مهندسو مصر القديمة

مهندسو مصر القديمة

طـَمَسَ الدهر عاديّات السلف، وحافظ الخَلَف على ما تبقى منها، فحجر الأمس البسيط هو أثر اليوم الثمين.
وعند التحدث عن حضارة والتأمل فيها، لابد من التوقف طويلاً أمام بقايا وشواهد وأطلال مبانيها بمختلف أنواعها؛ الديني والدنيوي والجنائزي، الحجري والطيني والخشبي، مباني الأفراد وقصور الملوك ومعابد الآلهة.

إن هيكلية وعماد مدنية بني الإنسان تقوم على البناء والمعمار، فالبيت نظّم الحياة، والورشة صنعت الأدوات، والقصر حكم الشعـوب، والمعبد صان الطقوس، والقبر حفظ الأموات.
ولكل شعب هوية متفردة في الأبنية قديماً وحديثاً، تُعرف ملامحها على الرغم من تلاحُق الأزمنة وتغيّر الأمكنة. تلازمه ملازمة الروح للجسد مهما انتقل أو تغيّر وهَرِم، وتكشفها عيون العامة قبل الخاصة.
لكن مع وحدة الهوية العام يحدث التميز والاختلاف الخاص داخل الحضارة الواحدة بتباين المواقع والظروف والحقب، ومن تلك الفروق تُخْرِجُ العبقريات البشرية أجمل وأرقى ما فيها، كتفتُّح أزهار البرية وسط صخورها، بالرغم من صعوبة الحياة وقسوة الطبيعة.
تعد الموارد الطبيعية من العوامل الرئيسة في قيام الحضارات، بجانب عوامل أخرى مناخية واجتماعية وجغرافية، فالإنسان يطوّع ويطوّر ما تقع يده عليه لتسهيل واستقرار حياته اليومية. ولحدوث طفرة حضارية وسَبْق أنثروبولوجي، يستلزم ذلك وجود أفراد نوابغ يجيدون التعامل مع مصادر الطبيعة الأم، واستخراج وتصنيع النفيس والمفيد منها، عندها نرى التاريخ البشري يسلك دروباً جديدة لم يعهدها من قبل، وكثيراً ما نرى الطبيعة تساعد الإنسان على استغلال تلك الموارد؛ مثل الزراعة والرعي والصيد.
ولكن تظل دروب أخرى خالصة من صنع البشر، دون أي معاونة خارجية سوى وجود المواد الأولية، التي يستخدمها ويسخـّرها لأفكاره. ويعد فن التشييد والبناء من أبرز الأعمال التي اختصها ابن آدم لنفسه على هذه الأرض.
فبعد أن كان الإنسان البدائي يحتمي بشجرة أو يختبئ في كهف، مثل بقية الكائنات من حوله، بدأ باستخدام الخامات البيئية المحيطة به لإنشاء فراغات وحجوم، وفق ما يتطلبه النشاط والوظيفة التي سيحتضنها المنشأ الذي يقيمه.
ويكون معدل تطور طريقة التشييد تدريجياً على مر الزمن، مثل أي تطور آخر، وذلك وفق تقدم المجتمع وتراكم خبرات أفراده مع وفرة مادة البناء، حيث بدأت البشرية البناء باستخدام أغصان النباتات وجذوع الأشجار والنخيل، مروراً بالطين، ثم لَبِنات الطوب (ظهرت قوالب اللـَّبِن الطينية المجففة أولاً، ثم القوالب المحروقة داخل أفران بعد ذلك)، واستخدام كتل الأحجار والألواح والعروق الخشبية بجميع أنواعها وأشكالها، وصولاً إلى الخرسانة وتسليحها، والهياكل المعدنية، والقطاعات والقوالب الجاهزة حالياً بمختلف المواد الطبيعية والمخلّقة صناعياً. 
وسوف نوجز هنا سيرة ثلاثة مهندسين من مصر القديمة، غيّروا مفهوم البناء والتشييد في التاريخ البشري، وظهرت عبقرياتهم في أعمالهم الباقية حتى اليوم، والتي تشهد بالسبق والتفرد في هذا المجال منذ بواكيره قبل آلاف السنين. 

إمحوتب... العبقري
 شخصية استثنائية إلى أبعد الحدود، بل يعد من أكثر الشخصيات عبقرية وغموضاً في مصر القديمة، فهذا الرجل الذي ظهر اسمه في عهد الدولة القديمة، وتحديداً فترة الملك زوسر بالأسرة الثالثة (حوالي عام 2700 قبل الميلاد) أحدث انقلاباً حضارياً غير مسبوق، حيث نُسِبَ لهذا الرجل النبوغ في العمارة والطب، بجانب كونه وزيراً ورئيس بلاط ملكي وكبير كهنة وحكيماً لا يُشق له غبار، لدرجة رفع منزلته إلى طور التقديس في الفترة البطلمية واليونانية الرومانية بعد ذلك، وبناء عدة معابد ومقاصير ومصحات باسمه كمعبود ورمزٍ للشفاء.
وذكرَت بردية محفوظة في الأكاديمية الطبية بنيويورك تسمى «مخطوطة إدوين سميث» (نُسِخت بعد عهده بحوالي ألف عام) قائمة تحتوي على حالات كسورٍ وجروح، يعتقد أن إمحوتب هو من وصفها لعمّاله ورجاله المصابين أثناء أعمال البناء أو الحروب، مع بيان طرق العلاج، سواء بالعقاقير أو الجراحة، وذلك في عهد مبكر من تاريخ البشر، كانت فيه المداواة بدائية إلى أقصى درجة.
 أما في مجال التشييد والبناء، فما فعله هذا الرجل لا يوصف إلا بالعبقرية الخالصة، متجسدة فيما أنجزه.
المدهش أن إمحوتب أظهر مهارة ساحرة في هذا المجال الذي ينقسم إلى مرحلتين أساسيتين، هما التصميم والتنفيذ، ومن المعلوم أن أعمال البناء الحجرية قبل هذا العهد كانت ضئيلة ونادرة، وتتم في أضيق نطاق وبصورة بدائية تماماً، حيث كان البناء بالطوب اللـبِن هو المسيطر والشائع وقتها بمصر القديمة.

نقلة شاملة 
أما أن يقوم هـذا الرجل بنقلة شاملة من عـصر البناء بالقـوالب الطـينية الصغـيرة إلى عـصر التشـييـد بالأحجار الضخمة المقـطوعة والمنحـوتة والمنقـوشـة، وعـمل تصـميمـات معـمارية كاملة - نراها بوضوح في منطقة سقارة بالجيزة - من هرمٍ مدرجٍ كامل ومجمع ملحق به سرداب ومذابح ومقاصير ومقابر ومعابد ومحاريب ومخازن وساحات وأروقة، وأعمدة حجرية عظيمة تماثل الأعمدة اليونانية الدوريكية فيما بعد، وأسوار ممتدة ذات ارتفاع وتصاميم أخاذة، إضافة إلى تفاصيل معمارية أخرى لم تكن قد انتشرت من قبل، مثل أنصاف الأعمدة والزخارف الحجرية المتنوعة وتيجان أعمدة مماثلة لزهرة اللوتس، بل وعمل التكوينات النباتية، مثل الحصير وسيقان النخيل من منحوتات حجرية بالغة الدقة والرشاقة، إضافة إلى أعمال تكسيات داخلية بقطع دقيقة من الفاينس الأزرق والأخضر، فنحن أمام إبداع منقطع النظير وانتقال حضاري غير مسبوق.
وتستمر الدهشة مع إنجازاته في مرحلة التنفيذ، أي تحقيق ما تخيّـله على أرض الواقع، وما يتطلبه ذلك من ترتيب دقيق وعمل خطط زمنية محكمة، بجانب وجود عمالة ماهرة مدربة تجيد التعامل مع الأحجار ونحتها ونقشها من دون أخطاء، إضافة إلى وسائل ومعدات قوية للقطع والنقل، وهذا ما جعل إمحوتب يستحق بجدارة لقب «رئيس عمليات البناء»، بجانب ألقابه العديدة الأخرى. أما تحفته الشهيرة، المتمثلة في بناء هرم الملك زوسر، فدليل صريح يعرفه الجميع عن مدى عبقرية إمحوتب الهندسية، حيث تحوّل من عملية بناء المقابر في صورة مصاطب أفقية ذات شكل بسيط، إلى هرم مدرج ضخم مكون من ست مصاطب بعضها فوق بعض، وبهذه الفكرة انتقلت الحضارة المصرية القديمة إلى عصر الأهرام، وأصبح الشكل الهرمي أحد أهم رموزها على الإطلاق. 
وما ضاعف من غموض سيرة إمحوتب هو عدم اكتشاف مقبرة تضم سيرته وأغراضه أو جثمانه حتى الآن، برغم محاولة العديد من علماء الآثار على مدى سنين طويلة استكشاف أي دليل يؤدي إلى موقع مثواه الأخير، ليترك هذا العبقري بصمات لا يمكن أن يطمسها الزمن، مقرونة بعلامات استفهام وتعجّب كثيرة على أسرار أعماله وتفاصيل حياته ومكان دفنه.

حِم إيونو... النبيل
هو المهندس المسؤول عن بناء الأثر الوحيد المتبقي من عجائب الدنيا السبع القديمة، الهرم الأكبر.
كان حِم إيونو أميراً من أمراء الأسرة الرابعة العريقة ووزير الملك الأشهر خوفو (حوالي عام 2600 قبل الميلاد)، وحمل لقب «المشرف على كل الأعمال المعمارية»، وهي الوظيفة التي نسميها في وقتنا «كبير المهندسين»، فكانت درة أعماله هذا الهرم الفريد بهضبة الجيزة، الذي يعد أشهر أهرام الدنيا ومعجزة معمارية بكل المقاييس.
وقد كشف عن قبر هذا الأمير قرب هرم مليكه بهيئة مصطبة فخمة، وعـثر بداخله على تمثال بسيط وبديع من الحجر الجيري محفوظ حالياً بمتحف «رومر وبيليزيوس» بمدينة هيلدسهايم في ألمانيا، وبه نرى حِم إيونو يجلس على مقعد بلا سند، وقد استقرت يداه على ركبتيه، قابضاً يمناه وباسطاً يسراه. وتدل الملامح على الهيبة والنبل وقوة الشخصية، ولم يُخفِ المثّال أعراض السمنة على جسم المهندس الأمير، فنحته بثديين لحيمين، وأبرز ما تحتهما من طيّات الشحم، مما يدل على الثراء وترف حياة أفراد الطبقة العليا بمصر القديمة في هذه الفترة.

سِـننمـوت... الداهية 
هو كبير رجال الملكة حتشبسوت ذائعة الصيت، التي حَكَمَت عهد الدولة الحديثة إبان الأسرة الثامنة عشرة (حوالي عام 1500 قبل الميلاد)، وقد حمل هذا الرجل لقب «مدير المباني الملكية»، أي إنه كان كـبير مهندسي الملكة، وهو الذي صمم ونفّذ لها معـبد الدير البحري الشهير الكائن بالضفة الغربية في مدينة الأقصر، والذي لا نجد له نظيراً في أي مكان آخر، باستثناء بقايا معـبد صغير مجاور له ينتمي إلى عهد الدولة الوسطى، اقتبس فكرته، لكن نسخـته تفوقـت على الأصل، وبه نرى مهارة التصـميم بعـمل ثلاثة مسـتويات متصاعـدة بينهما، وله مطـلعـان تصل المناسيب بعـضها ببعض، ولعـل أبرز ما جـسّـد عـبقـرية سِننموت في تشييد هذا المعـبد عـمل تصميمه بامتداد أفـقي - عكس ما سعى إليه أغلب البنائين القدامى بالعلو والارتفاع الرأسي قدر الإمكان - كي يحد من إحساس ضخامة وسموق الجبل الذي يحتضن المعبد من خلفه، فتجنب ظهور مبناه بحجم ضئيل.
كما كان سِننموت مربي الأميرة نفرو- رع (ابنة حتشبسوت)، مما قرّبه بشدة من الملكة، وأصبح أهم رجال البلاط الملكي وقتها، حاملاً لقب «مدير البيت العظيم»، وعشرات الألقاب الرفيعة الأخرى. 
وقد تم اكتشاف حوالي 20 تمثالاً لسِننموت، بعض منها تمثاله مع الأميرة الصغيرة، وتفنن النحاتون في إظهار احتواء واهتمام الرجل بها في أكثر من هيئة بالتماثيل البديعة المكتشفة، مما جعل بعض الأثريين يعتقدون باحتمال أن سِننموت كان محبوباً للملكة، وأن ابنتها من صلبه. ومن الأمور المثيرة التي اكتشفها علماء الآثار الوفاة المفاجئة لـ نفرو- رع، وهي في شرخ شبابها وانهيار منزلة سِنموت، لدرجة اختفاء سيرته بعـد تلك الحادثة، وتدمير مقـبرتين فاخرتين أقامهما لنفسـه - ونجاة رسم فلكي نادر بسقف حجرة إحداهما يبيّن مجموعات للنجوم ودوائر مقسمة للاثني عشر شهراً في السنة - مما يرجح نوعاً من الانتقام الذي نفذته حتشبسوت عقاباً له، سواء بسبب فقد الأميرة، أو لدسائس بالبلاط الملكي في عهد هذه الملكة، أو فترة الملك تحتمس الثالث الذي حَكَم فعلياً بعدها، وغالباً ما عدّ سِننموت محرضاً، ومشاركاً في اغتصاب زوجة أبيه حتشبسوت العرش منه، حيث تُوّج تحتمس الثالث ملكاً تحت الوصاية، بعد وفاة أبيه الملك تحتمس الثاني، وهو لم يكمل الحادية عشرة من عمره، وتمت تنحيته بعد سبع سنوات، لتصبح حتشبسوت ملكة على عرش مصر مدة عشرين عاماً كاملة، على أقل تقدير، تحت حماية رجال مخلصين لها، وعلى رأسهم سِننموت.
ويبدو أن الرجل قد توقع تلك النهاية المقترنة بالغدر، سواء في حياته أو بعد موته، فاتخذ بعض الإجراءات الوقائية كمهندس داهية، حيث وضع صورة له خلف كثير من أبواب معبد الدير البحري، لتكون بعيدة عن أي طمس، وفي مقبرته التي أقامها تحت المعبد كَتَبَ اسمه بعدة أماكن على واجهة الجدران الصخرية تحت طبقة الملاط، فلما أزالت أيادي المخربين وعوامل الزمن تلك الطبقة، ظهر اسمه، فضَمنَ الرجل تعـرّف روحه على مكان دفنته حسب المعتقدات المصرية القديمة، وتعـرّفنا - بدورنا - على أعماله العظيمة، ونُسِبَت الأعمال لصانعها، رُغم أنف أعدائه وتعاقب العصور■