قصة المطبخ بين الأمس واليوم

قصة المطبخ بين الأمس واليوم

نطهو فيها ونجتمع، نتحدث ونضحك وننظف الأشياء ونكسرها، إنها المطابخ، التي - إضافة إلى وظيفتها العملية - ترمز أيضاً إلى الكثير، فهي تثير في أنفسنا ذكريات عن الموقد ورائحة الطعام والمنزل والأسرة والألفة. 
لكن مطابخ أيام زمان لم تكن عبارة عن مساحة مريحة يرغب الناس في قضاء وقت طويل فيها، وبالتأكيد لم تكن المساحة المقصودة لاستضافة الضيوف أو للتسلية، كما هي اليوم.

كانت المطابخ مظلمة مليئة بالضوضاء والروائح، ويسكنها العفن. ولهذه الأسباب، كانت بعيدة عن سائر الغرف الاجتماعية أو الخاصة في المنزل، وكانت الطبقات الاجتماعية العليا تحرص على الابتعاد عن الطعام وإعداده عن طريق وضع غرف الطعام الخاصة بهم بعيدة عن المطبخ، وحتى الطبقات الدنيا كانت تبعد المطبخ عن وسط المنزل، بنقله إلى الجزء الخلفي من المنزل، بجانب مناطق العمل في الهواء الطلق.
 وقبل ثلاثينيات القرن الماضي، لم تكن المطابخ تحتوي على ما يذكر من خزائن لتوضيب الأواني وسائر الأغراض، أو مساحة ملائمة لإعداد الطعام على الإطلاق، بل كان المطبخ عبارة عن زاوية صغيرة متواضعة، تضم بعض الأدوات البسيطة والأساسية فقط، يلحق بها مخزن صغير لوضع المؤن يطلق عليه اسم «بيت المونة».  
وذلك على الرغم من أن تلك البيوت كانت في الغالب تضم أكثر من أسرة واحدة وعدداً كبيراً من الأفراد. فمن خلال بعض الرفوف الصغيرة وعدم توافر الأجهزة الحديثة من ثلاجات وفريزرات وبوتاجازات وأفران كان الطعام يحضر فيها. أما فائض الأكل من الأطعمة فيوضع في دواليب مصنوعة من الخشب ولها باب من الشبك الصغير يسمح بدخول الهواء إليها، ويمنع دخول الحشرات والهوام والفئران، فيما كان يعرف في البلاد العربية بـ «النملية».

دوافع التغيير
كيف تغير كل شيء وأصبح المطبخ اليوم بمنزلة محور لكل جانب من جوانب الحياة المنزلية تقريباً؟ ما هي الأحداث التي ظهرت للسماح لنا بترف المطبخ الذي نعرفه اليوم؟
تغيّر شكل المطبخ بشكل كبير خلال القرن التاسع عشر وعشرينيات القرن الماضي، ولكن لم تكد تنتصف الثلاثينيات حتى بدأ المطبخ يأخذ شكله الحديث الذي نعرفه اليوم. ولم يكن التغيير في شكله ناتجاً عن التقدم التكنولوجي وحده، وإنما في الواقع كان الأمر أبعد من ذلك، إذ كان له علاقة بالتغيير الاجتماعي والسياسي، ودور المرأة في المنزل والمجتمع بالإجمال. 
فقد ساعدت بعض العوامل في تطوير المطبخ ووصوله إلى ما نعرفه عليه الآن. فالمطبخ، الذي كان مساحة للخدم لدى الطبقتين العليا والمتوسطة، بدأ يجذب انتباه المصممين عندما أصبحت المساعدة المنزلية أقل شيوعاً، وبدأت النساء من الطبقة المتوسطة يقضين المزيد من الوقت في مطابخهن. ففي عام 1869، دعت الناشطة البارزة في مجال تعليم المرأة في القرن التاسع عشر، كاثرين بيتشر، إلى إعادة تصميم المطبخ لـ «عهد ما بعد العبودية» في أمريكا، وهذا أمر سياسي إلى أبعد الحدود. 
فكتبت تقول:
«لا يمكننا في هذا البلد الاحتفاظ بهذا العدد الكبير من الخدم، تدرك كل سيدة منزل أن هناك عبئاً كبيراً عليها مع كل خادم إضافي. يجب أن يسير النظام العام للحياة في أمريكا بأسلوب معتدل من التدبير المنزلي، مع قدر كبير من البساطة والاعتماد على الذات».
ومن ثم كتبت كتاباً بعنوان «رسالة عن الاقتصاد المحلي لاستخدام السيدات الشابات في المنزل والمدرسة»، وضعت فيه خططاً للمطبخ ليشبه البيئة الملائمة للعمل، مع نوافذ للتهوية وليدخل منها الضوء، ومساحات العمل من الارتفاع نفسه، ورفوف متسقة، ومساحات تخزين واضحة المعالم للأغراض الأكثر استخداماً.
 

المطبخ والدور الاجتماعي الجديد للمرأة
بدأت تبرز الأصوات التي تنادي بحقوق المرأة، فجاءت كريستين فريدريك، الناشطة البارزة في هذا المجال، وسعت إلى إخراج النساء من المطبخ، ونادت بجعل المطابخ أكثر عملية، من أجل إتاحة فرص أخرى للمرأة.
وبالفعل أصدرت كتاب «الهندسة المنزلية... الإدارة العلمية في المنزل» الذي نشر عام 1919، وقد أيدت فيه الاتجاه العملي في المنزل.
وركزت اقتراحاتها لتصميم المطبخ ليس على تحسين مظهره فقط، ولكن وظيفته أيضاً، فعلى سبيل المثال، وضع خزائن الأطباق إلى جانب حوض «المجلى»، لتوفير الخطوات أثناء التوضيب بعد عملية جلي الصحون. 
وبعد بضع سنوات، طورت ليليان جيلبريث، المهندسة والطبيبة النفسية التي عملت على دراسات الحركة التي تهدف إلى زيادة كفاءة العمليات الصناعية، هذه الفكرة، عندما حولت انتباهها إلى المطبخ. ووضعت فكرة «مثلث العمل» (الذي يتألف من المجلى، والثلاجة، والفرن)، والتي لاتزال توجه تصميم المطبخ إلى اليوم.

جذور المطبخ الحديث في مدرسة باوهاوس للتصميم

كانت أفكار هؤلاء السيدات مؤثرة في جيل من المصممين الألمان، الذين كانوا في بحث دائم عن تصاميم جديدة تحدد وظيفتها بوضوح، ولذلك عملوا على تطوير المطبخ العملي الذي يتميز بفعالية، ويبدو كذلك أيضاً. وفي الوقت نفسه، كان هناك تركيز متزايد على وظيفة المطابخ العملية.
وقد ساعد اكتشاف الحديد المصبوب، وتحسين طرق توصيل الغاز والمياه النظيفة، والتطور في تقنيات الإنتاج الصناعي الذي ساهم في تصنيع الأجهزة الكهربائية المساعدة وإعداد الخزانات بارتفاعات موحدة، بعد أن كانت معظم الخزائن - إن وجدت - تأتي مبعثرة وبارتفاعات متفاوتة، على تبسيط عمل المطبخ والسماح للمرأة بقضاء وقت أقل للعمل فيه. 
وفي عام 1923، بألمانيا، وفي مدرسة باوهاوس للتصميم بالتحديد التي تعود إليها جذور العديد من التصاميم الحديثة، أنشأ جورج موشي وأدولف ماير، وهما مصممان من هذه المدرسة، ما يسمى بـ «هوس آم هورن»، وهو نموذج للمنزل الذي يبدو مطبخه، حديث العهد ومتطوراً بشكل لافت للنظر. يضم كل شيء على نحو سلس، رفوف مسطحة كبيرة، خزانات موحدة من حيث الارتفاع والعمق، والفرن والثلاجة الموضوعان في مكانيهما المناسبين.
ومن ثم قامت مارغاريت ليهوتسكي، وهي أول امرأة تعمل مهندسة معمارية في موطنها النمسا، ببناء وتوسيع أفكار مطبخ باوهاوس، مع تصميمها مطبخاً عُرف باسم مطبخ فرانكفورت، الذي تم تصميمه لبناء مساكن العمال الجديدة.
ومطبخ فرانكفورت، وإن كان صغيراً جداً، كان مليئاً باللمسات المدروسة المصممة لتخفيف عبء التدبير المنزلي، بما في ذلك طاولة الكي المطوية، ومصفاة الأطباق المثبتة على الحائط، وصناديق الألمنيوم للمونة الجافة.
كان مطبخ فرانكفورت مؤثراً بشكل كبير في تصميم المطبخ اللاحق، وكان مثله مثل مطبخ باوهاوس، يبدو عصرياً للغاية، على الرغم من أنه كان يتميز باللمسة الدافئة من حيث الشكل واللون.
ومن المثير للاهتمام، أن مطبخ فرانكفورت لم يأت مع ثلاجة، لأنه جاء من خلفية ساد فيها الاعتقاد بأن الثلاجة من الكماليات، حيث كان الناس لايزالون يتسوقون بشكل يومي.
ووفقاً لبول أوفيري، المؤرخ البارز في مجال الفن، كان مطبخ فرانكفورت «للاستخدام السريع والعملي لإعداد وجبات الطعام وغسل الصحون، وبعد ذلك ستكون ربة المنزل حرة في العودة إلى حياتها الاجتماعية الخاصة أو المهنية أو الترفيهية». 
وفي ثلاثينيات القرن الماضي، بدأت إعلانات المطابخ، تعكس الرواج الجديد للمطبخ «المجهز». وفي عام 1943 قامت شركة «ليبي - أوينز - فورد» الأمريكية بتكليف كريستون دونر تصميم مطبخ نموذجي، يسمى «مطبخ الغد» تم عرضه في مختلف المتاجر بجميع أنحاء البلاد.
وقد ساعد «مطبخ الغد» على تطوير فكرة شركة باوهاوس للمطبخ العصري من «كونترتوب» لمّاع وأنيق كمعيار للمطبخ الحديث. وكل ذلك أعطى مفهوماً جديداً للمطبخ لا عودة عنه. 
وهكذا وصلنا إلى المطبخ الحديث الذي نعرفه اليوم مع كل وسائل الراحة والفعالية الموجودة فيه، والذي تحول في كثير من الأحيان إلى مساحة في البيت متعددة الاستخدام من غرفة طعام إلى مكتب صغير تنجز فيه الأعمال على الكمبيوتر والاتصالات الهاتفية إلى مركز التقاء العائلة، إضافة إلى الطبخ وتحضير الطعام. 
يعكس تاريخ تطور المطبخ هذا كيف أثّر التقدم الصناعي، إضافة إلى الاتجاهات الاقتصادية والسياسية في شكل المطبخ ووظيفته، وهذا جزء مهم فعلاً من قصة المطبخ، لأنه يظهر كيف يمكن للتصميم أن يغيّر الحياة، وكيف يمكن لتغيُّر الحياة أن يغيّر التصميم■