الموسيقى المفضلة شرقية أم غربية؟

الموسيقى المفضلة شرقية أم غربية؟

أشار الراحل كمال النجمي في كتابه عن تراث الغناء العربي إلى فريق من الكتَّاب الذين يتحزبون للموسيقى الغربية، فكتبهم فيما يقول « تخاطب القارئ باستعلاء، وتقدم إليه الموسيقى الأوربية بديلاً عن الموسيقى العربية، وتوحي إليه تلميحاً أو تصريحاً أن مصير الغناء العربي والموسيقى العربية إلى سلة مهملات التاريخ، أو إلى المتاحف على أحسن تقدير»، ومن هذا الفريق يذكر  النجمي «السندباد» الراحل حسين فوزي والفيلسوف الفقيد فؤاد زكريا. 

ينبغي أن يقال - إحقاقاً للحق - إنه يوجد في مقابل المنحازين للموسيقى الشرقية أناس يستبعدون الموسيقى الغربية من دائرة اهتمامهم إما عن جهل بها، وهؤلاء هم الغالبية العظمى من المستمعين، وإما عن عجز عن استساغتها بسبب غرابتها، أو تعصب ضدها لأنها بكل بساطة غير شرقية أو أجنبية. ويبدو أن كمال النجمي كان من هؤلاء. 

الموسيقى الكلاسيكية
ومن السهل - نسبياً - أن نتفهم هذه الوجهة من النظر. فالموسيقى الشرقية نبتت في أرضنا العربية وتدربت أسماعنا وقلوبنا على تذوقها. أما الموسيقى الغربية، فهي موسيقى وافدة وغير مألوفة. والموسيقى الكلاسيكية الغربية بصفة خاصة يصعب تذوقها إلا بتدريب شاق قد لا يحتمل أو قد لا يكون مجدياً. وسأحصر النقاش من الآن فصاعداً بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الكلاسيكية، فهذه الأخيرة هي في الواقع ما يتحزب له الفريق الأول من أمثال حسين فوزي وفؤاد زكريا، وما يصعب تذوقه على بعض أعضاء الفريق الثاني. وقد نمى إلى علمي بالفعل أن أحد كبار الكتّاب المصريين بذل قصارى جهده لكي تألف أذنه هذه الموسيقى، فلم يفلح. ولي صديق تعلم في الاتحاد السوفييتي (سابقا) وأجاد الروسية وتعرض لموسيقى كبار المؤلفين الروس في القرن التاسع عشر (مثل تشايكوفسكي، وموزورسكي، ورمسكي كورساكوف)، ولكنه أصبح الآن لا يستمع لأحد سوى أم كلثوم، وأحب الموسيقى إليه هي ما غنته «الست» وما ألفه ملحنوها بداية من زكريا أحمد حتى بليغ حمدي. وينبغي أن نتذكر أيضاً أن تذوق الموسيقى الكلاسيكية التي توصف بأنها «رفيعة» وقف على الخاصة من الغربيين.  
أما وجهة نظر المتحيزين للموسيقى الكلاسيكية، فتفهمها يقتضي قدراً من الشرح. فهم يرون بادئ ذي بدء أنها نوع من التعبير الموسيقي يتميز عن الموسيقى الشرقية بالرقي ويقترن بالحضارة أو التقدم. ولكن ما هو المقصود بذلك؟ مما يقال في هذا الصدد أن الموسيقى في الغرب قطعت شوطاً طويلاً من التطور حتى تمكنت من الاستقلال عن لغة الكلام (الغناء) وأصبحت لغة قائمة بذاتها تقتصر على الآلات، وتتحمل وحدها عبء التعبير الموسيقي. وهي توصف عندئذ بأنها «مطلقة» أو «خالصة». أما الموسيقى الشرقية، فقد كانت ومازالت مقترنة بالغناء ولم تحقق بعد استقلالها أو نقاءها.
وأرجو أن أتناول في مناسبة أخرى هذه النقطة، نقطة اقتران الموسيقى الشرقية بالغناء، لكني أعود الآن إلى فكرة الرقي الذي يعزى إلى الموسيقى الكلاسيكية. فمما يقال في ذلك إنها تخاطب في نفس المستمع شعوره وعقله معا وتقتضي منه الانتباه الكامل وممارسة الفهم. ويعبر حسين فوزي عن هذه الفكرة عندما يرى أن الموسيقى الشرقية تدغدغ الشعور بالنغم (ولا تخاطب العقل) وتقتصر على بعث الحنين والصبابة في الأفئدة، ويتلقاها المستمع بطريقة سلبية، ويترك للألحان وحدها مهمة حمله على أجنحتها في طراوة ورقّة، وكأنه المضطجع بين الحلم واليقظة. 

تآلف النغمات
إلا أن هذه الاعتبارات التي تركز على استجابة المستمع للموسيقى وطبيعة القدرات التي يستقبلها بها ونوع المتعة التي يحصلها، تستدعي في نهاية المطاف اعتبارات أخرى تنصب على شكل العمل الموسيقي ذاته وطريقة صياغته أو بنائه. يقول حسين فوزي: «... إدراكنا الموسيقى (نحن الشرقيين) يقف عند حد النغم «الميلوديا» والإيقاع، فإذا حاولنا متابعة الموسيقى الغربية ضايقنا ألا نسمع فيها اللحن واضح النغم دائما، بادي الإيقاع. وإن تبيناه لحظة، سمعناه في اللحظة التالية يختفي تحت سيل منهمر من نغمات أخرى، فإذا خرج من معمعاته، ظهر لنا في لبوس جديد، ليغب من جديد». 
ومن الممكن إذن أن نقول إن الموسيقى الكلاسيكية تراوغ بحكم صياغتها الأذن الشرقية التي ألفت وضوع النغم والإيقاع. ونزيد الأمر شرحاً فنلاحظ أن اللغة الموسيقية التي رأينا أنها استقلت في الغرب لا تقتصر على خط نغمي واحد، بل صارت «بوليفونية»، أي تتألف من صوتين أو أكثر تقوم بينهما (أو بينها) علاقات شتى، يذكر منها حسين فوزي علاقات التآلف بين النغمات (الهارمونية) أو التقابل (الكونترابونطية). ومن المفهوم بناء على ذلك أن الموسيقى الشرقية تفتقر إلى ذلك الثراء الناجم عن البناء المركب، فهي «ميلودية» كما يقول فوزي، أي إنها تعتمد على لحن بسيط مفرد يغنيه المطرب وتعزفه الآلات المصاحبة مهما تنوعت أو تعددت. 
ولكن هل هناك ضرورة للتحزب، فإما أن يناصر عاشق الموسيقى ما كان منها شرقياً أو غربياً؟ أليس من الممكن، أو ألا ينبغي الجمع بين المعشوقتين؟ الواقع أن هناك فريقاً من محبي الموسيقى لا يجد صعوبة في اتخاذ هذا الموقف التعددي. ومن هؤلاء يحيى حقي، فهو في مقالاته عن الموسيقى لا يخفي إعجابه بالموسيقى الكلاسيكية وسعة اطلاعه عليها، ولكنه لا يعادي الموسيقى الشرقية، بل يدعو إلى تجديدها والنهوض بها، وهو يتعاطف بصفة عامة مع الفنون الشعبية المصرية. 

شيوع الموسيقى
وكاتب هذه السطور يؤيد هذه الوجهة من النظر، بل يرى فتح الباب لاستقبال الموسيقى في كل صورها، وأيّاً ما كان موطنها الأصلي. فهناك على سبيل المثال لا الحصر موسيقى الشرق الأقصى (الهند، واليابان، والصين)، والموسيقى الإفريقية، والموسيقى الأمريكية اللاتينية. ولكل من هذه الفئات فروع وأغصان. ومن حسن الحظ أن جنة الموسيقى فسيحة تنبسط في جميع أرجاء المعمورة وتتنوع زهورها وثمراتها. وأعتقد أن من يتجول فيها بذهن متفتح واستعداد للتعلم لن يخيب أمله، بل لابد أن يجد شيئاً يستهويه ويرضي حاجته أينما توجه. تستوي في ذلك الموسيقى ذات اللحن الواحد والموسيقى ذات الألحان المتعددة، بل وتستوي في ذلك الموسيقى الرفيعة والموسيقى «الوضيعة»، إذا صح التعبير.
 ومن حق كل إنسان أن يختار من بين أشكال التعبير الموسيقي ما يتناسب وذوقه واستعداده. ولكن لا يحق له في رأيي أن ينكر على الأشكال الأخرى كل مزية، فهو إذ يضيق نطاق خياراته يحرم نفسه بالضرورة من متع أخرى كثيرة تتجاوز هذا النطاق. يصدق هذا على من يرفض الموسيقى الكلاسيكية بصورة مطلقة لأنه يفضل الموسيقى الشرقية. فمثله في ذلك مثل من يعرض عن فن الرواية أو فن المسرح لأن كليهما وفد من الغرب، ويتجاهل أن لكل منهما أوراق اعتماده ومزاياه، وأنهما أصبحا على أي حال جزءاً لا يتجزأ من تراثنا الأدبي. والأمر نفسه يصدق على من يرفض الموسيقى الشرقية، لأن نظيرتها الغربية تطورت وتقدمت وارتقت بالمعنى الذي حددناه. 

ضرورة حيوية
يضاف إلى ذلك أن كلا الطرفين يجافي الحقيقة، لأن الموسيقى ضرورة حيوية شاملة، فهي بطبيعتها تلبي احتياجات متعددة في حياة الإنسان: عندما يجد أو يلهو، وعندما يعمل أو يستجم، وعندما يفرح أو يحزن، وعندما يحتشد للحرب أو ينشد السلام، وعندما يجلس لسماع الموسيقى الراقية ويعطيها كل انتباهه وحده أو في قاعة الموسيقى أو ينجرف في نشوة جماعية مع جمهور حاشد في مهرجان أو كرنفال. والإنسان في حاجة إلى الموسيقى وهو يعمل، وهو يلعب، وهو يريد الرقص، أو الترويح عن النفس، أو معالجة التعب، أو مغالبة الأرق. واحتياج الإنسان إلى الموسيقى قد تفي به الأشكال «الرفيعة» منها، وقد تفي به تماماً الأشكال السهلة البسيطة. والأمر يتوقف في النهاية على المناسبة والسياق. 
والموسيقى تتنوع وفقاً لتلك الاحتياجات المختلفة وطريقة كل شعب في إشباعها. ولا فارق من هذه الناحية بين الأغنية البسيطة وبين الأعمال الموسيقية الضخمة، بين عزف الأوركسترا السيمفونية وبين العزف إذا أداه عازف منفرد أو أكثر من عازف. وإذا سلمنا كما ينبغي أن نسلم بأن الموسيقى الكلاسيكية موسيقى رفيعة وبأن جمهورها لابد أن يكون من الخاصة، فلا بد أن نتذكر أن نفس الإنسان الذي ينتمي لهذه الفئة تحتوي على جوانب أخرى قد تلبي مطالبها الموسيقية أشكال أبسط من التعبير الموسيقي. وهو إذ يتجاهل تماماً هذه الجوانب وما يفي بمطالبها إنما يتنكر لنفسه.
ويخيل إليّ أن الدكتور حسين فوزي في حماسه المبرر للموسيقى الكلاسيكية يظلم أشكالاً أخرى من أشكال التعبير الموسيقي، وبخاصة عندما يقابل بين موسيقى الخاصة في الغرب وبين ما يسميه «موسيقى الأحلاس». ويبدو أنه يعنى بذلك موسيقى الدهماء، أو ما يصفه بأنه «أغاني الحانات والشوارع الأوربية». وأنا لا أرى مبرراً لهذا التشدد. وذلك أن الموسيقى الجميلة قد تنشأ في أي بيئة وفي أي طبقة اجتماعية. فالتانجو الأرجنتيني، والفلامنكو الإسباني، وموسيقى الجاز والبلوز، والموال المصري، أشكال من التعبير الموسيقي نشأت في بيئات متواضعة. 
ورغم أنني أستمتع برباعيات بيتهوفن الوترية المتأخرة – ولن تجد أكثر من ذلك سمواً – فإنني أطرب أحياناً لموسيقى «البوب» الغربية. كلا ولم أبخل بإعجابي على موسيقى الغجر وموسيقى الشوارع والمترو وموسيقى الكباريه عندما سمعتها في أوربا. 
وهناك أغنية للمهد ألفها يوهان برامز (وغني عن الذكر أنه علم من أعلام الموسيقى الكلاسيكية)، وأغنية أخرى للمهد تغنيها أحلام المصرية. وحبي للأغنية الأولى لاينتقص من حبي للأغنية الثانية. وحبي لأعمال بيتهوفن السيمفونية لا ينتقص من حبي لتلكما الأغنيتين. فقد نجح المؤلفان، كل على طريقته، في التعبير بلغة موسيقية بسيطة وعذبة عن شيء بسيط تماماً ومثير للحنان، وهو هدهدة الأم لطفلها كي ينام «في أمان وطمان»■