حياكة الصوف الترياق المثالي لصخب الحياة المعاصرة

في وقتنا الحالي قد يكون أول تعليق يسمعه أي شخص يحيك شالاً من الصوف، أو أي قطعة ملابس أخرى: لماذا تعذّب نفسك في حياكة هذا الشال؟ لماذا تكلف نفسك عناء الحياكة لوقت طويل، بينما يمكنك شراء شال آخر بكل سهولة من أي مكان بسعر أرخص بكثير؟ لماذا تنفق 50 دولارًا (على سبيل المثال) على خيوط الصوف وتقضي أسبوعًا أو أكثر من الحياكة للحصول على مجرد شال بسيط؟
مما لا شك فيه أن في هذه التعليقات الكثير من وجهات النظر الصحيحة في ظاهرها، لكن الحقيقة الأعمق هي أنه في حياكة هذا الشال أو في قطعة الملابس هذه هناك ما هو أكثر من ذلك بكثير، ففي عملية الحياكة هذه مزيج من الاعتراض والاستقلالية، والمحافظة على التقاليد والاسترخاء والنشاط والعافية، أيضًا.
الحياكة وسيلة للاعتراض
المستهلكون في جميع أنحاء العالم بدأوا يتنبهون إلى خلفية ما يرتدونه من ملابس وما يدخل في إنتاجها، مما أدى إلى ظهور حركة االملابس البطيئةب، التي ترتكز على مفهوم يعادل فكرة االطعام البطيءب التي تدعم الأطعمة المحلية وطرق الطبخ التقليدية، وتعتمد على فلسفة خاصة للتفكير وشراء الملابس وارتدائها لضمان إضفائها المعنى والقيمة والفرح على حياتنا.
تقول الكاتبة إليزابيت كلاين في كتابها االمبالغة في اللبس... التكلفة الباهظة الصادمة للأزياء الرخيصةب، إن سعر الملابس قد أصبح رخيصًا لدرجة أنه يمكن استهلاكها مرة واحدة، والتخلص منها بعد ذلك واستبدال قطع أخرى بها، إلا أن لذلك ثمنًا باهظًا على كوكب الأرض من حيث هدر الموارد الطبيعية المحدودة.
وقد يكون أفضل اعتراض على ذلك الدعوة إلى حركة الملابس البطيئة، حيث إن الحياكة من أهم مرتكزاتها، لأنها النقيض للأزياء السريعة، إذ غالبًا ما تؤدي إلى منتجات عالية الجودة، كما أنه نظرًا إلى أن الأشخاص يكونون قد استثمروا مالًا ووقتًا وجهدًا في عملية الحياكة يصبح ما صنعوه أكثر قيمة بالنسبة إليهم من أي شيء يمكنهم شراؤه من السوق.
وإضافة إلى ذلك، بما أننا نعيش في عالم أصبحنا نعتمد فيه على بعض الأفراد والشركات لأداء مهام متخصصة تلبي مختلف احتياجاتنا، فالحياكة هي وسيلة لاستعادة استقلاليتنا في الوقت نفسه التي تعطينا الرضا عن الذات بشأن تحمّل بعض المسؤولية في إنتاج ملابسنا، وإرسال رسالة إلى الصناعة مفادها أننا لسنا بحاجة إلى الاعتماد عليها في كل شيء.
تقليد تتوارثه الأجيال
وأكثر من ذلك، فإن القدرة على أخذ كرة من الصوف وتحويلها إلى كنزة أو قبّعة أو زوج من الجوارب يوازي التشبث بالأرض والتقاليد، ويحاكي التاريخ الطويل لحائكي الصوف عبر العصور.
فمن خلال عملية الحياكة هناك احتفاء بذكرياتنا عن الوالدة والجدة وهما تحيكان قطعتهما المنتظرة، وعيوننا تراقب إيقاع العقد التي تحيكها، وهي تربط بمهارة وانتظام خيوط الصوف من خلال إدخال صنارتها فيها، ومن ثم تدمجها مع بعضها في صفوف متراصّة صفًّا تلو الآخر في براعة تامة، بينما تتجسد بهجة الألوان والأشكال بطريقة أخّاذة مع الوقت، وذكرياتنا، أيضًا، عن عائلة مجتمعة تحيك جهازًا لمولود جديد تنتظره في تنسيق تام فيما بينها، لتؤمّن كل مستلزماته.
فالحياكة تراث سافر على مدى عقود منذ أول قطعة من الجوارب حيكت بصنارة واحدة من القطن الأبيض والبنفسجي وجدت في مصر يعود تاريخها ما بين القرنين 11 و14 الميلادي، حيث يقال إن المصريين هم الذين اخترعوا الحياكة لتوفير الوقت والطاقة في صناعة ملابسهم، وحيث كان الكثير من القطع التي حاكوها مزيّنًا بعبارات عربية محبوكة فيها لجلب البركة، أو برموز لدرء الحظ السيئ، إلى بعض القطع المحيكة التي وجدت في شرقي سورية تعود إلى الحقبة نفسها. وكان العرب هم الذين أدخلوا فن الحياكة إلى إسبانيا عبر طرق التجارة المتوسطية، فكانت الفتيات العربيات يحكن الملابس والإكسسوارات التي كانت تستخدم في الطقوس الدينية للعائلة المالكة الإسبانية وبعض رجال الدين.
روائع فن الحياكة
كان من أوائل روائع فن الحياكة التي صنعتها أولئك الفتيات أغطية وسائد حرير عربية متماسكة وجدت في المقابر الملكية بشمال إسبانيا، يرجع تاريخها إلى القرن الحادي عشر.
ومع حلول القرن الرابع عشر، وصل فن الحياكة إلى بقية أنحاء أوربا، وأصبح واحدًا من أعمال الحرفيين ذوي المهارات العالية.
وقد انتشر إلى درجة إلى أنه تم تأسيس نقابات للحياكة بفرنسا في عام 1268 كانت تفرض على الأشخاص اجتياز اختبارات معيّنة من أجل الحصول على العضوية فيها.
وباستخدام خيوط رفيعة جدًا مزيّنة بخيوط ذهبية، صنع الحرفيون الأوربيون المهرة قفازات وأغطية وسائد وحقائب أثرية، إضافة إلى جوارب وأكمام ومشدات وأكياس تربط بخيط من الجهة الأعلى وقطع أخرى في غاية الجمال.
لائحة طويلة
لكن الحياكة لا تؤدي فقط إلى كنزة صوفية أو شال أو قبعة جديدة، ولكنها أبعد من ذلك تعطينا إحساسًا بالصفاء والراحة، وتوفر نوعًا من الرضا الحسي من خلال لمسة الخيوط الناعمة والثراء البصري لطائفة من الألوان والأشكال، فضلاً عن الرضا العاطفي لإنتاج الجمال وكل ما هو عملي.
وبذلك، فإنه من خلال الحياكة يمكن للمرء أن يكون هادئًا ونشيطًا في الوقت ذاته، إذ في الوقت الذي يشعر بالهدوء العميق، تنشط الحياكة حواسه جسديًّا وعاطفيًّا ومعرفيًّا.
أما من الناحية الطبية البحتة، فقد أظهرت الأبحاث العلمية الحديثة أن الحياكة يمكن أن تقلل من الاكتئاب والقلق وتبطئ ظهور الخرف وتشتّت الانتباه عن الآلام المزمنة.
يقول د. هربرت بنسون، وهو رائد في مجال طب العقل والجسم، ومؤلف كتاب االاستجابة في الاسترخاءب، إن الفعل المتكرر للصنارة في عملية الحياكة، مثل الإيقاع الثابت لنبضات القلب، يمكن أن يحفّز حالة من الاسترخاء كتلك المرتبطة بالتأمل واليوغا.
ولتأكيد هذه النقطة وجدت دراسة أجراها معهد العقل والجسم في كلية الطب بجامعة هارفارد، عام 2007، أنه فور تجاوز مرحلة التعلم الأولية تساعد الحياكة في تخفيض معدل ضربات القلب بمعدل 11 نبضة في الدقيقة، وتخفض ضغط الدم، وتقلل من مستويات هرمون الكورتيزول الضارة في الدم. وقد يكون هذا هو السبب هو أن الحياكة كانت توصف للنساء في القرن التاسع عشر لمعالجة حالات القلق والهيستيريا.
روابط العقد
من جهة أخرى، أنشأت بيتسان كوركهيل، التي تعمل مدربة للعافية في إنجلترا، ومؤلفة كتاب امارس الحياكة من أجل الصحة والعافيةب، موقعًا على شبكة الإنترنت بعنوان اروابط العقدب، لاستكشاف قيمة ما كانت تسمّيه بالحياكة العلاجية، وجدت من خلاله أن من بين المستجيبين على هذا الموقع أكد 54 في المئة من المصابين بالاكتئاب السريري أن الحياكة جعلتهم يشعرون بالسعادة، ووضعتهم بحالة نفسية أفضل.
وإضافة إلى آثارها المهدئة، يمكن للحياكة أن تصرف الانتباه عن الآلام المزمنة، حيث تساعد في توجيه التركيز إلى مكان آخر، وهذا ما أكدته دراسة قامت بها مدربة العافية كوركهيل شملت 60 شخصًا يعانون ألمًا مزمنًا، أظهرت فيها أن الحياكة مكّنتهم من إعادة توجيه تركيزهم، وأبعدته عن وعيهم المباشر بالألم، وذلك لأن الحركات المتكررة للصنارة في عملية الحياكة تنشط هرمون السيروتونين الذي يمكن أن يحسّن المزاج، ويساعد على التفكير بأمور أكثر إيجابية.
وقد يكون الأكثر إثارة من ناحية فوائد الحياكة العلاجية هو ما أظهرته دراسة أجريت عام 2011 ونشرت في مجلة علم النفس العصبي وعلم الأعصاب السريري، أشرف عليها باحثون بقيادة د. يوناس جيدا، وهو طبيب نفسي بعيادة مايو كلينيك في روتشستر، مينيسوتا، أجروا فيها مقابلات مع عيّنة عشوائية من 1321 شخصًا تراوحت أعمارهم بين 70 و89 عامًا، معظمهم طبيعيون من الناحية الإدراكية، وسألوهم عن الأنشطة المعرفية التي بدأوا يشاركون فيها في وقت متأخر من حياتهم.
فوجدوا أن أولئك الذين كانوا يمارسون مهنًا حرفية، مثل الحياكة، انخفضت احتمالات إصابتهم بالضعف الإدراكي وفقدان الذاكرة، إذ إن التركيز الذي تتطلبه عملية الحياكة والانخراط في تمارين بعلم الرياضيات ضرورية لإتقان التصاميم والمقاسات الصحيحة هي التي ساعدت في درء انخفاض وظائف المخ مع تقدّم العمر.
ولكل هذه الأسباب قد تكون الحياكة هي الترياق المثالي لصخب الحياة المعاصرة، حيث إننا في هذا الزمان، الذي نتقن فيه التعامل مع التقنيات الرقمية صغارًا وكبارًا، بدأنا نبتعد عن ممارسة الأعمال اليدوية التي تمثّل وسيلة قوية للتعلم ولتنمية المهارات المعرفية وتطوير الإدراك الحسي، ولفهم العالم ثلاثي الأبعاد واستيعاب المفاهيم المجردة، وأكثر من ذلك كله للمحافظة على الهدوء النفسي في عالم من الضجيج المتواصل .