ولماذا.. الدولفين بالذات؟ راسم كنعان

ولماذا.. الدولفين بالذات؟

ما بال الدولفين يثير كل هذا الضجيج الإعلامي؟ فوكالات الأنباء تطير أخبارا عن أنه يلعب دورا في اكتشاف الغواصات والألغام البحرية أينما كانت، وأنه- بعد التدريب- يعمل كطبيب يعالج مرضاه بنوع من المساج (التدليك) الخاص الذي يحس به كل من يلامسه. هل لكل هذا الضجيج من أساس علمي؟ الإجابة: نعم. وهذا المقال يضيء تلك الإجابة.

تعتمد مهارة الدلافين في حركتها الفيزيائية إلى حد كبير على أنظمة الإدراك الحسي لديها التي هي في الأصل تحديد المواقع بالصدى باستخدام الموجات فوق الصوتية (Ultrasound). وقد اكتشف العلماء منذ زمن بعيد أن الموجات فوق الصوتية تنتشر عبر الجسم البشري بالأسلوب نفسه الذي تنتشر به الموجات الصوتية في الماء، لهذا فأقرب تشبيه تقني لإصدار الأصوات عند الدولفين هو استخدام الموجات فوق الصوتية في المعالجة الطبية والتشخيص المرضي.

يستطيع الطبيب باتباع أساليب مسح مختلفة الحصول على صور بالموجات فوق الصوتية لأعضاء الجسم الداخلية متبعا الأسلوب نفسه الذي بواسطته يستطيع الدولفين الرؤية لمسافات بعيدة في الأعماق.

والدلافين من الثدييات البحرية تنتسب إلى عائلة الحيتان ذات الأسنان، فهي تعيش كجماعات وتتميز بعدد مذهل من الميزات التي يتميز بها الإنسان كالاستعداد للتعاون والرغبة في التضحية. ولا يقتصر الأمر على علاقات الصداقة بين أبناء جنسها فحسب بل يتعدى ذلك إلى الإنسان، فلا غرابة إذن من أن تظهر الدلافين في أساطير البحارة الإغريق والرومان. كما أن الدلافين لا تعول اهتماما كبيرا على حاسة البصر، على نقيض العديد من حيوانات الدم الحار، إذ إنها تمتاز بحاسة سمع مرهفة إلى حد مذهل تعمل ضمن مجال ترددي يصل حتى 200 كيلو هرتز (المجال الترددي المخصص لما فوق الصوتية).

الصوت والصدى

تتصل الدلافين ببعضها البعض ضمن المجموعة بإصدار ضجيج لصفير عالي النبرة يسمع لمسافات تصل إلى مئات الأمتار. وتستخدم الدلافين إضافة إلى ذلك أصداء فوق صوتية لتكوين صورة عن الوسط المحيط فتولد لأجل ذلك سلسلة سريعة متلاحقة من ضجيج على شكل نبضات فيمكنها الصدى العائد من التمييز بين الصديق والعدو، وتميز العوائق التي تتفاداها بسباحة سريعة ورشيقة.

ومن الأمثلة الفنية المشابهة لنظام تحديد المواقع بالصدى لدى الدلافين أجهزة المسح بالموجات فوق الصوتية المستخدمة في التشخيص الطبي، حيث تقدم هذه الأنظمة صورا لأي من أعضاء الجسم الداخلية الممسوحة. وتبنى تقنية الموجات فوق صوتية في المجال الطبي على مبدأ النبضة- الصدى حيث يعمل جهاز إرسال كهربائي على تهيج مرحل TRANSDUCER بيزوكهربائي لتوليد دفقات قصيرة لاهتزازات ميكانيكية مخمدة تقع ضمن المجال الترددي 3.5- 10 ميجا هرتز (MH2) فعندما تطبق على جسم الإنسان تنتشر الموجات فوق الصوتية عبر الأنسجة بسرعة تصل إلى 1450 م/ ث وتساوي سرعة الصوت في الماء، وبما أن لكل سطح من السطوح الداخلية الكائنة بين النسج ممانعة (إعاقة) صوتية مختلفة عن سطح أي عضو من أعضاء الجسم فتبدل هذه الممانعة مقاومة الموجة وتولد انعكاسا جزئيا فتلتقط إشارة الصدى بالمرحل البيزوكهربائي وتتحول إلى إشارة كهربائية. تستخدم الإشارات بعد التكبير لإعطاء صورة للعضو وتظهر الصورة على شاشة إظهار (SCREEN) من جراء مسح المرحل للعضو.

حتى الأعضاء الداخلية يراها!

من ناحية نظرية، تعتمد القدرة في التمييز بين جسمين متقاربين في الصورة على طول موجة الصوت ويحسب من حاصل قسمة سرعة انتشار الموجات على التردد، فطول الموجة للتردد 3.5 ميجا هرتز حوالي 0.4 مم.

ويقوم الدولفين بتحليل الإشارات (الصدى) المرتدة عن السطوح المحيطة وباتباع أسلوبه الخاص بالمسح يستطيع الدولفين تكوين صورة عن الوسط المحيط به أو لأي كائن بحري على مقربة منه. فبالنسبة لحيوان الحبار مثلا يستطيع الدولفين إدراك شكله الخارجي وربما إدراك أعضائه الداخليـة أيضا كما يستطيع باستخدام تردد قدره 100 كيلو هرتز في مجال فوق الصوتية الحصول على تباين في الصورة نظريا بحدود 1.5 سنتيمتر، ومع ذلك يبدو أن ذلك كاف بالنسبة له لتوجيه نفسه بسرعة في أوساط مائية غير مألوفة له.

ومن المفيد لفهم كيف يتمكن الدولفين من توليد إشارات فوق صوتية التعرف إلى تشريح جمجمته. إذ تلعب قناة الهواء العمودية دورا بارز الأهمية فهي تصل الحنجرة بفتحة التنفس وتقع في منتصف رأس الدولفين كما تغلق عند الحاجة بغطاء جلدي مرن. وبالمقارنة مع الثدييات البرية تقع الكتلة العظمية الحاوية على الدماغ إلى الخلف قليلا، في الواقع خلف فتحة التنفس. تحوي القناة الهوائية الشبيهة بالفتحات الأنفية العادية عددا من الغلاصم تعمل على توليد موجات فوق صوتية باحتكاكها بعظم الجمجمة بواسطة عضلات خاصة وتنتقل الموجات فوق الصوتية إلى الماء مباشرة عبر الجبهة الناتئة من النسج الدهنية بين فتحة التنفس والخرطوم الطويل الأشبه بالمنقار، ويعمل النتوء كعدسات ضوئية فيولد حزما صوتية اتجاهية (موجهة). ويحصل الدولفين تحت الماء على صورة صوتية من خلال حركة الرأس إلى الأمام والخلف عند اقترابه من جسم ما. فالدولفين لا يمتلك عضلة أذنية وبدلا عنها يمتلك آلية في غاية الإحسـاس تساعده على التقاط إشارات الصدى. تتوضع الأذن الوسطى والأذن الداخلية خلف العين محاطة بالعظام، عكس الثدييات الأخرى، وترتبط بشكل مرن مع غلاف الجمجمة بأربطة وعضلات. تؤمن هذه الهوائيات الاتجاهية (قرون الاستشعار -DIREC TIONAL ANTEN) الصوتية للدلفين تباينا/ تميزا/ زاويا للإشارات المنعكسة في حدود 1 ْ.

ويظل الدولفين متفوقا

يذكرنا كل ذلك بما نراه في المستشفيات لدى أقسام الأشعة فوق الصوتية، فالطبيب يعتصر أولا قطرات من مادة هلامية غير ضارة على جسم المريض من أجل التصاق جيد مع أطراف وصل الجهاز، ثم بعدئذ يحرك الطبيب قبضة جهاز المسح فوق الصوت إلى الأمام والخلف للحصول على صورة لأعضاء الجسم الداخلية كالكبد والكليتين أو القلب على شاشة إظهار مما يسهل من دراسة بنية وحركة تلك الأعضاء.

وتستخدم الأجهزة الطبية بالموجات فوق الصوتية، كما هو الحال عند الدولفين، وسائط مسح لإعطاء صور ذات بعدين. وتوجد حاليا إضافة إلى أجهزة المسح الميكانيكية أنظمة المصفوفات المكونة من عدد من المرحلات TRANSDUCER الإفرادية المتوضعة على شكل صفوف ويتم التحكم بزاوية المسح إلكترونيا.

وعلى الرغم من ذلك، لا تزال أجهزة مسح القطاع الميكانيكية تتميز على أنظمة المسح ذات الصفوف وذلك بالنسبة لأعضاء الجسم التي لا تعطي سوى منطقة مسح صغيرة لرأس الماسح. وفي مثل تلك الحالة يدور مرحل دائري الشكل حول محور متواز مع السطح المشع، وهكذا تمسح حزمة الأشعة فوق الصوتية قطاعا محددا لمستوى دائري، وهكذا فالثوابت (المعطيات) الهندسية عبارة عن إحداثيات قطبية (POLAR) لنصف القطر والزاوية يمثل فيها نصف القطر زمن تأخير الصدى وبالتالي المسافة إلى المرحل وتعطي الزاوية الواقعة بين حزمة الأشعة فوق الصوتية وخط مرجعي معين بواسطة مرحل إلكتروني دوار أعلى محور المرحل فوق الصوتية.

أما بالنسبة لأجهزة المسح القطاعية التي تعمل على مبدأ الكنس فيحرك المرحل حركة إلى الأمام والخلف على المحور. هناك أنواع أخرى من أجهزة مسح القطاع تستخدم مبدأ الدوار حيث تتوضع عدة مرحلات متشابهة متباعدة فيما بينها بزاويا منتظمة 90ْ مثلا حول محيط الحامل الدوار.

وهناك تشابه آخر مع الدولفين وهو استخدام عدسات من زيت السيليكون ترتبط مع مذبذب المرحل عن طريق طبقات تحويل حيث تمرر حزمة ما فوق الصوتية عبر سائل الإرسال أولا ثم غشاء الاقتران قبل انتشارها أخيرا في أنسجة الجسم. مما يشير إلى أن الدولفين أسبق في تطوره عن تكنولوجيا البشر المتقدمة، بل هو نموذج يحتذى عند كل تطوير لأجهزة الأشعة فوق الصوتية. وهذا سر تفوقه، وسبب استعانة البشرية به وثقتهم فيه.

 

راسم كنعان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الدولفين ذلك الحيوان من الثدييات البحرية مكنه ذكاؤه المرتفع من عمل علاقات قوية مع الإنسان





الموجات فوق الصوتية التي تفخر بها التكنولوجيا القرن العشرين موجودة في تركيب الدولفين منذ خلق





نظام تحديد المواقع بالموجات فوق الصوتية عزز قدرة الدولفين على المناورة





قطاع في جهاز التشخيص بالموجات فوق الصوتية حيث تتشابه بنية الجهاز مع بنية راس الدولفين





رأس الدولفين حيث تتولد الموجات فوق الصوتية