فوضى التحصيل وضياع التأصيل
هناك من يتعمد صناعة الفوضى بجمع كل هذا الكم الهائل من المعلومات المتاحة، الأصيلة منها والهامشية، المفيدة وغير المفيدة، العامة والخاصة... الكلمة والحكمة والطُرفة والنبأ والخبر والنُبذة والقصيدة... ومقاطع الصوت ومشاهد الصورة. ازدحم فضاء المعلومات، ليصبح الضجيج لحناً، والقلق والخوف فناً، فنجلس متقابلين ساعات بلا كلام، نجري وراء رنة الهاتف التي سوف تخبرنا على أي تطبيق سوف يأتي الخبر... تويتر Twitter أو فيسبوك Facebook أو واتساب WhatsApp أو أي تطبيق آخر، لندرك معلومة جديدة، علّنا نفرج بذلك عن أنفسنا هماً. ويتزاحم الناس على السَبْق النَقْلي للمعلومة، عسى أن يكسبوا رضا متابعيهم، دون التحقق أو التأكد من صدق تلك المعلومة أو كذبها. وكلما زادت الإثارة زاد معها التشجيع والتصفيق، وكلما انتشر الخبر الكاذب أكثر وأكثر، بات أقرب إلى التصديق.
ليس هناك أدنى شكّ في أنّ إدمان استعمال مخرجات التكنولوجيا الحديثة خلق أجواء ضبابية، ظاهرها الصفاء، البياض والنقاء، وباطنها الغشاوة وانعدام الرؤية وضلال الطريق والشقاء. لم يكتفِ الإنسان بجرعات التقدم التكنولوجي في مجال الحوسبة، إذ كلما أخذ جرعة قال: هل من مزيد؟! وبعد أن كان الحاسوب رفيقاً لنا فقط في الدراسة ثم العمل، أصبح لصيقاً بنا في المنزل والسفر والمنتقل. هو اليوم بين أيدينا، يرشدنا للطريق، يواصلنا مع الأهل والأصدقاء والأقرباء، يقضي حوائجنا في التسوق والمشرب والمأكل، يحدد لنا الرحلات ويؤكد الحجوزات، ويخلّص المعاملات الرسمية والتجارية، المالية والبنكية، ويرتب أعمالنا اليومية ويُنَظّم مواعيدنا ضمن جدول زمني مُحْكم، ويُترجم ما نجهله من لغات، ويقرأ ويشرح ويفسر لنا كتب الفِكْر والفلسفة والأديان، ويقصّ علينا روايات اليوم وما فات من الأزمان، يطلعنا على ثقافات شعوب العالم وجغرافية الأوطان، يعرض لنا صوراً وأفلاماً للقصص والطبيعة وكل حيّ كان، نبتة وحشرة وحيوان وإنسان، ويسمعنا من الموسيقى أعذب الألحان ومن الأغاني أحلى الألوان، ويُذكرنا بالتزاماتنا في حالة النسيان.
كان الأصل في دور هذه الخدمات الحاسوبية ووسائل التواصل الاجتماعي أن تجعل المعرفة الفكرية في خدمة الإنسان، لتحرره من الأوقات التي يضيعها في الضرورات الخدمية، فيتفرغ للفكر والتأمل والإبداع، وإثراء الكيان الإنساني بالنافع المفيد، لا أن يصبح العالم مسرحاً مجنوناً يجري فيه كل الناس باتجاه واحد لهثاً وراء الماديات والمعرفة الادعائية، المتمثلة في المعرفة الشمولية الواسعة لكل شيء، ومن أراد أن يعرف كل شيء، تغيب عنه أهم الأشياء، ولن يدركها أبداً إلا بمنهج علمي وصحبة أستاذ عالم، وقد عُلّمنا بأنّ «من كان شيخه كتابه، كان خطأُه أكثر من صوابه».
إنّ تحصيل المعلومات عن طريق الروابط الإلكترونية باب يصعب توثيقه، أو اعتماده مصدراً أصلياً للمعرفة والتحقق من الخبر، ويرجع ذلك إلى المساحة المتاحة للكذب والتحوير والتلفيق والتزوير. ولأننا نطالع الخبر من الخارج، فإننا لا نُدرك صناعة أولئك الذين يهذبونه ويخرجونه بالطريقة التي يصل بها إلينا، فالكل يرى العالم من نافذته الفكرية، السياسية أو الدينية، حيث تتعدد المشارب والمذاهب والطوائف والأديان والأهواء.
وليس للعاقل في خضم هذا البحر اللجيّ إلا أن ينجو من أمواجه بعدم الخوض فيه، وهو يستطيع بالتأكيد معرفته عندما يكون على شطآنه، مراقباً متأملاً. لقد كثر السفهاء وجاء في مقدمتهم التافهون، ليكونوا قادة التوجيه في الأزياء والآراء، وفي النصيحة والفضيحة، حتى كادوا ينافسون المتخصصين من الأطباء والمعلمين في تشخيص علل المجتمع وتخصيص علاجات الفكر والنفس والبدن. وصاروا دعاة وقضاة، وهم لم يبْلغوا حدّ رشد أنفسهم ولا نضج عقولهم وما استطاعوا.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ليتفنن المجرم بإجرامه فيخطف حسابات الهواتف ويتعدى على خصوصية الأفراد وسرية مدخلاتهم من صور وأفلام، ثم يهددهم بنشرها ويبتزهم مادياً ومعنوياً. وربما يدس هذا المجرم صوراً فاضحة وأفلاماً مشينة وينشرها على قائمة أسماء الشخص نفسه، مما يسبب عاراً أو حرجاً كبيراً، أو أن يُتّهَم بارتكاب جريمة قانونية، فيضيع وقته ويُستنزَف ماله وهو يحاول تبرئة نفسه من هذا الفِعل الفاضح. بدأ القراصنة المجرمون بالإيميل، وانتهوا بتطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، لنكتشف الكم الهائل من الخروقات لحسابات أشخاص من الأهمية الاجتماعية والسياسية بمكان. وعلى الرغم من التحذيرات المتواصلة بعدم حفظ الصور والأفلام والأحاديث الخاصة في حافظات الحواسيب والهواتف الذكية، فإنّ السائد هو عدم اكتراث أغلب المستخدمين لهذه التحذيرات. ولن يكون هناك ملجأ آمن في خضم مستنقع ينتشر فيه وباء.
وباء أصاب الناس في جميع أنحاء العالم، الرجل والمرأة، الكبير والصغير، الغني والفقير، ولم يرحم أحداً. حتى أنّه بات يهدد الأطفال والنشء الجديد من خلال إلهائهم بألعاب خطيرة، تبدأ بالإثارة وتنتهي بالموت.
وقد سجل كثير من الدول حالات انتحار وقتل كان دافعها الأول لعباً: مثل «الحوت الأزرق Blue Whale» التي تؤدي آخر مراحلها إلى الانتحار، و«جنية النار Fire Fairy» التي تعلّم الأطفال اللعب بالنار لحرق أنفسهم أو أهليهم أو مساكنهم، و«كروس فاير Cross Fire» في استعمال الأسلحة بهدف التأهيل الإرهابي، أما لعبة «كونكر Conquer» فهي لعبة قمار يدفع المستخدم فيها مبلغاً زهيداً مقابل تقاضي مبلغ كبير، شريطة أن يقامر به، فيحس في البداية بأنّ من السهولة عليه الربح والكسب، ثم يدرك بعد فترة أنّه خسر كل شيء، فيعيد الكَرّة فالكَرّة، حتى يدمن على لعب القمار في هذه اللعبة أو غيرها، ويصل إلى مرحلة تلبية كلّ ما يُطلب منه، فيبيع حوائجه، ثم يبيع أغراض المنزل، ثم لا يتوانى في أن يصور نفسه أو أخته أو أمه في أوضاع غير لائقة، بائعاً شرفه وعرض أهله والأقرباء والأصدقاء مقابل ثمن زهيد. وغير ذلك من الألعاب التي أدمن عليها الصبية، فباتت تأخذ جزءاً كبيراً من وقتهم في حياتهم اليومية، حتى صارت سبباً في دمار حياتهم أو موتهم أو موت أقاربهم بطرق مأساوية. وصار الكسل بديلاً عن العمل، وصار الحاسوب أو اللعبة ربّهم الذي يرزقهم ويطعمهم ويسقيهم!
ومع الأسف، فإن دور الأسرة ورقابتها على الأبناء بدأ يتراجع على جميع الصعد والمستويات، ولِمَ لا والكل عن الكلِّ منشغل بما لا يُغني ولا ينفع؟!
الوالدان لا يستطيعان حلّ مشاكل أبنائهم وبناتهم، بسبب الانشغال بالعمل أولاً وبعدم القدرة على تحمّل المسؤولية ثانياً، فعادة ما يتأخران عن معالجة أي مشكلة، ثم تقع الكارثة بانحراف الابن أو الابنة، فيصدمان بالمأساة، وتفشل كل محاولة لهما بعد فوات الأوان.
ومهما كانت المحاولات، وعلى الرغم من اعتقال قرصان «الحوت الأزرق» ومحاكمته في روسيا، فإنّ الأُسَر التي فقدت أبناءها في بعض دول العالم لم تستطع رفع دعاوى قضائية على المتهم، وذلك للنقص التشريعي في قوانين الجزاء في تلك الدول. وقد طالعتنا وسائل الإعلام المصرية أخيراً بالتحرك الشعبي والحكومي لمنع الكوارث الإلكترونية الجديدة من الانتشار، وكان ذلك من خلال العمل على وضع حزمة من القوانين وتفعيلها لحماية الأطفال والأجيال الناشئة من خطر قراصنة الحواسيب.
ولعل البعض يتساءل: كيف يتسنى للمُشرّع القانوني أن يضع أحكاماً لقانون في مجال بعيد كل البعد عن ميدان تخصصه، وهو الحاسوب والبرمجة الحاسوبية، حيث لا يستطيع بأي حال من الأحوال الإلمام بفحواه وتركيبه وكيفية عمله ونتائج تشغيله، أو يواكب مجريات تغيراته وتراتب موضوعاته، أو يفقه أبعاده وأهدافه؟! عادةً ما يلجأ المُشرع في مثل هذه الحالة إلى الاستعانة بالخبراء، ليشرحوا له المشكلات المترتبة على استخدام البرامج والتطبيقات الإلكترونية وآثارها السلبية على الفرد والمجتمع، ليقوم بدوره بوضع نصوص قانونية تنظم ممارسة البرامج والتطبيقات بأسلوب يحمي المُنتِج والمستَخدِم من أي أضرار تلحق بهم جراء العمل بهذا البرنامج أو ذاك التطبيق، وتكون القاعدة الأولى لانطلاقه التشريعي أنه «لا ضرر ولا ضرار».
وفي حالات كثيرة يتعسف المُشرّع في سنّ مواد قانونية رادعة لاستخدامات بسيطة، وفي المقابل، فإنّه يغفل أو ربما لا يُدرك مدى تغير التطور التكنولوجي السريع، الذي عادة ما يفوق بطء الموافقة على إصدار القوانين أو تنفيذ الأحكام.
إن المصائب والمصاعب التي سوف تُلقي بظلالها السوداء الغامضة لا تكون إلا من سوء الفهم في اختيار المحترف والمتخصص في معالجة الخَلَل والعطْل والمرَض، فمن غير المعقول أن يصلح القاضي خللاً في الطائرة أو يُشَخّص الطبيب عطلاً في السيارة، أو يقوّم النجار أسنان الفم، أو يفتي رجل الدين بدواء يشفي مرضى السرطان.
وقد كان من الأوْلى والأصح أن تناط مسألة سن التشريعات الحاسوبية إلى الجهة المتخصصة بالحاسوب والتواصل والاتصال، وليس الجهة المعنية بإصدار القوانين، فالرقابة المسبقة لها أكبر الأثر في منع الجريمة، وهي عادة ما تكون صلاحياتها منوطة بجهة غير السلطة القضائية. ومهما يكن من أمر، فإنّ التشريعات الصادرة عن جهة ليست ذات اختصاص بخبرات دقيقة، عادة ما تلقى فشلاً، إما في التطبيق وإما في التعليق، زيادة على تعقّد إجراءات تنفيذ العقوبات.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ أنظمة عالمنا العربي، الإدارية والرقابية، تفتقر لجهاز فني وإداري محترف ومتخصص يقوم بالإشراف والمتابعة والمعالجة والتنفيذ للمشاكل الناتجة عن الثورة الإلكترونية الحاسوبية الجديدة.
لقد كان من الأجدر الأخذ بالقوانين الصادرة عن منظمات عالمية محترمة ومعتبرة، وترجمتها وصياغتها وسد فراغات العيب والنقص فيها بأسلوب يتوافق وحياة الإنسان في المجتمع العربي حسب دستور وقوانين كل دولة على حدة.
ونتيجة لما سبق من الأسباب، نرى تأخر الدول العربية في وضع منظومة حاسوبية متكاملة تتوافق مع الفرد والمجتمع والدولة. ولا نخفي حقيقة حين نقول إنّ الدول العربية جعلت الجرائم الإلكترونية آخر همّ لها، في حين أنّ تلك الجرائم باتت تتصدر إحصائياً نسبة الجرائم في دول العالم، ففي قائمتها يأتي القتل والسرقة والسلب والنهب وغسل الأموال وترويج المخدرات والفسق والفجور والاتجار بالرقيق الأبيض والسبّ والقذف واستغلال الأطفال.
لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي طريقاً لانتقال عدوى كثير من الأمراض النفسية والاجتماعية، وبدلاً من أن تُستغل في نشر الثقافة والعلم، صارت معولاً لهدم الثقافات والأديان والمُثُل والأخلاق. والغريب أنّها كادت تبرمج المتلقي على الشكّ بكل محصلة الفضائل من الأديان، وبكل ما هو أخلاقي في تاريخ الإنسان، لتعبث بالنفوس تلفيقاً وتفسيقاً. وتفشت العدوى لتشمل الدول المتقدمة تقنياً وصناعياً، من أجل تطويعها لمستقبل لم تدرك انطلاقه، فلا هي تكاد ترى ذيوله، ولا استطاعت قياس مدى سرعته. وجاءت التشريعات القانونية كالإشارات الضوئية في الشوارع، تهدئ السير وتُنَظّم المسيرة، لكنها لم تمنع التدفق والدهس ولم تحلّ أزمة الزحام.
وغداً عندما ينهار نظام الحاسوب القديم، ويأتي نظام أكثر تطوراً وتمكيناً، وتبدأ مرحلة تكنولوجية جديدة، يحافظ بها الإنسان على هويته وأمواله ومعلوماته الشخصية، ربما بزرع رقائق رقمية برمجية تحت الجلد! فيكون هذا منتهى غايات الأنظمة الاستخباراتية الحاكمة، خاصة في الدول البوليسية غير الناضجة، للسيطرة على الشعوب ومراقبتها، وادعاء أنها إنما تقوم بذلك من أجل الصالح العام ومحاربة الإرهاب والفساد وغسل الأموال والجرائم بصورة عامة.
إنّ السلاح الجديد في مراقبة الأفراد من قِبَل الأنظمة السياسية الطاغية، يُعطي هذه الأنظمة وحكوماتها قوة غير محدودة وغير مأمونة العواقب، إضافة إلى اكتسابها سلطات أثيرة ومؤثرة لا متناهية. هنالك سيصبح العالم فئتين؛ سادة يملكون كل شيء: المال والماء والسُلطة والقوة والطعام، وخدم وعبيد يُعْطَوْن، لا يملكون أي شيء، تُسلَبُ منهم الثروات والأقوات، ويُلقى عليهم الفتات.
عصر جديد، تنهار فيه القيم والأخلاق والمُثُل، لا دور فيه للإبداع أو العمل الشاق أو حتى للأعمال الحرّة. وإذا كان هناك عمل فسيكون مجرد سُخرة.
وسيأتي على الإنسان يوم يشحّ فيه الماء تلوثاً ونضوباً، وتجف الأرض فلا تجد زرعاً ولا ضرعاً. عندها، لن تصبح الحرية والكرامة مطلباً، حين تكون الحاجة ملحة لأبسط الحاجات الإنسانية؛ الماء والطعام. ويعيش الإنسان في عالم افتراضي، بعيداً عن الواقع الحقيقي، لا يعرف فيه إلا ما بُرمج عليه، ليكون جهازاً كبقية الأجهزة، قابلاً للتشغيل في أي وقت، ومتى ما انتهى دوره فما على النظام المركزي العام إلا قطع تيار التواصل معه، فلا يستقبل ولا يُرسل، فتكون النهاية Shutdown ■