لماذا عمّرت «العربية» ومات غيرها؟

لماذا عمّرت «العربية»  ومات غيرها؟

تتبوأ‭ ‬المسألة‭ ‬اللغوية‭ ‬أخطر‭ ‬المنازل‭ ‬بين‭ ‬المؤسسات‭ ‬البشرية،‭ ‬واستيعابها‭ ‬للأبعاد‭ ‬الرمزية‭ ‬للوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬يجعلها‭ ‬الأكثر‭ ‬التصاقاً‭ ‬بالنواحي‭ ‬الحميمة‭ ‬للإنسان‭.‬

وعبر‭ ‬التاريخ‭ ‬التصقت‭ ‬اللغة‭ ‬بالمقدّس،‭ ‬فارتبط‭ ‬كلّ‭ ‬دين‭ ‬بلسان‭ ‬انتشر‭ ‬بانتشار‭ ‬ذلك‭ ‬الدين‭ ‬وانحسر‭ ‬بانحساره‭. ‬وإننا‭ ‬نجد‭ ‬اليوم‭ ‬أنّ‭ ‬اللغات‭ ‬التي‭ ‬ارتبطت‭ ‬بنصوص‭ ‬مقدسة‭ ‬هي‭ ‬عموماً‭ ‬لغات‭ ‬انحصر‭ ‬استعمالها‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬السياقات‭ ‬الطقوسية‭ ‬التعبدية‭ ‬وفي‭ ‬السياقات‭ ‬البحثية‭ ‬لاسيما‭ ‬الفيلولوجية‭ ‬منها‭.‬

وإزاء‭ ‬هذه‭ ‬الوضعية‭ ‬تبدو‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬ذات‭ ‬وضعية‭ ‬استثنائية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬استمرار‭ ‬استعمالها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬تصاعديّ،‭ ‬فحتى‭ ‬الأحداث‭ ‬الكبرى‭ ‬مثل‭ ‬هجمات‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬عام‭ ‬2011‭ ‬على‭ ‬برج‭ ‬التجارة‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬أمريكا،‭ ‬فإنها‭ ‬كانت‭ ‬ذات‭ ‬أثر‭ ‬مغاير‭ ‬للانتظارات‭ ‬الممكنة‭ ‬للمتابعين؛‭ ‬إذ‭ ‬تضاعف‭ ‬عدد‭ ‬المقبلين‭ ‬على‭ ‬‮«‬العربية‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يستدعي‭ ‬الدراسة‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬علميّ‭ ‬وصفي‭ ‬لا‭ ‬بخلفية‭ ‬معيارية‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬الانتصار‭ ‬للسان‭ ‬العربي‭.‬

إنّ‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬وضعاً‭ ‬أبستيمولوجياً‭ ‬ذو‭ ‬خصوصية‭ ‬بين‭ ‬الألسنة‭ ‬البشرية،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نحدد‭ ‬ملامح‭ ‬هذه‭ ‬الخصوصية‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬معطيات‭ ‬مهمة‭. ‬أما‭ ‬الأول‭ ‬فآنيٌّ‭ ‬سنكروني،‭ ‬ويتمثل‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬داخل‭ ‬المشهد‭ ‬اللغوي‭ ‬الكوني،‭ ‬وأما‭ ‬الثاني‭ ‬فتاريخي‭ ‬دياكرونيّ،‭ ‬ويتعلق‭ ‬باستثنائية‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تعميرها‭ ‬بين‭ ‬غيرها‭ ‬من‭ ‬الألسنة‭ ‬البشرية‭. ‬وأما‭ ‬الثالث‭ ‬فاستشرافي،‭ ‬ويتلخص‭ ‬في‭ ‬ممكنات‭ ‬القادم‭.‬

ويتلخص‭ ‬المنظور‭ ‬الآني‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مكونات‭ ‬المشهد‭ ‬اللغويّ‭ ‬الكوني،‭ ‬حيث‭ ‬يقدّر‭ ‬الدارسون‭ ‬عدد‭ ‬اللغات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬اليوم‭ ‬بأنه‭ ‬بين‭ ‬5000‭ ‬و6000‭ ‬لغة،‭ ‬وتشير‭ ‬الإحصاءات‭ ‬التي‭ ‬تقدمها‭ ‬المنظمات‭ ‬الدولية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬لغة‭ ‬ينقرض‭ ‬استعمالها‭ ‬كلّ‭ ‬حوالي‭ ‬14‭ ‬يوماً،‭ ‬أي‭ ‬موت‭ ‬حوالي‭ ‬25‭ ‬لغة‭ ‬في‭ ‬السنة،‭ ‬ويشير‭ ‬المتخصصون‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬حوالي‭ ‬600‭ ‬لغة‭ ‬أخذت‭ ‬طريقها‭ ‬التدريجي‭ ‬نحو‭ ‬الانقراض،‭ ‬وهذا‭ ‬النسق‭ ‬سيفضي‭ ‬إلى‭ ‬انقراض‭ ‬حوالي‭ ‬نصف‭ ‬اللغات‭ ‬المتداولة‭ ‬اليوم‭. ‬

 

بعد‭ ‬كوني‭ ‬وبعد‭ ‬عربي

إنّ‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المعطيات‭ ‬ما‭ ‬يشكّل‭ ‬الوجه‭ ‬الآنيّ‭ ‬من‭ ‬المسألة‭ ‬اللغوية‭ ‬في‭ ‬بعديها‭ ‬الكوني‭ ‬العامّ‭ ‬والعربي‭ ‬الخاص،‭ ‬ويمثّل‭ ‬هذا‭ ‬الوجه‭ ‬امتداداً‭ ‬يكمله‭ ‬وجه‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬المشهد‭ ‬اللغوي،‭ ‬وهو‭ ‬الوجه‭ ‬الزماني‭ ‬التطوّري‭.‬

ومن‭ ‬هذه‭ ‬الناحية‭ ‬نجد‭ ‬أنّ‭ ‬معدّل‭ ‬تعمير‭ ‬الألسنة‭ ‬البشرية‭ ‬يناهز‭ ‬الخمسمائة‭ ‬سنة،‭ ‬فما‭ ‬بلغ‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬هذا‭ ‬العمر‭ ‬فإن‭ ‬الأصل‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬دائرة‭ ‬الاستعمال،‭ ‬ويكون‭ ‬امتداده‭ ‬في‭ ‬اللهجات‭ ‬المتفرعة‭ ‬منه‭ ‬لتحل‭ ‬مكانه،‭ ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬توطئة‭ ‬ما‭ ‬نروم‭ ‬مساءلته‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬رحلتها‭ ‬عبر‭ ‬القرون‭ ‬التي‭ ‬عمّرتها،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬لغة‭ ‬من‭ ‬لغات‭ ‬الدنيا‭ ‬قد‭ ‬عاشت‭ ‬نظيرها‭.‬

ويتضافر‭ ‬الوجهان‭ ‬الآنيّ‭ ‬والزمانيّ‭ ‬في‭ ‬استشراف‭ ‬الممكنات‭ ‬المحتملة‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬مستقبلها،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬نرى‭ ‬منذ‭ ‬مقدمات‭ ‬بحثنا‭ ‬أنّه‭ ‬من‭ ‬المواضيع‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬بغير‭ ‬التواكل‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬لسان‭ ‬العرب‭ ‬هو‭ ‬لغة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وأنّ‭ ‬لهذا‭ ‬اللسان‭ ‬رباً‭ ‬يحميه،‭ ‬وسنرجئ‭ ‬هذا‭ ‬القسم‭ ‬الاستشرافيّ‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬ورقتنا‭.‬

إنّ‭ ‬هجرة‭ ‬اللغات‭ ‬من‭ ‬المسائل‭ ‬اللسانية‭ ‬الدقيقة‭ ‬التي‭ ‬واكبت‭ ‬بواكير‭ ‬البحث‭ ‬اللسانيّ‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬المسألة‭ ‬كانت‭ ‬يحتويها‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬منظور‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬راهنه‭ ‬اليوم،‭ ‬فالدراسات‭ ‬اللسانية‭ ‬اليوم‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬العمر‭ ‬الافتراضيّ‭ ‬للألسنة‭ ‬البشرية‭ ‬يناهز‭ ‬ما‭ ‬معدله‭ ‬خمسمائة‭ ‬عام،‭ ‬فلا‭ ‬نجد‭ ‬حالياً‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬المستعملة‭ ‬لغة‭ ‬يعود‭ ‬عمرها‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المعدّل،‭ ‬وهو‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬شكّل‭ ‬مدار‭ ‬لسانيات‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬التي‭ ‬نحت‭ ‬منحى‭ ‬تاريخياً‭ ‬مقارناً‭ ‬أفضى‭ ‬إلى‭ ‬تأسيس‭ ‬شجرة‭ ‬الألسنة‭ ‬البشرية‭ ‬مع‭ ‬الألماني‭ ‬شلايشر‭ (‬1882‭/‬1934‭).‬

والحقّ‭ ‬أن‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬مسألة‭ ‬التطور‭ ‬في‭ ‬اللغات‭ ‬البشرية‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬الكليات‭ ‬التي،‭ ‬وإن‭ ‬غدت‭ ‬مستقرة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬نظريّ‭ ‬متكامل‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬فإنها‭ ‬من‭ ‬الأسس‭ ‬الدقيقة‭ ‬التي‭ ‬تبلورت‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬اللغوي‭ ‬العربي،‭ ‬وتجلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬سياقات‭ ‬نظرية‭ ‬تدرج‭ ‬فيها‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬لسانهم‭ ‬المحلي‭ ‬إلى‭ ‬صياغة‭ ‬قوانين‭ ‬لغوية‭ ‬عامة،‭ ‬فتوصلوا‭ ‬إلى‭ ‬صياغة‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الكليات‭ ‬اللغوية‭ ‬كالذي‭ ‬عبّر‭ ‬عنه‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬من‭ ‬تدبّر‭ ‬العربية‭ ‬والعبرانية‭ ‬والسريانية‭ ‬أيقن‭ ‬أن‭ ‬اختلافها‭ ‬إنما‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬ذكرنا‭ ‬من‭ ‬تبديل‭ ‬ألفاظ‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الأزمان،‭ ‬واختلاف‭ ‬البلدان‭ ‬ومجاورة‭ ‬الأمم،‭ ‬وأنها‭ ‬لغة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬الأصل‮»‬‭.‬

والمتواتر‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬اللغات‭ ‬أنّ‭ ‬اللغة‭ ‬إذ‭ ‬تبلغ‭ ‬عمراً‭ ‬معيّناً‭ ‬ويتسع‭ ‬استعمالها‭ ‬تطرأ‭ ‬عليها‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬طوارئ‭ ‬حياة‭ ‬متكلميها،‭ ‬وبتفرقهم‭ ‬وانفتاحهم‭ ‬على‭ ‬غيرهم‭ ‬تنشأ‭ ‬لهم‭ ‬عادات‭ ‬لغوية‭ ‬جديدة،‭ ‬وقد‭ ‬عبّر‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الفكرة‭ ‬بمنظور‭ ‬وصفيّ‭ ‬متجرد‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬انتصار‭ ‬للسان‭ ‬العربي،‭ ‬يقول‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭: ‬‮«‬الذي‭ ‬وقفنا‭ ‬عليه‭ ‬وعلمناه‭ ‬يقيناً‭ ‬أن‭ ‬السريانية‭ ‬والعبرانية‭ ‬والعربية،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬لغة‭ ‬مضر‭ ‬لا‭ ‬لغة‭ ‬حمير،‭ ‬لغة‭ ‬واحدة‭ ‬تبدلت‭ ‬بتبدّل‭ ‬مساكن‭ ‬أهلها،‭ ‬فحدث‭ ‬فيها‭ ‬جرش‭ ‬كالذي‭ ‬يحدث‭ ‬من‭ ‬الأندلسي‭ ‬إذا‭ ‬رام‭ ‬نغمة‭ ‬أهل‭ ‬القيروان،‭ ‬ومن‭ ‬القيرواني‭ ‬إذا‭ ‬رام‭ ‬نغمة‭ ‬الأندلسي،‭ ‬ومن‭ ‬الخراساني‭ ‬إذا‭ ‬رام‭ ‬نغمتهما‭.‬

ونحن‭ ‬نجد‭ ‬من‭ ‬إذا‭ ‬سمع‭ ‬لغة‭ ‬فحص‭ ‬البلوط،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬مسافة‭ ‬ليلة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬قرطبة،‭ ‬كاد‭ ‬يقول‭ ‬إنها‭ ‬غير‭ ‬لغة‭ ‬أهل‭ ‬قرطبة‭. ‬وهكذا‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البلاد‮»‬‭.‬

 

تبدل‭ ‬اللغة

ويعيد‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬هذا‭ ‬التغير‭ ‬والتغاير‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬الكيانات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬ليست‭ ‬كيانات‭ ‬مغلقة،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬تتجاور‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬التفاعل‭ ‬والتشارك،‭ ‬وعلى‭ ‬ذلك‭ ‬الأساس‭ ‬يصوغ‭ ‬ابن‭ ‬حزم‭ ‬قانوناً‭ ‬لغوياً‭ ‬يؤيده‭ ‬بأمثلة‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬عصره،‭ ‬فيقول‭: ‬إنه‭ ‬بمجاورة‭ ‬أهل‭ ‬البلدة‭ ‬بأمة‭ ‬أخرى‭ ‬تتبدل‭ ‬لغتها‭ ‬تبدلاً‭ ‬لا‭ ‬يخفى‭ ‬على‭ ‬مَن‭ ‬تأمله‭. ‬

ونحن‭ ‬نجد‭ ‬العامة‭ ‬قد‭ ‬بدلت‭ ‬الألفاظ‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬تبديلاً‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬أصل‭ ‬تلك‭ ‬الكلمة‭ ‬كلغة‭ ‬أخرى‭ ‬ولا‭ ‬فرق،‭ ‬فنجدهم‭ ‬يقولون‭ ‬في‭ ‬العنب‭ ‬‮«‬العينب‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬السوط‭ ‬‮«‬أسطوط‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬ثلاثة‭ ‬دنانير‭ ‬‮«‬ثلثدا‮»‬‭. ‬فإذا‭ ‬تعرّب‭ ‬البربري‭ ‬فأراد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬الشجرة‭ ‬قال‭ ‬‮«‬السجرة‮»‬،‭ ‬وإذا‭ ‬تعرب‭ ‬الجليقي‭ ‬أبدل‭ ‬من‭ ‬العين‭ ‬والحاء‭ ‬هاء‭ ‬فيقول‭ ‬‮«‬مهمداً‮»‬‭. ‬

إنّ‭ ‬اللساني‭ ‬المتأمل‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬العربية‭ ‬اليوم‭ ‬يستثيره‭ ‬سؤال‭ ‬جوهري‭ ‬هو‭: ‬وفق‭ ‬أي‭ ‬ضوابط‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نفسر‭ ‬استثنائية‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بين‭ ‬الألسنة‭ ‬البشرية،‭ ‬فظلت‭ ‬تستعمل‭ ‬وتؤدي‭ ‬وظيفتها‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬اختفت‭ ‬فيه‭ ‬الألسنة‭ ‬القديمة‭ ‬من‭ ‬أخوات‭ ‬العربية،‭ ‬أو‭ ‬انسلخت‭ ‬عدا‭ ‬غدت‭ ‬مسخاً‭ ‬من‭ ‬أصل؟

وإذ‭ ‬نثير‭ ‬هذا‭ ‬السؤال،‭ ‬فإن‭ ‬المثال‭ ‬الذي‭ ‬يستدعيه‭ ‬سياق‭ ‬البحث‭ ‬هو‭ ‬اللغة‭ ‬العبرية‭ ‬التي‭ ‬نهضت‭ ‬في‭ ‬أواسط‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬لغة‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬منقطعة‭ ‬عن‭ ‬العبرية‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬أبنيتها‭ ‬وخصائصها‭ ‬الأساسية‭. ‬

إن‭ ‬استمرار‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬حية‭ ‬فاعلة‭ ‬ذات‭ ‬حظوة‭ ‬هو‭ ‬أمر‭ ‬يتنوع‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬بحسب‭ ‬الخلفيات‭ ‬الثقافية‭ ‬ووجهات‭ ‬النظر‭ ‬العلمية؛‭ ‬والأيسر‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يهتم‭ ‬بالأمر‭ ‬أن‭ ‬يؤوّل‭ ‬تعمير‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بأنّ‭ ‬لها‭ ‬رباً‭ ‬يحميها،‭ ‬وهو‭ ‬تأويل‭ ‬لا‭ ‬يُلزم‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬آمن‭ ‬به‭ ‬أو‭ ‬كان‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬نفس‭ ‬خلفية‭ ‬العربي‭ ‬المسلم،‭ ‬أما‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬غير‭ ‬تلك‭ ‬الخلفية‭ ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬المسألة‭ ‬رأي‭ ‬آخر‭. ‬وتقديرنا‭ ‬أنّ‭ ‬للمسألة‭ ‬مقاربة‭ ‬أخرى‭ ‬أكثر‭ ‬وجاهة‭ ‬وانسجاماً‭ ‬مع‭ ‬المنظور‭ ‬اللسانيّ‭ ‬الوصفيّ‭. ‬

واللغة‭ ‬العربية‭ ‬ليســــت‭ ‬استثنــاء‭ ‬بيــن‭ ‬اللغات‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬القوانين‭ ‬العامة‭ ‬التي‭ ‬يشتغل‭ ‬بها‭ ‬اللسانيون‭ ‬فيما‭ ‬غدا‭ ‬مصطلحاً‭ ‬عليه‭ ‬بمصطلح‭ ‬‮«‬الكليات‭ ‬اللغوية‮»‬،‭ ‬ولكنّ‭ ‬تحقق‭ ‬هذه‭ ‬الكليات‭ ‬وكيفيـــــة‭ ‬جريانه‭ ‬على‭ ‬اللغات‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يختلف‭ ‬من‭ ‬لسان‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬ومثــــال‭ ‬ذلــــك‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬لغة‭ ‬تشذ‭ ‬عن‭ ‬أنّ‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬الألسنة‭ ‬البشرية‭ ‬هو‭ ‬المشــــافهة،‭ ‬وأن‭ ‬الكتابة‭ ‬هي‭ ‬حدث‭ ‬طارئ‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬كل‭ ‬لغة‭.‬

فعلى‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬إنما‭ ‬ننشد‭ ‬خصوصية‭ ‬اللسان‭ ‬العربيّ‭ ‬في‭ ‬كيفية‭ ‬تحقق‭ ‬قوانين‭ ‬اللغة‭ ‬فيه‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬انفلات‭ ‬اللسان‭ ‬العربيّ‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬النواميس،‭ ‬وهو‭ ‬الخيار‭ ‬المنهجي‭ ‬الأوفق،‭ ‬لاسيما‭ ‬إذا‭ ‬اعتبرنا‭ ‬أنّ‭ ‬كلّ‭ ‬الإجابات‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬خلفية‭ ‬دينية‭ ‬لا‭ ‬تلزم‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬يتبنى‭ ‬الخلفية‭ ‬الدينية‭ ‬منوالاً‭ ‬تفسيرياً‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬الظواهر‭.‬

 

تغييرات‭ ‬مجهرية

ومن‭ ‬النواميس‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬صامدة‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬المقاربات‭ ‬التاريخية‭ ‬أنّ‭ ‬شرط‭ ‬البقاء‭ ‬والاستمرار‭ ‬لكل‭ ‬الظواهر‭ ‬والكيانات‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬التطوّر‭ ‬والتكيّف،‭ ‬وبغير‭ ‬هذين‭ ‬الشرطين‭ ‬لا‭ ‬يتحقق‭ ‬للكائن‭ ‬الاستمرارُ‭ ‬والحياة‭. ‬فلذلك‭ ‬إنما‭ ‬يتضح‭ ‬سرّ‭ ‬استمرار‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التبصر‭ ‬العميق‭ ‬بما‭ ‬يتحقق‭ ‬به‭ ‬التطوّر‭ ‬والتكيف‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تبلغ‭ ‬درجة‭ ‬المسخ‭ ‬والفسخ‭ ‬التي‭ ‬طالت‭ ‬ألسنة‭ ‬أخرى‭ ‬كـ‭ ‬‮«‬العبرية‮»‬‭.‬

يفيد‭ ‬مفهوم‭ ‬التطوّر‭ ‬في‭ ‬النظرية‭ ‬اللسانية‭ ‬تحقق‭ ‬صفة‭ ‬التغير‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬انطلاقاً‭ ‬من‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬وضعية‭ ‬لغوية‭ (‬أ‭) ‬إلى‭ ‬وضعية‭ ‬لغوية‭ (‬ب‭)‬،‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬التغيرات‭ ‬التي‭ ‬تطرأ‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬هي‭ ‬تغييرات‭ ‬مجهرية‭ ‬لا‭ ‬يلتقطها‭ ‬الإدراك‭ ‬المباشر،‭ ‬وإنما‭ ‬يستشعرها‭ ‬ويدركها‭ ‬التبصر‭ ‬المجهريّ‭ ‬الذي‭ ‬يتوسل‭ ‬بأدوات‭ ‬البحث‭ ‬اللازمة،‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تحصل‭ ‬في‭ ‬حيّز‭ ‬زمنيّ‭ ‬يدرك‭ ‬بيسر،‭ ‬فضلاً‭ ‬أنّ‭ ‬اللغة‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬مجردة‭ ‬عن‭ ‬الإنسان‭ ‬ومؤسساته‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬فيعسر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الإنسان‭ ‬ناظراً‭ ‬وموضوع‭ ‬نظر‭ ‬في‭ ‬آن‭.‬

وإذا‭ ‬أراد‭ ‬الباحث‭ ‬أن‭ ‬ينظر‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬حياة‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬وحركتها‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ،‭ ‬فإنه‭ ‬سيجد‭ ‬أنّ‭ ‬لسان‭ ‬العرب‭ ‬لم‭ ‬يشذّ‭ ‬عن‭ ‬قوانين‭ ‬التطوّر‭ ‬التي‭ ‬تحتكم‭ ‬إليها‭ ‬الألسنة‭ ‬البشرية،‭ ‬وإنما‭ ‬خصوصية‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬أنها‭ ‬تطورت‭ ‬حتى‭ ‬بلغت‭ ‬حالتها‭ ‬الراهنة‭ ‬بامتثالها‭ ‬لمجموعة‭ ‬من‭ ‬الخصائص‭ ‬الأساسية‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬المنظور‭ ‬اللسانيّ‭ ‬الشرط‭ ‬الذي‭ ‬أمّن‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬بقاءها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬وسط‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والاستمرار‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬والتطور‭ ‬والتجدد‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية‭.‬

ويمكن‭ ‬إجمال‭ ‬هذه‭ ‬الخصائص‭ ‬في‭ ‬أربعة‭ ‬معطيات؛‭ ‬أولها‭ ‬الارتباط‭ ‬بالنصّ،‭ ‬والثاني‭ ‬هو‭ ‬التطوّر‭ ‬الداخليّ،‭ ‬والثالث‭ ‬هو‭ ‬احتوائية‭ ‬الدين‭ ‬واللغة‭. ‬وهي‭ ‬معطيات‭ ‬جسّدت‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬سياق‭ ‬حركتها‭ ‬وحيويتها‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يقتضي‭ ‬أن‭ ‬نفصّل‭ ‬القول‭ ‬فيه‭.‬

أمّا‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬ارتباط‭ ‬العربية‭ ‬بالنصّ،‭ ‬فأساسه‭ ‬أنّ‭ ‬للنصوص‭ ‬قيمة‭ ‬مرجعية‭ ‬مركزية‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الشعوب‭ ‬واللغات،‭ ‬ولئن‭ ‬كانت‭ ‬اللغة‭ ‬حدثاً‭ ‬طارئاً‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬اللغات،‭ ‬فإنّها‭ ‬تظلّ‭ ‬سلطة‭ ‬مرجعية،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬المتكلمين‭ ‬إذا‭ ‬اختلفوا‭ ‬حول‭ ‬أمر‭ ‬من‭ ‬المنطوق‭ ‬أو‭ ‬المكتوب‭ ‬عادوا‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬النصوص‭ ‬المكتوبة‭ ‬لفصل‭ ‬فيما‭ ‬اختلفوا‭ ‬فيه‭.‬

ومن‭ ‬المفارقات‭ ‬أنّ‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬ترتبط‭ ‬بنصّ‭ ‬مقدّس‭ ‬ينتهي‭ ‬بها‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬الموت،‭ ‬إذ‭ ‬تجد‭ ‬اللغة‭ ‬نفسها‭ ‬بين‭ ‬طرفين‭ ‬متجاذبين؛‭ ‬أولهما‭ ‬نواميس‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬تتطلب‭ ‬التطوّر،‭ ‬والثاني‭ ‬هو‭ ‬مواضعات‭ ‬المتكلمين‭ ‬إزاء‭ ‬قداسة‭ ‬النصّ‭ ‬الديني‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬إقرار‭ ‬الوجود‭ ‬الجماعيّ‭ ‬وتثبيته‭ ‬على‭ ‬قيم‭ ‬تعايش‭ ‬محددة‭. ‬فلذلك‭ ‬يكتسب‭ ‬النصّ‭ ‬قيمة‭ ‬مرجعية‭ ‬أساسية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬بمنزلة‭ ‬البوصلة‭ ‬التي‭ ‬تحيل‭ ‬على‭ ‬ثابت‭ ‬به‭ ‬يتحدد‭ ‬ما‭ ‬سواه‭.‬

على‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬تجد‭ ‬أنّ‭ ‬اللغات‭ ‬التي‭ ‬ارتبطت‭ ‬بنصّ‭ ‬مقدَّس‭ ‬لم‭ ‬يتواصل‭ ‬استعمالها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬السياقات‭ ‬الشعائرية،‭ ‬ولذلك‭ ‬تجد‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬مرددي‭ ‬تلك‭ ‬النصوص‭ ‬في‭ ‬طقوسهم‭ ‬يرددونها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إدراك‭ ‬لمعناها،‭ ‬وإنما‭ ‬يغدو‭ ‬المعنى‭ ‬موضع‭ ‬اهتمام‭ ‬في‭ ‬السياقات‭ ‬المخبرية‭ ‬البحثية‭.‬

إزاء‭ ‬هذه‭ ‬المعطيات‭ ‬العامة،‭ ‬يحتل‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬النص‭ ‬المرجعي‭ ‬للمسلم‭ ‬في‭ ‬دينه‭ ‬وللعربي‭ ‬في‭ ‬لغته،‭ ‬مكانة‭ ‬خاصة‭. ‬

فهذا‭ ‬النصّ‭ ‬المرجعُ‭ ‬هو‭ ‬ثابتٌ‭ ‬ثبْــــــت‭ ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬وقيمه،‭ ‬ولكنّ‭ ‬البناء‭ ‬اللغويّ‭ ‬لهذا‭ ‬النصّ‭ ‬ورد‭ ‬بخاصية‭ ‬مهمة‭ ‬هي‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يرد‭ ‬بلغة‭ ‬أيّ‭ ‬من‭ ‬القبائل‭ ‬العربية‭ ‬بشكل‭ ‬حصريّ،‭ ‬فكان‭ ‬من‭ ‬مقتضيات‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬قارئه‭ ‬يجد‭ ‬فيه‭ ‬سعة‭ ‬في‭ ‬الدائرة‭ ‬المرجعية‭ ‬للغة‭. ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬متحقق‭ ‬على‭ ‬مدرجين؛‭ ‬أولهما‭ ‬التنوع‭ ‬داخل‭ ‬دائرة‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وذلك‭ ‬فيما‭ ‬أصبح‭ ‬يسمى‭ ‬في‭ ‬المصطلح‭ ‬القرآني‭ ‬‮«‬القراءات‮»‬‭. ‬ويسمى‭ ‬في‭ ‬المصطلح‭ ‬اللغويّ‭ ‬‮«‬لغات‮»‬‭. ‬أما‭ ‬المدرج‭ ‬الثاني‭ ‬فيتمثل‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬العرب،‭ ‬وذلك‭ ‬فيما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬القرآن‭ - ‬وإن‭ ‬نزل‭ ‬بالعربية‭ - ‬فإنه‭ ‬ليس‭ ‬للعرب‭ ‬وحدهم،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬لكلّ‭ ‬من‭ ‬يدخل‭ ‬الإسلام‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬ومن‭ ‬غيرهم‭. ‬وقد‭ ‬جسد‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬موضوع‭ ‬مبحث‭ ‬مهمّ‭ ‬ضمن‭ ‬علوم‭ ‬القرآن‭ ‬هو‭ ‬غريبه‭.‬

 

مطلق‭ ‬التطوّر‭ ‬ومنتهى‭ ‬الانغلاق

إنّ‭ ‬هذه‭ ‬الحركية‭ ‬الداخلية‭ ‬في‭ ‬النصّ‭ ‬القرآني‭ ‬تؤول‭ ‬إلى‭ ‬خصوصية‭ ‬مهمة‭ ‬هي‭ ‬تضمن‭ ‬النصّ‭ ‬لحركية‭ ‬داخلية‭ ‬قائمة‭ ‬على‭ ‬التنوع‭ ‬تحاكي‭ ‬الحركية‭ ‬الخارجية‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬التغيّر‭.‬

ولكنّ‭ ‬الحركية‭ ‬المسيّجة‭ ‬بنصّ‭ ‬تنضبط‭ ‬لحدود‭ ‬النصّ،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنّ‭ ‬الحركية‭ ‬التي‭ ‬تنساق‭ ‬للتاريخ‭ ‬هي‭ ‬حركية‭ ‬تؤول‭ ‬إلى‭ ‬انسلاخ‭ ‬عن‭ ‬الأصل،‭ ‬وهو‭ ‬شأن‭ ‬اللغات‭ ‬عموماً‭ ‬في‭ ‬خضوعها‭ ‬لنواميس‭ ‬التطوّر‭. ‬فبين‭ ‬مطلق‭ ‬التطوّر‭ ‬ومنتهى‭ ‬الانغلاق‭ ‬اكتسبت‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬خصوصية‭ ‬اللغة‭ ‬المحمية‭ ‬من‭ ‬المسخ‭ ‬والموت‭ ‬بنصّ‭ ‬يشرّع‭ ‬للتغير‭ ‬والتطوّر‭ ‬بمعيار‭ ‬التنوع‭ ‬اللغوي‭ ‬واللهجي،‭ ‬لا‭ ‬بمطلق‭ ‬نواميس‭ ‬التطور‭ ‬اللغوي،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يشكّل‭ ‬الآلية‭ ‬الثانية‭ ‬في‭ ‬تأمين‭ ‬استمرار‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬عبر‭ ‬الزمن،‭ ‬وهي‭ ‬الآلية‭ ‬التي‭ ‬سمّيناها‭ ‬آنفاً‭ ‬‮«‬التطوّر‭ ‬الداخليّ‭ ‬للغة‮»‬‭.‬

إنّ‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬التطور‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬خارجياً‭ ‬لأنه‭ ‬واقع‭ ‬في‭ ‬الزمن،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬عرّفناه‭ ‬سابقاً‭ ‬بأنه‭ ‬انتقال‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬لغوي‭ ‬منها‭ ‬من‭ ‬الوضعية‭ (‬أ‭) ‬إلى‭ ‬الوضعية‭ (‬ب‭). ‬

أما‭ ‬التطور‭ ‬الذي‭ ‬نعنيه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقام،‭ ‬فالتطور‭ ‬الذي‭ ‬يتضمنه‭ ‬النصّ‭ ‬القرآني،‭ ‬فقد‭ ‬نزل‭ ‬هذا‭ ‬النصّ‭ ‬منجَّماً،‭ ‬ولكنه‭ ‬حين‭ ‬اكتمل‭ ‬نزوله‭ ‬أصبح‭ ‬يعامل‭ ‬لدى‭ ‬المسلم‭ ‬المتعبد‭ ‬به‭ ‬والملتزم‭ ‬بمضامينه‭ ‬بمنزلة‭ ‬النصّ‭ ‬الذي‭ ‬اكتمل‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬تلقي‭ ‬هذا‭ ‬المسلم‭ ‬عبر‭ ‬المكان‭ ‬والزمان‭ ‬ليكون‭ ‬جسماً‭ ‬لغوياً‭ ‬واحداً‭.‬

فعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬النحاة‭ ‬قد‭ ‬تعاملوا‭ ‬مع‭ ‬النصّ‭ ‬القرآني‭ ‬في‭ ‬كلّيته‭ ‬ومن‭ ‬حيث‭ ‬هو‭ ‬نصّ‭ ‬حيّ‭ ‬في‭ ‬احتوائه‭ ‬على‭ ‬الاستعمال‭ ‬اللغوي‭ ‬الواحد‭ ‬وعلى‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬الاستعمالات،‭ ‬فكأنّ‭ ‬هذا‭ ‬التنوع‭ ‬استباق‭ ‬لما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬إليه‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬تطورها‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬المعطى‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬السياقات‭ ‬الخارجة‭ ‬عن‭ ‬الأصل‭ ‬ذات‭ ‬قيمة‭ ‬اعتبارية‭ ‬ونظرية‭ ‬مهمة،‭ ‬لأنها‭ ‬تنسّب‭ ‬القاعدة‭. ‬وتقديرنا‭ ‬أنّ‭ ‬لهذه‭ ‬المسألة‭ ‬بعدين؛‭ ‬أولهما‭ ‬أن‭ ‬الاستثناء‭ ‬الطارئ‭ ‬على‭ ‬القاعدة‭ ‬يعزز‭ ‬حيويتها،‭ ‬والثاني‭ ‬أنه‭ ‬يبرهن‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬النحويّ‭ ‬الخلاق‭ ‬الذي‭ ‬استنبط‭ ‬من‭ ‬التعدد‭ ‬اللهجيّ‭ ‬نحواً‭ ‬مشتركاً‭. ‬وإنما‭ ‬يعي‭ ‬الباحث‭ ‬بأهمية‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬حين‭ ‬يقارنها‭ ‬بمسار‭ ‬عكسي‭ ‬يقع‭ ‬اليوم‭ ‬فيما‭ ‬أصبح‭ ‬يسمى‭ ‬‮«‬التلهيج‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬يريد‭ ‬البعض‭ ‬إحلال‭ ‬اللهجات‭ ‬المتعددة‭ ‬محلّ‭ ‬الفصحى‭ ‬الواحدة‭ ‬الموحّدة‭.‬

إنّ‭ ‬خصوصية‭ ‬التطور‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬نذهب‭ ‬إليه‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬الأصل‭ ‬في‭ ‬ظاهرة‭ ‬التطور‭ ‬كما‭ ‬يدرسها‭ ‬اللسانيون؛‭ ‬إذ‭ ‬يتحقق‭ ‬التطور‭ ‬في‭ ‬التقدير‭ ‬العاديّ‭ ‬في‭ ‬محور‭ ‬الزمن،‭ ‬أي‭ ‬بالتتابع‭. ‬أما‭ ‬في‭ ‬النصّ‭ ‬القرآنيّ‭ ‬فإنّنا‭ ‬نجد‭ ‬مفهوماً‭ ‬آخر‭ ‬للتطوّر‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬نجد‭ ‬اللساني‭ ‬السويسري‭ ‬فردينان‭ ‬دي‭ ‬سوسير‭ ‬يذكره‭ ‬في‭ ‬دروسه،‭ ‬وهو‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬التغاير‮»‬‭ ‬كمقابل‭ ‬للتغيّر‭.‬

والفرق‭ ‬بينهما‭ ‬أنّ‭ ‬التغيّر‭ ‬هو‭ ‬انتقال‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬من‭ ‬وضع‭ (‬أ‭) ‬إلى‭ ‬وضع‭ (‬ب‭). ‬أما‭ ‬التغاير‭ ‬فتزامُنٌ‭ ‬بين‭ ‬الاستعمالين‭ (‬أ‭) ‬و‭(‬ب‭). ‬والظاهرتان‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬من‭ ‬اللطف‭ ‬يجعل‭ ‬التمييز‭ ‬بينهما‭ ‬ملبساً‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬عديدة‭.‬

إنّ‭ ‬‮«‬ارتباط‭ ‬اللغة‭ ‬بالنص‮»‬‭ ‬و«التطوّر‭ ‬الداخليّ‭ ‬للغة‮»‬‭ ‬هما‭ ‬عاملان‭ ‬يجمعهما‭ ‬في‭ ‬العربية‭ ‬أمر‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الخصوصية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نسميه‭ ‬‮«‬احتوائية‭ ‬الدين‭ ‬واللغة‮»‬،‭ ‬فالترابط‭ ‬بين‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬والدين‭ ‬الإسلاميّ‭ ‬يؤول‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬المسلم‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬النصّ‭ ‬القرآنيّ‭ ‬باعتباره‭ ‬نصاً‭ ‬متعالياً‭ ‬على‭ ‬الخصوصية‭ ‬العربية،‭ ‬فالذي‭ ‬يعتنق‭ ‬الإسلامَ‭ ‬يعنيه‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬العربيَّ‭. ‬

ولذلك‭ ‬فإنّ‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬قيمة‭ ‬اعتبارية‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬مسلم،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬سبب‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أسباب،‭ ‬فإمّا‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬العروبة،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬العربيّ‭ ‬مسلماً‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مسلم،‭ ‬وإما‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬المسلم‭ ‬الدارس‭ ‬للعربية‭ ‬المتفقه‭ ‬فيها،‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬العالم‭ ‬المتبحر‭ ‬ومنهم‭ ‬مجرد‭ ‬المستعمل‭ ‬المتعبد،‭ ‬وإما‭ ‬مسلــم‭ ‬يقــــرأ‭ ‬الــــقرآن‭ ‬ويتعـــبد‭ ‬به،‭ ‬ولكنه‭ ‬لا‭ ‬يفهم‭ ‬من‭ ‬لفظه‭ ‬إلا‭ ‬اللمم‭. ‬

وليست‭ ‬العلاقة‭ ‬طردية‭ ‬بين‭ ‬تقديس‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬والتبحّر‭ ‬فيها،‭ ‬فإنك‭ ‬تجد‭ ‬للعربية‭ ‬في‭ ‬ضمائر‭ ‬المسلمين‭ ‬غير‭ ‬العرب‭ ‬منزلة‭ ‬قد‭ ‬ترتقي‭ ‬إلى‭ ‬القداسة،‭ ‬آية‭ ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬كثيراً‭ ‬منهم‭ ‬يحفظ‭ ‬القرآن‭ ‬ويحرص‭ ‬على‭ ‬حسن‭ ‬تلاوته‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يفهم‭ ‬من‭ ‬معانيه‭ ‬إلا‭ ‬المتواتر‭ ‬المتداول‭ ‬من‭ ‬روح‭ ‬الدين‭ ‬الشائعة‭ ‬بين‭ ‬المسلمين‭ ‬سلوكاً‭ ‬ومعاملة‭. ‬

إنّ‭ ‬هذه‭ ‬الدرجات‭ ‬الثلاث‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬لها‭ ‬مجال‭ ‬تداول‭ ‬واسع‭ ‬وفي‭ ‬مستويات‭ ‬مختلفة؛‭ ‬فهي‭ ‬للبحث‭ ‬والنظر‭ ‬لدى‭ ‬المتخصص،‭ ‬وهي‭ ‬للتواصل‭ ‬والتفاهم‭ ‬لدى‭ ‬المتكلم‭ ‬بها‭ ‬لغةً‭ ‬أمّاً،‭ ‬وهي‭ ‬للتعبد‭ ‬لدى‭ ‬المسلم‭ ‬المتعبد،‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬المستويات‭ ‬قد‭ ‬تجتمع‭ ‬في‭ ‬الفرد‭ ‬الواحد‭. ‬ومن‭ ‬كلّ‭ ‬ذلك‭ ‬يتحقق‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬مجال‭ ‬تداول‭ ‬واسع‭ ‬عبر‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬وبتعدد‭ ‬المتكلمين،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يتضافر‭ ‬وروح‭ ‬الدين‭ ‬الإسلاميّ‭ ‬في‭ ‬انفتاحه‭ ‬وكونيّته‭ ‬التي‭ ‬تؤول‭ ‬بدورها‭ ‬إلى‭ ‬كونية‭ ‬اللغة‭ ‬التي‭ ‬نزل‭ ‬بها‭ ‬كتابه‭ ‬وبها‭ ‬يُصلّى‭.‬

ومن‭ ‬الخلاصات‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬نخلص‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬هجرة‭ ‬‮«‬العربية‮»‬‭ ‬عبر‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭ ‬أنّ‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬تحقق‭ ‬هوية‭ ‬منفتحة‭ ‬بالضرورة،‭ ‬وذلك‭ ‬بحكم‭ ‬ترابطها‭ ‬الوثيق‭ ‬بالإسلام‭ ‬والقرآن‭. ‬وهذا‭ ‬الترابط‭ ‬الوثــــيق‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬نجد‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬استثماراً‭ ‬حقيقياً‭ ‬فيه،‭ ‬فالعربية‭ ‬هي‭ ‬لسان‭ ‬ما‭ ‬يناهز‭ ‬نصف‭ ‬المليار‭ ‬من‭ ‬العرب،‭ ‬ولكنهــــا‭ ‬كذلك‭ ‬لغة‭ ‬أضعاف‭ ‬هذا‭ ‬العدد‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬الذين‭ ‬يتعبدون‭ ‬بالقرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬ويتطلعون‭ ‬إلى‭ ‬تعلّم‭ ‬هــــذه‭ ‬اللغة‭.‬

فإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬الواجب‭ ‬الديني‭ ‬أن‭ ‬يسعى‭ ‬المسلم‭ ‬العربيّ‭ ‬إلى‭ ‬تعليمهم‭ ‬لغة‭ ‬القرآن،‭ ‬فإنّ‭ ‬من‭ ‬مجالات‭ ‬الاستثمار‭ ‬الممكنة‭ ‬أن‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬المناهج‭ ‬التي‭ ‬تيسر‭ ‬تعليم‭ ‬العربية‭ ‬وتعزز‭ ‬انتشارها،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬المحرج‭ ‬حضارياً‭ ‬أن‭ ‬تهاجر‭ ‬شعوب‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬لسان‭ ‬العرب،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يهجر‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬لغتهم‭ ‬الجامعة؛‭ ‬إما‭ ‬إلى‭ ‬لهجاتهم‭ ‬المحلية‭ ‬الضيقة‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬بدائل‭ ‬لغوية‭ ‬تفرضها‭ ‬عليهم‭ ‬وضعيات‭ ‬اقتصادية‭ ‬أو‭ ‬ثقافية‭.‬

فقد‭ ‬غدا‭ ‬من‭ ‬المسلَّمِ‭ ‬به‭ ‬اليوم‭ ‬أنّ‭ ‬اللغة‭ ‬هي‭ ‬عماد‭ ‬مفهوم‭ ‬أساسي‭ ‬غدا‭ ‬ذائعاً‭ ‬متداولاً‭ ‬في‭ ‬السياقات‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والبحثية‭ ‬هو‭ ‬مفهوم‭ ‬القوة‭ ‬الناعمة■