عبدالرحمن بدوي الفيلسوف الموسوعي والمؤسسة الثقافية

عبدالرحمن بدوي الفيلسوف الموسوعي والمؤسسة الثقافية

يتخطى عبدالرحمن بدوي نظراءه من الأعلام العرب المعاصرين في إنتاجه العلمي الضخم الذي تجاوز 120 كتاباً في «المبتكرات» و«الدراسات الإسلامية» و«الترجمات» و«الفلسفة اليونانية والأوربية». وصفه المفكر المصري محمود أمين العالم (1922/2009) بــــ «أنه الفيلسوف المتسق الرؤية، والباحث المدقق المحقق، والرمز النادر لصلابة الموقف الفكري، إلى حد الانخراط شبه المطلق فيما يؤمن به وهو مؤسسة ثقافية متكاملة ذات نسق خاص، وقيمة كبيرة في ثقافتنا العربية المعاصرة، وستظل أعماله دائماً المرجع المعرفي الأنسب للباحثين والمفكرين». ورأى فيه عالِم الفلسفة حسن حنفي أنه «فرد واحد يقوم بدور جيل كامل أو مؤسسة بحثية بأسرها»، وهو «فيلسوف موسوعي، يؤلف في كل ميدان، ويكتب في كل علم، لا تحد معارفه حدود، يسبح في فضاء لا نهائي للمعارف البشرية مثل القدماء».

أسس الفيلسوف المصري المتأثر بمارتن هيدجر (1889/1976) الفلسفة الوجودية العربية، وتميز بصلابة معارفه وعبقريته الفذة، خصوصاً في «الدرس الفلسفي». وعلى الرغم من اهتمامه الكبير بالفلسفات اليونانية والأوربية والإسلامية (تأليفاً وترجمة وتحقيقاً)، يبقى عصياً على التصنيف، نظراً لاتساع مداركه واشتغاله في تخصصات عدة، مما دفع المفكر المصري أنور عبدالملك (1924/2012) إلى القول: «كيف يكون المدخل إلى رجل لا يقبل التصنيف»؟ وليست مصادفة أن يكتسب بدوي صفة «الفيلسوف الموسوعي» وهو الذي يُجيد 9 لغات: «الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، الإنجليزية، الإسبانية، اليونانية، اللاتينية، الفارسية، التركية، مما عزز رصيد موسوعيته بالاطلاع على مصادر فكرية متنوعة، في مظانها، وبلغاتها الأصل» (بلقزيز، عبدالإله،  «عبدالرحمن بدوي... المثقف المؤسسة»، جريدة الخليج الإماراتية، 8 سبتمبر 2014). 
شكلت «سيرة حياتي» (جزءان)، التي أصدرها بدوي مادة خصبة للتعرف عن كثب على حياته. وقد أثارت زوبعة من الردود من قبل البعض، بسبب ما تضمنته من آراء صدامية، ثقافياً وسياسياً وأيديولوجياً، لاسيما تأييده للنازية وموقفه السلبي تجاه عديد من المفكرين والكتّاب المصريين والعرب. ولا ريب في أن صلابة الشخصية العالِمة بميولها السياسية والفكرية التي تمتع بها صاحب «الإنسان الكامل في الإسلام» أسبغت عليه صفة «الفيلسوف الإشكالي».
  
سيرة مختصرة: من شرباص إلى الناصرية
يقول عبدالرحمن بدوي في كتابه «سيرة حياتي»:
«بالمصادفة أتيت إلى هذا العالم، وبالمصادفة سأغادر هذا العالم». بهذه الجملة يفتتح بدوي مذكراته التي تضمنت تفاصيل ومعلومات كثيرة خاصة وعامة. جاء كلامه هذا بعد تعرّض والده لحادث كاد يودي بحياته. يقول في سيرته: «كان مولدي في شرباص (محافظة دمياط المصرية) حوالي الساعة الثانية من صباح الرابع من فبراير عام 1917. وكنت الثامن من إخوتي وأخواتي لأمي، والخامس عشر بين أبناء والدي؛ وسيصبح المجموع واحداً وعشرين ولداً. أحد عشر من البنين وعشراً من البنات. وكان ذلك تعويضاً هائلاً عما جرى لجدي، فإنه لم ينجب غير ولد واحد هو والدي».
حصل بدوي في «مايو عام 1929 على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية من مدرسة فارسكور»: «كان ترتيبي الرابع والخمسين بعد الثلاثمائة من مجموع الحاصلين على الشهادة الابتدائية في القطر المصري، وكان عددهم حوالي المائة ألف، وإثر حصولي على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية التحقت في سبتمبر 1929 بالمدرسة السعيدية الثانوية في الجيزة». 
وفي عام 1934 أنهى دراسة البكالوريا القسم الأدبي، حيث حصل على الترتيب الثاني على مستوى مصر، ودخل كلية الآداب في الجامعة المصرية، قسم الفلسفة، وتتلمذ خلال دراسته على يد عميد الأدب العربي طه حسين وكبار «الأساتذة الفرنسيين الذين توالوا على القسم منذ نشأته في عام 1925، مثل أندريه لالاند، وإميل برهييه وألكسندر كواريه».
وبعد حصوله على الليسانس في مايو عام 1938 كان على بدوي اختيار موضوع رسالته في الماجستير: «مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية»، فلما عرض هذا الموضوع على لالاند، الذي اختاره كي يشرف على رسالته نصحه قائلاً: «لا تثق أبداً بالبدع السائدة وكانت هذه البدعة هي الوجودية، لأنه رآها تنتشر في الثلاثينيات على نحو واسع، وتغزو ميدان الفلسفة شيئاً فشيئاً على يد مارتن هيدجر وكارل ياسبرز، لكن لم أقتنع بنصحه، وتوفيقاً للرأي بيننا جعلت العنوان أعم وهو: «مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة»، فوافق، غير أنه (لالاند) غادر مصر عام 1940 لما رأى الحرب تقترب من فرنسا، ففضل أن يكون في وطنه قبل اندلاع الحرب في الميدان الفرنسي من جبهة القتال، خوفاً - فيما يبدو - من انقطاع السبيل بينه وبين وطنه بعد اندلاع القتال».
لهذا حينما جاء كواريه في أكتوبر عام 1940 تحوّل إليه الإشراف على رسالتي هذه، ولم يعترض على توسعي في القسم المتعلق بالموت عند الفلاسفة الوجوديين، وبهذا استعدت خطتي الأصلية، وهي أن تنصبّ الرسالة في مجموعها على آراء الفلاسفة الوجوديين في مشكلة الموت، بحيث كان ثلثا الرسالة في هذا الباب». يشار إلى أن رسالة الماجستير كُتبت بالفرنسية «Le Problème de la Mort dans la Philosophie Existentielle»، ولم تترجم إلى «العربية».
 
ميدان الفلسفة الوجودية
ترك لالاند تأثيراً في بدوي: «بثّ النزعة العقلية في تفكيري، وتوجيه عنايتي إلى مناهج البحث العلمي، والحرص على الدقة في تعريف المصطلحات الفلسفية». أما كواريه فقد كان: «له فضل عظيم، لأنه كان يجمع بين النزعة الميتافيزيقية والنزعة العلمية، وكان يهتم بالتيارات الصوفية قدر اهتمامه بتاريخ العلم الحديث. وله إنتاج غزير في كل هذه الميادين؛ وفيها يربط بين النظرة الصوفية للكون وبين النظرة العلمية للكون في الفترة نفسها. وثمة ميزة أخرى لكواريه أفدت منها كثيراً، وهي معرفته الجيدة باللغة الألمانية وبالفلسفة الألمانية، لأنه وإن كان روسي الأصل، فإنه تلقى دراسته في جامعة غوتينغن الشهيرة في ألمانيا في الفترة بين 1908 و1911، حيث تتلمذ على إدموند هوسرل مؤسس مذهب الظاهريات، وعلى ديفيد هيلبرت الرياضي الفيلسوف. ولهذا وجدت فيه عزماً في تفهيمي مذهب الظاهريات وتوجيهي في ميدان الفلسفة الوجودية، وكان على علم دقيق بها، على عكس لالاند».
وفي عام 1943 أنهى بدوي رسالته لنيل الدكتوراه في الآداب قسم الفلسفة من كلية الآداب جامعة فؤاد الأول، (جامعة القاهرة لاحقاً بعد ثورة يوليو 1952)، وكان موضوع الرسالة هو «الزمان الوجودي». «اشترك في مناقشة الرسالة، وقد جرت في 29 مايو 1944 الشيخ مصطفى عبدالرازق والدكتور طه حسين والأستاذ باول كراوس، وبعد مناقشة استمرت خمس ساعات قررت اللجنة منحي درجة الدكتوراه في الآداب بتقدير جيد جداً، ونشرت الأهرام في اليوم التالي نبأ المناقشة وأوردت بالنص بعض ما قاله د. طه حسين أثناء المناقشة، وهو: «لأول مرة نشاهد فيلسوفاً مصرياً». 
 عُيِّن بدوي مدرساً في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول عام 1945، ثم صار أستاذاً مساعداً في القسم نفسه عام 1949. ترك الجامعة في 19 سبتمبر عام 1950، لينشئ قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة عين شمس، (جامعة إبراهيم باشا سابقاً). وفي يناير عام 1959 أصبح أستاذ كرسي. غادر إلى فرنسا عام 1962، بعد أن جردت «ثورة 23 يوليو» عائلته من أملاكها. عمل أستاذاً زائراً في عديد من الجامعات العربية والأوربية. 
«انتمى بدوي في بداياته السياسية إلى حركة مصر الفتاة، ثم إلى الحزب الوطني ردحاً من الزمن، واشتغل معهم فكرياً في إعداد مقالات وأرضيات فكرية في مواجهة خصومهم في الداخل والخارج، وكتب مقالاً هجائياً ضد عباس محمود العقاد بعنوان: «العقاد جهول يريد أن يعلّم الناس ما لا يعلم»، بل مارس ورفاقه العنف المادي على العقاد لثنيه عن مواجهة حركة مصر الفتاة، لكن بطش السلطات السياسية ضد الحركة والملاحقات البوليسية دفعا بدوي إلى الابتعاد عن السياسة نهائياً والتفرغ للبحث العلمي». 
جاهر بدوي بدعمه للنازية، وأشار إلى ذلك بشكل صريح وواضح. وعلى الرغم من أن العديد من المثقفين العرب أبدوا إعجابهم بالأيديولوجية النازية في ثلاثينيات القرن المنصرم، فإن بدوي هو الوحيد الذي بقي مصراً على هذا الإعجاب، كما اتضح في مذكراته. 
يقول: «أما حملات النازية على اليهود فكانت جزءاً من حملات النازية على من كانوا خصوم النازية في الفترة السابقة على توليها الحكم في 30 يناير 1933. فكانت إذن عملاً سياسياً محضاً لا تفرّق فيه بين يهودي وغير يهودي، إن النازية كانت تجسيداً لشكوى الشعب الألماني من تغلغل نفوذ اليهود في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، في السياسة والاقتصاد والفنون، وغيرها من مرافق الحياة، واستغلال اليهود للمصاعب الهائلة التي حلّت بألمانيا غداة هزيمتها، وسيطرتهم على مقاليد الحكم ومفاتيح الاقتصاد ووسائل الدعاية والإعلام.  فبأي حق، وفي أي شرع يجوز أن يتحكم نصف مليون يهودي في أكثر من ستين مليوناً من الألمان؟ إن أبسط قواعد العدالة والواجب كانت تقضي على كل ألماني حر الضمير أن يتخلص من سلطان هذا النصف مليون». 
ويشير بدوي في «سيرة حياتي» إلى الأسباب التي لفتت انتباهه في النازية من بينها: «أنها تقوم على أساس التربية العسكرية للشباب، وتأهيله لخوض غمار الحرب التي سترد إلى ألمانيا مكانتها. وكنت أنا أرى في ذلك الحين أن هذه هي السبيل الوحيدة لطرد المستعمِر البريطاني من مصر، ولتكوين دولة قوية ذات مستوى حضاري رفيع يُعيد إلى مصر مكانتها الأولى في عهد الفراعنة.
لم تكن الأحزاب القائمة آنذاك قادرة على تولي المهمة، بل كانت غايتها الوحيدة تولي الحكم لتحقيق مآربها الشخصية. وكان الجيش المصري آنذاك غير مؤهل للقتال، بل اقتصرت مهمته على الاحتفالات الاستعراضية وقمع الشغب حين تعجز الشرطة». 

الإعجاب بألمانيا النازية
يرى المفكر السوري جورج طرابيشي (1939/2016) في كتابه «هرطقات» «أن إعجاب بدوي بألمانيا النازية لم يقف عند حد هذه الملابسة التاريخية، التي ترتبط بهوية المستعمر وبإشكالية عدو عدوي صديقي. فالنموذج الألماني كان يمارس إغراءه على بدوي منذ شرع وعيه السياسي يتفتح وهو في الخامسة عشرة من العمر، لأنه كان يقوم على مبدأ القوة والتربية العسكرية للشباب».  
ويتساءل طرابيشي في كتابه «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»: ما مدى تأثير الهوى النازي لعبدالرحمن بدوي في نتاجه الفلسفي؟ حبه اللامشروط للفلسفة الألمانية دفعه لتخصيص ستة من كتبه للكلام عن أعلامها، وفي مقدمتهم بطبيعة الحال نيتشه، الذي كان النازيون أنفسهم قد تبنوه بوصفه «فيلسوف القوة». ويبدو أن كتاب نيتشه الذي أصدر بدوي طبعته الأولى عام 1939 – أي في أوج مرحلته النازية - قد لعب دوراً كبيراً في التكوين العقلي للجيل المصري الجديد، الثائر في حينه على الاحتلال الإنجليزي وفساد القصر وانحلال الحياة الحزبية في مصر. وفي مقدمة هؤلاء طلاب المدرسة الحربية الذين كان في عدادهم جمال عبدالناصر وأنور السادات اللذان سيصرحان لاحقاً ومراراً بمدى التأثير الكبير الذي مارسه كتاب نيتشه في تفكيرهما. 
وعلى الرغم من كراهية بدوي لثورة يوليو 1952، فإنه يبدي اعتزازه بذلك التأثير. بل لا يتردد في أن يقول عن الرئيس أنور السادات «إنه كان وطنياً صادقاً وقام بأعمال وطنية عنيفة ضد الجنود الإنجليز في المعادي وغيرها»، طالما «أنه ظل مؤمناً بفلسفة القوة التي دعا إليها نيتشه وعرفها هو في كتابي».
اتخذ بدوي موقفاً حاداً من ثورة يوليو 1952 كتب في مذكراته: «وقد جاء عبدالناصر ومجلس قيادة الثورة في دستورهم الاستبدادي الزائف الذي أصدروه في يناير 1956 فصادروا كل هذه الحقوق والحريات مصادرة تامة، وأحلّوا مكانها القيود التي نسفت حقوق المصريين وحرياتهم. باسم مصلحة الشعب جر البلاد إلى حربين مدمرتين (حملة السويس عام 1956 وحرب الأيام الستة في يونيو 1967)، بسبب حماقته واندفاعه الأهوج من دون تبصّر، فقتل الآلاف من الجنود ومن المدنيين، ودمرت مرافق عدة وبددت على الأسلحة أموال لا تحصى – فهل قتل آلاف المصريين في هاتين الحربين كان لـمصلحة الشعب، وهل ضياع كل هذه المرافق والعتاد والأموال قدم مصلحة الشعب؟».
توفي بدوي عام 2002 في مصر بعد عودته من فرنسا، وقد أمضى الجزء الأكبر من حياته في باريس، بسبب إصابته بوعكة صحية حادة.

الإنتاج العلمي... البداية والتحولات
 أصدر بدوي كتابه الأول عام 1939 وهو كتاب نيتشه، وكان الهدف منه تقديم الفكر الأوربي إلى القارئ العربي، ولهذا وضعه تحت سلسلة أطلق عليها «خلاصة الفكر الأوربي» التي ظهر منها ثمانية كتب لاحقاً هي: «شبينغلر»، و«شوبنهور»، و«أفلاطون»، و«أرسطو»، و«ربيع الفكر اليوناني»، و«خريف الفكر اليوناني»، و«فلسفة العصور الوسطى»، و«المثالية الألمانية».
ومن الكتب الأخرى التي نشرها بدوي – نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، علماً بأنه كان يكتب بالفرنسية - «الزمان الوجودي» (أطروحة الدكتوراه)، و«هموم الشباب»، و«هل يمكن قيام أخلاق وجودية»؟ (المبتكرات)؛ و«الموت والعبقرية»، و«دراسات في الفلسفة الوجودية»، و«مناهج البحث العلمي» (دراسات)؛ و«التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية»، و«من تاريخ الإلحاد في الإسلام»، و«شخصيات قلقة في الإسلام»، و«الإنسانية والوجودية في الفكر العربي»، و«أرسطو عند العرب»، و«شطحات صوفية»، و«دور العرب في تكوين الفكر الأوربي» (دراسات إسلامية)؛ و«جيته... الديوان الشرقي للمؤلف الغربي»، و«بريخت... دائرة الطباشير القوقازية»، و«مسرحيات لوركا: يرما- عرس الدم - الإسكافية العجيبة».
إلى ذلك نشر بدوي كتابين بالفرنسية دفاعاً عن الإسلام: الأول: ترجمه إلى «العربية» كمال جادالله في عام (1989)، وحمل عنوان «دفاع عن القرآن ضد منتقديه»، والثاني ترجمه أيضاً كمال جاد الله في عام (1990) بعنوان «دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره». 
يعتبر باحثون من العالم العربي أن كتب بدوي عكست حالة «الفيلسوف القلق» أو «الفيلسوف المتحول»، واتضح ذلك في التحولات التي عرفها إنتاجه المعرفي، والتي أثرت فيها معطيات سياسية وثقافية واجتماعية. 
ويسجل الباحث المغربي عبدالإله بلقزيز الخلاصة التالية في قراءته لهذه التحولات التي كشفتها نصوصه: إن «النزعة الوجودية في تفكيره نقلته من التماهي مع فلاسفتها في الغرب إلى عدمية نيتشوية، فإلى البحث عن جذور الإلحاد في تاريخ الإسلام، وصولاً إلى الانقطاع للتصوف والصوفية، وانتقاله الدراماتيكي من الانبهار الأعمى بالغرب وفلسفاته (من الإغريق حتى أوربا المعاصرة)، والمقرون باستصغار حضارات الشرق وثقافاته، إلى نزعة العداء الأقصى للغرب والتبجيل الأبعد للشرق والإسلام، ومن ثم انتقاله الدراماتيكي الرديف من تبجيل المستشرقين والترجمة لهم وعنهم إلى لعنهم والقدح فيهم دفاعاً عن الإسلام». 
يفترض البعض «أن المفكر العربي المعاصر لابد أن ينتهي إلى الإسلام بشكل أو بآخر، مهما غالى في نقده أو تجاهله، والقائمة طويلة تحت هذه الفرضية: زكي نجيب محمود، سيد قطب، خالد محمد خالد، محمد عمارة، مصطفى محمود، محمد عابد الجابري (بعد تفسيره للقرآن)، وهي قائمة إشكالية في كل اسم ممن احتوتهم بطبيعة الحال؛ وأغلب التساؤلات التي تثيرها هذه القائمة هي: هل هو تحوّل أم امتداد طبيعي؟ هل هو تحول إلى النقيض أم تطور؟ هل هي ظاهرة عامة أم فردية؟ هل هي مرتبطة بطبيعة تكوين المفكر العربي المعاصر أم بظروف الارتداد السياسي - الاجتماعي إلى الأصولية بعد نكسة 1967؟ وأغلب قوائم وحالات التحول الإقليمية والعالمية مثيرة للتساؤلين الأول والثاني تحديداً، كما نجد في حالة هيدجر مثلًا، وتالياً اندرج (تحوّل) بدوي المزعوم في السياق نفسه من الإشكال.
فبينما يرى حسن حنفي مثلاً أن بدوي لم «يتحول» أصلاً، وإنما مثلت كتاباته الإسلامية الأخيرة امتداداً طبيعياً لنزعته الموسوعية، يرى آخرون - كما ذكر كريم الصياد في كتابه  «فيلسوف مصر القَلِق: عبدالرحمن بدوي... من النقد إلى الدفاع عن الإسلام» أن بدوي قد مر بتحول حقيقي تقليدي بشكل ما، إذا وُضِع في سياق قائمة التحولات سابقة الذكر».

المشروع الفلسفي 
ورائد الفلسفة الوجودية العربية 
يجمع الباحثون على أنه من الصعب الإحاطة بمشروع عبدالرحمن بدوي «الذي لم يقهره في درجة جمعه بين التنوع والدقة مشروع فلسفي عربي معاصر حتى الآن»، ويقترح الباحث المصري كريم الصياد تقسيم مشروعه وفقاً للأغراض الخمسة التالية:
أ- تأسيس التراث الفلسفي المدرسي
 فقد بدأ بدوي نشاطه العلمي في لحظة تاريخية اختلطت فيها الكتابة العلمية العربية بالصحفية بالأدبية، كما في مؤلفات عباس العقاد ولويس عوض وتوفيق الحكيم مثلًا، فصار من أولوياته أن يساهم في صوغ سياق مرجعي أكاديمي يتمتع بصفتي التنوع والدقة، التنوع نظراً للتنوع الأصلي للمجالات الفلسفية، التي لم تكن قد أُسست مدرسيًا بشكل علمي صارم بعد، والدقة من أجل تحقيق هذه الصرامة العلمية. وهو التوسع الأفقي لبدوي، الذي شمل كل تخصصات الفلسفة المعروفة في عهده تقريباً، من تاريخ الفلسفة بعصوره المختلفة، إلى مناهج البحث، إلى الموسوعات، إلى الاستشراق، إلى الإسلاميات، وإشكالات الفلسفة المركزية: كالسياسة، والقانون، والأخلاق، والمنهج، والمصطلح، والمذهب.
ب - تقديم الوجودية عربياً
 هو ذلك القسم الملحَق أيضاً بالتوسع الأفقي، لكنه يختلف عنه في أنه تأسيس للتراث العلمي للوجودية تحديداً باعتبارها مذهب المؤلف. وهو يشمل كلاً من: «مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية»  (الماجستير)، «دراسات في الفلسفة الوجودية».
ت - تأصيل الوجودية عربياً 
هو قسم ملحق بدوره بالتوسع الأفقي، لكنه يسير في اتجاه مختلف، يهدف إلى بيان أن الوجودية ليست نزعة جديدة تماماً، وأن لها سوابق أقرب إلى إرهاصات في التراث الإسلامي، وخصوصاً التراث الصوفي، لكنها لم ترقَ إلى تكوين مذهب في تلك العصور الغابرة.  وهذا القسم يضم كلاً من «شهيدة العشق الإلهي: رابعة العدوية» و«الإنسانية والوجودية في الفكر العربي». 
ث - حصار اليسار
 على حد قول بدوي نفسه في «سيرة حياتي»، سيرته الذاتية، فقد قدّم المثالية الألمانية بالذات في أعماله، محاولة منه لمجابهة المادية التاريخية؛ فالمثالية الألمانية أعدل خصوم الماركسية، وهو غرض دعائي - مضاد.
ج - الإبداع
وهو التوسع الرأسي لبدوي، الذي يضم بشكل أساسي كلاً من «الزمان الوجودي» و«هل يمكن قيام أخلاق وجودية؟» (راجع: كريم الصياد، فيلسوف مصر القَلِق: عبدالرحمن بدوي.. من النقد إلى الدفاع عن الإسلام).
يعتبر الأكاديمي المصري أحمد عبدالحليم عطية في كتابه «الصوت والصدى: الأصول الاستشراقية في فلسفة بدوي الوجودية» أن «أول كتب بدوي التي يعلن فيها موقفه من الوجودية هو كتابه نيتشه، الذي يُعد عند معظم مؤرخي الفلسفة رائد الوجودية ذات التوجه الإنساني المتمرد الرافض. ويمكن عرض نزعة بدوي الوجودية، أو ما يعتبره مساهمته الخاصة فيها، من خلال الخطوط العامة التي يمكن استخلاصها في رسالتيه «مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية» و«الزمان الوجودي». 
إن المشكلة الحقيقية للموت هي مشكلة تناهي الوجود جوهرياً، ويهدف بدوي إلى تناول الموت من حيث كونه مركز التفكير الفلسفي ونقطة الإشعاع في النظر إلى الوجود: إن جعل الموت مركز التفكير في الوجود، يؤذن بميلاد حضارة جديدة، لأن روح الحضارة تستيقظ في اللحظة التي تتجه فيها بنظرها إلى الموت، اتجاهاً يكشف لها سر الوجود. 
ويكمل بدوي بيان خطوط فلسفته «بخلاصة مذهبنا الوجودي»، حيث يرى أن الوجود الحقيقي، هو وجود الفردية والفردية هي الذاتية، والذاتية تقتضي الحرية، والحرية هنا معناها وجود الإمكانية. والوجود الحقيقي الأصيل للذات هو الوجود الماهوي، والوجود عنده وجود زماني: «الوضع الصحيح عندنا هو أن نفهم الوجود على أنه زماني في جوهره وبطبيعته، وتبعاً لهذا فإن كل ما يتصف بصفة الوجود لابد أن يتصف بالزمانية». ويبين عطية مسعى بدوي لإظهار النزعة الوجودية في الحضارة العربية، لاسيما كتاباته المتعددة في التصوف، والتي تحددت أطرها العامة في دراسته المهمة «الإنسانية والوجودية في الفكر العربي»، ويدرس بدوي الخصائص العامة للنزعة الإنسانية في الفكر العربي مثل: النظر إلى الإنسان على أنه مركز الوجود، وتمجيد العقل حتى يصل إلى مرتبة الألوهية، وتمجيد الطبيعة والشعور بالألفة بين الإنسان وبينها، وهي نزعة سارية لدى الصوفية والفلاسفة الطبيعيين، ويناقش بدوي أوجه التلاقي بين التصوف الإسلامي والمذهب الوجودي، ويخصص له الكثير من كتبه.
ويحاول في كتابه «الإنسانية والوجودية في الفكر العربي» أن يلتمس بعض الأفكار بينهما؛ ففكرة الإنسان الكامل في نظره تناظر فكرة الأوحد في الوجودية، والشعور بالوحدة مع الله يجد تعبيراً عنه لدى الحلاج وكيركجورد، والوجود الذي يتخذ موضوعاً له هو الوجود الذاتي الإنساني. 
ويجد عطية في «تفسير بدوي الوجودي متابعة للمستشرقين، ففي أعماله متابعة لماسينيون الذي كان له الفضل الأكبر في أنه تنبه إلى هذه الناحية الوجودية، فدرس الحلاج على هذا الأساس، وهنري كوربان الذي تنبه إلى هذا الجانب الوجودي لدى السهروردي، وشارك في نشر الوجودية في فرنسا بترجمته لكتاب هيدجر، لهذا جاءت دراسته للسهروردي ملونة بهذا التفسير الوجودي، لهذا فإن بدوي، كما يبيّن أحمد عبدالحليم عطية في «الصوت والصدى: الأصول الاستشراقية في فلسفة بدوي الوجودية»، يعتمد عليها في «شخصيات قلقة في الإسلام»، وهي دراسات ألّف بينها وترجمها، مبيناً أنه قد آن الأوان أن ننفذ إلى صميم الحياة الروحية في الإسلام ممثلاً في أولئك الذين أشاعوا صورة التوتر الحي معرضين عن الظاهر الساذج إلى الباطن الشاك الزاخر بالمتناقضات، فالصوفية هم المعبّرون عن روح الحضارة العربية». 
قدّم بدوي إنتاجاً معرفياً كبيراً. إن الموسوعية التي تمتع بها خصوصاً في حقل الدراسات الفلسفية لم تلق الاهتمام الكافي من الدوائر الأكاديمية والبحثية، مقارنة بعديد من المفكرين والفلاسفة العرب من أمثال محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وعبدالله العروي، وناصيف نصار، وغيرهم. وقد يكون من المفيد التركيز على مجالين عنده، الأول: تكثيف الدراسة حول طروحاته في الفلسفة الوجودية العربية؛ والثاني، المقاربة العلمية لكامل مشروعه الفكري، استناداً إلى التطورات والتبدلات التي عرفها، بعيداً من الخطاب الانفعالي والخلاصات المتسرعة■