... وكان حُلماً

... وكان حُلماً

أمام الباب وقبل أن تفتحه، سألت: «مَن الطارق؟ أتاها الرد بقوة: «حرامي»!
فتحت الباب بفرح. تقدم داخلاً بنوع من الغضب: «ألم أقل لك حرامي... لماذا فتحت الباب؟».
تضحك: «وهل الحرامي يدق الجرس قبل الدخول!».
رد بابتسامة: «حرامي مهذب».
اعتادت على مقالبه ومشاغباته، على ضحكاته وأحاديثه، تجلس بانتظاره مساء لتحكي له لساعات عن يومها ومشكلاته. فقد كان أقرب إليها من جميع أهلها.
هو الملجأ الآمن الذي يحميها من كل ما يمر بها، وتعلمت منه الصبر وقوة التحمل، وعلّمها أيضاً ردود الأفعال الإيجابية وكيفية التصرف في المواقف المختلفة. 
لم يكن لها مرجعاً رئيساً مهماً فحسب، إنما هو فعلاً مهم بالنسبة إلى من حوله... إنه الأخ الأكبر والأوحد بين شقيقاته الست. وهو الناصح والمرشد والأخ الصديق في منزل مفعم بالحياة والمسرات، تكثر فيه حفلات الميلاد وختمات القرآن الكريم وزيارات الأهل والأصدقاء.
فجأة... ومن دون سابق إنذار تجده ممدداً في إحدى غرف العناية المركزة غائباً عن الوعي... لحظات طويلة تجر جبالاً من الوقت لا تمر. تقف مع بقية الأهل تتلو آيات من الذكر الحكيم، علّها تخفف عنه محنته المفاجئة العصيبة، وعلّها تعيده إلى وعيه.
فات يوم بلا تحسُّن، وجاء المساء التالي... تسابق خطواتها داخلة إلى المستشفى في ساعة متأخرة، توجهت نحو غرف العناية المركزة، حيث وقفت واجمة خارجها، بعدما مُنعت من الدخول لأسباب طارئة تحدُث لأحد المرضى.
ظلت تنظر عبر الزجاج إلى الممر المؤدي لتلك الغرف، وإذا بأبيها يسير بخطوات متثاقلة وركبتين مهزوزتين فيسقط على الأرض بلا حراك... تجمّدت في مكانها وهي تشاهد شخصين من الأقارب يرفعانه للجلوس على كرسي بالممر، واضعاً يديه بين رأسه المنحني إلى الأرض ولا يتحرك... ما الذي حدث؟ لماذا يا أبي في هذه الحالة؟
فُتح الباب... تقدمت بخطوات جليدية للأمام، قام الأب من مكانه شاحباً ونظر إليها، تقدم نحوها واحتضنها بقوة ساحباً إياها للخارج، صرخت هي بين يديه: «مات! مات!» فجّرت هذه الكلمة بكاء شديداً من الأب، تجمهر كل من كان خارجاً من الشقيقات، وطوّقن والدهن يصرخن بألم عميق حارق.
بكت... بكت بلا دموع، فقد كانت ضخامة الصدمة أعظم من سيول الدموع، صرخت بدموع جافة: «لا أخ لي غيره بعد اليوم».
غادر... تاركاً الكثير والكثير خلفه، فراغات... مشاعر... وذكريات.. كيف ستعود وتخبر والدتها بالأمر؟ كيف ستدخل المنزل من بعده؟ كيف ستكمل مسيرة حياتها من دون ذلك الصديق؟ كيف يمر عليها حدث كهذا؟ فيضان من الأسئلة بلا أجوبة تصدّها... ظلت عائمة عبر الزمن بين تلك الفراغات التي لا تسدّها الذكريات■