«الثورة الرابعة» كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني ؟

«الثورة الرابعة» كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني ؟

واصل المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت، ضمن سلسلة كتب ثقافية شهرية «عالم المعرفة» إصدار  الأعمال والدراسات التي تغطي مختلف فروع المعرفة منذ سنة 1978، أي لما يقارب أربعين سنة من المجهودات العلمية الرصينة تأليفاً وترجمة في ميادين العلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية والأدبية واللغوية والفنية والعلمية المتعددة التخصصات تبعاً لطبيعة تيماتها ومناهجها ونظرياتها والمقاربات المعتمدة فيها، عمودياً وأفقياً، في تعالقها واتصالها أو تباعدها وانفصالها.

خصّت سلسلة «عالم المعرفة» العدد 452 (سبتمبر  2017)، بالنشر المؤلف المترجم تحت عنوان «الثورة الرابعة ... كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني» لأستاذ الفلسفة وأخلاق الإعلام في جامعة أكسفورد لوتشيانو فلوريدي للمترجم لؤي عبدالمجيد السيد عن الأصل الإنجليزي «The Fourth Revolution: How the Infosphere is Reshaping Human Reality». ويأتي هذا العمل في سياق ما أصبح يعرف اليوم بفلسفة المعلومات التي ارتبط ظهورها بالانفجار التقني غير المسبوق الذي مهّد إلى انبثاق عصر جديد، قوامه التطورات المتلاحقة والسريعة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، عصر تغيرت فيه مفاهيم الزمن والمكان والإنسان والطبيعة والوجود، الأمر الذي أسهم في حدوث تحولات جذرية على مستوى تصور الإنسان لذاته والغير والعالم من جهة أو الواقع الاجتماعي الفعلي المعيشي من جهة أخرى.
يعالج هذا الكتاب بين دفتيه قضية مركزية تشكل الخيط الناظم والدافع لانبثاق المؤلَّف، ذلك على امتداد 320 صفحة، تتجلى في الإشكالية المؤطرة للعمل ككل «الثورة الرابعة: كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني؟» التي حاول مقاربتها انطلاقاً من عشرة فصول متدرجة في العرض والعمق والمعنى والاسترسال في استدعاء البناء الحجاجي والبرهاني وانسيابية اللغة وسلاستها، إضافة إلى «تمهيد» و«شكر وعرفان» و«مزيد من القراءة» والهوامش والبيبليوغرافيا. فما أهم الأسئلة الموجهة للعمل؟ وما الأفكار الواردة في المتن؟ وما الحجج والبراهين التي تقوم عليها؟ وما قيمتها وحدودها ورهاناتها؟

تكنولوجيا المعلومات والاتصالات
تجدر الإشارة بداية إلى أن هذا العمل يعالج الكيفية التي يتأثر بها إدراك الإنسان المعاصر لذاته في ظل التحولات الجذرية في مجال التكنولوجيا والاتصالات الرقمية، والتفاعل مع الآخرين والكيفية التي يشكل بها بيئة رقمية يتفاعل في ظلها. ويغوص المؤلف في التفكير في سؤال فلسفي عميق أفرزه التقدم المهول للتكنولوجيا «ماذا يكمن وراء كل هذا؟ هل هناك منظور موحد يمكن من خلاله تفسير كل هذه الظواهر على أنها جوانب مختلفة لتوجه واحد كبير وشامل؟»، الأمر الذي يجعل من الكتاب عملاً فلسفياً بامتياز، بالرغم من أنه موجه للعموم، لأنه لا ينطلق من النظرة العادية الوسائلية للتكنولوجيا، بقدر ما يبحث فكرة جديرة بالاهتمام والتأمل المتمثلة في مدى تأثير هذه التكنولوجيا على الوجود الإنساني.
 لم تعد تكنولوجيا المعلومات والاتصال مجرد وسائل للتواصل والاستخدام من لدن الإنــسان في مختلف مجالات الحياة، بل «صارت قوى بيئية وأنثروبولوجـــــية واجتماعية وتفسيرية، تخلق وتشكّل واقعنا الفكري والمادي، وتغيّر فهمنا لذواتنا، وتحوّل الكيفية التي تربطنا بعضنا ببعض، كما أنها تربطنا بذواتنا، وتحسّن من كيفية تفسيرنا للعالم من حولنا، وكل هذا يجري بصورة واسعة الانتشار، وبعمق، وبلا هوادة». 
وهو ما يفسر دعوة الفيلسوف إلى إعادة التفكير في الحاضر والمستقبل، وفي هذا التاريخ المفعم بالمستجدات والمفرط في مناحيه المختلفة «وفي حاجة إلى أن ننظر بإمعان في جذور ثقافتنا، وإلى أن نرعاها، تحديداً لأننا بحق معنيون بأوراقها وأزهارها» المشروع الذي تم تدشينه بالفعل من خلال الأفكار والقضايا المستجدة المتعلقة بفلسفة جديدة حول الثقافة السيبرانية وما بعد الإنســــانية والتفرد وغيرها.

تعالق وتشابك بنيوي
يشيد الفيلسوف صرح تصوراته وأفكاره حول الإشكالات التي يطرحها، والمشار إليها أعلاه، اعتماداً على بنية مفاهيمية تتخذ من فلسفة التاريخ وفلسفة الطبيعة والأنثروبولوجيا وفلسفة السياسة منطلقاً لها، في تعالق وتشابك بنيوي وعضوي، على التوالي، مع مفاهيم فلسفة التاريخ المفرط وفلسفة الإنفوسفير (الغلاف المعلوماتي) والثورة الرابعة وتصميم النظم متعددة الوكلاء، المهمة الإبستيمولوجية الصعبة التي يراها الباحث قادرة على إدراك القضايا العالمية ومن شأنها وضع الأسس النظرية للتعامل معها والتحديات والرهانات التي تطرحها. 
لذلك، يحفل العمل بالمفاهيم الفنية والتقنية المستحدثة وينم عن سعة اطلاع الباحث حول جوانب القضايا الإبستيمولوجية والتخصصية التي يطرحها والاجتهاد الفكري النوعي والجهد العقلاني المتزايد بعيداً عن كل تفكير متكاسل وارتكاسي يزيد الوضع تفاقماً ويعمق المشكلات ويجعلها أكثر استفحالاً وتأزماً عملياً.
يشرع الباحث في عرض مواقفه وتصوراته من فكرة «الزمان: التأريخ المفرط»، ويبيّن في هذا السياق أنها حقبة جديدة تعيشها البشرية تتميز بالتقدم كمّاً ونوعاً، بالرغم من التحديات قائمة الوجود، في ظل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية ومجتمعات المعرفة واقتصادها، بعدما كانت رفاهية المجتمعات ترتبط باستحداث الكتابة والتكنولوجيا والمكننة التي سبقتها مرحلة ما قبل التأريخ واعتماد الإنسان الأدوات والوسائل التقليدية. 

ثلاث مراحل
فالبشرية مرت بثلاث مراحل كبرى: ما قبل التأريخ والتأريخ والتأريخ المفرط.. «إن المجتمعات البشرية وفق أسلوب معيشتها في الوقت الراهن تمتد وفق ثلاثة عصور»، لكن، تواجه الفئة البشرية التي تعيش التأريخ المفرط، وهي الفئة التي تقود العالم اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وثقافياً، وتعمد رفاهيتها على معالجة البيانات بعد إنشائها وتجميعها وتسجيلها وحفظها ومعالجتها وتوزيعها ونقلها واستخدامها واقتصادها وإعادة تدوير محوها تحديات حقيقية على مستوى التخزين والذاكرة والاتصالية أمام مخاطر الفقدان والتلاشي والقرصنة نظراً لأهميتها وكمّها المهول والمتزايد باستمرار من جهة، وتقادمها وغياب التكنولوجيا الملائمة أو معرفة مدى ما هو مهم فيها من جهة ثانية، والنقاش القانوني والأخلاقي الذي تثيره من جهة ثالثة.
ثم انتقل الباحث، بعد عرضه للتحولات الثلاثة الكبرى التي عرفتها البشرية، إلى عرض فكرة «المكان: الإنفوسفير» بوصف هذا المكان بالبيئة المعلوماتية الملائمة للتأريخ المفرط للأجيال الحالية والمستقبلية وفضاء للاستخدام الذي تشتغل فيه التكنولوجيا خارج الآدميين. ويوضح أن مفهوم البينية أداة إبستيمولوجية تُمَكّن من فهم ماهية التكنولوجيا وحقيقتها، لأنها أهم سمة تميزها. 
من هذا المنطلق، يخترع الإنسان كمستخدم الأداة أو الآلة التي تلبي حاجاته ورغباته بالنظر إلى طبيعة الملقّن (الطبيعة أو التكنولوجيا ذاتها).  لذلك، يمكن التمييز بين المستخدم والملقّن، ومنه التمييز بين ثلاثة أنواع من التكنولوجيا من الدرجة الأولى التي يكون فيها الملقّن - طبيعة والمستخدم - إنسان، ومن الدرجة الثانية التي يصبح فيها الملقّن - تكنولوجيا والمستخدم - إنسان، وأخيراً تلك التي يصير فيها الملقّن - تكنولوجيا والمستخدم - تكنولوجيا والإنسان خارج الدائرة تماماً، ويعتمد عليها البشر باعتبارهم «مستفيدين أو مستهلكين (محتمل دون إدراك)». وترتّب عن هذه التحولات تحديات حقيقية بالنسبة إلى هوية الإنسان وقيمته وحريته ونزع الطابع المادي عليه باعتباره مُستخدماً الإنفوسفير في مقابل الإعلاء من أهمية الأشياء والموضوعات.

دعوة إلى فهم ذواتنا
ويبين بعد ذلك، أن الهوية الإنسانية أصبحت تتخذ معاني متباينة مقارنة بالنقاشات التي يحبل بها تاريخ الفلسفة، في ظل ما سماه الباحث بالحياة دائمة الاتصال (أونلايف)؛ إذ أصبح السؤال حول الهوية: هل الشخص هو هو أم هو الشخص نفسه؟ «من أنا؟» يدعونا إلى فهم ذواتنا بشكل أعمق على أساس أننا كيانات معلوماتية، في ظل جيل يعتبر أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هي تكنولوجيا للذات، ويستخدم شبكات التواصل الاجتماعي لعرض وتدفق وجهات نظره وأذواقه وتفاصيل حياته الخاصة وحتى الحميمية منها، ويفرط في الانشغال بالذات، لدرجة أصبحت الذات الإنسانية تُفَسر معلوماتياً فهي «نظام معلومات معقد، مصنوع من أنشطة واعية أو ذكريات أو حكايات» بمعنى أن المرء صار ما هو عليه من المعلومات الخاصة به ضمن الغلاف المعلوماتي. لذلك، مفاهيم كثيرة في العلاقة مع الذات تتخذ معاني مغايرة للسائد منها والمألوف كالاحتواء والمكان والزمان والتفاعلات المتبادلة والإدراك والصحة والتعليم.
وفي الخطوة الموالية، ركّز الباحث على «فهم الذات: الثورات الأربع»، واعتبر أن العصر الحالي الذي نعيش فيه عصر الثورة المعلوماتية «الثورة الرابعة» التي حصلت بعد الثورات الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية، على التوالي. ثورات فكّكت النزعات المركزية حول الأرض والإنسان والعقل، وأسّست لآفاق أخرى منفتحة ودينامية غيّرت نظرة الإنسان لذاته والغير والعالم، ذلك عبر التحولات التاريخية الثلاث الكبرى في العلاقة مع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وفي خضم الثورة الرابعة «صرنا نفهم أنفسنا على أننا كائنات تعيش مع مثيلاتها من الكائنات الحية المعلوماتية»، وصار الإنسان نفساً رقمية وكائناً قابلاً للسَّلعَنة والاتجار فيه وتسويقه رقمياً وافتراضياً. 
الأمر الذي يجعل الإنسان مشتتاً في علاقته بذاته ومجموعة الأغيار والكون بين الخدمات السحرية للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، والويب والتطبيقات والرفقاء الاصطناعيين والبرمجيات الذكية من جهة وفقدان الخصوصية والتحديات البيئية وبناء الذات هوياتيا وتشكيلها والتحكم فيها إيكولوجياً وما يلازم ذلك من مهام أخلاقية وسياسية جسيمة تؤسس إلى تعاقد جديد بين الطبيعة والثقافة والإنسان.
ويبدو، في الأخير، أن الباحث استطاع أن يوظف جوانب غنية من تفكيره في عرض القضايا التي أثارها، وتفكيك الإشكالات المنبثقة عنها مفهومياً وإبستيمولوجياً وتطبيقياً، معتمداً في ذلك على عُدّة ديداكتيكية وبيداغوجية تجعل من الأمثلة والسلطة بالحجة والمقارنة والعرض والتفكيك والاستعانة بالإحصاءات والتقارير التخصصية والنظريات الحديثة منطلقاً لها، ذلك كله يَسَّر من فهم المضامين ووفَّر أرضية خصبة لتطويرها.
 يشكل كتاب «الثورة الرابعة» ثروة غنية وعرضاً تاريخياً ومفهومياً للتقدم البشري وتفكيكا لإشكالاته الراهنة واستشرافاً لمستقبل الأجيال الحالية واللاحقة. إنه يمثل عملا فلسفيا عميقا جدا يفتح آفاق تفكير القارئ المتلقي، العربي بخاصة، في قضايا الإنسانية وتحدياتها ومآلاتها ومساراتها الممكنة، بتوفير معين تخصصي من المراجع في نهايته؛ وهو ما يعبر عن حمل القارئ على البحث في قضاياه وإشكالاته بشكل دائم ومستمر■