رحلة إلى عملاق المنظومة الشمسية رؤوف وصفي

رحلة إلى عملاق المنظومة الشمسية

الشهب اللمعة تشكل خلفية للمشهد الفضائي المثير، وسفينة الفضاء(فويجر) تدور ببطء باتجاه الشرق فوق كوكب المشترى، وعند الأفق الأزرق الوهاج وقت بزوغ الفجر ترى شظية ذهبية من الضوء مقوسة تجاه سمت الرأس، إنها إحدى حلقات المشتري تلتقط أشعة الشمس التي ما زالت محتجبة. وتبدأ رحلتنا إلى المشترى.. عملاق المجموعة الشمسية.

حققت السفينتان الفضائيتان (فـويجر1) و(فويجر 2) عام 1979 نجاحا مدهشا، إذ إن المعلومات التي حصلتا عليها من كوكب المشتري وحلقاته وأقماره، بهرت العين وساعدت العلماء على وضع نظريات حديثة طورت بشكل قوي من فهمنا لهذا الكوكب الهائل

المشتري هو الكوكب الخامس بعدا عن الشمس، ويدور حولها مرة واحدة كل 12 عاما، ويبعد عنها بنحو 778 مليون كيلومتر.

وكوكب المشتري ضخم جدا لدرجة أنه لا يوجد في خبراتنا سوى القليل الذي يمكن مقارنته به، فحجمه يبلغ أكثر من حجم كوكب الأرض ألف مرة، ومحيط دائرته الاستوائية أكبر من المسافة بين الأرض والقمر. وتبلغ كتلة المشتري بمفرده أكثر من ضعف كتلة جميع الكواكب الثمانية الباقية في المنظومة الشمسية. وقد أدى تأثيره الجذبي المدمر إلى حرمان المريخ من الكتلة التي كانت ستجعل هذا الكوكب مشابها للأرض، مما حال دون زيادة سرعات الكويكبات السيارة ما بين المريخ والمشتري بحيث تندمج في جسم واحد، وألقى ببقية الكويكبات الصغيرة في سحابة "أورت" موطن المذنبات على بعد نحو 150 بليون كيلو متر عن الشمس.

كتلة هائلة ساخنة

وكوكب المشتري ليس صلبا، بل تموج في سطحه الغازات وتضطرب، وتبدو كغلاف محكم به خطوط معتمة، وكلما توغلنا في أعماقه أكثر، ازدادت كثافة غازاته حتى تصبح سائلة في آخر المطاف. ويبلغ ضغط المركز 100 مليون مرة قدر ضغط جو الأرض، وذلك بسبب كتلة المشتري الهائلة الساخنة، ونتيجة لهذا الضغط المروع فإن باطن المشتري يتكون من هيدروجين. وغلاف صخري من الحديد والسيليكات.

ويدور كوكب المشتري بسرعة فائقة هي مرة واحدة كل عشر ساعات مما يسبب انتفاخه عند خط استوائه ومن ثم يبدو مفلطحا، ولا شك أن هذه السرعة الدورانية العالية سبب رئيسي في وجود أحزمته الملونة، وهي عبارة عن سحب منتشرة في اتجاه مواز لخط استوائه. وتظهر الأحزمة في تدرجات لونية متقاربة، برتقاليـة وبنية ورمادية وصفراء وزرقاء، وهي في حالة اضطراب متواصل إذ تتغير أشكال وتوزيعات هذه الأحزمة كل بضعة أيام.

ويتفاعل المجال المغناطيسي الهائل لكوكب المشتري مع الرياح الشمسية والأقمار الداخلية القريبة بطريقة معقدة مما يعمل على توليد إرسال راديوي دوري وإنشاء بعض العمليات الكيميائية الفريدة على أقماره العديدة.

ومن نواح كثيرة، يعتبر كوكب المشتري أقرب للنجم منه للكوكب. فهو مصدر حرارة ويشعها بنسبة 1.6 مرة قدر الحرارة التي تصله من الشمس، ولا بد أن هناك مصدرا ما للطاقة الداخلية، لعلها الطاقة المتبقية من تقوض المشتري من سحابة الغاز الأولية.

البقعة الحمراء الغامضة

تثور فوق سطح المشتري عواصف مروعة تكتسح كل شيء في طريقها، وهي تتولد من السريان الدوامي المقترن بالتيارات المتدفقة التي تزيد سرعتها على 300 كيلو متر في الساعة. والبقعة الحمراء العظمى أكبر هذه العواصف الإعصارية وهي دوامة غازية هائلة ومنطقة ضغط عال في نصف الكرة الجنوبي للمشتري بالقرب من خط الاستواء، ويزيد عرضها على ثلاثة أمثال قطر كوكب الأرض، وتدور في عكس اتجاه دوران عقارب الساعة مرة واحدة كل ستة أيام، وتقع قمتها على مسافة نحو ثمانية كيلو مترات فوق قمم السحب المجاورة لها. وقد كشفت الصور المتتالية من سفينة الفضاء (فويجر) عن السريان داخل وحول البقعة، كما أوضحت أيضا كيفية تفاعلها مع السحب المجاورة والبقع الأصغر منها، إذ إنها أكثر برودة مما يحيط بها. وقد لوحظ أن هناك سحبا بيضاء تدخل مجال دوران البقعة الحمراء الغامضة، ثم تبدأ في الاندفاع بقوة حولها، كما اكتشفت حديثا ثلاث مناطق إهليلجية الشكل، ما زالت من الألغاز الفضائية.

وتبدو هذه البقعة ثابتة إلى حد ما، منذ أن بدأ الإنسان في رصدها منذ 350 عاما، وأحيانا تكون واضحة نسبيا وفي أوقات أخرى يختفي لونها تقريبا لعدة سنوات. كما أن هناك بقعا أخرى أصغر منها.

يسيطر كوكب المشتري على عائلة تضم ما يزيد على 16 قمرا، تشكل عوالم غريبة، لكل منها شخصية فريدة خاصة بها. وأربعة من أقرب الأقمار الداخلية، اكتشفها جاليليو عام 1610، عندما نظر لأول مرة إلى المشتري بتلسكوبه، وتسمى هذه الأقمار الأربعة (أقمار جاليليو) وهي: إيو، يوروبا، جانيميد، كاليستو. ويعتبر جانيميد أكبر قمر في المنظومة الشمسية، إذ يبلغ قطره نحو 5300 كيلو متر. وهو بهذا أكبر من كوكب عطارد.

وقد لعبت "أقمار جاليليو" دورا مهما في تاريخ الفلك. إذ إن حقيقة كون هذه الأقمار تدور حول كوكب آخر كمنظومة شمسية مصغرة، عززت رأي العالم كوبرنيكس بأن الكواكب تدور حول الشمس، وأن الأرض ليست مركز الكون!

وقد كانت أكبر مفاجأة واجهتها بعثة سفينة الفضاء (فويجر 1)، هي أن أكثر أقمار المشترى غرابة (إيو)، الذي يبلغ حجمه مثل حجم قمر الأرض، هو أكثر الأجرام التي في المنظومة الشمسية كلها من حيث النشاط البركاني. فقد أمكن تحديد أماكن تسعة براكين هائلة تتصاعد منها الحمم، وتأتي هذه الثورات البركانية من الكبريت ومركباته التي تسخن من انثناء قشرة (إيو) بسبب المد والجزر الذي تحدثه الجاذبية المروعة لكوكب المشتري، والتي تخلق بروزا في السطح الصخري للقمر. ونظرا لأن (إيو) له مدار غير دائري تماما، فإن هذا البروز يتحرك إلى الأمام وإلى الخلف عبر سطحه فتنثني القشرة الصخرية، وهذا الضغط والتمدد يحدث حرارة لافحة من الاحتكاك، تكفي لصهر جوف القمر (إيو) فتنشأ ثورات البراكين.

وكان العلماء يعرفون أن القمر (إيو) يطرد الجسيمات دون الذرية، بعيدا عنه أثناء دورانه حول المشتري، واكتشفت سفينة الفضاء (فويجر 1) أن هذه الجسيمات نشأت من البراكين النشطة على ظهر القمر.

البحث عن احتمالات للحياة

ويعتبر القمر (يوروبا) ذا حجم وتركيب صخري يماثلان القمر (إيو)، ومع ذلك فإن مدار (يوروبا) أبعد بكثير عن المشتري، ومن ثم فإن هذا القمر لا يسخن إلا مرة واحدة أسبوعيا بالانثناءات المدية والجزرية. ويفترض العلماء وجود محيط يتأثر بالمد والجزر تحت قشرته الثلجية الرقيقة، وسطح (يوروبا) أملس بشكل غير عادي ولا توجد على سطحه فوهات بركانية، ولا يتميز إلا بخطوط مظلمة بارتفاعات تقل عن مائة متر، لعلها شروخ سطحية.

والنشاط الإشعاعي الداخلي أو التسخين بالجاذبية- مثل الذي يحدث للقمر (إيو)- هو الذي ولد الحرارة التي سببت رقة الثلوج فوق سطحه. ولأن من المحتمل أن يكون به ماء سائل وبعض الحرارة الزائدة، فإن بعض العلماء يرون أنه مكان يستحق أن نبحث فيه عن أي علامات للحياة.

وكذلك فإن القمرين الخارجين من أقمار المشتري الضخمة (جانيميد) و (كاليستو) توأم وكلاهما نصفه ثلجي والنصف الآخر صخري. والغريب أن سطح (جانيميد) الجليدي قد تعرض للتصدعات والفيضانات بشكل متكرر مما تسبب في وجود لطخات غائرة على سطحه.

أما القمر (كاليستو) فهو أكثر أجرام المنظومة الشمسية امتلاء بالفوهات البركانية، كما تمتد حلقات كثيرة متحدة المركز إلى الخارج بنحو مسافة ألفي كيلو متر. وتشكيل العين الهائلة المسماة "فالها لا" تحتوي على نحو عشر حلقات متحدة المركز، لا شك أنها نتجت عن ارتطام نيزكي هائل. ولعل التموجات التي انتشرت من منطقة الارتطام تجمدت في الثلوج، بحيث تكونت هذه العين الهائلة.

حلقات المشتري

رغم عدم توقع وجود حلقات لكوكب المشتري، إلا أنه قد تمت برمجة سفينة الفضاء (فويجر 1) للبحث عن هذه الحلقات. وبالطبع كانت حلقات كوكب زحل معروفة جيدا، كما أن حلقة كوكب أورانوس تم اكتشافها قبل ذلك ببضعة أعوام فقط.

وعندما أظهرت صور (فويجر 1) وجود حلقات رفيعة من المادة حول كوكب المشتري، كان من أهم أهداف (فويجر 2) التقاط سلسلة من الصور لهذه الحلقات من عدة اتجاهات، وقد بدت الحلقات لامعة بشكل غير متوقع، ولعل هذا يرجع إلى وجود جسيمات دقيقة بها تشتت الضوء تجاهنا. وعند إعادة التحليل عام 1985، لمعلومات سفينتي الفضاء (فويجر)، تم اكتشاف أن حلقات كوكب المشتري تنقسم إلى حلقة رئيسية خافتة فوق قمم سحب الكوكب، وحلقة داخلية أشد خفوتا رغم أنها أكثر سمكا وانتشارا وحلقة ثالثة هلامية رقيقة تمتد إلى الخارج.

جسيمات وأيونات وإشعاعات

اكتشفت سفينة الفضاء (فويجر 1) وجود ثلاثة أقمار صخرية صغيرة حول المشتري، هي (ميتس) و (اندراستي) و (ثيب)، تدور بين القمر (إيو) وكوكب المشتري. ويبدو أن هذه الأقمار الصغيرة تفرز حبيبيات دقيقة الحجم هي التي تشكل حلقات المشتري الرقيقة. وتتحرك بعض الجسيمات لولبيا إلى الداخل مكونة هالة منتشرة تمتد حتى الغلاف الجوي للمشتري، بينما تكون الجسيمات الأخرى حلقة من غشاء مخاطي شمسي يمتد إلى الخارج.

وتنحصر حلقات وأقمار كوكب المشتري داخل نطاق إشعاعي كثيف من الإلكترونات والأيونات (ذرات فقدت أو اكتسبت إلكترونات) المحبوسة في المجال المغناطيسي المروع للكوكب العملاق.

فقد اكتشفت رحلات سفن الفضاء لكوكب المشتري، أنه يمتلك مجالا مغناطيسيا هائلا، وهو حلقي الشكل يشبه "الكعكة"، ويحتوي على عدة أغلفة مثل نسخ عملاقة من أحزمة "فان إلن " فوق كوكب الأرض. وهناك يتم إمساك البروتونات والإلكترونات عالية الطاقة. وتدور المنطقة الوسطى بسرعة بسبب دوران المجال المغناطيسي للمشتري، أما المنطقة الخارجية فإنها تتفاعل مع الرياح الشمسية على مسافة سبعة ملايين كيلو متر بعيدا عن الكوكب، وتنبض فيها مثل قنديل البحر الهائل، كما تشكل موجة صدمية كمقدمة السفينة وهي تشق عباب المياه، وعندما تكون الرياح الشمسية قوية، فإن المجال المغناطيسي الخارجي يندفع إلى الداخل.

ورغم أن لكوكب المشتري مجالا مغناطيسيا سطحيا أقوى 13 مرة منه على كوكب الأرض، فإن هذا المجال المغناطيسي مشوه إلى حد كبير بواسطة أيونات الكبريت والأكسجين القادمة من القمر (إيو). ذلك لأن الغلاف المغناطيسي الهائل يدور مع كوكب المشتري، ويكتسح المسافة حتى ما بعد القمر (إيو)، فينتزع منه عدة أطنان من المادة في الثانية الواحدة، مكونا حلقة كبيرة من الأيونات التي تتوهج من الإشعاع فوق البنفسجي. وحيث إن هذه الأيونات الثقيلة ترتحل من كوكب المشتري إلى الخارج، فإن الضغط الذي تحدثه يسبب انتفاخ الغلاف المغناطيسي الهائل الدوار إلى أكثر من ضعف حجمه المتوقع. وتترسب بعض أيونات الكبريت والأكسجين النشطة على طول المجال المغناطيسي في الغلاف الجوي محدثة ابتعاثا شفقيا فوق بنفسجي كثيف.

وأثناء حركة القمر (إيو) خلال المجال المغناطيسي للمشتري، فإنه يعمل كمولد كهربي هائل حيث يولد أربعمائة ألف فولت عبر قطره، ويحدث تيارا كهربيا قدره ثلاثة ملايين أمبير، يسير على طول المجال المغناطيسي حتى غلاف الأيونوسفير المتأين لكوكب المشتري، وأدى هذا إلى حدوث انفجارات شديدة من الموجات الراديوية في الغلاف الجوي للكوكب العملاق.

سحب من النشادر

جو المشتري بحر متقلب من السحب الصاعدة والهابطة مختلفة الألوان، وتمزق قوة رياح الأعاصير المروعة هذه السحب وتزيد من تحركاتها، ومعظم الجو يتكون من الهيدروجين أما الهيليوم فلا يوجد بأكثر من نسبة 10%، وهناك غازات أخرى كالميثان والنشادر. والمناطق العلوية من سحب المشتري باردة عند نحو- 130 مئوية، وهناك شرائط لامعة تسمى "نطاقات" وأخرى مظلمة يطلق عليها "أحزمة" وهي عبارة عن غازات متساقطة، وقمم هذه الأحزمة المظلمة منخفضة نوعا ما (بنحـو 25 كيلومترا) عن قمم النطاقات، ولذلك فهي أدفأ.

وقد أتاحت السفن الفضائية أول فرصة للنظر إلى كوكب المشتري، من وجهة نظر تختلف عن تلك التي نشاهدها عبر التلسكوبات الأرضية. وأقبلت فوق المناطق القطبية للكوكب العملاق لسببين: الأول، أن العلماء أرادوا تجنب حدوث أي تلف محتمل بسبب أحزمة الإشعاع الكثيف للمشتري. والثاني، أننا لا يمكن أن نرى المناطق القطبية من الأرض، لأن محور المشتري عمودي تقريبا على مدار كوكب الأرض، ولذلك كان العلماء تواقين لمشاهدة قطبي المشتري لأول مرة. وكانت النتائج مفيدة جدا: فعند خطوط العرض المرتفعة، يختفي تماما نمط دوران أحزمة السحب التي نراها فوق خط الاستواء إذ تتحول إلى دوامات مروعة، وتتكون سحب المشتري أساسا من بلورات ثلج النشادر عند خطوط العرض العالية، كما أن هناك سحبا منخفضة معتمة تلقي ظلالا مميزة، عندما تكون بالقرب من الخط الفاصل بين الضياء والظلمة، ويوحي ذلك بأنها مماثلة للسحب الأرضية الممطرة.

وجو كوكب المشتري يغلي، ولكن الدوران السريع ينظم هذه العملية، فالهواء الدافئ يصعد في المناطق المضيئة ويحمل معه بخار النشادر عاليا في الجو حيث يتكثف إلى ثلوج.

وعندما تبرد السحب الرقيقة العالية، فإنها تسقط داخل الأحزمة المظلمة المجاورة، أما المناطق المضيئة من خلال عملها كسلسلة من النافورات، فإنها تكون الآلية التي يتخلص بها كوكب المشتري من حرارته الزائدة. وعند منتصف المسافة تقريبا إلى مركز الكوكب العملاق، تجبر الحرارة اللافحة والضغط المروع الهيدروجين على التصرف كمعدن منصهر، ويعتقد العلماء أن التيارات الكهربية في هذه المنطقة قد تنشئ المجال المغناطيسي المروع للمشتري، والذي يمتد لما بعد مدارات كثيرة من أقماره.

إن كل زيارة لإحدى سفن الفضاء لكوكب المشتري، تكشف المزيـد من أسرار ومفاجآت هذا الكوكب الهائل.. عملاق المنظومة الشمسية.

 

رؤوف وصفي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




القمر (كالشمس) ويلاحظ الحلقات الكثيرة المتحدة المركز والعين الكبيرة فالهالا





القمر إيو ويلاحظ انثناء قشرة سطحه وفوهات البراكين





السفينة الفضائية فويجر 1 تكتشف أسرار المشتري





تفصيل للبقعة الحمراء الكبرى الغامضة