فراشة الحرير ملكة الأنسجة بلا منازع

فراشة الحرير ملكة الأنسجة بلا منازع

في صباح ذلك اليوم خرجت الأميرة سي لينغ شي، زوجة إمبراطور الصين هوانغ تي كعادتها اليومية إلى حديقة قصرها تمشي في ظلال الأشجار بين زهور  الحديقة ونباتاتها المتنوعة، تستنشق نسيم الصباح النقي، مستمتعة بجمال الطبيعة.

كانت الأميرة تجمع النباتات الطبية وتطارد الفراشات الجميلة، وبينما هي كذلك إذ عثرت على مجموعة من شرنقات هذه الفراشات، فأخذتها على أمل استخدامها في صناعة الأدوية، حيث اشتهرت بإعداد الوصفات الطبية لعلاج الأمراض المختلفة، وفي غرفة القصر الخاصة بتجارب الأميرة وضعت الشرانق في إناء خزفي، وسكبت عليها قليلاً من الماء الساخن، فإذا هي تغدو لزجة، ويبدو من بعضها طرف خيط دقيق جداً ناعماً ولامعاً. ومرة بعد أخرى، حاولت الإمساك بطرف هذا الخيط، إلى أن تمكنت من سحبه لثلاثة أمتار دون أن ينقطع، وأدركت الأميرة عند ذلك: أن هذه الشرنقة ليست إلا (بكرة) لُفـّت عليها خيوط دقيقة قد تصل إلى الميل طولاً، ثم لم تلبث أن أدركت العلاقة بين هذه الشرنقة وبين الدودة التي تصنعها، وتلف الخيوط حول جسدها كالأكفان. 
راحت الأميرة تبحث عن هذه الديدان على تلك الأشجار التي وجدت عليها تلك الشرنقات، على أشجار التوت، وما إن عثرت عليها حتى أخذت عدداً كبيرا منها وقدمت لها أوراق شجرة التوت كغذاء حتى حصلت على أعداد كبيرة من الشرنقات، ثم عالجتها بالماء الساخن، وبأنواع معينة من الزيوت، فحصلت على الخيوط الحريرية، على الحرير الطبيعي ملك الألياف الطبيعية وأقواها، ومنذ ذلك اليوم، عرفت الصين الحرير الطبيعي دون غيرها من الأمم واحتكرت صناعة أقمشته مئات السنين وأصبحت سراً من الأسرار التي يصعب الوصول إليها،
فما هي تلك الشرانق؟! وما هي الفراشة التي كانت سبباً في وجودها؟
في فصل الربيع عندما تكون أشجار التوت قد تفتحت براعمها الخضرية واكتست بالأوراق الغضة الطرية تنشط أنثى فراشة دودة القز وتضع عدداً من البيضات قد تصل إلى 400 بيضة تميل إلى اللون الأزرق تثبتها على سطح مستو بمادة صمغية تفرزها الأنثى. وبعد حوالي عشرة أيام تفقس هذه البيضات عن يرقات (ديدان) صغيرة سوداء اللون طولها بحدود نصف سنتميتر، تتغذى بشراهة على أوراق الشجرة، متابعة نموها، متحولة إلى اللون الأبيض. وتستغرق فترة نموها حوالي 5 أسابيع تنسلخ خلالها أربع انسلاخات، تبدل اليرقات جلدها مع كل عملية انسلاخ ليناسب حجم جسمها الجديد الذي يصل عند اكتمال نموها إلى 7.5 سم، ويكون لونها رماديًّا يميل إلى الاصفرار أو رماديًّا غامقًا. عنئذٍ تختار اليرقة مكاناً مناسباً لها وتبدأ ببناء الشرنقة بلف نفسها بخيط حريري ناعم دقيق تفرزه من فمها عن طريق زوج من الغدد اللعابية، يطلق عليها غدد الحرير، حيث تفرز سائلاً صافياً لزجاً، ما إن يلامس الهواء حتى يتصلب، تستغرق عملية بناء الشرنقة من ثلاثة أيام حتى عشرين يومًا تنتج خلالها اليرقة خيطاً متصلاً يصل طوله حتى 1500 متر يلف كامل جسمها. 
تبقى اليرقة داخل الشرنقة إلى أن يكتمل نموها متحولة إلى فراشة كاملة تفرز سائلاً يذيب خيوط الحرير في مقدمة الشرنقة، مشكلّة فتحة تخرج منها الفراشة في ساعات الصباح الباكر، وعند خروجها تكون مبللة الجسم، مطوية الأجنحة، لا تستطيع الطيران، ثم لا تلبث أن تنشط الفراشة للتزاوج مع الذكر لإنتاج البيضات خلال فترة حياتها القصيرة التي لا تتعدى أسبوعين وتموت بعد وضع البيض مباشرة.
بقي سر هذه الفراشة وشرنقاتها حكراً على الصين مئات السنين إلى أن تمكن جواسيس الأمم الأخرى من سرقة بيضات هذه الفراشة وتهريبها بطرق سرية، فتم إكثارها بتربيتها على أوراق شجرة التوت وإنتاج الخيوط الحريرية الطبيعية فانتشرت صناعة الحرير الطبيعي لتشمل دولاً عديدة، منها فرنسا واليابان والهند وإسبانيا وإيطاليا وسورية ومصر وإيران وإفريقيا وأمريكا■