70 عامًا على رحيل «صاحبـة العصمـة»! هـدى شعراوي... أيقونة ثورة 1919م

70 عامًا على رحيل «صاحبـة العصمـة»!  هـدى شعراوي... أيقونة ثورة 1919م

قالت أمينة السعيد عن السيدة هـدى شعراوي: «كانت سيدة عظيمة، لن تشهد مصر مثيلا لها، فقد كانت تملك كل المقومات التي تجعلها قائدة؛ فهي ثرية ثراءً كبيرًا، مما جعلها تُنفِق على أعمال الخير والكفاح في سبيل المرأة، وفتح المدارس وتعميرها».
واعتبرت د. عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) أن «هدى هانم أيقونة ثورة 1919م، وزعيمة الحركة النسائية، ورائدة العمل الاجتماعي، وأنضج امرأة فهمًا لحقوق المرأة العصرية».

 

عشقت‭ ‬هدى‭ ‬شعراوي،‭ ‬منذ‭ ‬صباها،‭ ‬النضال‭ ‬والمزاحمة،‭ ‬والمشاركة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬السياسي،‭ ‬وتفرغت‭ ‬للعمل‭ ‬العام،‭ ‬وأسَّستْ‭ ‬وشكَّلت‭ ‬ورأستْ‭ ‬‮«‬الاتحاد‭ ‬النسائي‭ ‬المصري‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1926م‭. ‬وكانت‭ ‬مقررة‭ ‬للجنة‭ ‬الوفد‭ ‬المركزية‭ ‬للسيدات،‭ ‬كما‭ ‬انتُخِبت‭ ‬عضوة‭ ‬في‭ ‬مؤتمر‭ ‬الاتحاد‭ ‬النسائي‭ ‬الدولي،‭ ‬وعُرِفتْ‭ ‬بنشاطها‭ ‬السياسي‭ ‬المناهض‭ ‬للاستعمار،‭ ‬ذلك‭ ‬النشاط‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتمثّل‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬المؤتمرات،‭ ‬وقيادة‭ ‬التظاهرات،‭ ‬وتنظيمها‭ ‬في‭ ‬الميادين‭ ‬العامة،‭ ‬والتجمعات‭. ‬وقد‭ ‬زارت‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬البلاد‭ ‬الأوربية،‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭. ‬

ومثَّلتْ‭ ‬شعراوي‭ ‬النساء‭ ‬المصريات‭ ‬في‭ ‬مؤتمرات‭ ‬عدة‭ ‬تتناول‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬روما‭ ‬وباريس‭ ‬وأمستردام‭ ‬وبرلين‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬وغيرها‭.‬

كما‭ ‬طالبت‭ ‬الحكومة،‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مناسبة،‭ ‬بمنع‭ ‬تعدد‭ ‬الزوجات‭ ‬لغير‭ ‬الضرورة،‭ ‬ومنع‭ ‬فوضى‭ ‬الطلاق،‭ ‬وإلغاء‭ ‬قضايا‭ ‬الطاعة،‭ ‬ومدّ‭ ‬أجل‭ ‬الحضانة‭ ‬للولد‭ ‬حتى‭ ‬يبلغ،‭ ‬وللبنت‭ ‬حتى‭ ‬تتزوج،‭ ‬ونجحت‭ ‬هدى‭ ‬عام‭ ‬1923م‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬وقتها،‭ ‬إبراهيم‭ ‬باشا‭ ‬يحيى،‭ ‬بإصدار‭ ‬قانون‭ ‬يحدِّد‭ ‬سن‭ ‬زواج‭ ‬الفتيات‭ ‬بـ‭ ‬16‭ ‬عامًا‭ ‬على‭ ‬الأقل‭.‬

 

رائدة‭ ‬العمل‭ ‬الاجتماعي

تعدُّ‭ ‬السيدة‭ ‬هدى‭ ‬أول‭ ‬امرأة‭ ‬مصرية‭ ‬تبنَّتْ‭ ‬العمل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وشاركت‭ ‬فيه‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬أُوتيتْ‭ ‬من‭ ‬قوة؛‭ ‬فقد‭ ‬استأجرت‭ ‬منزلًا‭ ‬وحوَّلته‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬متنقلة‭ ‬لتعليم‭ ‬النساء‭ ‬مبادئ‭ ‬الصحة‭ ‬والتمريض‭ ‬وبعض‭ ‬الصناعات‭ ‬اليدوية،‭ ‬ومحاربة‭ ‬البدع‭ ‬والخرافات،‭ ‬ومعالجة‭ ‬المرضى‭ ‬منهن‭ ‬ومن‭ ‬أطفالهن‭ ‬مجانًا،‭ ‬حتى‭ ‬إذا‭ ‬أتمّت‭ ‬مهمتها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحي،‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬حي‭ ‬آخر‭.‬

كما‭ ‬أنشأت‭ ‬مصنعًا‭ ‬لعمل‭ ‬الخزف‭ ‬وجميع‭ ‬أنواع‭ ‬الصيني،‭ ‬وجعلته‭ ‬خاصًّا‭ ‬لتعليم‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬الفقراء‭ ‬والأيتام،‭ ‬كما‭ ‬أصدرت‭ ‬جريدة‭ ‬باللغة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬المصرية‮»‬‭ ‬للدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة‭ ‬المصرية‭.‬

أيضًا؛‭ ‬لها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المواقف‭ ‬الوطنية،‭ ‬منها‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬اعتقل‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬أحمد‭ ‬ماهر‭ ‬نخبةً‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬الوطنيين؛‭ ‬ذهبت‭ ‬إليه،‭ ‬وصرخت‭ ‬في‭ ‬وجهه‭ ‬قائلة‭: ‬أطلِق‭ ‬سراح‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشباب‭!‬

كانت‭ - ‬يرحمها‭ ‬الله‭ - ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬نساء‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬دفاعًا‭ ‬عن‭ ‬قضايا‭ ‬المرأة‭ ‬وحقوقها،‭ ‬وكانت‭ ‬ترى‭ ‬أنَّ‭ ‬سعادة‭ ‬الأُسرة‭ ‬مردُّها‭ ‬إلى‭ ‬سعادة‭ ‬المرأة،‭ ‬ومِن‭ ‬أقوالها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭: ‬‮«‬سعادة‭ ‬الأسرة‭ ‬مرتبطة‭ ‬بسعادة‭ ‬المرأة،‭ ‬بما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬سلطان‭ ‬على‭ ‬الرجل‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أطوار‭ ‬حياته؛‭ ‬فهي‭ ‬مربِّيته‭ ‬طفلًا،‭ ‬وعونه‭ ‬زوجًا،‭ ‬وممرضته‭ ‬في‭ ‬مرضه،‭ ‬ومدبِّرة‭ ‬البيت‭ ‬وقوام‭ ‬نظامه‮»‬‭!‬

الطريف‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬خِلاف‭ (‬سياسي‭) ‬مع‭ ‬زوجها،‭ ‬فناصرت‭ ‬ثورة‭ ‬1919م‭ ‬وسعد‭ ‬زغلول،‭ ‬وامتدَّ‭ ‬هذا‭ ‬الاختلاف‭ ‬إلى‭ ‬حياتها‭ ‬الزوجية،‭ ‬مما‭ ‬أتاح‭ ‬لها‭ ‬إعطاء‭ ‬العمل‭ ‬‮«‬النسوي‮»‬‭ ‬والوطني‭ ‬العام‭ ‬ما‭ ‬تريد‭ ‬من‭ ‬الاهتمام‭!‬

‭ ‬وتقول‭ ‬في‭ ‬مذكَّراتها‭: ‬‮«‬حرمني‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬ممارسة‭ ‬هواياتي‭ ‬المحببة‭ ‬في‭ ‬عزف‭ ‬البيانو،‭ ‬وزرع‭ ‬الأشجار،‭ ‬وحدَّ‭ ‬من‭ ‬حريتي‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مبرر؛‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أصابني‭ ‬بالاكتئاب‭ ‬لفترة‭ ‬من‭ ‬الزمن؛‭ ‬مما‭ ‬جعلني‭ ‬أسافر‭ ‬إلى‭ ‬أوربا‭ ‬للاستشفاء،‭ ‬وهناك‭ ‬تعرفتُ‭ ‬على‭ ‬قيادات‭ ‬فرنسية‭ ‬نسوية‭ ‬لتحرير‭ ‬المرأة؛‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬شجعني‭ ‬لأستفيد‭ ‬من‭ ‬تجاربهن‭ ‬الناجحة‮»‬‭.‬

 

خلافها‭ ‬مع‭ ‬سعد‭ ‬زغلول

وقع‭ ‬خلاف‭ ‬بين‭ ‬هدى‭ ‬شعراوي‭ (‬رئيسة‭ ‬لجنة‭ ‬الوفد‭ ‬المركزية‭ ‬للسيدات‭ ‬حينذاك‭) ‬وبين‭ ‬الزعيم‭ ‬سعد‭ ‬زغلول،‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬رفضها‭ ‬بعض‭ ‬مواقف‭ ‬حكومة‭ ‬توفيق‭ ‬نسيم‭ ‬باشا‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬التابع‭ ‬لمصر‭ ‬آنذاك،‭ ‬وهي‭ ‬الحكومة‭ ‬التي‭ ‬أثنى‭ ‬عليها‭ ‬سعد‭ ‬في‭ ‬حفل‭ ‬لم‭ ‬تُدعَ‭ ‬إليه‭ ‬شعراوي،‭ ‬لكن‭ ‬اسمها‭ ‬ورد‭ ‬ضمن‭ ‬الحاضرات‭ ‬في‭ ‬الأخبار‭ ‬التي‭ ‬نشرتها‭ ‬الصحف،‭ ‬فأصدرتْ‭ ‬بيانًا‭ ‬تنتقد‭ ‬فيه‭ ‬سعد‭ ‬قائلة‭: ‬‮«‬يعلم‭ ‬الوفد‭ ‬أني‭ ‬مخالفة‭ ‬لنظريته‭ ‬في‭ ‬سياسة‭ ‬نسيم‭ ‬باشا‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬هادمة‭ ‬لحقوق‭ ‬البلاد،‭ ‬ولذلك‭ ‬لم‭ ‬يدعُنِي‭ ‬لتلك‭ ‬الحفلة،‭ ‬مكتفيًا‭ ‬بذِكر‭ ‬اسمي‭ ‬بين‭ ‬أسماء‭ ‬الحاضرات،‭ ‬ولمَّا‭ ‬كنتُ‭ ‬أخشى‭ ‬إذا‭ ‬لزمتُ‭ ‬الصمت‭ ‬أن‭ ‬يستنتج‭ ‬الشعبُ‭ ‬المصري‭ ‬الكريم‭ ‬من‭ ‬صمتي‭ ‬موافقتي‭ ‬على‭ ‬نظرية‭ ‬معالي‭ ‬الرئيس‭ ‬والوفد‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬نسيم‭ ‬باشا‭ ‬وتمجيدها‭ ‬لحفلته‭ ‬التي‭ ‬احتجَّتْ‭ ‬عليها‭ ‬لجنتنا‭ ‬في‭ ‬حينه،‭ ‬فإني،‭ ‬مع‭ ‬احترامي‭ ‬لمعالي‭ ‬الرئيس،‭ ‬أرى‭ ‬من‭ ‬واجبي‭ ‬في‭ ‬الظروف‭ ‬الحرجة‭ ‬التي‭ ‬تجتازها‭ ‬البلاد‭ ‬أنْ‭ ‬أُجاهِر‭ ‬برأيي‭ ‬ورأي‭ ‬اللجنة،‭ ‬مجددةً‭ ‬احتجاجنا‭ ‬على‭ ‬أعمال‭ ‬نسيم‭ ‬باشا‭ ‬وما‭ ‬نتج‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬تفريط‭ ‬في‭ ‬حقوق‭ ‬البلاد‮»‬‭.‬

ذات‭ ‬مرة؛‭ ‬الْتقتْ‭ ‬هدى‭ ‬هانم‭ ‬سعد‭ ‬زغلول‭ ‬على‭ ‬الباخرة‭ ‬العائدة‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬منفاه‭ ‬في‭ ‬جبل‭ ‬طارق،‭ ‬وتحدَّثا‭ ‬عن‭ ‬الوضع‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وخلافهما،‭ ‬ووصفته‭ ‬خلال‭ ‬رواية‭ ‬أحداث‭ ‬اللقاء‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬المغرور‮»‬‭:‬

‮«‬وصِرنا‭ ‬في‭ ‬وفاق‭ ‬وائتناس،‭ ‬وسعد‭ ‬باشا‭ ‬في‭ ‬تواضع‭ ‬غريب،‭ ‬حتى‭ ‬اقتربنا‭ ‬من‭ ‬الإسكندرية،‭ ‬وقد‭ ‬قلتُ‭ ‬في‭ ‬نفسي‭: ‬لقد‭ ‬عادت‭ ‬له‭ ‬عظمته‭... ‬وما‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬التواضع‭ ‬الغريب‭ ‬الذي‭ ‬لاحظته‭ ‬إلاَّ‭ ‬لظنّه‭ ‬أنه‭ ‬فقد‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬ثقة‭ ‬الأمة‭ ‬بتحبيذه‭ ‬لموقف‭ ‬نسيم‭ ‬باشا‭ ‬الذي‭ ‬أغضبها‮»‬‭.‬

تقول‭: ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬دار‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬موضوعات‭ ‬أخرى،‭ ‬وراح‭ ‬يهنئني‭ ‬على‭ ‬توفيقي‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬رفع‭ ‬البرقع‭ ‬وكيفية‭ ‬عمل‭ ‬الحجاب‭ ‬الشرعي‭ ‬الذي‭ ‬أرتديه،‭ ‬وقال‭ ‬إنه‭ ‬سُرَّ‭ ‬عندما‭ ‬رأى‭ ‬في‭ ‬منفاه‭ ‬صورتي‭ ‬بهذا‭ ‬الزيّ‭ ‬الجديد،‭ ‬ثم‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬السيدة‭ ‬حرمه‭ ‬أن‭ ‬تقلِّدني،‭ ‬فوعدت‭ ‬بذلك‭.‬

بعد‭ ‬فترة؛‭ ‬تصاعدت‭ ‬الخلافات‭ ‬بين‭ ‬زغلول‭ ‬وشعراوي‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬مواقف‭ ‬سياسية‭ ‬عدة‭ ‬لم‭ ‬تتفق‭ ‬معه‭ ‬فيها،‭ ‬وهاجمتها‭ ‬الصحف‭ ‬الموالية‭ ‬للوفد،‭ ‬وأصدرت‭ ‬هدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬بيان‭ ‬يرفض‭ ‬سياسات‭ ‬سعد،‭ ‬إلّا‭ ‬أنها‭ ‬أرسلت‭ ‬له‭ ‬رسالة‭ ‬تطلب‭ ‬مقابلته‭ ‬لتناقشه‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬مع‭ ‬خصومه‭ ‬السياسيين‭ ‬بعد‭ ‬حلّ‭ ‬البرلمان‭ ‬المنتخب‭ ‬عام‭ ‬1925م،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬المقابلة‭ ‬العاصفة‭ - ‬كما‭ ‬تصفها‭ - ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬للمراد،‭ ‬وانتهت‭ ‬بتعميق‭ ‬الخلاف‭ ‬بينهما،‭ ‬قائلة‭:‬

‮«‬وقمتُ‭ ‬متأهبة‭ ‬للخروج،‭ ‬فأوصلني‭ ‬حتى‭ ‬السلّم،‭ ‬وهناك‭ ‬قال‭: ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تشتغلين‭ ‬معي؟‭ ‬قلتُ‭: ‬لا‭... ‬أنا‭ ‬مع‭ ‬الحق،‭ ‬فقال‭ ‬محتدًا‭: ‬وهل‭ ‬أنا‭ ‬الباطل؟‭ ‬فقلت‭: ‬لا‭ ‬أعلم،‭ ‬قال‭: ‬غدًا‭ ‬ترين‭ ‬ما‭ ‬يحلُّ‭ ‬بكِ‭! ‬فقلت‭: ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أخشى‭ ‬شيئًا،‭ ‬لأنني‭ ‬واثقة‭ ‬بأنني‭ ‬لا‭ ‬أعمل‭ ‬لأيّ‭ ‬غرض‭ ‬إلاَّ‭ ‬لخدمة‭ ‬بلادي،‭ ‬وإنَّ‭ ‬يدك‭ ‬يا‭ ‬سعد‭ ‬لن‭ ‬تصل‭ ‬إليَّ،‭ ‬ولوْ‭ ‬افترضنا‭ ‬أنك‭ ‬ستُحرِّض‭ ‬عليَّ‭ ‬صبيان‭ ‬الوفد‭ ‬ليرموا‭ ‬منزلي‭ ‬بالحجارة‭ ‬أوْ‭ ‬ليقتلني‭ ‬أحدهم،‭ ‬فهذا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أتمناه،‭ ‬وهو‭ ‬أقل‭ ‬تضحية‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬خدمة‭ ‬بلادي‮»‬‭.‬

لكن‭ ‬هدى‭ ‬هانم‭ ‬نعتْ‭ ‬سعدًا‭ ‬عند‭ ‬وفاته،‭ ‬ووصفته‭ ‬بالزعيم‭ ‬الوطني‭: ‬‮«‬مات‭ ‬الزعيم‭ ‬سعد‭ ‬زغلول‭ ‬وأنا‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬رحلتي‭ ‬بالخارج،‭ ‬ولم‭ ‬يُتح‭ ‬لي‭ - ‬بالتالي‭ - ‬أن‭ ‬أشارك‭ ‬في‭ ‬وداع‭ ‬هذا‭ ‬الزعيم،‭ ‬وإذا‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مواقف‭ ‬قد‭ ‬حدثتْ‭ ‬بيني‭ ‬وبينه،‭ ‬فإنَّ‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬ينتقص‭ ‬من‭ ‬قدرهِ‭ ‬كأحد‭ ‬رجال‭ ‬مصر‭ ‬الأوفياء‮»‬‭.‬

‭ ‬

المناضلة‭ ‬الوطنية

في‭ ‬أواخر‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬أسس‭ ‬زعماء‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬وفداً‭ ‬مصريًا‭ ‬للمطالبة‭ ‬بالاستقلال،‭ ‬وعندما‭ ‬تمَّ‭ ‬ترحيل‭ ‬سعد‭ ‬زغلول‭ ‬ونفيه،‭ ‬عملت‭ ‬هدى‭ ‬على‭ ‬تنظيم‭ ‬أكبر‭ ‬تظاهرة‭ ‬نسائية‭ ‬مناهضة‭ ‬لبريطانيا،‭ ‬حيث‭ ‬احتشدت‭ ‬النساء‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬لأول‭ ‬مرة،‭ ‬تنديدًا‭ ‬بالعنف‭ ‬والقمع‭ ‬الذي‭ ‬تمارسه‭ ‬السلطات‭ ‬البريطانية‭ ‬ضد‭ ‬الشعب‭ ‬المصري،‭ ‬واحتجاجًا‭ ‬على‭ ‬القبض‭ ‬على‭ ‬الزعماء‭ ‬الوطنيين‭. ‬وباسم‭ ‬الإسلام‭ ‬والعروبة،‭ ‬دُعِيت‭ ‬شعراوي‭ ‬للضغط‭ ‬على‭ ‬بريطانيا‭ ‬عقب‭ ‬اقتراحها‭ ‬تقسيم‭ ‬فلسطين‭. ‬وقد‭ ‬أرَّقها‭ ‬قرار‭ ‬التقسيم‭ ‬هذا‭ ‬كثيرًا،‭ ‬فأعلنت‭ ‬احتجاجها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ندوة،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مؤتمر،‭ ‬وكتبت‭ ‬عشرات‭ ‬المقالات‭ ‬تنديدًا‭ ‬بهذا‭ ‬القرار‭ ‬المشين‭. ‬

وعندما‭ ‬أصدرت‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬قرار‭ ‬التقسيم‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬في‭ (‬29‭ ‬نوفمبر‭ ‬1947م‭)‬؛‭ ‬انزعجت‭ ‬هدى‭ ‬هانم‭ ‬ومرضِت‭ ‬على‭ ‬الفور،‭ ‬وأُصيبت‭ ‬بالسكتة‭ ‬القلبية‭ ‬وهي‭ ‬جالسة‭ ‬تكتب‭ ‬بيانًا‭ ‬في‭ ‬فراش‭ ‬مرضها،‭ ‬تطالب‭ ‬فيه‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬بأن‭ ‬تقف‭ ‬صفًّا‭ ‬واحدًا‭ ‬في‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين،‭ ‬وقد‭ ‬تُوفيت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بأيامٍ‭ ‬قلائل‭!‬

ومَن‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬معرفة‭ ‬الكثير‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬المجاهدة؛‭ ‬فليقرأ‭ ‬مذكراتها‭ ‬المكونة‭ ‬من‭ ‬44‭ ‬فصلًا،‭ ‬ففيها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العِبر‭ ‬والدروس‭ ‬الوطنية‭ ‬المشرِّفة‭.‬

في‭ ‬عام‭ ‬1928م؛‭ ‬ألقى‭ ‬سلامة‭ ‬موسى‭ ‬محاضرة‭ ‬بجمعية‭ ‬الشبان‭ ‬المسيحيين،‭ ‬كان‭ ‬موضوعها‭ ‬‮«‬حقوق‭ ‬المرأة‭ ‬المسلمة‮»‬‭ ‬وزعم‭ ‬أنَّ‭ ‬المرأة‭ ‬ظلمها‭ ‬الإسلام،‭ ‬ومن‭ ‬مظاهر‭ ‬ظلمه‭ ‬لها‭ ‬أنه‭ ‬جعل‭ ‬نصيبها‭ ‬من‭ ‬الميراث‭ ‬نصف‭ ‬نصيب‭ ‬أخيها‭. ‬ثم‭ ‬أرسل‭ ‬برقية‭ ‬إلى‭ ‬السيدة‭ ‬هدى‭ ‬شعراوي،‭ ‬باعتبارها‭ ‬زعيمة‭ ‬الاتحاد‭ ‬النسائي،‭ ‬وحرَّضها‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تتقدم‭ ‬للحكومة‭ ‬المصرية‭ ‬بمطلب‭ ‬مساواة‭ ‬الأخت‭ ‬بأخيها‭ ‬في‭ ‬الميراث‭.‬

ثمَّ‭ ‬نشرت‭ ‬الصحف‭ ‬المصرية‭ ‬نص‭ ‬هذه‭ ‬البرقية‭ ‬الموجهة‭ ‬إلى‭ ‬هدى‭ ‬هانم‭. ‬فقامت‭ ‬شعراوي‭ ‬بالرد‭ ‬على‭ ‬مزاعم‭ ‬موسى،‭ ‬ونُشِر‭ ‬ردها‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الصحف‭ ‬المصرية،‭ ‬ومنها‭ ‬مجلة‭ ‬الفتح‭ ‬بتاريخ‭ ‬3/1‭/‬‭ ‬1929م،‭ ‬وكان‭ ‬مما‭ ‬قالته‭ ‬في‭ ‬ردِّها‭: ‬

‮«‬دعاني‭ ‬الأستاذ‭ ‬سلامة‭ ‬موسى،‭ ‬في‭ ‬كتابٍ‭ ‬أرسله‭ ‬إليَّ،‭ ‬أنْ‭ ‬أطلب‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬الحقانية‭ (‬العدل‭) ‬سَنّ‭ ‬قانون‭ ‬يساوي‭ ‬بين‭ ‬المرأة‭ ‬والرجل‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬الميراث،‭ ‬وأرفقَ‭ ‬خطابه‭ ‬بملخَّص‭ ‬محاضرة‭ ‬ألقاها‭ ‬بدار‭ ‬جمعية‭ ‬الشبان‭ ‬المسيحيين‭ ‬عن‭ ‬نهضة‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬ونشرته‭ ‬جريدة‭ ‬المقطم‭ ‬يوم‭ ‬24‭/ ‬12‭/ ‬1928م‮»‬،‭ ‬ثمَّ‭ ‬أردفتْ‭ ‬تقول‭:‬

‮«‬يهمني‭ ‬أن‭ ‬أبلِّغ‭ ‬حضرة‭ ‬الأستاذ‭ ‬ومَن‭ ‬حضروا‭ ‬خُطبته‭ ‬أني‭ ‬في‭ ‬خدمتي‭ ‬لهذه‭ ‬النهضة؛‭ ‬أؤدي‭ ‬واجبًا‭ ‬معهودًا‭ ‬إليَّ‭ ‬من‭ ‬جمعية‭ ‬الاتحاد‭ ‬النسائي‭ ‬التي‭ ‬شرّفتني‭ ‬برئاستها،‭ ‬ولمَّا‭ ‬كان‭ ‬نصيب‭ ‬المرأة‭ ‬من‭ ‬الميراث‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬المسائل‭ ‬الداخلة‭ ‬في‭ ‬برامجها؛‭ ‬فليس‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أتدخل‭ ‬في‭ ‬الموضوع‭ ‬لا‭ ‬بإقرار‭ ‬الحالة‭ ‬الحاضرة‭ ‬ولا‭ ‬بتعديلها،‭ ‬وإنْ‭ ‬كان‭ ‬ولابدَّ‭ ‬من‭ ‬إبداء‭ ‬رأيي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع؛‭ ‬فأقول‭ ‬بصفتي‭ ‬الشخصية‭: ‬إني‭ ‬لستُ‭ ‬من‭ ‬الموافقين‭ ‬على‭ ‬رأي‭ ‬سلامة‭ ‬موسى‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بتعديل‭ ‬نصيب‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬الميراث،‭ ‬ولا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬النهضة‭ ‬النسوية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬لتأثرها‭ ‬بالحركة‭ ‬النسوية‭ ‬بأوربا؛‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتبعها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مظهر‭ ‬من‭ ‬مظاهرها؛‭ ‬ذلك‭ ‬لأنَّ‭ ‬لكل‭ ‬بلدٍ‭ ‬تشريعه‭ ‬وتقليده،‭ ‬وليس‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يصلح‭ ‬في‭ ‬بعضها‭ ‬يصلح‭ ‬في‭ ‬البلد‭ ‬الآخر‭... ‬على‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬نلاحظ‭ ‬تذمّرًا‭ ‬من‭ ‬المرأة‭ ‬أوْ‭ ‬شكوى‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬مساواتها‭ ‬بالرجل‭ ‬في‭ ‬الميراث،‭ ‬والظاهر‭ ‬أنَّ‭ ‬اقتناعها‭ ‬بما‭ ‬قسم‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬نصيبها‭ ‬ناشئ‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الشريعة‭ ‬الإسلامية‭ ‬عوّضتها‭ ‬مقابل‭ ‬ذلك‭ ‬بتكليف‭ ‬الزوج‭ ‬بالإنفاق‭ ‬عليها‭ ‬وعلى‭ ‬أولادها،‭ ‬كما‭ ‬منحتها‭ ‬الشريعة‭ ‬حق‭ ‬التصرف‭ ‬في‭ ‬أموالها‭.‬

أمَّا‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬التساوي‭ ‬في‭ ‬الميراث‭ ‬من‭ ‬دواعي‭ ‬إحجام‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الشبان‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬عن‭ ‬الزواج،‭ ‬كما‭ ‬ادَّعى‭ ‬سلامة‭ ‬موسى،‭ ‬فغير‭ ‬وجيه؛‭ ‬لأننا‭ ‬نشاهد‭ ‬في‭ ‬أوربا‭ ‬انتشار‭ ‬هذا‭ ‬الداء‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحالي‭ ‬انتشارًا‭ ‬أشد‭ ‬خطورة‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬الشرق،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬المرأة‭ ‬الأوربية‭ ‬ترِث‭ ‬بمقدار‭ ‬ما‭ ‬يرِث‭ ‬الرجل،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬أنها‭ ‬مُلزمة‭ ‬بدفع‭ ‬المهر،‭ ‬ومكلَّفة‭ ‬بالتخلي‭ ‬عن‭ ‬إدارة‭ ‬أموالها‭ ‬لزوجها‭.‬

ولوْ‭ ‬سلَّمنا‭ ‬بنظرية‭ ‬الأستاذ‭ ‬سلامة‭ ‬موسى‭ ‬وجاريناه‭ ‬في‭ ‬طلب‭ ‬تشريع‭ ‬جديد؛‭ ‬فهل‭ ‬لا‭ ‬يخشى‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬إسقاط‭ ‬الواجبات‭ ‬الملقاة‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬الزوج‭ ‬نحو‭ ‬زوجته‭ ‬وأولاده‭ ‬بإلزام‭ ‬الزوجة‭ ‬بالاشتراك‭ ‬في‭ ‬المصاريف،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬حرمان‭ ‬يعود‭ ‬بالشقاء‭ ‬والبؤس‭ ‬على‭ ‬الزوجات‭ ‬الفقيرات‭ ‬اللاتي‭ ‬لم‭ ‬ينلنَ‭ ‬ميراثًا‭ ‬من‭ ‬ذويهن؟‭ ‬وهذه‭ ‬الطبقة‭ ‬تشمل‭ ‬أغلبية‭ ‬الزوجات،‭ ‬ولا‭ ‬يخفى‭ ‬ما‭ ‬هنَّ‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬جهل‭ ‬بخلاف‭ ‬مثيلاتهن‭ ‬في‭ ‬الفقر‭ ‬في‭ ‬أوربا،‭ ‬لأن‭ ‬التعليم‭ ‬هناك‭ ‬يشمل‭ ‬كل‭ ‬الطبقات‭.‬

إنْ‭ ‬كنا‭ ‬نرى‭ ‬الغربيّة‭ ‬أكثر‭ ‬حظًا،‭ ‬لأنها‭ ‬تظهر‭ ‬لنا‭ ‬أنها‭ ‬حائزة‭ ‬لقسط‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الحريّة‭ ‬المدنية‭ ‬المساوية‭ ‬للرجل،‭ ‬بيد‭ ‬أنها‭ ‬أقل‭ ‬حظًا‭ ‬من‭ ‬أختها‭ ‬الشرقية‭ ‬في‭ ‬الحرية‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬فبينما‭ ‬الشرقية‭ ‬غير‭ ‬المتساوية‭ ‬بالرجل‭ ‬في‭ ‬الميراث‭ ‬تتمتع‭ ‬بكافة‭ ‬أنواع‭ ‬الاستقلال‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬أعمالها‭ ‬وأموالها،‭ ‬نجد‭ ‬الغربية‭ ‬المساوية‭ ‬لأخيها‭ ‬في‭ ‬الميراث‭ ‬محرومة‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬النعم،‭ ‬إذْ‭ ‬لا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تُنفِق‭ ‬أيّ‭ ‬مبلغ‭ ‬من‭ ‬مالها‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬تتعاقد‭ ‬مع‭ ‬الغير،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬تحترف‭ ‬حرفة‭ ‬دون‭ ‬تصديق‭ ‬زوجها‭ ‬وموافقته،‭ ‬لذلك‭ ‬تراها‭ ‬ثائرة‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬بلدان‭ ‬أوربا‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬القيود‭ ‬التي‭ ‬تحول‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬الحرية‭ ‬الحقيقية‭ ‬والاستقلال‭ ‬اللذيْن‭ ‬تتمتع‭ ‬بهما‭ ‬المرأة‭ ‬الشرقية‭ ‬منذ‭ ‬عصور‭ ‬طويلة‭. ‬

إنَّ‭ ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬يشغلني‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬الوصول‭ ‬بالمرأة‭ ‬إلى‭ ‬المركز‭ ‬اللائق‭ ‬بها،‭ ‬وليس‭ ‬السعي‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬القوانين‭ ‬أوْ‭ ‬قلب‭ ‬الشريعة،‭ ‬فالحمد‭ ‬لله‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القوانين‭ ‬ولا‭ ‬تلك‭ ‬الشريعة‭ ‬من‭ ‬الأحكام‭ ‬ما‭ ‬يحملنا‭ ‬على‭ ‬التذمّر‭ ‬والشكوى‮»‬‭.‬

 

صالون‭ ‬هدى‭ ‬هانم‭ ‬

كان‭ ‬لهدى‭ ‬هانم‭ ‬صالون‭ ‬ثقافي‭ ‬تقيمه‭ ‬في‭ ‬بيتها‭ ‬لمناقشة‭ ‬قضايا‭ ‬التحديث‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬حقوق‭ ‬المرأة،‭ ‬إلى‭ ‬قضية‭ ‬الاستقلال‭ ‬الوطني،‭ ‬كما‭ ‬أسهمت‭ ‬بدور‭ ‬مشرّف‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬الجامعة‭ ‬الأهلية،‭ ‬وكانت‭ ‬لها‭ ‬مواقفها‭ ‬المساندة‭ ‬لقضية‭ ‬فلسطين‭.‬

وقد‭ ‬نالت‭ ‬شعراوي‭ ‬حظها‭ ‬من‭ ‬التكريم‭ ‬والتبجيل‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬فحصلت‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأوسمة‭ ‬والقلادات‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬بلاد‭ ‬العالم،‭ ‬واعتُبِرتْ‭ ‬رائدة‭ ‬للحركة‭ ‬النسوية‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭. ‬كما‭ ‬لُقِّبتْ‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬صاحبة‭ ‬العصمة‭ ‬هدى‭ ‬هانم‮»‬‭! ‬وقد‭ ‬أطلق‭ ‬اسمها‭ ‬على‭ ‬مدارس‭ ‬عديدة‭ ‬في‭ ‬مصر،‭ ‬وفي‭ ‬عواصم‭ ‬عربية‭ ‬أخرى،‭ ‬وفي‭ ‬الكويت‭ ‬روضة‭ ‬أطفال‭ ‬تحمل‭ ‬اسمها،‭ ‬وميدان‭ ‬يُنسب‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭.‬

وقد‭ ‬كان‭ ‬لوفاة‭ ‬هدى‭ ‬شعراوي‭ ‬صدى‭ ‬واسعًا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أنحاء‭ ‬مصر؛‭ ‬ويظهر‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المقالات‭ ‬والقصائد‭ ‬التي‭ ‬رثتها،‭ ‬وعددتْ‭ ‬مآثرها،‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬قصيدة‭ ‬شاعر‭ ‬المنيا‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬الصباغ‭ - ‬بعنوان‭ ‬‮«‬في‭ ‬ذمة‭ ‬الله‭ ‬يا‭ ‬هدى‮»‬‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬

الشّرقُ‭ ‬مـن‭ ‬هـول‭ ‬المصـيبة‭ ‬جـازعٌ

هيهـات‭ ‬أن‭ ‬يجدي‭ ‬عليهـا‭ ‬بكاء

فدحته‭ ‬مـن‭ ‬وقع‭ ‬المنـون‭ ‬خســارةٌ

كبرى‭ ‬تهـون‭ ‬لخطبهـا‭ ‬الأرزاء

والنـاسُ‭ ‬بـيـن‭ ‬مصدِّقٍ‭ ‬ومكذّبٍ

يثنـي‭ ‬تحسُّرَهـم‭ ‬عليـهـا‭ ‬رجـاء

بـاتت‭ ‬‮«‬هدى‮»‬‭ ‬رهـنًا‭ ‬لقبر‭ ‬ضـيّقٍ

وقضى‭ ‬عـلى‭ ‬الآمال‭ ‬فيـهـا‭ ‬قضـاء

قـد‭ ‬كـانـت‭ ‬الدنـيـا‭ ‬سنـاءً‭ ‬مشرقًا

والـيـومَ‭ ‬تضرب‭ ‬بينهـا‭ ‬الظلماء

النـاسُ‭ ‬مـن‭ ‬ذكرى‭ ‬حديثك‭ ‬فـي‭ ‬جوىً

يُصمـي‭ ‬النفـوس‭ ‬ومـا‭ ‬يفيد‭ ‬عزاء

كـانت‭ ‬دواعي‭ ‬السّحـر‭ ‬فـي‭ ‬نبراتها

وعليـهَا‭ ‬مـن‭ ‬فيض‭ ‬الهدى‭ ‬أنداء

فـي‭ ‬غفلة‭ ‬الآمال‭ ‬غُودر‭ ‬بدرهــا

فـازْوَرّ‭ ‬مـن‭ ‬بين‭ ‬النفـوس‭ ‬صفاء

آثـارهـا‭ ‬الغرّ‭ ‬العـظام‭ ‬مـواثلٌ

لـم‭ ‬يُبلهـا‭ ‬الإصبـاح‭ ‬والإمساء

يغنيك‭ ‬يـا‭ ‬شِعـري‭ ‬لقـاء‭ ‬جهودهـا

أنَّ‭ ‬الزمـان‭ ‬قصيـدةٌ‭ ‬عصمـاء

يبـلى‭ ‬الزمـان‭ ‬ومـا‭ ‬تزال‭ ‬جديـدةً

ينسـاب‭ ‬منهـا‭ ‬فـي‭ ‬الحيـاء‭ ‬ضياء

 

‭ ‬مَن‭ ‬هِيَ‭ ‬هـدى‭ ‬شعراوي؟

السيدة‭ ‬هدى‭ ‬محمد‭ ‬سلطان‭ ‬أحمد‭ (‬1879‭ -  ‬1947م‭) ‬من‭ ‬أعيان‭ ‬محافظة‭ ‬المنيا،‭ ‬عندما‭ ‬تزوجت‭ ‬ابن‭ ‬عمها‭ ‬علي‭ ‬باشا‭ ‬شعراوي؛‭ ‬نُسِبتْ‭ ‬إليه‭.‬

وقد‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬علم‭ ‬وأدب‭ ‬وجاه،‭ ‬فوالدها‭ ‬محمد‭ ‬باشا‭ ‬سلطان‭ (‬رئيس‭ ‬أول‭ ‬مجلس‭ ‬نيابي‭ ‬في‭ ‬مصر‭)‬،‭ ‬توفي‭ ‬عنها‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬فتعهدتها‭ ‬والدتها‭ - ‬التركية‭ ‬الأصل‭ - ‬بالعناية‭ ‬والرعاية‭.‬

حفظت‭ ‬هدى‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬وهي‭ ‬لاتزال‭ ‬في‭ ‬التاسعة‭ ‬من‭ ‬عمرها،‭ ‬كما‭ ‬تلقّت‭ ‬العلوم‭ ‬الفرنسية‭ ‬والتركية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬دراستها‭ ‬للموسيقا‭ ‬والرسم،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬حصّلت‭ ‬قسطًا‭ ‬وافرًا‭ ‬من‭ ‬العلوم‭ ‬والفنون،‭ ‬عكفت‭ ‬على‭ ‬قراءة‭ ‬الكتب‭ ‬المختلفة،‭ ‬فخرجت‭ ‬بحصيلة‭ ‬واسعة‭. ‬

لها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المقالات،‭ ‬والخُطب،‭ ‬والرسائل‭ ‬التي‭ ‬نشرتها‭ ‬صحف‭ ‬عصرها‭ (‬1925‭ ‬ذ‭ ‬1940م‭). ‬ولها‭ ‬بعض‭ ‬الأشعار‭ ‬في‭ ‬الرثاء،‭ ‬والشكوى‭ ‬وعتاب‭ ‬الزمن،‭ ‬وهي‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬الحكمة‭ ‬والاعتبار،‭ ‬يكشف‭ ‬ما‭ ‬أتيح‭ ‬من‭ ‬شِعرها‭ ‬عن‭ ‬حسّ‭ ‬لغوي‭ ‬سليم،‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬انتقاء‭ ‬الألفاظ‭ ‬وإدارتها‭. ‬تتسم‭ ‬لغتها‭ ‬بالتدفق‭ ‬واليُسر،‭ ‬وخيالها‭ ‬بالجدة‭ ‬والطرافة‭. ‬ففي‭ ‬قصيدة‭ ‬لها‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬تجلد‮»‬‭ ‬تقول‭ ‬فيها‭:‬‭ ‬

يا‭ ‬دهرُ‭ ‬مهلًا‭ ‬إنَّ‭ ‬قلبي‭ ‬ليس‭ ‬صخرًا‭ ‬أوْ‭ ‬حَجَرْ

أرجمته‭ ‬بمصائبٍ‭ ‬لولا‭ ‬التجلُّـد‭ ‬لانفطر

فرَّقتَ‭ ‬عني‭ ‬أحبتي‭ ‬وكحلتَ‭ ‬عيني‭ ‬بـالسّهر

لوْ‭ ‬كان‭ ‬دمعي‭ ‬مسعفي‭ ‬لليومُ‭ ‬سابقتُ‭ ‬المطر‭!‬

في‭ ‬سنة‭ ‬1947م‭ ‬كتبتْ‭ ‬قصيدة‭ ‬رثاء‭ ‬لها،‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬هدى‭ ‬شعراوي‭ ‬ترثي‭ ‬نفسها‮»‬‭ ‬تقول‭ ‬فيها‭:‬

الـيـوم‭ ‬لا‭ ‬تبكـونـي

إنِّـي‭ ‬قضيـتُ‭ ‬ديـوني

لـمْ‭ ‬يبقَ‭ ‬للعـيش‭ ‬شأنٌ

عـندي،‭ ‬ولا‭ ‬للمنــون

حُرِّرت‭ ‬مـن‭ ‬كل‭ ‬أســرٍ

ومـن‭ ‬سهـاد‭ ‬جفـونـي

نزلـتُ‭ ‬دارَ‭ ‬بقـــاءٍ

فـيهـا‭ ‬تلاشـت‭ ‬شجـونـي

فـيـهـا‭ ‬أواجه‭ ‬ربـــّي

جـوار‭ ‬مَـن‭ ‬سبقـونــي

فـاليــوم‭ ‬داريَ‭ ‬قبري

ونعـمَ‭ ‬دارُ‭ ‬السكــون‭!‬

بـه‭ ‬تصـانُ‭ ‬رفـاتـــي

مـن‭ ‬حـادثـات‭ ‬القـرون‭! ‬‭.