يكن نكرة ولا ضعيفاً حتى يستسلم للفرزدق على تلك الطريقة.
ومنه ما أسموه المرافدة، ويعنون به الهبة أو الإعانة، وهي أن يهب الشاعرُ أبياتاً له لشاعر أقل منه درجة وشهرة، فيعينه على إقامة القصيدة أو تطويلها، وعلى الكسب أحياناً؛ ومن ذلك زعمهم أن جريراً أعان ذا الرمة في قصيدة رائية له، ما كاد الفرزدق يسمعها، من بعد، حتى اكتشف سرها. ومنه ما زعموه من إعانة جرير نفسه لمن سموه هشاماً المرئيّ في هجاء ذي الرمة، وإعانة كعب بن زهير بن أبي سلمى للنابغة الذبياني. وينطبق على هذه الأخبار ما ذكرناه في موضوع الغصب من استبعاد، ولاسيما أن كعباً متأخر عن النابغة، وأقل منه درجة وشهرة. علماً بأن ابن وكيع لم ير في المرافدة عيباً، ربما لأنها لا تعد سرقة، بل هي ضرب من التعاون الأدبيّ.
ومنه ما سموه الاختلاس أو نقل المعنى، وقد عرضنا له آنفاً، وهو أن ينقل الشاعر معنى بعض العبارات عند شاعر من الشعراء من فن شعري إلى فن شعري آخر، كأن يكون المعنى غزلياً فينقله الشاعر إلى المديح.
ومنه ما سموه النَّسخ وهو وقوع السرقة على ما دون البيت، وما سموه النظر والملاحظة أو الإلمام، وهو تساوي المعنيين أو تضادهما عند شاعرين مع اختلاف اللفظ وخفاء الأخذ.
ومنه ما سموه التلفيق وهو استمداد البيت الواحد من ألفاظِ عدةِ أبيات... إلخ.
على أنهم لم يعدوا التضمين سرقة ولو كان المضمَّن بيتاً شعرياً كاملاً، وقياساً على ذلك فإن الاقتباس لا ينبغي أن يعد سرقة، وهذان من أهم أساليب التفاعل النصيّ. وغني عن البيان أن الاستشهاد بنصوص الآخرين لا يعد عندهم سرقة، لأن فيه تصريحاً بالنقل، ونسبة للنص إلى صاحبه. وكذلك لم يتوقفوا عند التأثر والتأثير الأسلوبي العام إلا نادراً، وهو من أهم ملامح التفاعل النصيّ.
وواضح أن السرقة عندهم تُزعم لأدنى ملابسة أحياناً، وقد يوغلون في التأويل لبيانها، وهم يجدون العذر للشعراء، أحياناً، ولاسيما القدماء، في ما تكون السرقة واضحة، نظرياً، فيه. وقد يلتبس معنى السرقة بمعنى الوضع والنحل. وقد يضيفون إلى السرقة ما ليس منها، كالتعاون الأدبي. وقد يرون في السرقة البارعة أو الخادعة عذراً للسارق، ومزية ربما قدمته على المسروق منه. كما قد يضيفون إليها ما هو قريب منها كالغصب. وينفون عنها صراحة أو ضمناً ما يدخل في استعارة النصوص بصورة توحي انتسابها إلى أصحابها لا محاولة سرقتها، وذلك لشهرتها، وليس لأن المستعير يضع الكلام المستعار بين مزدوجين كما نفعل في أيامنا، وإن كان بعض ذلك يحمل على اللبس، ولا يوحي الاستعارة البريئة.
السرقات النثرية والشعرية الحديثة
هذا في الشعر، أما في الكلام المرسل فإن المؤلفات النثرية النقدية أو التاريخية، سواء كان التاريخ أدبياً أو سياسياً، حافلة بالسرقة الحقيقية التي لا لبس فيها ولا علاقة للذاكرة الشعبية بها، وذلك لأن المؤلفين القدماء كانوا يجمعون الروايات والنصوص من الكتب المعاصرة لهم أو التي سبقتهم، من غير نسبة الكلام إلى صاحبه في كثير من الأحيان؛ أو يتصرفون بالنصوص ويدخلون بعضها في بعض؛ وحسبك أن تتصفح كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (ت 361 هـ) الذي يعترف بتلفيق الروايات، وكتاب الكامل في التاريخ لعزالدين بن الأثير (ت 630 هـ) المنقول في أكثره من كتاب تاريخ الرسل والملوك المعروف بتاريخ الطبري (ت 310 هـ)، حتى تستيقن من هذه الحقيقة.
ومن الطريف أن جلال الدين السيوطيّ (ت 911 هـ/ 1505 م) جمع في كتاب المزهر نصوصاً شتى، بعضها منسوب إلى أصحابه، وبعضها بلا نسبة، ومن ذلك نقْله في مواضع متفرقة من كتابه هذا مقدمةَ كتاب طبقات الشعراء لابن سلاّم الجمحيّ (ت 231 هـ)، بادئاً في كل موضع بنحو عبارة: قال محمد بن سلام في «طبقات الشعراء»، متْبعاً ذلك بتعداد الأقوال التي نقلها ابن سلام بحيث يظن القارئ أن كلام ابن سلام انتهى وبدأ كلام أصحاب الأقوال تلك، وهو أمر حمل عدداً من غير المدققين على نسبة محتويات تلك المقدمة إلى السيوطيّ نفسه، لأنهم لم يقرأوا مقدمة طبقات الشعراء، أو لعل بعضهم قرأها ونسي نصها.
ومازالت السرقة الأدبية شائعة في أيامنا، ويقال إن من الطلاب الذين يعدون أطاريح دكتوراه في البلاد العربية وخارجها مَن لا يصنع شيئاً إلا أن يترجم كتاباً لبعض المؤلفين، أو ينسخ كتاباً مطبوعاً يتناول موضوع أطروحته، أو يستكتب بعض المتخصصين لأطروحته، وينال درجة الدكتوراه بمقتضى ذلك؛ وإن مِن أعضاء هيئة التدريس في الجامعات مَن يسرق الكتب أو المحاضرات المطبوعة التي ألّفها زملاؤه أو غير زملائه وينسبها إلى نفسه لينال رتبة أكاديمية.
ومن أغرب ذلك ما جرى لأحد كبار الأساتذة، إذ جاءه صحافي من أصدقائه وقال له: إن فلاناً، الشخصية المعروفة، يريد أن يحسّن موقعه الأدبي والاجتماعي ويبتغي أن ينال درجة الدكتوراه من إحدى الجامعات، ويأمل أن تكتب له أطروحته، وسوف يعطيك (شيكاً) على بياض! فرفض الأستاذ هذا العرض بإباء العالم الخلوق، عندئذ قال له الصحافي: فليكن كتاباً ينشره باسمه، فاستمر الأستاذ على إبائه وطرد الصحافي بطريقة مهذبة، لكنه فوجئ بعد مدة أن تلك الشخصية صارت تتمتع بلقب دكتور، ولم تلبث أن صارت عضواً في مجلس النواب، والظاهر أن أحدهم وافق على العرض الذي رفضه هو.. إنها مما سماه القدماء مرافدة، ولكن في النثر.
أما الشعر الحديث فلا أعرف دراسة عن السرقات فيه، لكنني أسمع وأقرأ أن بعض شعراء الحداثة العرب اقتبسوا كثيراً من الصور عن شعراء غربيين، ولاسيما الشعراء الفرنسيين والإنجليز، كبودلير وسان جون برس وإليوت. وأنا أعرف نوعاً من المرافدة أيضاً، إذ طلب أحد الدبلوماسيين إلى أحد الشعراء أن يكتب له قصيدة لينتحلها ويلقيها عند افتتاح مسجد تبرعت به حكومة دولته لبعض البلاد الإسلامية، فكان له ما أراد؛ وأسمع أن أحد الأناشيد الوطنية المشهورة كتبه شاعر لشخصية ذات مكانة اجتماعية لم يُعرف عنها الشعر قط، واشتهر النشيد باسمها، وأشياء من هذا القبيل.
ومن الطرائف التي شهدتها بنفسي أن أحد الشعراء ألّف قصيدة فحفظ أحد أصدقائه شيئاً منها، وراح يقرأه على جماعة من أصحابه في الجامعة على أنه له، إلى أن تصدى له صديق آخر يحفظ تلك القصيدة برمتها، وقال له: أتريد أن أكمل القصيدة لك؟ فلما فعل اعترف الأول أنها لصديقهما المشترك. والأسوأ من ذلك أن منتحل القصيدة هذا تشاعر في هرمه وأصدر ديواناً، مع أنه لا يحسن لغة، ولا يقيم وزناً عروضياً، ولا يتمتع بأي خيال شعري خلاق■