المسرح الرحباني

المسرح الرحباني

قدم المسرح الرحباني إنجازاً فنياً إبداعياً بالغ الغنى، سواء في نصوصه أو في موسيقاه أو في مضامينه الفكرية، وقد قام على جهود ثلاثة من العباقرة، هم: فيروز  وعاصي ومنصور.

كانت الخطوات الأولى التي خطاها الأخوان رحباني لتأسيس مسرح غنائي لبناني الهوية هو مشاركتهما في عمل هزلي كتبه بالعامية لويس أبوجودة، وتولّيا فيه مهمة الإخراج. 
وهما في سلك البوليس (الشرطة)، الذي عملا فيه في مستهلّ شبابهما. توظف عاصي كشرطي بلدي في بلدية أنطلياس سنة 1939 وانتسب منصور إلى سلك الأمن العام بعده بسنة، وأسسا مع مجمـــــوعة من شــــباب أنطلياس نادياً ثقافياً أسموه «نادي أنطلياس»، الذي شكل منصة لهما للقيام بأعمال مسرحية غنائية، فقدما بعض الأعمال القصـــــيرة كــــلاماً ولحناً، مثل: عرس في ضو القمر وعذارى الغدير وتاجر حرب، ثم عادا فاقتبسا للمسرح قصة «حسناء الحجاز» لإميل حبشي الأشقر، ووضعا لها الموسيقى. 
وبعدها تناولا نصاً لفريد أبو فاضل عن النعمان الثــــالث ملــــك الحيرة وحولاه إلى أوبريت، كما كتبا ولحنا مسرحية غنائية بعنوان «إيليا». 
وكل هذه الأعمال كانت تعرض في المناسبات السنوية التي كان ينظمها النادي بداية الخمسينيات.
وتابع الأخوان الشابان تلحين بعض الاسكتشات الغنائية التي كانت تنتجها إذاعة الشرق الأدنى، مثل «بارود اهربوا» و«برّاد الجمعية» و«حلوة وفيلا وأنطوبيل» و«مسرح الضيعة» وغيرها.
وهكذا بدأت فكرة مسرح غنائي شامل تتبلور أكثر فأكثر، وأصبحت الفكرة واضحة لدى الأخوين، فأسسا الفرقة الشعبية اللبنانية، ومن أهدافها، بعث التراث الشعبي لتقوية الأغنية اللبنانية وإحياء الفولكلور.
ومن حسن حظ الأخوين أنه بعد فترة (1956م) أسست لجنة مهرجانات بعلبك وبدأت نشاطها على مدارج القلعة، واستعانت سنة 1957 بالأخوين رحباني لتقديم الليالي اللبنانية، فقدما عملاً مؤلفاً من لوحات غنائية بعنوان: «عادات وتقاليد». ونجحت التجربة. وكرّت سبحة المهرجانات التي شارك فيها الرحبانيان مع فيروز وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين وغيرهم. ولم يطل الوقت حتى تركز الشكل النهائي للمسرحية الرحبانية بما فيها من شعر وموسيقى وأغنيات حملها الصوت الفيروزي إلى أقاصي الأرض.
الذي يدرس المسرح الرحباني اليوم عن كثب يجد أنه يبني دعائمه الدرامية الموضوعية على دعامتين أساسيتين، هما القرية والمدينة. فمن الأعمال التي تصوّر أجواء القرية اللبنانية بمناخها وناسها وعاداتها وتقاليدها وأعراسها المجموعة التي تتألف من تقاليد وعادات (1957)، موسم العز (1960)، البعلبكية (1961)، جسر القمر (1962)، الليل والقنديل (1963)، بياع الخواتم (1964)، دواليب الهوا (1965). والمسرحيات التي تدور في مناخ المدينة ومشاكلها وهموم ناسها مع إطلالات على شؤون الحكم والحكام وعلاقتهم بالفئات الشعبية، هي: هالة والملك (1967)، الشخص (1968)، صح النوم (1970)، يعيش يعيش (1971)، ناطورة المفاتيح (1972)، المحطة (1973)، لولو (1974).
وهناك عملان مستوحيان من التاريخ هما: أيام فخر الدين (1966) وبترا (1977)، إلى جانب مسرحية ذات طابع ملحمي هي: جبال الصوان (1969). ولا ننسى بالطبع الأعمال المتأخرة التي أنتجت في أثناء الحرب اللبنانية، مثل «المؤامرة مستمرة (1980) والربيع السابع (1984).

ملامح التأثر في أعمال الرحبانية
1 - المناخ القروي الريفي
في المجموعة الأولى حاول الأخوان رحباني إبراز أهم معالم القرية اللبنانية ورموزها الموحية: الساحة، العيد، الأعراس، الخلافات على الأملاك والأراضي وحقوق الرّي، ثم، السهر في ضوء القمر وإنشاد الأغاني الفولكلورية، مثل أبوالزلف والعتابا والميجانا وغيرها، ورمز آخر هو القنديل، حيث لم يكن هناك كهرباء بعد، ثم من عادات أهالي القرى، الحسد والبغض والنميمة، إلى جانب الفضائل مثل، العونة والمساعدة والتآزر الاجتماعي عند الضرورة. 
كما صور الأخوان رحباني الشخصية القروية من جوانبها كافة. فالشخصية القروية هي التي تحمل في تركيبتها كامل العناصر الدرامية التي تكوّن النص، بصفتها محرّكة الصراع. 
وبقدر ما فيها من شاعرية وجوانب روحية، فهي شخصيات ملتصقة بالأرض وبالطبيعة: تزرع، تنكش، تفلح، تربي الماشية، تسقي المزروعات وتجني ثمارها، تجمع الحطب لليالي الشتاء الباردة، كما أنها تغني المواويل الشعبية. كذلك تجمع في بنيتها الطيبة والسذاجة والحنكة والذكاء الفطري.
باختصار، تتخايل القرية اللبنانية أمامنا مجموعة من البيوت والساحات والقناطر والمزارع والبشر الذين يعشقون النزاعات فيما بينهم بقدر ما يعشقون الحب والتصافي. إنها قرية دائمة الحركة لا تعرف الجمود، ناسها ممتلئون بالنشاط، وأشخاصها من كل النماذج الاجتماعية: الفلاح، الشحاذ، الناطور، الصياد، السمسار، الأبله، العجوز الثرثارة، والبنت التي تغزل الصوف وعلى بساطتها «حلوي وما بتعرف إنّا حلوي...»، ثم القبضاي وبائع الخضار والمكاري وغيرهم... مجموعة من الوجوه تتلبس حالاتها بكل تفاصيلها، فتفرح وتحزن، وتغضب وتنفعل، وتروح وتجيء من دون أن تحيد عن هويتها الأساسية، حتى أنها كلها تلبس أسماءه المختارة بعناية، أسماء مقدودة من الطبيعة، ومستوحاة من الحالة التي وضعت في إطارها. فالشخصيات الشريرة والمشاكسة تحمل أسماء مثل: هاولو، مرهج القلاعي، ديب، ديبة، فهد، بربر... والشخصيات الطيبة لها أسماء، مثل: وردة، هيفا، منتورة، زينة، جميلة، حلا، نجمة... هذا فضلاً عن أسماء ذات طابع قروي، مثل: سبع، مخول، نصري، زمرّد، شاهين، أسعد، نبهان، وغيرها.
ثم هناك مجموعة من المفردات المرافقة التي كان استعمالها ضرورياً لاكتمــــال تفاصــــيل القرية؛ ومنها ما يطلق على أمكنة بعينها، مثل: شبّوق العفص، جبّ الطيون، الهيشة، محقان الميّ، جورة المطلّ، المقالع، مشـــاحر الغيضا، الكـــــروم، المعاصر، ومنها ما يستعمل لوصف حالة أو شخص أو صورة في مدى السمع والبصر، مثل: صوات دياب، هواش كلاب، زقزقة العصافير، مربى الحراش، طالع من الصخر، ابن الجرد، يليها مجموعة من اللوازم والأشياء المستعملة في الأرض وفي مناسبات الخلافات، مثل: المعول، الرفش، المهدّي، الجرن، المحدلة، العصا، الفراريع، وغيرها من العناصر التي يمكن أن تنتسب إلى رموز الفولكلور اللبنــــاني تحديـــداً وعالم التقاليد.

2- وجه المدينة وحضورها
    قبل أن يترك الأخوان رحباني القرية وينزلا إلى المدينة في مجموعة أخرى من الأعمال عرّجا على التاريخ اللبناني ودبّجا من وحيه المسرحية التاريخية الوحيدة، وهي «أيام فخر الدين» (1966) وهي تتناول جزءاً من سيرة الأمير اللبناني الشهير الذي وضع الأسس الأولى للكيان اللبناني الحديث.
وتعتبر «أيام فخر الدين» من أقوى الأعمال الرحبانية من حيث حبكتها وألحانها الجميلة. وقد أدت فيها فيروز دور «عطر الليل» البنت التي تلاحق الأمير كظله، وتدعو له بالنصر، وتدعم فكرته في التأسيس لوطن لبناني مستقل.

نقطة تحوّل للرحبانية
أما التحوّل الجذري الذي حصل في المسرح الرحباني فكان ذلك الانتقال من معالجة شؤون الريف اللبناني إلى معالجة أحوال المدينة في المطلق، وذلك منذ «هالة والملك» (1967) أي بعد «أيام فخر الدين» مباشرة، ونلاحظ ذلك التحوّل منذ الكلمات الأولى التي تنطق بها بطلة المسرحية «هالة» التي جاءت مع والدها من قرية «درج اللوز» إلى ساحة مدينة سيلينا، إذ تقول فور وصولها:
مِـــدْري شــو بنِــــي
متل العمري سِنِه
مِدري أنا مستوحشة
مِدري أنـا حزينة
أول مرّة بوقف فيها بساحـة المـدينــة
وفي «الشخص» (1968) هناك عناصر دولة بأجهزتها ومحاكمها وقضاتها ومحاميها. وهناك حركة تجارية وحركة سفن ناشطة، ويعبر الشاويش عن ذلك بهذا الإعلان:
الشاويش: بأمر المتصرّف، حاكم المدينة
والشخص المستمدّ السلطة من الناس
الناس الواقعين تحت البراميل وحمولة السفن
المسودّين بالمواني عا هوا البحور.
أما «المحطة» التي تجري أحداثها في مكان غير واضح، فإن رمز السلطة فيها رئيس بلدية كبرى، حيث تجري تظاهرات مطلبية وشعبية ذات طابع سياسي.
باختصار، تتميز هذه المجموعة عن المجموعة الأولى بما يلي:
1 - غياب المناخ القروي وإحلال المناخ المديني محله.
2 - الاقتراب من قضايا سياسية واجتماعية تنحو باتجاه خط إصلاحي واضح وملح.
3 - غياب نسبة كبيرة من الشعرية عن النصوص.
4 - ابتعاد واضح عن الاستعانة بالألحان الشعبية والفولكلوريات.
5 - انتقال محاور التحدي والصراع من الأهالي في ما بينهم إلى الشعب في ما بينه وبين الرموز السلطوية، مثل الوالي والامبراطور والقائد العسكري والملك والقضاة، كما نرى بشكل خاص في «يعيش يعيش» و«الشخص» و«ناطورة المفاتيح». وقد حرص الرحبانيان على دحر هذه الرموز وإسقاطها أمام نهوض الشعوب إلى الحرية والمساواة والكرامة.

3- إرهاصات في مسرح الرحبانية
شدّد الفكر الرحبـــاني أيضاً على إبراز النواحي الأخلاقية والترويج لها، ورفض الشر بالمطلق والدعوات إلى التصالح والتصافي بعد كل خلاف، ففي المسرح الرحباني لا ينتصر الشر وأصحابه أبداً، ولا ينال جاحد أو خائن حظوة أو مكافأة. 
وقد اهتمَّ المسرح الرحباني أيضاً بالنفس والروح، لذا نجد دائماً في هذا المسرح دعوات واضحة للسموّ بالروح فوق الأحقاد والصغائر، وهذا ما لوّن هذا المسرح بألوان الأدب الرمزي، والاستعانة بالعرافين، ومحاولة معرفة أسرار الوجود خير دليل على ذلك.
كما لامس المسرح الرحباني في بعض حواراته وشخصياته مسرح العبث في نماذج مثل الوالي في «صح النوم» والشخص في «الشخص»، والوالي أيضاً في «ناطورة المفاتيح»، وذلك بسبب تأثرهما بالحركة المسرحية الحديثة في لبنان خلال أواسط الستينيات، والتي نقلت إلى المسرح أعمالاً ليونسكو وبيكيت وأرابال.
وقد منح هذا التنوّع في الأشكال المسرحية (رمزي، عبثي، واقعي) غنىً للمسرحية الرحبانية، كما منح التعمّق الفكري في شؤون النفس والروح للإنسان المعاصر الشروط اللازمة للاستمرار والخلود في الوجدان الشعبي، فبدا مسرحهما وكأنه طالع من نهج فلسفي منسق، أو من توجهات أخلاقية تتعدى التجربة الجمالية البحتة إلى الاهتمام بقضايا أخرى تؤكد نتائج الفن وتأثيره في السلوك، واستطراداً في النظم الأخرى للمجتمع وأوضاع الحياة البشرية بشكل عام.
من هذه الزاوية يمكن أن نقترب أكثر إلى فهم خفايا المسرح الرحباني، الذي لم يعبر عن نفسه من خلال مقولة «الفن من أجل الفن» التي نادى بها جماعة من النقاد في أوربا في أواسط القرن العشرين، بل من خلال مقولة: «الفن من أجل المجتمع»، بمعنى آخر، اعتبر الأخوان رحباني أن الجمال لا يستطيع أن يبرر ذاته فقط، بل ينبغي أيضاً أن يقاس تبعاً لمقتضيات الأخلاق التي نادى بها فلاسفة ومنظّرون أمثال كلايف بل، على سبيل المثال لا الحصر. فالاستسلام الواهم أحياناً للجمال يبعدنا عن رؤية الخير الكامن فيه.
وفي كلام أخير، لابد من القول إن وجود فنانة بمستوى وإمكانات فيروز أسهم إلى حد بعيد في توجيه دفة المسرح الرحباني نحو تبنّي الأمور السامية والمناقبية، كما حملت هذه الفنانة في صوتها الأمداء الشعرية، وأضافت إليها رونقاً على رونق، فخلدت فيروز الفن الرحباني وخلدها هذا الفن بدوره■