المدينة والسؤال الجمالي
ما الذي تحتاج إليه المدينة الحديثة اليوم؟ وهل تخضع التهيئة العمرانية لمدننا لشروط جمالية مساهمة في توفير عنصر الراحة والطمأنينة للساكنة؟ وإلى أي حَدٍ يتمُّ إشراك الفنان التشكيلي في التخطيط العُمراني وتأهيل المدن والحواضر من خلال التصوُّرات الجمالية والمنجزات الفنية بشراكة مع البلديات والمجالس المنتخبة والهيئات المدنية؟
كيف نجعل المدينة مكاناً جميلاً ومشهداً حضاريّاً يستجيب للحياة ولقيم الفن والجمال؟
وهل المكان بالفعل بمنزلة «آخر» على حدِّ توصيف ميشيل بوتور، يواجه الفرد حاملاً معه جوهر الاختلاف، قبل أن يكون قابلاً للتكيُّف خاصة في ما يخص الفن والإبداع؟
وما الذي جعل جون ديوي يخلص في فهمه للمكان إلى القول: «هكذا يُصبح المكان شيئاً آخر أكثر من مجرَّد فراغ يهيم فيه الإنسان على وجهه ويؤثر فيه، هنا وهناك أشياء تهدّده وأخرى تشبع شهوته»؟
قد يُصبح المكان إشكالية إنسانية ما لم يتوفر على عناصر الجمال، وكم نحتاج كثيراً لأحلام يقظة لمقاومة بؤس المدينة والإحساس بـ«ألفة المكان» التي تحدَّث عنها غاستون باشلار.
لا شك في أن هذه الأسئلة تثير الحاجة إلى الوعي بالمكان، في أبعاده النفعية والجمالية، بأهمية المكان في حياة الإنسان كفضاء وذاكرة وكشرط وجود. يقتضي هذا الوعي إدماج عناصر الفن والجمال في المنظومة المعمارية وفق تنسيق بصري ممتد ومتكامل لا يلغي الحدود بين الأدوار والمسؤوليات والاختصاصات.
لقد عُدَّ القرن الحادي والعشرون قرن المدن... «المدن الذكية» التي أصبحت تتوفر على شروط العيش والحياة في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. من ثمَّ أضحى الحديث عن المدينة «يطرح بالضرورة السؤال حول معنى المدينة... المدينة كأصول وذاكرة، المدينة كبنية وتطوُّر بنيوي. المدينة كفضاء له وظيفة داخلية وخارجية، ماديَّة وروحيَّة، له تنميته الخاصة والعامة، له ضجيجه وصخبه، المدينة كسند للحياة الفكرية وكأفق للتقنية والتحديث».
لقد اهتم فلاسفة كثر بالمدينة كذاكرة وكفضاء يتمدَّد في الوعي، وطرحوا أسئلة عديدة حول معمارها وهندسيتها في علاقتها بالحياة العامة للناس، ومنهم والتر بنيامين الذي اهتم بالمدن بوصفها نسقاً مصغَّراً للكون ونظامه وتعبيراً عن اللاوعي الجمعي. وقد أفرد مساحة في أعماله لما يسمّيه فن التيه في المدن، فهو ليس معنيّاً بالمدينة ذاتها، ولكن بغابة التفاصيل بها، ويفهم المدينة كصورة وتكوين ومبنى.
ولأن الفن هو الذي يحملنا إلى الأمكنة، فإن عناصر الجمال التي يتيحها الفن هي التي تجعل المكان يستيقظ ويحيا داخل المدينة، والمكان هو «الجوهر والتاريخ لأنه النداء الأول الذي ترسله المدينة للعين وشبكاتها البصرية عبر عوالم المدينة المعمَّقة بالتاريخ والحرية والتي تقذف بالرؤى إلى فضاءات مدمنة للجمال والحضارة لتجعل من الفن وقراءته البصرية روحاً متحرّرة من الخطيئة واليأس والجمود، رؤى تتحرَّك نحو علالي الطقوس». هكذا، وبالمعنى الذي يبرّر هذا العبور، أن الفن خرج من البيت والصالة والمتحف إلى الشارع والأحياء الشعبية والفقيرة وممرَّات المترو وإلى الجسور والجبال والوديان، وأصبحت المدينة عملاً فنيّاً جماعيّاً كما المسرحية وكما الفيلم وكما الحياة.
يقوم التشكيل في المدينة على إنشائية المكان ويتجلَّى من خلال عديد من التمظهرات المتنوّعة التي تمتد لحاجة الإنسان إلى جمالية المكان وتزيينه وتشكيله بواسطة العناصر الفنية للطرز المعمارية دون التفريط في وظيفته النفعية الأساسية. ولا شك في أن «فضاء التقاء المهندس المعماري بالفنان لصياغة لغة خاصة بالفن وخارجة عنه أو منه، لغة فنية شاملة، تجعل العمل الفني مبدّداً لأوهامه وفاضحاً لنفسه، ليَقْتَطِعَ سياقاً انشطاريّاً وازدواجيّاً يرمي بالفنان بين الشخصية والأخرى، بين المهندس المصمّم والفنان المنجز والمواكب للعمل».
على ضوء ذلك، تمسي العلاقة بين الرسام والمعماري علاقة تلازمية مؤسسة على بنيات وقواعد فنية مفتوحة على تعدُّد الأمكنة والفضاءات التي تحمل بصمات كل منهما. فالمعماري يبدع بلغة الكتل والأحجام في الطرز المعمارية، مع ما يسم ذلك من فراغات وامتلاءات وتكوينات صمَّاء ومجوَّفة لغايات نفعية تخدم راحة الإنسان، كما «يقوم بالعمل في الشكل والكتلة، كما يفعل النحات، وهو يتعامل مع اللون كما يتعامل معه الرسام، ولكنَّه الوحيد بين الثلاثة الذي يسمَّى فنه (الفن الوظيفي). فهو يحلّ مشكلات واقعية، ويكتشف الوسائل لحياة الإنسان، كما تلعب المنفعة منه دوراً حاسماً في الحكم عليه».
المهندس المعماري - كما يقول الباحث الجمالي موليم العروسي - هو السلطة التي تخلق المدينة. صحيح أن الضرورة تقضي بأن تتخذ السلطة المالية أو السياسية أو الأمنية أو الشخصية القرار لبناء مسكن أو مرفق ما، لكن سلطة المعماري فوق كل الشبهات، فهو الذي يقرّر شكل البناء الخارجي وهو الذي يضع تصوُّراً للمحيط وضمن المحيط يمكن للفنان وبطلب من المعماري أن يتدخل.
يقابل المعماري الرسام الذي يضفي على هذه اللغة المعمارية صبغة استتيقية تنعش الرُّوح والوجدان في آن عبر التفنن في التصاميم اللونية والزخرفية والديكور الداخلي والخارجي... إلخ.
المحزن أن عديداً من مدننا تبدو اليوم كئيبة بفعل تاريخ ملوَّث ومليء بالأخطاء في البناء والتشييد، والكثير منها عمَّها الدَّمار والهدم في زمن العنف ومنطق الأقوى! بذلك تواجه هذه المدن مشكلات جمَّة وتشوُّهات يتطلب ترميمها وقتاً طويلاً وجهداً مضنياً وإمكانات ماديّة ولوجيستية متصلة بالإعمار وإعادة البناء والتشييد■
منحوتة «فولاذ مصبوغ» للفنان جان غابرييل كواني- 360x1200x480 سم (1991)
نموذج للمعمار التقليدي في تمبكتو بجمهورية مالي
منحوتة للفنان الإنجليزي هنري مور