المكتبات تاريخ يواجه الواقع ... أسيوط نموذجاً

المكتبات تاريخ يواجه الواقع ... أسيوط نموذجاً

من الجائز أن نعيش حياة كاملة بين المكتبات، أما الأجمل أن نعيش للمكتبات كفكرة وفلسفة حياة، ولِمَ لا؟ والقوة المادية رهينة المعنوية بامتياز، كما كان يردد الراحل أحمد بهاءالدين باستمرار. وفي الأخيرة «المعنوية» ما هو معروف عن مخاطر إضعاف الوعي وزعزعة المعاني وتشويه القيم.

 تُعرف مكتبة أسيوط بجمهورية مصر العربية بين الأهالي بمكتبة المركز الثقافي الإسلامي، وليس مكتبة أسيوط العامة، وهو اسمها الرسمي حالياً، ويعود ذلك إلى ضخامة مبنى المركز وشهرته ومجاورته لمبنى الديوان العام للمحافظة. 
وتقع المكتبة في طابقين، وتضم ما يتجاوز 20 ألف عنوان، وهنا تجب التفرقة بين عدد الكتب والعناوين، إذ إن تعداد الأخيرة هو الأدق، لتوضيح ثراء المكتبة المعرفي.
بداية، يقول رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة السابق، الشاعر سعد عبدالرحمن: إن مشكلة عدم وجود تأريخ للمكتبات لا تنفصل عن مشكلة التاريخ نفسه، مثلما تضخم بعضه على حساب بعضه الآخر، كحال تأريخ فقه العبادات على حساب فقه المعاملات، وهو ما نجني مشكلاته الآن.
كما لا تنفصل مشكلة تأريخ المكتبات عن مشكلة اقتصار التاريخ على منحى دون آخر، مثل إشكالية التاريخ الذي اقتصر على السياسي في مقابل ندرة التاريخ الاجتماعي والثقافي، بالرغم من أهميتهما البالغة، وهو أمر تبذل بصدده حالياً جهود بالغة لتجميع بعض الفسيفساء من هنا وهنالك.
وأضاف: أما لو أردنا تأريخ المكتبات، فيمكننا ربط معرفة المكتبات بمعرفة الكتابة، إذ إن كلمة كتب تعني لغوياً «قيد»، بهذا تكون أقدم المكتبات هي المعابد الفرعونية التي جعل من جدرانها سجل لما يكتب، وهناك أيضاً حضارة ما بين النهرين، من حيث الكتابة على ألواح من الطين، مشيراً إلى  أن أسيوط كانت مثل كل المدن لها فترات صعود وهبوط، وفي صعودها ما دونته كتابات هيرودوت (450 قبل الميلاد)، وحديث ياقوت الحموي عنها في «معجم البلدان»، وكذا وصف ابن بطوطة لها ولأسواقها البديعة، كما في تاريخها ما يرتبط بحركة مبكرة للمكتبات في التاريخ الحديث.

المكتبة الملكية
وفي خمسينيات القرن الماضي استضافت أسيوط واحدة من أهم المكتبات، وهي المكتبة الملكية لقصر القبة، التي قرر ضباط ثورة يوليو نقلها بالكامل إلى جامعة أسيوط، لكن إدارة الجامعة استصدرت قراراً فيما بعد بتوزيع المكتبة على كليات الجامعة حسب التخصص، وهي تضم عدداً من الأمور النادرة والمهمة.
ويكشف عبدالرحمن عن أمثلة لعدة مكتبات أهلية، ومنها نماذج المكتبات الشخصية للعلماء التي يوقفونها للطلاب والجمهور العام، ومنها ما يتجاوز الـ6 مكتبات في قرية بني عديات بمفردها، (وهي قرية صحراوية، تشتهر بالعلماء والمشايخ، وتمتد جذور أهلها لقبيلة عدي التي ينسب لها الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وتتبع مركز منفلوط بشمال أسيوط).
وهناك واحدة من المكتبات الثرية بتلك القرية تتمثل في مكتبة صالح الجعفري، وهي تقدم الخدمات المجانية لطلاب الماجستير والدكتوراه، لكنها تشترط أن يهدي الطالب إلى المكتبة نسخة من رسالة الماجستير أو الدكتوراه التي نفذها، لهذا تضم أكثر من 500 رسالة ماجستير ودكتوراه، وينتشر العديد من مكتبات المشايخ في القرية نفسها.

تعزيز الانتماء
ويقول المدير السابق للمركز الثقافي التابع لجمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين  (رئيس التحرير الثاني لمجلة العربي) بقرية الدوير بمركز صدفا جنوب أسيوط، الكاتب حمدي سعيد: إن المركز مغلق حالياً لتطوير العمل وإعادة تأسيسه وتلافي أي أخطاء، وسوف يفتتح قريباً، ولهذا لم يتم تشكيل إدارة له حتى الآن، ولكن تمارس بعض الأنشطة الحالية بواسطة أعضائه في المدارس.
وكان المركز خلال سنوات تشغيله من 2010 – 2015 يقوم على أساس أن صداقة الكتاب هي محور الأنشطة وهدف مكتباته، والمركز موجود في قرية، لأن القرى هي الأكثر احتياجاً إلينا، كما أن قرية الدوير هي مسقط رأس الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين، وفي ذلك تعزيز الانتماء وتكريس النموذج المشرف للأطفال والشباب.
ويضم المركز 4 مكتبات مجانية ومتاحة للجمهور، هي المكتبة الشخصية لبهاء الدين والمكتبة العامة، ومكتبة محجوب عمر المتخصصة في القضية الفلسطينية، ومكتبة الطفل.
 أما المكتبة الشخصية لبهاءالدين، فكتبها قديمة للغاية، ويعود بعضها للقرن الثامن عشر، وأحدثها تاريخاً يرجع إلى أكثر من 20 عاماً مضت، حيث رحل صاحبها في عام 1996، وتضم نحو 8 آلاف كتاب متنوع بين التاريخ والآداب والديانات والترجمة وعلم الاجتماع والفلسفة والجغرافيا والفنون، وعدداً من الموسوعات، وهو ما يعكس مصادر اطلاع الكاتب والمفكر الكبير الراحل، وكذا ذكرياته، وفي ذلك ما تضمه تلك الكتب من إهداءات المشاهير.
وأضاف أن المركز يضم أيضاً المكتبة العامة للمركز الثقافي، وهي حديثة للغاية، وأقدم كتبها لا يتجاوز 10 أعوام قِدماً، حيث تضم أكثر من 10 آلاف كتاب في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية والآداب، وهي مهداة بالكامل من كبريات دور النشر الحكومية والخاصة، وفي ذلك تضم أحدث إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب، والهيئة العامة لقصور الثقافة، وصندوق التنمية الثقافية بوزارة الثقافة، وقد حرصت تلك الجهات الحكومية على تدعيم المكتبة لتؤدي دورها في تلك القرية.

مكتبة الأمير فاروق
فيما يؤكد سعد عبدالرحمن أن مكتبات قصور الثقافة نفسها تضم كتباً بالغة الأهمية، وبمحافظة سوهاج المجاورة لأسيوط توجد مكتبة رفاعة الطهطاوي الشخصية، وتضم 119 مخطوطاً بقصر ثقافة مدينة طهطا، وكذا كتب نادرة في عدد من القصور الأخرى، وإحداها بمكتبة قصر ثقافة «ساحل سليم» بأسيوط، وتضم رسالة دكتوراه لباحث عراقي عن «زهديات أبي نواس»، وهو الشاعر المشهور بالزندقة والمجون، لكن الباحث استطاع استكشاف الجانب المجهول في شخصيته، وجمع أشعاره المتعددة والمجهولة في هذا الصدد، ومنها أغنية محمد فوزي «لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد لك».
ويسرد عبدالرحمن تاريخ واحدة من أهم مكتبات أسيوط الحالية، وهي مكتبة الأمير فاروق، ويقول إن الغريب تسميتها بـ «الأمير»، بالرغم من أن فاروق كان ملكاً حينما افتتحها.
ويروي ذكرياته مع المكتبة وكيف كانت رفيقة سنوات الصبا، إذ ساهمت في قراءاته المنظمة للأدب والشعر واللغة والتاريخ والفلسفة والتصوف والديانات والاقتصاد والسياسة والفنون، حتى كتب السحر مثل «شمس المعارف الكبرى» وغيرها مما تضمه المكتبة، مشيراً إلى أن المكتبة لاتزال تضم عدداً من المخطوطات المهمة والكتب والموسوعات النفيسة والدوريات والأطالس النادرة، وذلك رغم ما دمّر ونُهب.
وتقول مديرة مكتبة أسيوط العامة، هناء فرغلي، إن المكتبة تعاني ضعف إقبال الزائرين، إذ يقدر بالعشرات شهرياً، ولكنها اتخذت خطوات عدة لجذب القراء، ومنها ابتكار وتنوع الأنشطة، لحثّ الجمهور على زيارة المكتبة والمطالعة، حيث تقدم حالياً فعاليات ثقافية ومسابقات وندوات وجلسات وحلقات نقاشية وأمسيات أدبية، بالتواصل مع الجهات الثقافية المتميزة التي لها خبرة طويلة في هذا الشأن، كالهيئة العامة لقصور الثقافة، وجمعية رواد الثقافة، ونادي أدب أسيوط.
ومن المكتبات هناك مكتبة محجوب عمر الشخصية، التي تبرع بها للمركز، ولهذا وضعت باسمه، وهي مكتبة متخصصة في القضية الفلسطينية، حيث تضم 16 ألف مرجع وكتاب ودورية ومجلة متخصصة إضافة إلى مكتبة الطفل، وتضم ما يزيد على 5 آلاف كتاب مخصص للمرحلة العمرية من 6 إلى 14 عاماً، وتكرّم مديرتها منى علاءالدين الأطفال لتشجيعهم على المطالعة وتنمية تلك العادة لديهم، وتحفيز قدراتهم عبر برامج متنوعة، ومنها برنامج «الطفل العبقري» لأطفال الثماني سنوات، ويتضمن برامج فكرية ولغوية■