بين السرقة الأدبية وتفاعُل النصوص

بين السرقة الأدبية وتفاعُل النصوص

إن‭ ‬مشكلة‭ ‬النصوص‭ ‬الأدبية‭ ‬والفكرية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬نسبتها‭ ‬إلى‭ ‬أصحابها‭ ‬أو‭ ‬ادّعاء‭ ‬غير‭ ‬أصحابها‭ ‬لها‭ ‬مشكلة‭ ‬قديمة،‭ ‬كانت‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬موضوع‭ ‬الشك‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬الجاهلي،‭ ‬ودخلت‭ ‬تحت‭ ‬مصطلح‭ ‬الانتحال،‭ ‬ثم‭ ‬دخلت‭ ‬من‭ ‬بعدُ،‭ ‬ولاسيما‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي،‭ ‬تحت‭ ‬مصطلح‭ ‬السرَق‭ ‬أو‭ ‬السرِقة،‭ ‬ودخلت‭ ‬اليوم‭ ‬تحت‭ ‬مصطلح‭ ‬أجنبي‭ ‬جديد‭ ‬هو‭ ‬l,intertextualité‭ ‬الذي‭ ‬ترجمه‭ ‬بعضهم‭ ‬إلى‭ ‬التناصّ،‭ ‬وأنا‭ ‬أترجمه‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬تفاعل‭ ‬النصوص‮»‬،‭ ‬فهو‭ ‬أوضح‭ ‬وأدق،‭ ‬ويعني‭ ‬مجموعة‭ ‬العلاقات‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬بين‭ ‬نصين‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬والتي‭ ‬توحي‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬التماثل‭ ‬أو‭ ‬القربى،‭ ‬ولاسيما‭ ‬في‭ ‬الميدان‭ ‬الأدبي‭.‬

الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التفاعل‭ ‬مدروس‭ ‬في‭ ‬النقد‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬السرَق‭ ‬نفسه،‭ ‬وبخاصة‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬الحسن‭ ‬الحاتميّ‭ (‬ت‭ ‬388‭ ‬هـ‭): ‬حلية‭ ‬المحاضرة،‭ ‬وكتاب‭ ‬ابن‭ ‬رشيق‭ ‬القيروانيّ‭ ‬
‭(‬ت‭ ‬456‭ ‬هـ‭): ‬العُمدة،‭ ‬وكتاب‭ ‬ضياء‭ ‬الدين‭ ‬بن‭ ‬الأثير‭ (‬ت‭ ‬637‭ ‬هـ‭): ‬المثل‭ ‬السائر‭. ‬وكذلك‭ ‬تحت‭ ‬بعض‭ ‬العناوين‭ ‬البلاغية‭ ‬كالتضمين‭ ‬والاقتباس‭ ‬والاستشهاد‭.‬

 

تفاعُل‭ ‬لا‭ ‬سرقة‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬والإسلام

ولم‭ ‬يُعنَ‭ ‬النقاد‭ ‬القدماء‭ ‬كثيراً‭ ‬بموضوع‭ ‬الانتحال،‭ ‬وهو‭ ‬ادعاء‭ ‬أحدهم‭ ‬لنفسه‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬له،‭ ‬حتى‭ ‬التبس‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الباحثين‭ ‬المعاصرين،‭ ‬ومنهم‭ ‬مؤلفون‭ ‬كبار‭ ‬كشوقي‭ ‬ضيف،‭ ‬فخلطوا‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬النحل،‭ ‬أي‭ ‬نسبة‭ ‬الرواة‭ ‬أشعاراً‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬قائليها؛‭ ‬وخلطوا‭ ‬كذلك‭ ‬بين‭ ‬الانتحال‭ ‬والوضع،‭ ‬أي‭ ‬تأليف‭ ‬الرواة‭ ‬أنفسهم‭ ‬أشعاراً‭ ‬ونسبتها‭ ‬إلى‭ ‬شعراء‭ ‬قدماء‭ ‬أو‭ ‬معاصرين،‭ ‬تكسّباً‭ ‬بروايتها؛‭ ‬وقد‭ ‬يشمل‭ ‬ذلك‭ ‬وضع‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬شعراً‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬معاصرين‭ ‬لهم‭ ‬إما‭ ‬للإضرار‭ ‬بهم،‭ ‬أو‭ ‬لمساعدتهم‭ ‬على‭ ‬الشهرة‭ ‬والكسب‭. ‬

وأما‭ ‬أسباب‭ ‬عزوفهم‭ ‬عن‭ ‬التوسع‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬الانتحال‭ ‬في‭ ‬الجاهلية،‭ ‬مع‭ ‬رؤيتهم‭ ‬تماثلاً‭ ‬نَصيّاً‭ ‬أحياناً‭ ‬بين‭ ‬أبيات‭ ‬شاعرين‭ ‬أو‭ ‬أكثر،‭ ‬فهي‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬الظن‭: ‬

أولاً‭: ‬تهيّبهم‭ ‬الإزراء‭ ‬على‭ ‬القدماء‭. ‬

ثانياً‭: ‬عدم‭ ‬استطاعتهم،‭ ‬في‭ ‬الغالب،‭ ‬التأريخ‭ ‬الدقيق‭ ‬للقصائد‭ ‬الجاهلية،‭ ‬وعجزهم‭ ‬عن‭ ‬الجزم‭ ‬بأسبقية‭ ‬هذا‭ ‬الشاعر‭ ‬على‭ ‬ذاك‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬النص‭ ‬نفسه‭ ‬أو‭ ‬النص‭ ‬الشبيه‭ ‬به‭. ‬

‭ ‬ثالثاً‭: ‬خلطهم‭ ‬الواضح‭ ‬بين‭ ‬أشعار‭ ‬الجاهليين‭ ‬ونسبتهم‭ ‬النص‭ ‬نفسه،‭ ‬أحياناً،‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شاعر،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬لاعتمادهم‭ ‬على‭ ‬الرواية‭ ‬الشفهية‭ ‬وغياب‭ ‬التدوين‭. ‬

رابعاً‭: ‬كون‭ ‬الرواة‭ ‬العباسيين،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الأهم،‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬يرْوون‭ ‬الشعر‭ ‬وينسبونه‭ ‬إلى‭ ‬الجاهليين،‭ ‬وليس‭ ‬الجاهليون‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬ينسبون‭ ‬الأشعار‭ ‬إلى‭ ‬أنفسهم؛‭ ‬فالمسؤولية‭ ‬في‭ ‬النسبة،‭ ‬صحيحة‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬مغلوطة،‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬الرواة‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬السرقة‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬مستبعدة‭ ‬الحصول،‭ ‬لقلة‭ ‬الكتابة‭ ‬والتعويل‭ ‬على‭ ‬الرواية‭ ‬الشفهية‭. ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬يحدث‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬القصيدة‭ ‬فيرويها‭ ‬عنه‭ ‬آخرون،‭ ‬وكلٌّ‭ ‬يحفظها‭ ‬بطريقته،‭ ‬بحيث‭ ‬ينتج‭ ‬كل‭ ‬منهم‭ ‬نصاً‭ ‬مختلفاً،‭ ‬أي‭ ‬جديداً‭ ‬نسبياً،‭ ‬وقد‭ ‬يخلط‭ ‬قصائد‭ ‬الشعراء‭ ‬بعضها‭ ‬ببعض،‭ ‬بحيث‭ ‬ينسب‭ ‬البيت‭ ‬الواحد‭ ‬أو‭ ‬المقطع‭ ‬الواحد‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬شاعر،‭ ‬لتصبح‭ ‬القصيدة‭ ‬الواحدة‭ ‬نتاج‭ ‬شعراء‭ ‬متعددين،‭ ‬فضلاً‭ ‬عما‭ ‬يدخله‭ ‬الراوية‭ ‬نفسه‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬تعديل‭ ‬أو‭ ‬زيادة،‭ ‬غالباً‭ ‬عن‭ ‬حُسن‭ ‬قصد‭.‬

وقد‭ ‬تصل‭ ‬القصيدة‭ ‬إلى‭ ‬أشخاص‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬أصحابها،‭ ‬فلا‭ ‬يحفظون‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬نتفاً‭ ‬أو‭ ‬مقاطع‭. ‬وهكذا‭ ‬تصبح‭ ‬القصائد‭ ‬ذاكرة‭ ‬شعبية،‭ ‬وضرباً‭ ‬من‭ ‬المشاع،‭ ‬ومن‭ ‬النتاج‭ ‬الشعبي‭ ‬المشترك‭ ‬الذي‭ ‬يصعب‭ ‬أحياناً‭ ‬نسبته‭ ‬إلى‭ ‬شاعر‭ ‬بعينه‭. ‬وقد‭ ‬يرسخ‭ ‬بيت‭ ‬في‭ ‬لاوعي‭ ‬أحد‭ ‬الشعراء،‭ ‬فيحضُره‭ ‬عند‭ ‬تأليفه‭ ‬قصيدة‭ ‬جديدة،‭ ‬ويتوهم‭ ‬أنه‭ ‬ابن‭ ‬خياله‭ ‬ونتاج‭ ‬ساعته،‭ ‬فيكون‭ ‬مماثلاً‭ ‬أو‭ ‬مشابهاً‭ ‬لذلك‭ ‬البيت‭ ‬المحفوظ‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬غيره‭. ‬

ولهذا‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬مسألة‭ ‬الانتحال‭ ‬المتصلة‭ ‬بالشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للطرح،‭ ‬وتكاد‭ ‬القضية‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬النحل‭ ‬والوضع‭. ‬واللافت‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يكادوا‭ ‬يذكرون‭ ‬الانتحال‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الشعراء‭ ‬أنفسهم،‭ ‬وبصيغة‭ ‬النفي،‭ ‬فنسبوا‭ ‬إلى‭ ‬الأعشى‭ ‬أنه‭ ‬قال‭:‬

فما‭ ‬أنا‭ ‬أَمْ‭ ‬ما‭ ‬انتحالي‭ ‬القوافِي

بَعْدَ‭ ‬المشيبِ،‭ ‬كفى‭ ‬ذاكَ‭ ‬عارا

 

دع‭ ‬إنهم‭ ‬نسبوا‭ ‬إلى‭ ‬شاعر‭ ‬مخضرم‭ ‬بين‭ ‬العهدين‭ ‬الأموي‭ ‬والعباسي،‭ ‬هو‭ ‬إبراهيم‭ ‬بن‭ ‬هَرْمة،‭ ‬أنه‭ ‬قال‭:‬

ولم‭ ‬أتنحَّلِ‭ ‬الأشعارَ‭ ‬فيها

ولم‭ ‬تُعْجزنيَ‭ ‬المِدَحُ‭ ‬الجيادُ

 

وقد‭ ‬تجنّبوا‭ ‬نسبة‭ ‬السرقة‭ ‬صراحة‭ ‬إلى‭ ‬الجاهليين،‭ ‬وما‭ ‬كادوا‭ ‬يفعلون‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬بعبارات‭ ‬ضمنية،‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬أنهم‭ ‬نسبوا‭ ‬إلى‭ ‬هؤلاء‭ ‬نفيهم‭ ‬السرقة‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم،‭ ‬كالذي‭ ‬أضافوه‭ ‬إلى‭ ‬طرفة‭ ‬بن‭ ‬العبد،‭ ‬وهو‭ ‬قوله‭:‬

 

ولا‭ ‬أُغيرُ‭ ‬على‭ ‬الأشعارِ‭ ‬أسرِقُها

عنها‭ ‬غَنيتُ،‭ ‬وشرُّ‭ ‬الناسِ‭ ‬مَنْ‭ ‬سَرَقا

 

وإلى‭ ‬حسّان‭ ‬بن‭ ‬ثابت،‭ ‬وهو‭:‬

لا‭ ‬أَسرِقُ‭ ‬الشعراءَ‭ ‬ما‭ ‬نَطقوا

بل‭ ‬لا‭ ‬يوافقُ‭ ‬شِعرَهم‭ ‬شِعري

 

نعم،‭ ‬قد‭ ‬يُشك‭ ‬بهذه‭ ‬الأبيات‭ ‬لما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬هلهلة‭ ‬ولين،‭ ‬لكنها‭ ‬تعبّر‭ ‬بلا‭ ‬ريب‭ ‬عن‭ ‬محاولة‭ ‬الرواة‭ ‬تنزيه‭ ‬القدماء‭ ‬عن‭ ‬السرقة‭. ‬وحين‭ ‬وجد‭ ‬النقاد‭ ‬تماثلاً‭ ‬بين‭ ‬كلام‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬وبعض،‭ ‬استعملوا‭ ‬لذلك‭ ‬صيغاً‭ ‬مهذبة‭ ‬مثل‭ ‬فعل‭ ‬‮«‬أَخَذَ‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬فعل‭ ‬عام‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬أنواع‭ ‬التأثر‭ ‬والنقل،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬ملحوظة‭ ‬القاضي‭ ‬عليّ‭ ‬الجرجانيّ‭ (‬ت‭ ‬392‭ ‬هـ‭) ‬في‭ ‬تشابه‭ ‬قول‭ ‬النابغة‭ ‬الذبياني‭:‬

لوْ‭ ‬أنّها‭ ‬عرضتْ‭ ‬لأَشمطَ‭ ‬راهبٍ

عبَدَ‭ ‬الإلهَ‭ ‬صَرورةٍ‭ ‬متعبّدِ

 

وقول‭ ‬ربيعة‭ ‬بن‭ ‬مقروم‭:‬

لو‭ ‬أنّها‭ ‬عرضتْ‭ ‬لأَشمطَ‭ ‬راهبٍ

عبَدَ‭ ‬الإلهَ‭ ‬صَرورةٍ‭ ‬مُتَبَتِّلِ

 

إذ‭ ‬اعتبر‭ ‬أن‭ ‬أحدهما‭ ‬أخذ‭ ‬من‭ ‬الآخر،‭ ‬موحياً‭ ‬أن‭ ‬النابغة‭ ‬هو‭ ‬المأخوذ‭ ‬منه‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬عبدالكريم‭ ‬النهشليّ‭ (‬ت‭ ‬403‭ ‬هـ‭) ‬عدَّ‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬سرقة،‭ ‬واستشهد‭ ‬له‭ ‬ببيت‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭:‬

وقوفاً‭ ‬بها‭ ‬صَحْبي‭ ‬عَلَيّ‭ ‬مَطيَّهمْ

يقولونَ‭ ‬لا‭ ‬تهلِكْ‭ ‬أَسىً‭ ‬وتَجَمَّلِ

 

وبيت‭ ‬طرفة‭ ‬بن‭ ‬العبد‭:‬

وقوفاً‭ ‬بها‭ ‬صَحْبي‭ ‬عَلَيّ‭ ‬مَطيَّهمْ

يقولونَ‭ ‬لا‭ ‬تهلِكْ‭ ‬أَسىً‭ ‬وتَجَلَّدِ

 

وقد‭ ‬نوافق‭ ‬النهشليّ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إذا‭ ‬نظرنا‭ ‬إلى‭ ‬الموضوع‭ ‬نظرة‭ ‬شكلية،‭ ‬لكن‭ ‬إذا‭ ‬تدبرنا‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬قوله‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬الجاهلية‭ ‬ذاكرة‭ ‬شعبية‭ ‬وتراثاً‭ ‬مشتركاً،‭ ‬قدّرنا‭ ‬صعوبة‭ ‬القول‭ ‬بالسرقة‭ ‬في‭ ‬هذين‭ ‬البيتين،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يحتمل‭ ‬عندنا‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬أخذاً‭ ‬ولا‭ ‬اقتباساً،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬عمل‭ ‬رواة‭ ‬نحلوا‭ ‬شعراً‭ ‬لغير‭ ‬صاحبه،‭ ‬وبدلوا‭ ‬في‭ ‬القافية،‭ ‬ليس‭ ‬إلاّ،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬قد‭ ‬وضعوا‭ ‬الشعرين‭ ‬معاً‭.‬

وقد‭ ‬أدخل‭ ‬ابن‭ ‬وكيع‭ ‬التنيسيّ‭ (‬ت‭ ‬393‭ ‬هـ‭) ‬صاحب‭ ‬كتاب‭ ‬المنصف‭ ‬في‭ ‬سرقات‭ ‬المتنبي‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬سماه‭ ‬‮«‬مواردة‮»‬،‭ ‬يعني‭ ‬توارد‭ ‬أفكار،‭ ‬وإن‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬المتصلة‭ ‬بامرئ‭ ‬القيس‭ ‬وطرفة‭ ‬لأسباب‭ ‬تاريخية‭. ‬ورأيه‭ ‬ينسجم‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬قدمناه،‭ ‬لأن‭ ‬الذاكرة‭ ‬الشعبية‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬التوارد‭.‬

بل‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬الرواة‭ ‬من‭ ‬أشار‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬سرقات‭ ‬أوسع،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬زعمُ‭ ‬أبي‭ ‬عبيدة‭ ‬إغارة‭ ‬زهير‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سلمى‭ ‬على‭ ‬شعر‭ ‬شاعر‭ ‬مغمور‭ ‬من‭ ‬قبيلته،‭ ‬قبيلة‭ ‬غطفان،‭ ‬هو‭ ‬قُراد‭ ‬بن‭ ‬حَنَش،‭ ‬إذ‭ ‬ادعى‭ ‬لنفسه‭ ‬أربعة‭ ‬من‭ ‬أبيات‭ ‬ذلك‭ ‬الشاعر،‭ ‬أولها‭:‬

إنَّ‭ ‬الرَّزِيّةَ‭ ‬لا‭ ‬رَزِيّةَ‭ ‬مِثلُها

ما‭ ‬تبتغي‭ ‬غَطَفانُ‭ ‬يومَ‭ ‬أَضلَّتِ

كما‭ ‬أشار‭ ‬الأصمعي‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬يقال‭ ‬إن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬امرئ‭ ‬القيس‭ ‬لصعاليك‭ ‬كانوا‭ ‬معه‮»‬،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يبين‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬امرؤ‭ ‬القيس‭ ‬نفسه‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬انتحلها،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬الرواة‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬نحلوه‭ ‬إياها؛‭ ‬وأشار‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬النابغة‭ ‬الجعديّ‭ ‬قال‭ ‬شعراً‭ ‬جيداً‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬أمره،‭ ‬ثم‭ ‬أُفحم‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭ ‬وبعدها‭ ‬نبغ،‭ ‬لكنّ‭ ‬شعره‭ ‬بعد‭ ‬نبوغه‭ ‬‮«‬كله‭ ‬مسروق،‭ ‬وليس‭ ‬بجيد‮»‬‭. ‬على‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نكاد‭ ‬نظفر‭ ‬إلا‭ ‬بهاتين‭ ‬الإشارتين‭ ‬الصريحتين،‭ ‬وتلك‭ ‬الإشارة‭ ‬الملتبسة،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدد،‭ ‬أما‭ ‬سائر‭ ‬الإشارات‭ ‬فيُستعمل‭ ‬فيها‭ ‬نحو‭ ‬فعل‭ ‬أخذ،‭ ‬كما‭ ‬بيّنا‭ ‬آنفاً‭.‬

‭ ‬

في‭ ‬السرقة‭ ‬الفنية‭ ‬الحميدة

ولقد‭ ‬يجد‭ ‬النقاد‭ ‬تسويغاً‭ ‬للسرقات،‭ ‬ويفضلون‭ ‬النصوص‭ ‬الناشئة‭ ‬عنها‭ ‬على‭ ‬النصوص‭ ‬الأصيلة،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬تجوّزٌ‭ ‬لاعتماده‭ ‬على‭ ‬أدنى‭ ‬ملابسة‭. ‬وهم‭ ‬يرون‭ ‬في‭ ‬السرقة‭ ‬الرائقة‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الفن‭ ‬والبراعة‭:‬

إن‭ ‬ما‭ ‬قدمناه‭ ‬عن‭ ‬الذاكرة‭ ‬الشعبية‭ ‬قد‭ ‬يفسر‭ ‬قول‭ ‬الجاحظ‭ (‬ت‭ ‬255‭ ‬هـ‭) ‬في‭ ‬أن‭ ‬المعاني‭ ‬مطروحة‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬وأن‭ ‬الشأن‭ ‬للصناعة‭ ‬والتصوير،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الشعراء‭ ‬يتنازعون‭ ‬المعنى‭ ‬وتختلف‭ ‬ألفاظهم‭ ‬وأعاريض‭ ‬شعرهم‭ ‬فيه،‭ ‬ولا‭ ‬يكون‭ ‬أي‭ ‬منهم‭ ‬أحق‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬سواه،‭ ‬وقد‭ ‬ينسبونه‭ ‬إلى‭ ‬توارد‭ ‬الخواطر‭ ‬بين‭ ‬القدماء‭ ‬وبينهم‭. ‬فالمعاني‭ ‬المطروحة‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬هي‭ ‬النتاج‭ ‬المشترك‭ ‬الناشئ‭ ‬عن‭ ‬الرواية‭ ‬الشفهية‭. ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬عليّاً‭ ‬الجرجاني‭ ‬ذهب‭ ‬مذهب‭ ‬الجاحظ،‭ ‬مؤكداً‭ ‬وجود‭ ‬معانٍ‭ ‬مشتركة‭ ‬مبتذلة‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬أولى‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬غيره،‭ ‬وأن‭ ‬بعضهم‭ ‬ينفرد‭ ‬بعذوبة‭ ‬اللفظ‭ ‬أو‭ ‬رشاقته‭ ‬أو‭ ‬ترتيب‭ ‬الكلام‭ ‬أو‭ ‬زيادة‭ ‬في‭ ‬المعنى،‭ ‬وإذا‭ ‬‮«‬المشترك‭ ‬المبتذل‭ ‬في‭ ‬صورة‭ ‬المبتدع‭ ‬المخترع‮»‬‭.‬‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬يبني‭ ‬المفاضلة‭ ‬بين‭ ‬الشاعرين‭ ‬المشتركين‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬الواحد‭ ‬على‭ ‬الزيادة‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الجودة‭ ‬في‭ ‬الصناعة‭. ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يلبث‭ ‬أن‭ ‬يعدّ‭ ‬ذلك‭ ‬الأخذ‭ ‬سرقة‭ ‬ممدوحة‭. ‬بل‭ ‬من‭ ‬السرقة‭ ‬ما‭ ‬عدّه‭ ‬حذقاً،‭ ‬كأن‭ ‬يختلس‭ ‬الشاعر‭ ‬معنى‭ ‬قيل‭ ‬في‭ ‬غرض‭ ‬ما،‭ ‬فينقله‭ ‬إلى‭ ‬غرض‭ ‬آخر،‭ ‬والمثال‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬نقل‭ ‬المعنى‭ ‬الغزلي‭ ‬إلى‭ ‬المدح،‭ ‬أو‭ ‬المعنى‭ ‬الهجائي‭ ‬إلى‭ ‬الفخر‭. ‬

ويستلطف‭ ‬الجرجاني‭ ‬السرقة‭ ‬إذا‭ ‬قلب‭ ‬الشاعر‭ ‬المعنى‭ ‬المسروق‭ ‬أو‭ ‬ناقضه‭. ‬وقد‭ ‬أوشك‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬السرقة‭ ‬مجرد‭ ‬توارد،‭ ‬أو‭ ‬محاولةً‭ ‬لإخفاء‭ ‬المعنى‭ ‬بالنقل‭ ‬والقلب‭ ‬والترتيب‭ ‬والزيادة‭ ... ‬إلخ‭. ‬يعني‭ ‬بالأسلوب‭. ‬

فالأسلوب‭ - ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يستعمل‭ ‬علي‭ ‬الجرجاني‭ ‬هذا‭ ‬المصطلح‭ - ‬هو‭ ‬مناط‭ ‬التمييز‭ ‬بين‭ ‬الشعراء‭. ‬فصاحبنا‭ ‬تتنازعه‭ ‬فكرتان،‭ ‬فكرة‭ ‬اشتراك‭ ‬الأفكار‭ ‬وشيوعها،‭ ‬بحيث‭ ‬تنتفي‭ ‬تهمة‭ ‬السرقة،‭ ‬وفكرة‭ ‬السرقة‭ ‬الحميدة،‭ ‬وهي‭ ‬تجميل‭ ‬شعر‭ ‬الآخرين،‭ ‬فيبدو‭ ‬كالمفكر‭ ‬الحر‭ ‬الذي‭ ‬لاتزال‭ ‬تسيطر‭ ‬عليه‭ ‬بعض‭ ‬الرواسم‭ ‬الفكرية‭ ‬التقليدية،‭ ‬ويحاول‭ ‬أن‭ ‬يوائم‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬جديد‭ ‬تفكيره‭. ‬

وفي‭ ‬السياقة‭ ‬نفسها‭ ‬يذكر‭ ‬ابن‭ ‬رشيق،‭ ‬نقلاً‭ ‬عمن‭ ‬وصفه‭ ‬ببعض‭ ‬الحذاق،‭ ‬وبما‭ ‬يكاد‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الحاذق‭ ‬هو‭ ‬علي‭ ‬الجرجاني‭ ‬نفسه،‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يغيّر‭ ‬‮«‬بعض‭ ‬المعنى‭ ‬ليخفيه‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬الذي‭ ‬يقلب‭ ‬المعنى‭ ‬‮«‬عن‭ ‬وجهه‮»‬‭ ‬فـإنما‭ ‬يدلّ‭ ‬على‭ ‬حِذقه‭. ‬كما‭ ‬نقل‭ ‬ابن‭ ‬رشيق‭ ‬نفسه‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬وكيع‭ ‬التنيسيّ‭ ‬المعاصر‭ ‬لعليّ‭ ‬الجرجاني‭ ‬‮«‬أن‭ ‬المتّبِع‭ ‬إذا‭ ‬تناول‭ ‬معنى‭ ‬فأجاد‭ ‬بأن‭ ‬يختصره‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬طويلاً،‭ ‬أو‭ ‬يبسطه‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬كزاً‭ (‬أي‭ ‬يابساً‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬يبيّنه‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬غامضاً،‭ ‬أو‭ ‬يختار‭ ‬له‭ ‬حسن‭ ‬الكلام‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬سفسافاً،‭ ‬أو‭ ‬رشيق‭ ‬الوزن‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬جافياً،‭ ‬فهو‭ ‬أولى‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬مبتدعه؛‭ ‬وكذلك‭ ‬إنْ‭ ‬قلَبه‭ ‬أو‭ ‬صرفه‭ ‬عن‭ ‬وجهه‭ ‬إلى‭ ‬وجه‭ ‬آخر‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬الرأي‭ ‬قريب‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬رأي‭ ‬علي‭ ‬الجرجاني،‭ ‬لكن‭ ‬فيه‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬نزع‭ ‬ملكية‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬صاحبه‭ ‬بقوة‭ ‬التحسين‭. ‬فثمة‭ ‬فن‭ ‬للسرقة،‭ ‬يشبه‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬الحيل‭ ‬الشرعية‭ ‬أو‭ ‬القانونية‭. ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬يذكرنا‭ ‬بتلك‭ ‬المدرسة‭ ‬التي‭ ‬نشأت‭ ‬بفرنسا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر،‭ ‬وأدارها‭ ‬أستاذ‭ ‬مزعوم‭ ‬اسمه‭ ‬ريشَسُورْس،‭ ‬راح‭ ‬يعلّم‭ ‬تلاميذه‭ ‬فن‭ ‬السرقة‭ ‬الأدبية‭ ‬وإخفاءَ‭ ‬الاختلاس‭ ‬فيها‭ ‬ببراعة،‭ ‬ولكن‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬أو‭ ‬هذا‭ ‬الميل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ليتحقق‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الرواية‭ ‬الشفهية‭. ‬

وأخرجوا‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬السرقة‭ ‬ما‭ ‬سموه‭ ‬الاستزادة،‭ ‬وهي‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬التضمين،‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يدخل‭ ‬الشاعر‭ ‬في‭ ‬قصيدته‭ ‬بيتاً‭ ‬مشهوراً‭ ‬لشاعر‭ ‬آخر،‭ ‬كالذي‭ ‬فعله‭ ‬الزبرقان‭ ‬بن‭ ‬بدر،‭ ‬وهو‭ ‬مخضرم،‭ ‬إذ‭ ‬أدرج‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬قصائده‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬المشهور‭: ‬

تعدو‭ ‬الذئابُ‭ ‬على‭ ‬مَنْ‭ ‬لا‭ ‬كلابَ‭ ‬لهُ

وتحتمي‭ ‬مَرْبِضَ‭ ‬المستنْفِرِ‭ ‬الحامي

وهو‭ ‬في‭ ‬ديوان‭ ‬النابغة‭ ‬برواية‭ ‬ابن‭ ‬السكيت‭ ‬
‭(‬ت‭ ‬244‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬ميمية‭ ‬أيضاً،‭ ‬لكن‭ ‬بلفظي‭ ‬تتّقي‭ ‬والمستثفر؛‭ ‬ولذلك‭ ‬أكد‭ ‬يونس‭ ‬بن‭ ‬حبيب‭ ‬
‭(‬ت‭ ‬182‭ ‬هـ‭) ‬لمحمد‭ ‬بن‭ ‬سلاّم‭ ‬أن‭ ‬البيت‭ ‬للنابغة،‭ ‬وأنه‭ ‬يظن‭ ‬أن‭ ‬الزبرقان‭ ‬استزاده‭ ‬في‭ ‬شعره‭ ‬بمثابة‭ ‬المثل،‭ ‬وليس‭ ‬ذلك‭ ‬اجتلاباً،‭ ‬بل‭ ‬أمر‭ ‬تفعله‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬إرادة‭ ‬السرقة‭. ‬على‭ ‬أن‭ ‬قصيدة‭ ‬الزبرقان‭ ‬تبدو‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬أبيات،‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬وحده‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬النابغة،‭ ‬بل‭ ‬فيها‭ ‬بيت‭ ‬آخر‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬مطابقاً‭ ‬لأحد‭ ‬أبيات‭ ‬قصيدة‭ ‬النابغة‭ ‬المشار‭ ‬إليها،‭ ‬وذلك‭ ‬أدنى‭ ‬إلى‭ ‬المفهوم‭ ‬السائد‭ ‬للسرقة،‭ ‬لأن‭ ‬البيت‭ ‬ليس‭ ‬مثلاً‭ ‬ولا‭ ‬مشهوراً‭.‬

وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬خُمسي‭ ‬قطعة‭ ‬الزبرقان‭ ‬مأخوذان‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬النابغة،‭ ‬ويبعث‭ ‬أمرهما‭ ‬على‭ ‬تصور‭ ‬احتمالين،‭ ‬هما‭ ‬أن‭ ‬يكونا‭ ‬نتاج‭ ‬لاوعي‭ ‬الزبرقان،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يدري‭ ‬أنهما‭ ‬للنابغة،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬القطعة‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الرواة،‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الزبرقان‭ ‬من‭ ‬الجرأة‭ ‬بحيث‭ ‬ينتحل‭ ‬بيتين‭ ‬وهو‭ ‬يعرف‭ ‬أنهما‭ ‬للنابغة،‭ ‬وذلك‭ ‬مستبعد‭. ‬

هذا‭ ‬ولا‭ ‬يمكننا‭ ‬اتباع‭ ‬طريقة‭ ‬يونس‭ ‬في‭ ‬التسمّح‭ ‬هنا،‭ ‬ولو‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الجدل،‭ ‬فنرى‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬أخذه‭ ‬ابن‭ ‬مقروم‭ ‬من‭ ‬النابغة،‭ ‬وطرفة‭ ‬بن‭ ‬العبد‭ ‬من‭ ‬امرئ‭ ‬القيس،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬قدمنا،‭ ‬ضرباً‭ ‬من‭ ‬الاستزادة،‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬أخذه‭ ‬هذان‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬المثل؛‭ ‬هذا‭ ‬إذا‭ ‬صدق‭ ‬الرواة‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬تماثُل‭ ‬الأبيات‭ ‬من‭ ‬صنعهم‭. ‬

 

ضروب‭ ‬السرقة

وقد‭ ‬جعل‭ ‬النقاد‭ ‬العرب‭ ‬السرقة‭ ‬ضروباً،‭ ‬وتوسع‭ ‬بعضهم‭ ‬في‭ ‬تفريعها‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬طائل‭ ‬تحته،‭ ‬وبما‭ ‬لا‭ ‬يعد،‭ ‬أحياناً،‭ ‬سرقة،‭ ‬بل‭ ‬يجوز‭ ‬اعتباره‭ ‬عملاً‭ ‬شبيها‭ ‬بها،‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬خارجاً‭ ‬كلية‭ ‬عنها‭. ‬

فمن‭ ‬ضروبها‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬ذكره‭ ‬من‭ ‬انتحال،‭ ‬ومن‭ ‬إغارة،‭ ‬تشبيهاً‭ ‬بإغارة‭ ‬بعض‭ ‬القبائل‭ ‬على‭ ‬بعض،‭ ‬وقد‭ ‬أشرنا‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬إغارة‭ ‬زهير‭ ‬على‭ ‬شعر‭ ‬لأحد‭ ‬أبناء‭ ‬قبيلته؛‭ ‬ويكون‭ ‬المغير،‭ ‬عادة،‭ ‬مشهوراً‭ ‬والمغار‭ ‬عليه‭ ‬مغموراً‭ ‬أو‭ ‬أقل‭ ‬شهرة‭.‬

وممن‭ ‬نسبوا‭ ‬إليه‭ ‬الإغارة‭ ‬الفرزدق‭ ‬الذي‭ ‬يزعمون‭ ‬أنه‭ ‬سلب‭ ‬جميلاً‭ ‬بيتاً‭ ‬يقول‭ ‬فيه‭:‬

ترى‭ ‬الناسَ‭ ‬ما‭ ‬سِرْنا‭ ‬يسيرونَ‭ ‬خَلْفَنا

وإنْ‭ ‬نحنُ‭ ‬أَوْمأنا‭ ‬إلى‭ ‬الناسِ‭ ‬وَقَّفوا

وأدخله‭ ‬في‭ ‬شعره،‭ ‬لاعتقاده‭ ‬أن‭ ‬الـمُلك‭ ‬في‭ ‬مضر‭ ‬وهو‭ ‬شاعرها،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬بني‭ ‬عُذْرة‭. ‬ومثل‭ ‬ذلك‭ ‬زعْم‭ ‬الشاعر‭ ‬دِعْبِل‭ ‬الخُزاعي‭ ‬أن‭ ‬أبا‭ ‬تمّام‭ ‬أخذ‭ ‬معظم‭ ‬القصيدة‭ ‬التي‭ ‬رثى‭ ‬بها‭ ‬أبو‭ ‬مَكْنف‭ ‬الـمُزنيّ‭ ‬ذُفافةَ‭ ‬العبسيّ،‭ ‬ونسبها‭ ‬إلى‭ ‬نفسه،‭ ‬متصرفاً‭ ‬ببعض‭ ‬الأسماء‭ ‬التي‭ ‬فيها‭. ‬

ومنه‭ ‬الغَصْب،‭ ‬وهو‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬شعر‭ ‬الآخرين‭ ‬بالقوة‭ ‬أو‭ ‬بالتهديد،‭ ‬وينتهي‭ ‬بخضوع‭ ‬المستولَى‭ ‬على‭ ‬شعره‭ ‬لأنه‭ ‬الأضعف‭. ‬وقد‭ ‬نسبوا‭ ‬شيئاً‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬الفرزدق‭ ‬نفسه،‭ ‬إذ‭ ‬سمع‭ ‬الشاعرَ‭ ‬الأمويّ‭ ‬الشَّمَرْدَلَ‭ ‬بن‭ ‬شريك‭ ‬اليربوعيّ‭ ‬ينشد‭ ‬بعض‭ ‬الشعر،‭ ‬فأعجبه‭ ‬ما‭ ‬سمع،‭ ‬وخيّر‭ ‬الشمردلَ‭ ‬بين‭ ‬النزول‭ ‬عنه‭ ‬له‭ ‬والتعرض‭ ‬للهجاء،‭ ‬ففضل‭ ‬الشمردل‭ ‬النزول‭. ‬

ويزعمون‭ ‬كذلك‭ ‬أن‭ ‬الفرزدق‭ ‬فعل‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬مع‭ ‬ذي‭ ‬الرُّمة‭. ‬ونحن‭ ‬نستبعد‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأخبار،‭ ‬ونراها‭ ‬من‭ ‬القصص‭ ‬التي‭ ‬ربما‭ ‬أريد‭ ‬بها‭ ‬تشويه‭ ‬صورة‭ ‬الشاعر‭ ‬المنسوب‭ ‬إليه‭ ‬الغصب،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أن‭ ‬ذا‭ ‬الرمة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬نكرة‭ ‬ولا‭ ‬ضعيفاً‭ ‬حتى‭ ‬يستسلم‭ ‬للفرزدق‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الطريقة‭.‬

ومنه‭ ‬ما‭ ‬أسموه‭ ‬المرافدة،‭ ‬ويعنون‭ ‬به‭ ‬الهبة‭ ‬أو‭ ‬الإعانة،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬يهب‭ ‬الشاعرُ‭ ‬أبياتاً‭ ‬له‭ ‬لشاعر‭ ‬أقل‭ ‬منه‭ ‬درجة‭ ‬وشهرة،‭ ‬فيعينه‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬القصيدة‭ ‬أو‭ ‬تطويلها،‭ ‬وعلى‭ ‬الكسب‭ ‬أحياناً؛‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬زعمهم‭ ‬أن‭ ‬جريراً‭ ‬أعان‭ ‬ذا‭ ‬الرمة‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬رائية‭ ‬له،‭ ‬ما‭ ‬كاد‭ ‬الفرزدق‭ ‬يسمعها،‭ ‬من‭ ‬بعد،‭ ‬حتى‭ ‬اكتشف‭ ‬سرها‭. ‬ومنه‭ ‬ما‭ ‬زعموه‭ ‬من‭ ‬إعانة‭ ‬جرير‭ ‬نفسه‭ ‬لمن‭ ‬سموه‭ ‬هشاماً‭ ‬المرئيّ‭ ‬في‭ ‬هجاء‭ ‬ذي‭ ‬الرمة،‭ ‬وإعانة‭ ‬كعب‭ ‬بن‭ ‬زهير‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬سلمى‭ ‬للنابغة‭ ‬الذبياني‭. ‬وينطبق‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأخبار‭ ‬ما‭ ‬ذكرناه‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬الغصب‭ ‬من‭ ‬استبعاد،‭ ‬ولاسيما‭ ‬أن‭ ‬كعباً‭ ‬متأخر‭ ‬عن‭ ‬النابغة،‭ ‬وأقل‭ ‬منه‭ ‬درجة‭ ‬وشهرة‭. ‬علماً‭ ‬بأن‭ ‬ابن‭ ‬وكيع‭ ‬لم‭ ‬ير‭ ‬في‭ ‬المرافدة‭ ‬عيباً،‭ ‬ربما‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تعد‭ ‬سرقة،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬التعاون‭ ‬الأدبيّ‭.‬

ومنه‭ ‬ما‭ ‬سموه‭ ‬الاختلاس‭ ‬أو‭ ‬نقل‭ ‬المعنى،‭ ‬وقد‭ ‬عرضنا‭ ‬له‭ ‬آنفاً،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬ينقل‭ ‬الشاعر‭ ‬معنى‭ ‬بعض‭ ‬العبارات‭ ‬عند‭ ‬شاعر‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬من‭ ‬فن‭ ‬شعري‭ ‬إلى‭ ‬فن‭ ‬شعري‭ ‬آخر،‭ ‬كأن‭ ‬يكون‭ ‬المعنى‭ ‬غزلياً‭ ‬فينقله‭ ‬الشاعر‭ ‬إلى‭ ‬المديح‭.‬

ومنه‭ ‬ما‭ ‬سموه‭ ‬النَّسخ‭ ‬وهو‭ ‬وقوع‭ ‬السرقة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬دون‭ ‬البيت،‭ ‬وما‭ ‬سموه‭ ‬النظر‭ ‬والملاحظة‭ ‬أو‭ ‬الإلمام،‭ ‬وهو‭ ‬تساوي‭ ‬المعنيين‭ ‬أو‭ ‬تضادهما‭ ‬عند‭ ‬شاعرين‭ ‬مع‭ ‬اختلاف‭ ‬اللفظ‭ ‬وخفاء‭ ‬الأخذ‭. ‬

ومنه‭ ‬ما‭ ‬سموه‭ ‬التلفيق‭ ‬وهو‭ ‬استمداد‭ ‬البيت‭ ‬الواحد‭ ‬من‭ ‬ألفاظِ‭ ‬عدةِ‭ ‬أبيات‭... ‬إلخ‭. ‬

على‭ ‬أنهم‭ ‬لم‭ ‬يعدوا‭ ‬التضمين‭ ‬سرقة‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬المضمَّن‭ ‬بيتاً‭ ‬شعرياً‭ ‬كاملاً،‭ ‬وقياساً‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬الاقتباس‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يعد‭ ‬سرقة،‭ ‬وهذان‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬أساليب‭ ‬التفاعل‭ ‬النصيّ‭. ‬وغني‭ ‬عن‭ ‬البيان‭ ‬أن‭ ‬الاستشهاد‭ ‬بنصوص‭ ‬الآخرين‭ ‬لا‭ ‬يعد‭ ‬عندهم‭ ‬سرقة،‭ ‬لأن‭ ‬فيه‭ ‬تصريحاً‭ ‬بالنقل،‭ ‬ونسبة‭ ‬للنص‭ ‬إلى‭ ‬صاحبه‭. ‬وكذلك‭ ‬لم‭ ‬يتوقفوا‭ ‬عند‭ ‬التأثر‭ ‬والتأثير‭ ‬الأسلوبي‭ ‬العام‭ ‬إلا‭ ‬نادراً،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬ملامح‭ ‬التفاعل‭ ‬النصيّ‭. 

وواضح‭ ‬أن‭ ‬السرقة‭ ‬عندهم‭ ‬تُزعم‭ ‬لأدنى‭ ‬ملابسة‭ ‬أحياناً،‭ ‬وقد‭ ‬يوغلون‭ ‬في‭ ‬التأويل‭ ‬لبيانها،‭ ‬وهم‭ ‬يجدون‭ ‬العذر‭ ‬للشعراء،‭ ‬أحياناً،‭ ‬ولاسيما‭ ‬القدماء،‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬السرقة‭ ‬واضحة،‭ ‬نظرياً،‭ ‬فيه‭. ‬وقد‭ ‬يلتبس‭ ‬معنى‭ ‬السرقة‭ ‬بمعنى‭ ‬الوضع‭ ‬والنحل‭. ‬وقد‭ ‬يضيفون‭ ‬إلى‭ ‬السرقة‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬منها،‭ ‬كالتعاون‭ ‬الأدبي‭. ‬وقد‭ ‬يرون‭ ‬في‭ ‬السرقة‭ ‬البارعة‭ ‬أو‭ ‬الخادعة‭ ‬عذراً‭ ‬للسارق،‭ ‬ومزية‭ ‬ربما‭ ‬قدمته‭ ‬على‭ ‬المسروق‭ ‬منه‭. ‬كما‭ ‬قد‭ ‬يضيفون‭ ‬إليها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬قريب‭ ‬منها‭ ‬كالغصب‭. ‬وينفون‭ ‬عنها‭ ‬صراحة‭ ‬أو‭ ‬ضمناً‭ ‬ما‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬استعارة‭ ‬النصوص‭ ‬بصورة‭ ‬توحي‭ ‬انتسابها‭ ‬إلى‭ ‬أصحابها‭ ‬لا‭ ‬محاولة‭ ‬سرقتها،‭ ‬وذلك‭ ‬لشهرتها،‭ ‬وليس‭ ‬لأن‭ ‬المستعير‭ ‬يضع‭ ‬الكلام‭ ‬المستعار‭ ‬بين‭ ‬مزدوجين‭ ‬كما‭ ‬نفعل‭ ‬في‭ ‬أيامنا،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬ذلك‭ ‬يحمل‭ ‬على‭ ‬اللبس،‭ ‬ولا‭ ‬يوحي‭ ‬الاستعارة‭ ‬البريئة‭.‬

‭ ‬

السرقات‭ ‬النثرية‭ ‬والشعرية‭ ‬الحديثة

هذا‭ ‬في‭ ‬الشعر،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬المرسل‭ ‬فإن‭ ‬المؤلفات‭ ‬النثرية‭ ‬النقدية‭ ‬أو‭ ‬التاريخية،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬التاريخ‭ ‬أدبياً‭ ‬أو‭ ‬سياسياً،‭ ‬حافلة‭ ‬بالسرقة‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬لبس‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬علاقة‭ ‬للذاكرة‭ ‬الشعبية‭ ‬بها،‭ ‬وذلك‭ ‬لأن‭ ‬المؤلفين‭ ‬القدماء‭ ‬كانوا‭ ‬يجمعون‭ ‬الروايات‭ ‬والنصوص‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬المعاصرة‭ ‬لهم‭ ‬أو‭ ‬التي‭ ‬سبقتهم،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬نسبة‭ ‬الكلام‭ ‬إلى‭ ‬صاحبه‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان؛‭ ‬أو‭ ‬يتصرفون‭ ‬بالنصوص‭ ‬ويدخلون‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬بعض؛‭ ‬وحسبك‭ ‬أن‭ ‬تتصفح‭ ‬كتاب‭ ‬الأغاني‭ ‬لأبي‭ ‬الفرج‭ ‬الأصفهاني‭ (‬ت‭ ‬361‭ ‬هـ‭) ‬الذي‭ ‬يعترف‭ ‬بتلفيق‭ ‬الروايات،‭ ‬وكتاب‭ ‬الكامل‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬لعزالدين‭ ‬بن‭ ‬الأثير‭ (‬ت‭ ‬630‭ ‬هـ‭) ‬المنقول‭ ‬في‭ ‬أكثره‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬تاريخ‭ ‬الرسل‭ ‬والملوك‭ ‬المعروف‭ ‬بتاريخ‭ ‬الطبري‭ (‬ت‭ ‬310‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬حتى‭ ‬تستيقن‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحقيقة‭.‬

ومن‭ ‬الطريف‭ ‬أن‭ ‬جلال‭ ‬الدين‭ ‬السيوطيّ‭ (‬ت‭ ‬911‭ ‬هـ‭/ ‬1505‭ ‬م‭) ‬جمع‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬المزهر‭ ‬نصوصاً‭ ‬شتى،‭ ‬بعضها‭ ‬منسوب‭ ‬إلى‭ ‬أصحابه،‭ ‬وبعضها‭ ‬بلا‭ ‬نسبة،‭ ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬نقْله‭ ‬في‭ ‬مواضع‭ ‬متفرقة‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ‬هذا‭ ‬مقدمةَ‭ ‬كتاب‭ ‬طبقات‭ ‬الشعراء‭ ‬لابن‭ ‬سلاّم‭ ‬الجمحيّ‭ (‬ت‭ ‬231‭ ‬هـ‭)‬،‭ ‬بادئاً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬موضع‭ ‬بنحو‭ ‬عبارة‭: ‬قال‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬سلام‭ ‬في‭ ‬‮«‬طبقات‭ ‬الشعراء‮»‬،‭ ‬متْبعاً‭ ‬ذلك‭ ‬بتعداد‭ ‬الأقوال‭ ‬التي‭ ‬نقلها‭ ‬ابن‭ ‬سلام‭ ‬بحيث‭ ‬يظن‭ ‬القارئ‭ ‬أن‭ ‬كلام‭ ‬ابن‭ ‬سلام‭ ‬انتهى‭ ‬وبدأ‭ ‬كلام‭ ‬أصحاب‭ ‬الأقوال‭ ‬تلك،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬حمل‭  ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬المدققين‭ ‬على‭ ‬نسبة‭ ‬محتويات‭ ‬تلك‭ ‬المقدمة‭ ‬إلى‭ ‬السيوطيّ‭ ‬نفسه،‭ ‬لأنهم‭ ‬لم‭ ‬يقرأوا‭ ‬مقدمة‭ ‬طبقات‭ ‬الشعراء،‭ ‬أو‭ ‬لعل‭ ‬بعضهم‭ ‬قرأها‭ ‬ونسي‭ ‬نصها‭.‬

ومازالت‭ ‬السرقة‭ ‬الأدبية‭ ‬شائعة‭ ‬في‭ ‬أيامنا،‭ ‬ويقال‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬الطلاب‭ ‬الذين‭ ‬يعدون‭ ‬أطاريح‭ ‬دكتوراه‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬وخارجها‭ ‬مَن‭ ‬لا‭ ‬يصنع‭ ‬شيئاً‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يترجم‭ ‬كتاباً‭ ‬لبعض‭ ‬المؤلفين،‭ ‬أو‭ ‬ينسخ‭ ‬كتاباً‭ ‬مطبوعاً‭ ‬يتناول‭ ‬موضوع‭ ‬أطروحته،‭ ‬أو‭ ‬يستكتب‭ ‬بعض‭ ‬المتخصصين‭ ‬لأطروحته،‭ ‬وينال‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬بمقتضى‭ ‬ذلك؛‭ ‬وإن‭ ‬مِن‭ ‬أعضاء‭ ‬هيئة‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬الجامعات‭ ‬مَن‭ ‬يسرق‭ ‬الكتب‭ ‬أو‭ ‬المحاضرات‭ ‬المطبوعة‭ ‬التي‭ ‬ألّفها‭ ‬زملاؤه‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬زملائه‭ ‬وينسبها‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭ ‬لينال‭ ‬رتبة‭ ‬أكاديمية‭. ‬

ومن‭ ‬أغرب‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬لأحد‭ ‬كبار‭ ‬الأساتذة،‭ ‬إذ‭ ‬جاءه‭ ‬صحافي‭ ‬من‭ ‬أصدقائه‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬إن‭ ‬فلاناً،‭ ‬الشخصية‭ ‬المعروفة،‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يحسّن‭ ‬موقعه‭ ‬الأدبي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬ويبتغي‭ ‬أن‭ ‬ينال‭ ‬درجة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬الجامعات،‭ ‬ويأمل‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬له‭ ‬أطروحته،‭ ‬وسوف‭ ‬يعطيك‭ (‬شيكاً‭) ‬على‭ ‬بياض‭! ‬فرفض‭ ‬الأستاذ‭ ‬هذا‭ ‬العرض‭ ‬بإباء‭ ‬العالم‭ ‬الخلوق،‭ ‬عندئذ‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬الصحافي‭: ‬فليكن‭ ‬كتاباً‭ ‬ينشره‭ ‬باسمه،‭ ‬فاستمر‭ ‬الأستاذ‭ ‬على‭ ‬إبائه‭ ‬وطرد‭ ‬الصحافي‭ ‬بطريقة‭ ‬مهذبة،‭ ‬لكنه‭ ‬فوجئ‭ ‬بعد‭ ‬مدة‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬الشخصية‭ ‬صارت‭ ‬تتمتع‭ ‬بلقب‭ ‬دكتور،‭ ‬ولم‭ ‬تلبث‭ ‬أن‭ ‬صارت‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬النواب،‭ ‬والظاهر‭ ‬أن‭ ‬أحدهم‭ ‬وافق‭ ‬على‭ ‬العرض‭ ‬الذي‭ ‬رفضه‭ ‬هو‭.. ‬إنها‭ ‬مما‭ ‬سماه‭ ‬القدماء‭ ‬مرافدة،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬النثر‭. ‬

أما‭ ‬الشعر‭ ‬الحديث‭ ‬فلا‭ ‬أعرف‭ ‬دراسة‭ ‬عن‭ ‬السرقات‭ ‬فيه،‭ ‬لكنني‭ ‬أسمع‭ ‬وأقرأ‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬شعراء‭ ‬الحداثة‭ ‬العرب‭ ‬اقتبسوا‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬عن‭ ‬شعراء‭ ‬غربيين،‭ ‬ولاسيما‭ ‬الشعراء‭ ‬الفرنسيين‭ ‬والإنجليز،‭ ‬كبودلير‭ ‬وسان‭ ‬جون‭ ‬برس‭ ‬وإليوت‭. ‬وأنا‭ ‬أعرف‭ ‬نوعاً‭ ‬من‭ ‬المرافدة‭ ‬أيضاً،‭ ‬إذ‭ ‬طلب‭ ‬أحد‭ ‬الدبلوماسيين‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬الشعراء‭ ‬أن‭ ‬يكتب‭ ‬له‭ ‬قصيدة‭ ‬لينتحلها‭ ‬ويلقيها‭ ‬عند‭ ‬افتتاح‭ ‬مسجد‭ ‬تبرعت‭ ‬به‭ ‬حكومة‭ ‬دولته‭ ‬لبعض‭ ‬البلاد‭ ‬الإسلامية،‭ ‬فكان‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬أراد؛‭ ‬وأسمع‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬الأناشيد‭ ‬الوطنية‭ ‬المشهورة‭ ‬كتبه‭ ‬شاعر‭ ‬لشخصية‭ ‬ذات‭ ‬مكانة‭ ‬اجتماعية‭ ‬لم‭ ‬يُعرف‭ ‬عنها‭ ‬الشعر‭ ‬قط،‭ ‬واشتهر‭ ‬النشيد‭ ‬باسمها،‭ ‬وأشياء‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القبيل‭.‬

ومن‭ ‬الطرائف‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬بنفسي‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬الشعراء‭ ‬ألّف‭ ‬قصيدة‭ ‬فحفظ‭ ‬أحد‭ ‬أصدقائه‭ ‬شيئاً‭ ‬منها،‭ ‬وراح‭ ‬يقرأه‭ ‬على‭ ‬جماعة‭ ‬من‭ ‬أصحابه‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬له،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تصدى‭ ‬له‭ ‬صديق‭ ‬آخر‭ ‬يحفظ‭ ‬تلك‭ ‬القصيدة‭ ‬برمتها،‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬أتريد‭ ‬أن‭ ‬أكمل‭ ‬القصيدة‭ ‬لك؟‭ ‬فلما‭ ‬فعل‭ ‬اعترف‭ ‬الأول‭ ‬أنها‭ ‬لصديقهما‭ ‬المشترك‭. ‬والأسوأ‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬منتحل‭ ‬القصيدة‭ ‬هذا‭ ‬تشاعر‭ ‬في‭ ‬هرمه‭ ‬وأصدر‭ ‬ديواناً،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يحسن‭ ‬لغة،‭ ‬ولا‭ ‬يقيم‭ ‬وزناً‭ ‬عروضياً،‭ ‬ولا‭ ‬يتمتع‭ ‬بأي‭ ‬خيال‭ ‬شعري‭ ‬خلاق■