ثقة الإبداع

هناك مقولة لبيكاسو يرى فيها أن «كل طفل فنان، والمشكلة كيف يبقى فنانًا عندما يكبر». ويرى الباحثون أن الناس يولدون بجينات مبدعة، فيميل الصغار في مرحلة الطفولة إلى الإبداع. ويتضح ذلك في طرق لهوهم ولعبهم في البيت وخارجه. ومن يحاول تذكّر أيام الطفولة وأنشطتها الماتعة، لابد أن يرى بعيون عقله وقلبه مرحًا جميلا وانطلاقًا حرًّا وإبداعًا واثقًا مع أصدقاء حقيقيين، وأصدقاء خياليين، أو مع حيوانات أليفة أو حشرات، أو أشياء جامدة كالدُّمى والمكعّبات واللُّعب المختلفة، مما يبعث فيها الخيال حيوات نابضة.
لا توجد طفولة - في الغالب - من دون أناشيد وموسيقى ورقص وتمثيل وتمارين رياضية ورسم وتلوين وتشكيل تماثيل من الصلصال والعجين، وغير ذلك من إبداعات قد تظهر في محاولات أداء مهمات خاصة أو حل مشكلات طارئة، مثل الاختباء أو تسلّق حاجز أو شجرة أو درابزين، أو تناول أشياء من رفوف عالية أو أماكن ضيقة.
في هذه المرحلة المبكرة من الحياة، يكون الفضول ومحاولة التعرف إلى البيئة المحيطة في ذروته. وما الإلحاح في طرح الأسئلة - الذي غالبًا ما يضيق به الكبار - سوى نتاج لملاحظات ذكية ودقيقة، وشغف وفضول وتعطّش لتعلُّم وإبداع فطري. ولكن مع تقدُّم الصغار في العمر، تتراجع الثقة الإبداعية لدى الغالبية، لتبدأ رحلة جديدة من كبت المواهب والقدرات والأسئلة.
ومن بين عوامل عديدة، يعوق فقدان الثقة بالنفس وتدني تقدير الذات والخوف كثيرين، فلا يستطيعون خوض مغامرات الإبداع بثقة - كما كانوا يفعلون وهم صغار - فهم يتحاشون التعامل مع المجهول في عملية الإبداع، ويخافون من خروج الأمور عن السيطرة، ويتجنبون نظرات الآخرين وانتقاداتهم غير المحتملة.
وربما أدى تعليق ساخر وغير مسؤول من شخص إلى توقّف المبدع عن التعبير عن ذاته وتجميد نشاطه إلى الأبد، كما يمكن أن يفضي الانشغال بأمور الحياة اليومية إلى تجاهل نداء الإبداع وتناسي الموهبة، فينقل المبدع نفسه قسرًا من صفوف المبدعين إلى صفوف غير المبدعين. ولا تكون الأسباب في بعض الأحيان سوى شعور بالإرهاق أو الكسل والرغبة في الهروب من مشقة العمل الإبداعي، وتفضيل الاستكانة والمكوث في سلام بمنطقة الراحة.
قول وفعل
يُعرف التفكير الإبداعي بأنه طريقة لتوليد أفكار جديدة مختلفة، من الممكن أن تكون في صورة منتجات أو حلول لمشكلات قائمة أو أعمال فنية أو أنواع جديدة من الخدمات. وفور استخدام الشخص تفكيره الإبداعي في التوصل إلى منتج أو عمل، أو حل لمشكلة ما، من المفترض أن يمتلك ثقة تعينه على تحويل الأفكار المبدعة إلى واقع ملموس.
فجوهر ثقة الإبداع - كما يرى الشقيقان ديفيد وتوم كيلي في كتابهما Creative Confidence - هو إيمان المرء بقدرته على إحداث تغيير فيمن حوله، واقتناع بالقدرة على تحقيق المراد. وتعد هذه الثقة كالعضلات، يمكن تعزيزها وتقويتها بالمران وبذل الجهد ومراكمة الخبرة.
كما يتجاوز الإبداع - من وجهة نظر الأخوين - مجالات الفنون إلى استخدام المخيلة من أجل خلق أشياء جديدة. ففي عالم الأعمال مثلًا، يعلن الإبداع عن نفسه من خلال تجديد قاده نجوم، كمؤسسي اغوغلب وافيسبوكب واتويترب، الذين غيّروا حيوات مليارات البشر حول العالم. والفرص لا تزال مفتوحة أمام الجميع للتجريب وإبداع الجديد.
الجميع مبدعون
في عام 2005 أسس ديفيد كيلي معهدًا لتعليم رواد أعمال المستقبل من خريجي كليات جامعة ستانفورد منهجية تفكير التصميم من أجل التجديد.
وعبر سنوات طويلة من الخبرة، تبيّن له أن لدى الجميع ما يكفي من الإبداع، بما في ذلك هؤلاء الذين يعتقدون أنهم غير مبدعين. وهكذا اقتصرت مهمة المعهد على إكساب المشاركين مهارات وطرق تفكير تستعيد ثقة إبداع الطفولة. وسرعان ما اشتعل خيال الجميع واستُثير فضولهم، وتدفقت إبداعاتهم باعثةً شعورًا يشبه شعور السائق الذي اكتشف فجأة أنه كان يقود مركبته وفرامل اليد مرفوعة.
والجميل في الأمر أن كثيرًا من المتدربين فوجئوا بنتائج إبداعاتهم، ومن استعادتهم ثقة الإبداع عندما تمكّنوا من توليد أفكار جديدة وتحلّوا بشجاعة تطبيقها أو تجريبها. وكان سر الإبداع كامنًا في محاولة المشاركين التصرف والعمل بطبيعية، ومن دون خوف أو خجل، مثلما يفعل الأطفال.
ومن وصايا كيلي لتلاميذه، المبادرة، وعدم انتظار سقوط االتفاحةب؛ بل السعي نحو البحث عن إلهام في ألعاب، وفي تجارب جديدة تُعاش، ووسط بيئات غير مألوفة يتم الانغماس فيها، واستكشاف حاجات مجموعة من الناس ورغباتهم ودوافعهم وسلوكياتهم والتحديات التي تواجههم، وغير ذلك مما يحفّز التفكير الإبداعي ويُطلق طاقة إبداعية تساعد على تأليف أفكار وانفتاح أبواب، وتكشف حلولًا.
ومن بين سيول الأفكار والخواطر والصور الذهنية، يأتي وقت لاختيار أفضل الإمكانات وأكثر الأفكار فاعلية أو أكثر المشكلات إلحاحًا. ثم تبدأ رحلة تركيز أكبر قدر من الطاقة والنوايا الخالصة والوقت لجمع المعلومات، والعمل على إيجاد حل.
وبعد مرحلة جديدة من التجريب وطرح أسئلة مثل: هل أنا سعيد بما أقوم به؟ وما مدى الشعور بعمق الإحباط؟ وما شدة الرغبة في العثور على حل؟ ومحاولات خطأ وتوقّف لاستيعاب الخبرة، يأتي الحل على غير توقّع بعد أيام أو بعد شهور، أو ربما بعد سنوات، وبعد العثور على أفضل ما يمكن عمله، يبدأ التنفيذ عبر إجراءات مستمرة من التعديل والتنقيح السابق للطرح النهائي.
انتصارات صغيرة
تنمى ثقة الإبداع في عملية مستمرة من ملاحقة الأهداف وتنفيذ الأفكار بحماس وصبر، ومن دون التفات إلى الأفكار السلبية المصاحبة لمواجهة المخاوف والعقبات. وأكثر ما يتطلب الأمر ثقة بالقادم وجرأة وشجاعة بداية الانطلاق وتحمّل وطأة الانتقاد والفشل.
أما التقدم فيكون خطوة خطوة بإحراز انتصارات صغيرة؛ كأن ينجح مَن يريد التمكن من الخطابة أمام جمهور كبير، في التمكن أولًا من الحديث أمام مجموعة صغيرة من الأشخاص، والتعامل مع المخاوف البسيطة، والتغلب على الشعور بعدم الراحة في كل مرحلة.
ومع تزايد ثقة الإبداع يصبح المرء أكثر قدرة على عرض أفكاره وتشاركها مع الآخرين والدفاع عنها، بل وتحويلها إلى حقيقة. ويمكن أن تمتد هذه الثقة فيما بعد إلى جوانب أخرى في الحياة، لتمنح صاحبها مزيدًا من الثقة بالنفس، فيرتفع شعوره بالراحة في أثناء تعامله مع الناس وفي ممارسته أنشطة أخرى، ويتعزز إيمانه بمقدرته على إحداث التغيير والتأثير فيمن حوله، بغضّ النظر عما يقوم به.
ومما يذكر أن الفرق بين العباقرة وسواهم ليس أنهم لا يفشلون أبدًا - بل العكس صحيح - غير أنهم لا يسمحون للفشل بأن يوقفهم ويمنعهم عن مزيد من التجريب؛ فهم يعرفون أن من يرغب في مزيد من النجاح عليه أن يتحمل مزيدًا من الفشل. ويمكن أن يكون الفشل المبكر ضروريًّا للنجاح في الإبداع، لأنه يصحح الاتجاه ويقوّي نقاط الضعف.
أثمن الموارد
يبقى الأمل معقودًا دائمًا على تعزيز ثقة الإبداع لدى الصغار من خلال تدريبهم على عرض أفكارهم؛ والاهتمام بأسئلتهم وبأحلامهم، ومنحهم مساحة من الوقت للعمل على مشروعات نابعة من اهتماماتهم الخاصة، وقائمة على شغفهم الشخصي، كما هي الحال مع تجارب ساعة العبقري، ووقت الـ 20 في المئة التي استلهمتها بعض المدارس من سياسة اجوجلب مع الموظفين - التي تتيح يومًا في الأسبوع، أي 20 في المئة من الوقت للعمل على مشروعات شخصية جانبية تسهم في تطوير الذات وإثراء المؤسسة وتعلّم التعاون ومشاركة الأفكار - ونجحت هذه التجارب في تدريب الأطفال في وقت مبكر على اعتياد توقّع الفشل وتقبّله كجزء من عملية التعلّم، وإدراك قيمة طاقة الإبداع التي تعدّ أثمن الموارد التي ينبغي الحفاظ عليها .